فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


دوافع الصراع و آثاره النفسية
بينان من الايات

الاستعلاء في قصة الاعتداء الاول :

[27] قصة ابني ادم تحتوي على عبر حقة ، فبالاضافة الى انها بذاتها قصة واقعية ، فان الهدف منها واقعي و حق ، وهو تحقيق السلام بين أبناء ادم .

وكما لا نرضى ان يعتدي اخ على اخيه وكلاهما ابنا لآدم ، كذلك علينا ان لا نرض اعتداء بشر على بشر ، لانهما من أبناء آدم وهما بالتالي أخوان .

[ واتل عليهم نبا ابني آدم بالحق اذ قربا قربانا ]

و ضحيا بأضحية في سبيل الله .

[ فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاخر قال لاقتلنك ]ان الدافع الذي بعث قابيل الى إرتكاب أول جريمة قتل في تأريخ البشرية هودوافع الحسد ، وهي غريزة الحرص على التفوق و الاستعلاء .

إن البشرية بامكانها ان تتقاسم بينها خيرات الارض دون الحاجة الى الاقتتال ، اذ أن الله وفر للبشرية ضرورات حياتها فهي لا تحتاج الى الصراع مع بعضها من أجل الحصول على هذه الضرورات .

ولكن الحروب انما كانت من ثورة غريزة الاستعلاء الشيطانية التي يجب لجمها وتحديدها .

ان قابيل لم يقتل أخاه من اجل الصراع على البقاء كما يزعــم المذهب الدارويني ، ولا من اجل الحصول على بنت أجمل كما يزعم المذهب الفرويدي ، ولا من أجل سوء التربية و ضغوط الاجتماع ، أو الصراع الطبقي أو غيرها مما تزعمها المذاهب الاجتماعية المختلفة ، كلا ،ولكنه قتله لحب الاستعلاء و الحسد ، واذا سيطرت البشرية على غريزة الاستعلاء في ذاتها فقد وفقت للعيش بسلام مع بعضها و انتزعت من نفسها فتيل الحروب .

لقد كان موقف هابيل أمام التهديد بالاعتداء موقف المسالم .

[ قال انما يتقبل الله من المتقين ]


عبرتان :

الاولى : ان كثيرا من الحروب تقع بدافع الخوف من الاعتداء فمثلا : تخشى دولة معينة من اعتداء جارتها عليها ، فتتسلح ، وحين ترى جارتها عملية التسلح تخشى هي بدورها فتتسلح هي الاخرى فتخشى احداهما من مبادرة الاخرى بالهجوم فتهجم ، فتدافع الاخرى عن ذاتها ، وبالتالي تجد ان كلتا الدولتين


اقحمت في اتون الحرب من دون ارادة مسبقة لها ، بل استسلاما لدافع الخوف .

من هنا توحي الينا قصة إبني آدم بأن الخوف من الاعتداء ، ليس سببا معقولا للاعتداء حيث ان هابيل ( القتيل ) اجاب على التهديد بالقتل بكلام تربوي ، و صرح بعدئذ ( في الاية التالية ) بانه لن يمد يده لقتل اخيه .

الثانية : ان الاستعلاء ليس طريقا للعلو فمن يريد الصعود الى الجبل لا يكفيه ان يقف على السفح ويمني نفسه بالصعود ، او يعارض من يصعد ، بل عليه ان يحرك نفــسه ويعمل على تغيير ذاته حتى يصعد . و الله لا يتقبل عمل احد ، وبالتالي لا يباركه ، ولا يوفقه للنجاح إذا لم يغير ذاته و يتق الله .

فمن يعمل من اجل تحصيل العلم ثم لا يصل اليه ، ويرى الاخرين اصبحوا علماء فليس الطريق الافضل له ان يعارض العلماء ويناصبهم العداء ، بل من الأفضل والأنفع له ان يراجع نفسه ليجد ان فيها خللا ما منعه عن الوصول الى العلم ، فيصححه وهكذا اذا يكون منطلق التقدمهو هذا المبدأ ( انما يتقبل الله من المتقين ) اذ انهم وحدهم الذين يصلحون انفسهم فيساعدهم الله على ذلك .

[ 28] [ لان بسطت إلي يدك لتقتلني ما انا بباسط يدي اليك لاقتلك ]وبذلك صرح القرآن بأن التهديد ليس مسوغا للمبادرة بالجريمة ، واذا استطاع الانســان ان يقاوم اغراء التهديد فلا يقتل الناس ولا يشن الحروب الابتدائية ضد الاخرين ، لأن نصف الحروب تصبح بلا مبرر وبلا دافع اليها .

اذا فما الذي يساعدنا على ضبط الشعور بالخوف من الاخرين ، و بالتالي تحديد غريزة المبادرة بعد التهديد ؟

الجواب : هو الخوف من الله فهو خوف يقاوم الخوف من البشر ، فلانك تخشىالناس تريد ان تشن الحرب عليهم ولكنك من جهة اخرى تخاف الله فتحجم عن شن الحرب على عباده ، ولذلك قال هابيل :

[ إني أخاف الله رب العالمين ]

ولان الله هو رب العباد فهو يحبهم ، ولا يرضى لواحد ان يعتدى عليهم .

و كلمة اخيرة ان هذا الموقف من هابيل لا يدل على الاستسلام للظلم فالاسلام يأمر بكل وضوح و جدية بضرورة مقاومة الظالمين ، ولكن بعد ان يبدؤا فعلا في ظلمهم او فيما يؤدي اليه بالتأكيد .

و هابيل لم يكن يصدق ان قابيل قاتله ، بل ربما كان يظن ان كلامه كان مجرد تهديد أو لا أقل كان يحتمل ذلك ، وقد قتل غيلة .

[ 29] ثم قال هابيل الذي لم يشأ ان يصبح المجرم . حتى ولو كان ذلك يؤدي به الى ان يصبح الضحية :

[ إني أريد ان تبوء بإثمي وإثمك ]

حيث ان القاتل بغير حق سيتحمل اوزار القتيل يوم القيامة ، بينما يغفر الله للقتيل ذنوبه رحمة به .

[ فتكون من اصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ]

حيث يتضاعف اثمهم بسبب ظلمهم للناس .

[30] النفس الامارة بالسوء تهون في عين الانسان الجرائم الكبيرة ارضاء للشهوات العاجلة ، و قابيل كان يستعظم في البدء الاعتداء على حياة اخيه ، حيثاودع الله في فطرة الانسان احترام الحياة و تكريم الاخرين ، بيد ان نفسه طوعت له ، وذللت هذه الجريمة .

[ فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ]خسر فطرته النقية ، و خسر اخاه الكريم ، و خسر حياته الهادئه ، و خسر مستقبله في الاخرة .

[ 31] قتل اخاه و تورط في الامر ، ماذا يفعل بجسد اخيه .. بهذه العلامة الواضحة لجريمته ؟! وهنا بعث الله غرابا ، يثير الارض بمنقاره فانهار كبرياء قابيل الكاذب ، و تهاوى صرح غروره ، و عادت اليه فطرته ، وقد خمدت جذوة الغضب السابقة التي كانت قد حجبت عنهعقله ، وقال لنفسه : كم انا عاجز وكم كنت مغرورا بنفسي فهذا الغراب عرفني كيف ادفن جسد اخي !!!

[ فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يواري سوءة اخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين ][ 32] أرأيت كيف قضى قابيل على حياة أخيه ، وكيف ندم على فعلته دون ان ينفعه الندم أرأيت كم هي عظيمة و مؤلمة جريمة القتل ، لذلك احترمت الشرائع السماوية حياة الانسان و جعلت حياة كل فرد مساوية لحياة الناس جميعا .

[ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض ]حيث يجوز القتل قصاصا او لمنع الفساد كما يبينه الدرس القادم ، اما في غير ذلك فان قتل نفس واحدة ، تكون بمثابة قتل النفوس جميعا ..


[ فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ]ان احترام الحياة عند الشرائع السماوية و الاسلام بالذات ، لا تعود الى حياة هذا الشخص او ذاك ، بل الى الحياة كحياة ايا كانت خصائصها و ميزاتها ، لا فرق بين الطفل الرضيع ، و رئيس البلاد ، او بين المؤمن الصالح او الانسان العادي ، او بين عدوي و صديقي ، المهم ان الحياة محترمة ، ولو استهان المجتمع بحياة واحد منهم فان الحياة كلها في خطر .

[ ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ] يتجاوزن حدودهم ، حتى ينتهي ذلك بهم الى الجريمة الفاحشة .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس