فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
الاشهر الحرم و الاهواء الجاهلية :

[ 36] الشهور في السنة اثنا عشر شهرا ، فالقمر يبدأ هلالا و ينتهي الى بدر ،ثم يتناقص حتى يغيب قبل ان يظهر مرة اخرى هلالا ، كل ذلك خلال ثلاثين نهارا ، و يتكرر هذا الامر كل شهر اثنا عشر مرة ، وعلينا - نحن البشر - ان نوافق أعمالنا حسب سنن الطبيعة لا حسباهوائنا ، و سنن الطبيعة هي الحق التي خلق الله السموات و الارض عليها ، ومن مظاهر الجاهلية العمل حسب الاهواء العاجلة دون تفكير في ظروف الطبيعة أو حتى دون معرفة بها و القرآن خالف ذلك قائلا :

[ ان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات و الارض ]ففي كتاب الطبيعة كما كتاب التشريع ، ومنذ ان اوجد الله الكون جعله جاريا على نظام ثابت متين و علينا اكتشاف هذا النظام فنسعد بالتوفيق معه ، والا فان ذلك يسبب لنا متاعب كثيرة ينهانا الله عنها و ينصحنا بعدم التورط فيها .

[ منها اربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن انفسكم ]و المشركون هم الذين يخالفون هذه الحقائق الكونية ، و علينا قتالهم لتصحيح مسارهم ؛ كما انهم يعتبرون عقبة في هذا السبيل بطبيعة جهلهم و فساد نظامهم .

[ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ]

اذا السبيل مختلف .


[ و اعلموا ان الله مع المتقين ]

الملتزمين بمناهج الاسلام التي هي حالة مخالفة للعمل بالاهواء .


ما هو النسيء ؟

[ 37] إن تغيير احكام الله مثل حكم الأشهر . و سائر الاحكام وذلك حسب مشتهيات هذا الحاكم او ذاك ، و شيخ هذه العشيرة و رئيس تلك الجماعة ، فانه زيادة في الكفر .

[ انما النسيء زيادة في الكفر ]

والنسيء بمعنى التأخير يقال : نسأت الابل في ظمئها يوما او يومين أو اكثر من ذلك و المصدر النسيء ، و جاء في التفسير : كانت العرب تحرم الشهور الأربعة وذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم و اسماعيل وهم كانوا اصحاب غارات و حروب ، فربما كان يشق عليهم ان يمكثوا أشهر متوالية لا يغزون فيها فكانوا يقررون تاخير المحرم الى الصفر فيحرمونه و يستحلون المحرم فيمكثون بذلك زمانا ثم يزول التحريم الى المحرم ولا يفعلون ذلك الا في ذي الحجة . (1)النسيء زيادة في الكفر :

و يبقى سؤال : لماذا يعتبر ذلك زيادة في الكفر ؟

ربما لأن الاعتداء الذي كان الجاهليون يغيرون الأشهر من أجله هذا الأعتداء حرام بذاته فاذا غيروا حكما شرعيا و عقدا اجتماعيا توافقوا عليه من أجل الاعتداء(1) مجمع البيان / ج 5 / ص 29 .


فان ذلك يعني تجاوز كل القيم و المقدسات دون تغييرها ، ومع الاعتراف بان الحرب فيها خطأ يرتكبونه ، ولكن لماذا كان الجاهليون يغيرون الأشهر الحرم للقيام بالأعتداء على بعضهم ؟

لأنهم كانوا يحاولون التخلص من وخز الضمير ، ولومة المؤمنين بالشرائع . تماما كما يفعل الطغاة اليوم حيث يلبسون جرائمهم ثوب الشرعية فيلاحقون المطالبين بحرياتهم و حقوقهم تحت شعار المحافظة على الأمن ، و ربما بأسم الدين أيضا ، أو يضعون قوانين ثم يحاكمون الناس على أساسها في الوقت الذي لا يملكون حق اصدار القوانين بل هذا بذاته أكبر الجراثيم بحق الشعب .

وهكذا يصبح التبرير الذي يتذرع به المجرمون دافعا لهم نحو المزيد من الجريمة ، و التخلص من روادع الجريمة النفسية و الاجتماعية باسم ذلك التبرير . و لذلك اكد القرآن هنا : ان النسيء ليس زيادة في الكفر فقط بل هو سبب للضلالة و الانحراف ايضا :

[ يضل به الذين كفروا ]

انهم كانوا يحلون ذات الشهر ( مثلا : شهر ذي الحجة ) في هكذا العام بينما يحرمونه في العام الاخر حسب خططهم الحربية ، وهكذا كانوا يتلاعبون بالشرائع و القوانين .

[ يحلونه عاما و يحرمونه عاما ليواطؤا عدة ما حرم الله ]اي ليجعلوا الاشهر الحرم أربعة كما قال الله . ولكن بعد تغيير محتواه حسب أهوائهم .

[ فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء اعمالهم ]


زين لهم الاعتداء . حتى غيروا أحكام الله من أجله ، وهكذا لو جعل الفرد هدفه غير مرضاة الله وغير أحكام الله للوصول اليه و برر فعلته الاجرامية . بأن الغاية تبرر الوسيلة .

بيد أن العملية كلها تسبب الضلالة و الجحود لأن القلب البشري الذي يستهدف الوصول الى مطامع ذاتية لا يبحث عن الحقيقة ، فلا يهتدي اليها .

[ و الله لا يهدي القوم الكافرين ]

ذلك لأن الكفر - وهو هنا المخالفة العملية للواجبات - يؤثر على العقل فيسلب منه نور المعرفة .

[ 38] قلنا ان أهم شيء يحدد فكر البشر و سلوكه هو هدفه الذي زين له فعشق الوصول اليه فاذا كان هدفه الله و اليوم الاخر فانه كما السائق الرشيد يقود سائر العجلات و الاجهزة في سيارة الحياة على الطريق السليم وإلا فان كل العجلات تسير في طريق الانحراف و الهلاك . وهكذا ضل الكافرون ضلالا ، وهكذا يضل المؤمنون اذا لم يحذروا و يتقوا و يخلصوا أهدافهم ، فلو كان هدف الفرد المتعة في اللحياة الدنيا لترك الجهاد في سبيل الله خوف الموت . وتثاقل عن تنفيذ أوامر الله .

[ يا ايها الذيــن ءامنوا مالكم اذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم الى الأرض ]أي تثاقلتم و تباطأتم ، و بررتم بتبريرات هدفها تاخير الحرب . مرة تقولون : الان وقت الحر القائض . أفلا ننتظر حتى يعتدل الجو ، و مرة تقولون : البرد شديد فلننتظر قليلا حتى تخف وطأته ، ومرة تبررون بعدم الاستعداد الكافي للمعركة .

و النفور و التحرك في سبيل الله لا يختص بالحروب . اذ كل سعي نفر كماجاء : ( النفر : الخروج الى الشيء لامر هيج عليه . ومنه نفور الدابة ) . (1)ومما يؤسف له ان الكثير منا يبطىء العمل في سبيل الله بحجة أو باخرى ، و الحجج كلها باطلة و السبب الحقيقي كامن في حب الدنيا .

[ أرضيتم بالحياة الدنيا من الاخرة فما متاع الحياة الدنيا في الاخرة الا قليل ]ان المؤمــن الواعي يجب ان يكون مقتلعا من الارض . متحررا من جاذبية المادة . مندفعا في الاتجاه السليم الذي يأمر به الله لان المتعة البسيطة في الدنيا لا تعادل ابدا راحة الاخرة . ان الدنيا زائلة قصيرة و المتعة فيها مشوبة بالصعاب بينما الاخرة باقية خالدة و متعتها خالصة لا يشوبها خوف أو حزن .


سنة التحرك في الحياة :

[ 39] التيار الرسالي يندفع في الحياة ، كما سيل جارف يرعاه رب السماء ، و تحركه كل سنن الحياة و انظمتها ، فاذا تركت أنا الجهاد فانما أشذ عن حركة عظيمة و أهلكت نفسي .

[ الا تنفروا يعذبكم عذابا اليما ]

فالراحة المنشودة من وراء ترك السعي و التحرك تتبدل بعذاب اتجرع ألمه .

[ ويستبدل قوما غيركم ]

و التعزز و الأنفة يسببان الاستغناء عني و عزلي عن شرف المسؤولية .


(1) المصدر 30 .


[ ولا تضروه شيئا ]

واذا فكرت في الانتقام فلا استطيع ان انتقم من الحق ابدا .

[ و الله على كل شيء قدير ]

اذ هو القادر على ان يسلب مني كل قوة اوتيتها فلم استخدمها في سبيل تنفيذ اوامره فماذا يبقى لي غير خزي الدنيا و عذاب الاخرة .


قصة الهجرة و الانتصار :

[ 40] هل انتصرت الرسالة بي ، فحين كنت بعيدا عنها سادرا في الغفلة و الجهل من الذي نصر الرسالة أو ليس الله ؟! فلماذا التعزز عليها ؟!

[ الا تنصروه فقد نصره الله اذ اخرجه الذين كفروا ]من مكة المكرمة ، زاعمين : ان هذا الاخراج يؤثر في مسيرة الرسالة التصاعدية .

[ ثاني اثنين اذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه ]

وهو أبو بكر حيث خرج معه للهجرة .

[ لا تحزن ان الله معنا ]

مطلع علينا محيط علمه و قدرته و لطفه بنا فلماذا الحزن و لماذا القلق .

جاء في التفاسير : قال الزهري : لما دخل رسول الله و أبو بكر الغار أرسل الله زوجا من الحمام حتى باضا في أسفل الثقب ، و العنكبوت حتى تنسج بيتا فلما جاءسراقة بن مالك في طلبهما ورأى بيض الحمام و بيت العنكبوت قال : لو دخله أحد لا نكسر البيض و تفسخ بيت العنكبوت فانصرف .

[ فانزل الله سكينته عليه ]

على رسول الله الذي تحمل ثقل الرسالة ، وهكذا من يحمل الرسالة و يثبت فان الله يبعث في قلبه الاطمئنان و الدعة حتى لا تهزه الحوادث المتغيرة أو المشــاكل الطارئة .

[ وايده بجنود لم تروها ]

هي جنود الملائكة في الغزوات ، كما انها جنود الحق المجندة في هذا الكون الرحيب ، والتي لا يراها البصر العادي . ان سنن الحياة و انظمة الكون كلها تدعم رسالة الحق و صاحب هذه الرسالة ولكن لا يشعر بها أحد .

[ وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ]

لانها لا تعتمد على قاعدة صلبة ، أو أساس متين إنها تعتمد على الكفر بالحقائق و جحودها ، فكيف تثبت ؟ّ[ و كلمة الله هي العليا ]

لقد خلقت كلمة الله هكذا .. انها هي العليا ، وهي المنتصرة اخيرا .

[ و الله عزيز حكيم ]

فبعزته يجعل كلمة الكافرين السفلى بعد ان منح لهم الحرية لبعض الوقت حتى يبتليهم و يمتحن قدرة المؤمنين على الاستقامة ، و بحكمته يدبر أمور الكون .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس