فصل:
الاول |
قبل |
بعد
| الاخير
| الفهرس
بينات من الآيات
ما هو الجهاد ؟
[ 46] هناك جدل كبير في علم أصول الفقه حول هذا السؤال : هل يجب تهيئة الوسائل الضرورية لتنفيذ الواجبات أم لا ؟ بيد ان العقل يحكم بانك حين تريد الوصول الى القمة فعليك ان تتسلق الجبل ، ولا معنى أساسا لقرارك هذا الا الاندفاع في الطريق الذي يوصلك الى هدفك و هو بلوغ القمة ، وهل يعني ضرورة وجود
المسكن إلا القيام عمليا ببناء البيت أو شرائه .. هل يعني الحصول على شهادة الماجستير الا الدراسة المستمرة في الجامعة ؟!
ان الواجب ليس نهاية السعي . بل ان الواجب هو السعي ذاته الذي ينتهي بالطبع الى النهاية او يعذرك اذا لم تصل الى النهاية بسبب خارج عن إرادتك .
و يذكرنا القرآن بهذه الحقيقة الواضحة عقليا و يقول : ان الجهاد لا يعني الا توفير وسائله فالجهاد ليس فرضا موهوما او تصورا جامدا . الجهاد هو مجموعة اجراءات عملية متدرجة ينبعث نحوها المؤمن يوما ، وفيما يلي نذكر بعض هذه الاجراءات : -ألف : الجهاد يعني الاستقلال عن الاخرين وعدم الخضوع لاوامرهم أو لضغوطهم ، و بالتالي إعلان الصراع معهم .
باء : و يعني توفير فائض من الجهد ليدخره المجتمع من أجل إدارة الصراع ، و القيام بضروراته . ذلك لان الاستقلال يعني المحاصرة الاقتصادية و الضغوط السياسية ، و نقص الثمرات و عدم التبادل التجاري مع اطراف اخرى غير الاعداء وذلك بسبب عدم أمن الطرقات ، و يعني الاستقلال و بالتالي الاكتفاء الذاتي في كثير من الحقول . وهذا لا يكون الا بجهد إضافي .
كما يعنــي الجهــاد ادخار المؤن ، و صنع السلاح و الذخيرة ، و تموين الجيش ، و تمويل المؤسسات العسكرية ، وكل ذلك بحاجة الى فائض من الجهد .
جيم : الجهاد يعني في بعض المراحل تطوير الاقتصاد لكي يكون اقتصاد حرب يستخدم كل شيء من أجل المعركة باستثناء الضرورات الحياتية .
دال : و الجهاد يعني : التدريب المتواصل لكل القادرين على حمل السلاح أولا أقل للجيش المحارب ، و التدريب بدوره قد يطول سنينا و اعواما من تدريب القادةو الضباط والى تدريب الفرق الخاصة وحتى تدريب الجنود العاديين .
هاء : و الجهاد بحاجة الى تقوية الروح المعنوية ، و شحذ العزائم ، و اعداد النفوس لتحمل الصعاب .
وهكذا يكون شكل المجتمع المحارب مختلفا كليا عن شكل المجتمع السادر في غياهب الاستسلام و التخلف ، لذلك اكد القرآن على هذه الحقيقة بالنسبة الى المنافقين الذين يتشدقون بالمعركة دون ان يصدقوا لعدم القيام بالاعداد لها .
[ ولو ارادوا الخروج لاعدوا له عدة ]
و الدليل على صدق النية ، و سلامة العزيمة الاندفاع نحو الهدف .
[ ولكن كره الله انبعاثهم ]
ٍ أي اندفاعهم و تحريك الارادة لهم .
[ فثبطهم ]
أي افقدهم ارادتهم و اقعدهم الارض .
[ وقيل اقعدوا مع القاعدين ]
الذيــن لا حــول لهم ولا قوة ولا فرق بين العاجز عن التحرك ، و المثبط الذي لا يملك ارادة التحرك .
وهكذا نجد اليوم العالم الاسلامي يتحدث عن الاستقلال دون ان يهيء وسائله او يتحدث عن محاربة " إسرائيل " دون ان يعد نفسه جديا لهذه الحرب .
الطابور الخامس :
[ 47] المنافقون لا يخرجون للحرب ، اما لو خرجوا فليس للحرب ضد العدو ، بل ضد المسلمين و ذلك بطرق :
اولا : انهم سوف يطالبون القيادة ابدا بالسلاح و الوسائل الرفاهية حتى يتعبوا القيادة و يكونوا زيادة عناء فوق عناء الحرب .
[ لو خرجوا فيكم ]
أي في صفوفكم .
[ ما زاداوكم الا خبالا ]
أي عناء ، يقول العرب : هو خبال على أهله . أي كل عليهم ، وكل عناءيفسد ولا يصلح لانه يمتص الجهود دون أن يقدم شيئا لذلك فسر الخبال هنا بالفساد و العجز .
ثانيا : انهم مسارعون الى الفتنة ، و الفرقة بين المسلمين ، بل انهم يسارعون بين الصفوف ينقلون لهذا كلاما ضد ذاك ، فاذا غضب و بدرت منه كلمة ضخموها و حملوها الى الاخرين .
انهم بالتالي يقومون بدور الطابور الخامس للعدو .
[ ولا أوضعوا خلالكم ]
الكلمة مأخوذة من الايضاع يقال : اوضع الابل في سيره أي أسرع و الخلال يعني في صفوفكم .
أي انهم يسرعون بين الصفوف بهدف الفتنة .
[ يبغونكم الفتنة ]
أي يريــدونكم ان تتحولوا الى قطعة من الخلافات الداخلية و البرود عن المعركة .
ثالثا : ان هؤلاء جواسيس للأعداء عليكم .
[ وفيكم سماعون لهم و الله عليم بالظالمين ]
وكل ظالم ينتهي مصيره الى هذه العاقبة ، وهكذا علينا الا ننظر الى ظواهر الاشخاص ، بل نفكر في تأريخهم و سلوكهم السابق و كيف انهم كانوا يعملون سابقا فانهم يعملون ذلك مستقبلا .
مراجعة السوابق :
[ 48] يذكرنا القرآن بماضي المنافقين الاسود ، و كيف انهم كانوا في أيام السلم يقلبون الامور لرسول الله (ًص) ، و يصورونها تصويرا مقلوبا .
[ لقد ابتغوا الفتنة من قبل و قلبوا لك الامور ]
جاء في التفاسير و قلبوا لك الامور : أي صرفوها من أمر الى أمر ، ودبروا لك الحيل و المكائد ، و منه قول العرب حول قلب ، اذا كان دائرا حول المكائد و الحيل يدير الرأي فيها و يتدبره . (1)وجاء : وقلبوا لك الامور : أي احتالوا في توهين أمرك و ايقاع الاختلاف بين(1) الفتح القديم / ج 3 / ص 367 .
المؤمنين وفي قتلك بكل ما أمكنهم فلم يقدروا عليه ، وقيل : انهم كانوا يريدون في كيده وجها من التدبير فاذا لم يتم ذلك فيه تركوه و طلبوا المكيدة في غيره فهذا تقليب الامور عن أبي مسلم . (1)و اتصور ان تقليب الامور للرسول (ص) ( ولم يأت عليه ) يعني : تبيانها بصورة غير صورتها الحقيقية وذلك للاشارة الى مدى كذب هؤلاء على الرسول (ًص) و تمرسهم في الاشاعات الباطلة و الله العالم .
ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل فهذا الدين قد ظهر ، وذابت تلك الاشاعات في حرارة الانتصار و تحقق الرسالة .
[ حتى جاء الحق و ظهر امر الله وهم كارهون ]
كانوا يحاولون ابدا تحوير الحقائق باقوالهم و اطفاء نور الله بما يخرج من افواههم من الفاظ فارغة لا تعني شيئا .
واقع المنافقين :
[ 49] ان بعض المنافقين يريدون تطويع الدين لشهواتهم و اهوائهم و يطالبون القيادة الدينية بان تسمح لهم بارتكاب بعض المحرمات . زعما منهم ان لهم الحق في ذلك و يهددون القيادة بانها لو لم تأذن لهم بمثل ذلك لتركوا الدين و لخالفوا أوامــر الله ، و تكون الخطيئة على عاتق القيادة التي استصعبت عليهم الامور ، فهل هذا صحيح ؟ كلا : اذ ان الدين هو المهيمن على تصرفات البشر ، و القائد لمسيرته لا العكس كما يريده المنافقون ، و بالتالي يجب ان يتبع الدين لا ان يتبع ، ومن جهة(1) مجمع البيان / ج 5 / ص 36
اخرى محاولة المنافقين بتطويع الدين لشهواتهم و مطالبتهم بالاذن لمخالفة تعاليم الدين . هذه المطالبة ذاتها خروج عن الدين و كفر به . اذ ليس بدين ذلك الدين الذي يتخذ مطية لأهواء المنافقين .
[ ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ]
أي لا تمتحني و تجبرني على ترك واجب الجهاد ، بل ائذن لي بتركه حتى يكون تركي للجهاد مسموحا شرعيا .
[ الا في الفتنة سقطوا ]
وأي فتنة أكبر من الاستئذان بترك الجهاد .
[ وان جهنم لمحيطة بالكافرين ]
فان سيئات أعمالهم و ما كسبته قلوبهم و انفسهم من الرذائل و الخطايا هي بذاتها نيران كامنة في صورة نيران ملتهبة ، أو عقارب و حيات في يوم القيامة وما دام البشر قد اختار طريقا منحرفا فان كل أعماله ستكون وبالا عليه . كما اذا اتخذ قائد الجيش استراتيجية خاطئة فان أساليبه و علمياته ستكون كلها باطلة و غير نافعة .
معرفة المنافقين بعد الانتصار :
[ 50] بسبب كفر المنافقين و عدم ايمانهم بالله و بالرسالة يرون انفسهم منفصلين عن المجتمع الرسالي ، فاذا غنم المسلمون شيئا حزنوا لانهم لم يكونوا معهم حتى يغنموا مثلهم ، وان خسر المسلمون المعركة و انهزموا فرحوا زاعمين ان تخلفهم عن المعركة كان بسبب صحةمواقفهم و سلامة عقولهم ، و ازدادوا بذلك ابتعادا عنالجبهة الاسلامية .
[ ان تصبك حسنة تسؤهم وان تصبك مصيبة يقولوا قد اخذنا امرنا من قبل ]أي كنا عارفين بالعاقبة ، وقد اتخذنا الاحتياطات اللازمة لمواجهة الموقف وذلك بعدم الاشتراك في الجبهة .
[ و يتولوا وهم فرحون ]
لانهم في زعمهم لم يخسروا شيئا .
وهكذا يعمل المؤمن و يجلس المنافق يراقب الموقف ليعلق على النتائج .
كيف نتصرف عند المصائب ؟
[ 51] ولكن هل الخسائر التي تلحق الرساليين في ساحة المعركة كلها خسائر . أم انها اقدار كتبها الله عليهم لحكمة بالغة . فدماء الشهداء تكرس في المجتمع القيم الرسالية واذا لم يقتل الشهداء فانهم لا يخلدون في الحياة بل كانوا يموتون بسبب او باخر ولكن حين استشهدوا و اريقت دمائهم من أجل الرسالة جرت تلك الدماء الزكية في عروق الاخرين لتتحول الى عزيمة راسخة و صلابة و استقامة .
وهكذا الخسائر المادية زكاة لأموال المسلمين ، و الجهود المبذولة زكاة لابدانهم تطهرهم و تؤهلهم لمسؤولياتهم القيادية .
لذلك قال ربنا :
[ قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا ]
فلا حزن مما كتب الله .
ثم ان الله الذي قدر علينا المصيبة هو صاحب النعمة التي سلبها فليس علينا ان نناقش ربنا فيما يكتبه و يقدره .
[ هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ]
لذلك فهم لا ينهزمون نفسيا مما يقدر الله عليهم من الهزائم ، بل يعلمون ان الهزيمة خطوة الى الوراء ، و خطوتان الى الامام باذن الله ، و بفضل التوكل عليه .
النصر أو الشهادة :
[ 52] و أسوأ الاحتمالات عند المنافقين يعتبر عند المؤمنين أحسن الاحتمالات ، أو ليس الموت آخر ما يخشاه المنافقون ، ولكنه أفضل ما يتمناه المؤمنون أما النصر فهو أمل الجميع و قد يبلغه المؤمنون .
[ قل هل تربصون بنا الا احدى الحسنين ]
أما النصر أو الشهادة في سبيل الله .
[ ونحن نتربص بكم ]
و ننتظر لكم واحدا من عذابين فاما العذاب في الدنيا بهزيمتكم ، واما العذاب في الاخرة وذلك بالنصر الظاهر لكم في الدنيا و زيادة ذنوبكم و تحولها الى عقاب شديد في الاخرة .
[ ان يصيبكم الله بعذاب من عنده او بايدينا فتربصوا انا معكم متربصون ]فالجميع ينتظر العاقبة ، و الفارق ان الرساليين سيربحون الموقف اما الكفار و المنافقون فانهم سوف يخسرونه لا محالة باذن الله تعالى .
|