بينات من الآيات
قرار السجن : [35] بعد ان عرفوا ان يوسف (ع) لن يرضخ لفسادهم ، و انه يتحدى ضغوطهم بقوة ايمانه ، و انه يفضح واقعهم الذي تردوا اليه دون ان يشعروا . بعدئذ قرروا سجنه لفترة معينة . ايغالا في الظلم و الفساد .
[ ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الايات ليسجننه حتى حين ]برنامج السجن :
[36] و انقذ الله يوسف (ع) من عذاب الأغراء ليمتحنه هذه المرة بالسجن الذي يقال ان يوسف كتب على بابه يوم خرج منه : ( هذا مقبرة الاحياء . اللهم لا تمنعه اخيار الأرض ) فلننظر كيف واجه الصديق هذه المحنة ؟ لقد دخل معه السجن شخصان آخران يبدو ان كلا منهماكان ايضا مثله من الفتيان العاملين في بيوت الأشراف من الذين عصوا اوامرهم الجائرة ، فزج بهم في السجن ، و دار بينهما و بين يوسف حوار رسالي .
[ و دخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أرى أعصر خمرا ]اي ارى نفسي و كأني اعصر عنبا ليصبح خمرا .
والسؤال المطروح هو ان الرؤية هذه هل كانت في المنام ام كانت من احلام اليقظة التي هي الاخرى دليل على ارهاصات الحقيقة التي يشعر بها الفرد احيانا ، و يسمى عادة بالتفاؤل او التشاؤم ، او الحس السادس .. او ما أشبه .
في بعض الأحاديث ان صاحب الخمر كان صادقا و هو الذي نجى ، بينما كان صاحب الخبز كاذبا في رؤياه ، و سواء صدقا ام لا فان ما راياه كان صورة عن الحقيقة التي سوف تقع ، راها احدهما في المنام و تخيلها الثاني في اليقظة ، و القرآن سكت عن كيفية الرؤيا و اكتفىبقوله : " إني أراني " الذي ينطبق على حالة الحلم كما في حالة اليقظة .
[ و قال الأخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ]لقد استغل يوسف (ع) وجوده في السجن عمليا و قوليا ، فهـو يبلغ لرسالته بالقول ، و لكنه لم يكتف بذلك بل جسد رسالة السماء في سلوكه عمليا شأن كل الدعاة الصادقين لقد كان يبكي على امتداد الوقت ، ويجتهد في الضراعة ، و يتبتل الى ربه بصلواته الخاشعة و فــي فترات فراغه كان اذا ضاق على رجل مكانه وسع لـــه ، و ان احتــاج جمع لــه ، و ان مــرض قام عليه لذلك انجذب اليه المعتقلون ، و اعتقدوا بأنه صاحب فضل عليهم و قالــوا لــه :
" إنا نراك من المحسنين " .
[37] قال يوسف (ع) قبل أن يأتيكما الطعام الذي هو مخصص لكم اما من البيت او من إدارة السجن سوف انبئكما بتأويل رؤياكما .
[ قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ]و بعد ان وعدهما بتأويل رؤياهما قريبا . أخذ يبلغهما رسالات ربه . ابتداء من نفسه حيث كان معروفا عندهما بالاحسان و الفضل فقال لهما :
اولا : انه رسول من الله .
[ ذلكما مما علمني ربي ]
فلقد علمه الله تأويل الأحاديث .
ثانيا : انه حنف عن الشرك الذي اتخذه قومه ملة لهم ، و رفض طريقة قومه و ملتهم ، و ثار على نظامهم الثقافي و الأجتماعي .
[ إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله و هم بالاخرة هم كافرون ]ان طريقة هذه الجماعة ليست المثلى لأنها قائمة على اساس الكفر و إني ارفضهـــا رأســا .
[38] ثالثا : اما الملة المثلى في طريقة آبائي - ابراهيم و اسحاق و يعقوب - و هكذا بين يوسف (ع) انه من سلالة النبوة .
[ و اتبعت ملة آباءي ابراهيم و إسحاق و يعقوب ]
و ان طريقة هؤلاء قائمة على اساس التوحيد ، و رفض كل انواع الشرك ، و كل الوان العبودية و الطاعة لغير الله .
[ ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا و على الناس و لكن أكثر الناس لا يشكرون ]فالتوحيد ليس فقط واجب الهي مقدس ، بل و ايضا نعمة كبرى على البشرية .
حيث انه يعني التحرر من عبودية الطاغوت و عبودية المال و الشهوات . و لكن اكثر الناس لا يشكرون الله في الأيمان بهذه النعمة .
[39] رابعا : بين يوسف (ع) لصاحبيه و زميليه في السجن الذين تقاسما و اياه المعاناة و الأذى . ان اكثر الحروب و الصراعات الأجتماعية ، و الخلافات الهدامة انما هي نتيجة مباشرة للشرك . حيث ان كل فريق يعبد صنما من دون الله ، و يطيع ربا مختلفا عن رب الأخرين ، فكل يعبد صنم ارضه و اقليمه و قومه و عشيرته و حزبه . فيختلفون .
[ يا صاحبي السجن أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ][40] خامسا : بين ان الاصنام التي تعبد من دون الله تعالى ان هي الا انعكاس لأوضاع و حالات انحرافية فاسدة داخل المجتمع أو النفس ، وليست لها قدسية أو واقعية حقه .
ان صنم الأقليمية انعكاس لضيق الأفق ، و شذوذ الفكر ، و محدودية الرؤية ، فهو اذا اسم سماه الأنسان و ليس حقا انزله الله ، و هكذا صنم الوطنية و العنصرية و الشوفينية و القومية .. و كل الأصنام الباطلة . إنها اسماء اخترعها الأنسان انعكاسا لواقعه الفاسد ،و ليس تعبيرا عن الحقيقة .
[ ما تعبدون من دونه إلا اسماء سميتموها أنتم و ءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ]نعم هنالك اسماء و رموز ينزل الله بها سلطانا فتكتسب الشرعية من الله . مثل الرسول و خليفته ، و صاحب الفقه و العدالة ، و كل القيادات الشرعية التي تطاع بأذن الله و باسم الله . لا بأذن الشعب او بأسم الأصنام .
ذلك لان الولاية الحق لله ، و الحاكمية و السيادة و الملكوت لله سبحانه ، فكل حكم لا يستند الى الله و الى حاكميته . بأن لا يكون بأذن الله ، و لا يهدف اقامة حكم الله فهو حكم باطل و زائل .
[ إن الحكم إلا لله ]
فلأن الولاية الحق لله في الكون ، ففي مجال التشريع و في الواقع السياسي يجب ان يكون هو الحاكم من خلال خليفته و رسالته .
[ أمر ألا تعبدوا إلا أياه ]
فلم يأذن للسلطة الا بأذنه . و لم يبح الحكم كما اباح - مثلا - خيرات الارض و بتعبير فقهي : الأصل في نعم الله الأباحة و الحلية ، فالبشر حر في الأنتفاع إلا إذا جاء نص بخلاف ذلك ، و لكن الأصل في السلطة هو العكس تماما . اي ليس لبشر ان يطيع بشرا في سلطةالا بعد التثبت من وجود نص .
[ ذلك الدين القيم و لكن اكثر الناس لا يعلمون ]
اي هذا هو النهج السليم للحياة . الا يطيع احد احدا الا بأذن الله ، و ليس يدين ابدا بسيادة الطغاة او السكوت عنهم . و حاكمية الفراعنة و الرضا بها . من هنا نعرف مدى دلالة الآية على ان الدين هو السياسة . و السياسة هي الدين .
لذلك تجدهم يفصلون الدين عن السياسة ، و يقول فرعونهم : لا دين في السياسة و لا سياسة في الدين ، و يقول هامانهم : لا دخل لرجال الدين في السياسة ، و يقـــول قارونهم : اننا نريد رجال دين لا يتدخلون في السياسة .
و جمهور الناس يسعون من اجل فصل الدين عن السياسة تحت تأثير التضليلالأعلامي ، و بسبب انهم يستصعبون مسؤوليات الدين و السياسة ، و يريدون الأكتفاء بالطقوس الدينية السهلة .
[41] و بعد ان بين هذه الحقائق لهما . فسر رؤياهما قائلا :
[ يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا ]
اي يعود الى سيده ، ويصبح ساقيا له فيسقيه الخمر كما وجد في الرؤيا .
[ و أما الاخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه ]
اي يقتل و تجلس الطيور الجارحة فوق راسه لتأكله .
[ قضي الأمر الذي فيه تستفتيان ]
اي انتهى القضاء فيما سألتما الى هذه النهاية و لا عودة فيه .
|