فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 49] اين كان بنوا اسرائيل ؟

ابوهم الكبير ابراهيم ( عليه السلام ) كان في العراق ثم هاجر الى فلسطين . ولكن حفيد إبراهيم يعقوب انتقل هو و أبناؤه الاثنى عشر الى مصر في قصة يوسف . و دارت الايام و تحولوا من شعب جاء مصر ملكا ، الى طوائف محرومة ، مستضعفة ، و مستثمرة من قبل فراعنة مصر. وكانوا بحاجة الى قائد و رسالة ، فأرسل الله موسى نبيا ، و انزل معه التوراة رسالة ، فجرت فيهم طاقاتهم ، و قادهم عبر البحر الى جزيرة سيناء ، ومن ثم الى فلسطين . هكذا استطاع الانسان ان ينتصر على المستغلين و الطواغيت بفضل الرسالة الالهية .

و يذكــر القرآن بني اسرائيل بهذه القصة ، ليقول لهم : انهم لو تركوا رسالة الله ، لعادوا مرة اخرى ، امة مستضعفة محرومة . وهكذا يذكر الامة الاسلامية بهذه الحقيقة ايضا ، وهي : ان التمسك بالهدى الذي انزله الله ، و التمحور حوله ، هو الكفيل بضمان استقلالهم و حريتهم .. يقول الله سبحانه :

[ واذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ]

اي يذيقونكم عذابا اليما يتمثل فيما يلي

[ يذبحون ابناءكم و يستحيون نساءكم ]

انهم كانوا يقتلون ابناء النساء الخادمات لكي لا تنشغل النساء عن خدمتهم . او كانوا يفعلون ما هو اعظم و اشد ضررا على كرامة الانسان .


[ وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ]

انه شر عظيم ، ولكنه - بالرغم من ذلك - اختبار ( بلاء ) يمكن ان يتمخض عن ارادة قوية في التحدي و الصمود ، وبالتالي في التحرر الحقيقي .

[ 50] ولكن لم يستطع بنوا اسرائيل الخلاص من كــل تلك المأساة الا بفضل الرسالة الالهية ، اذ جاءت ، و وحدتهم ، و انقذتهم من ويلات الطغاة .

[ واذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم و أغرقنا آل فرعون وانتم تنظرون ]وكم هي رائعة ان ينظر المحروم الى جلاده : تتقاذفه امواج البحر ، جزاء على جرائمه .

[ 51] الطاغوت انتهى ولكن آثار سيطرته لم تزل كامنة في النفوس ، و بارزة في التصرفات ، متمثلة في حالة الاستسلام والهزيمة النفسية و التعود على الخضوع . من هنا تركهم قائدهم ومنقذهم عدة ايام ، فلما عاد اليهم فاذا بهم يسجدون للعجل . لانهم لا يزالون عبيدافي نفوسهم بالرغم من تحررهم الظاهر . هؤلاء كانوا بحاجة الى ثورة ثقافية قوية تحرر نفوسهم من الذل و الخنوع . كما كانوا بحاجة الى ثورة اجتماعية تخلصهم من عبودية الرأسمالية العفنة التي كانت مرتبطة بنظام فرعون الطاغوتي . وكانوا ايضا بحاجة الى ثورة علمية ترفعهم عن حضيض الماديات الى عالم التوحيد الخالص . ثم انهم يحتاجون الى ثورة عمرانية تهديهم الى بناء المدن و زراعة الارض .

وفيما يلي نجد كيف ان رسالة الله فجرت هذه الثورات في واقع بني اسرائيل حتى استطاعوا بناء امة مجيدة .

الف : ذهب موسى الى طور سيناء ، ليتلقى الوحي فلمــا عــاد وجد قومه في نكسة جاهلية .

[ واذ و اعدنا موسى اربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وانتم ظالمون ]هذه كانت مشكلة عقائدية ( ايدلوجية ) حلها موسى (ع) باذن الله وقال الله تعالى :

[ 52] [ ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون ]

[ 53] [ واذ آتينا موسى الكتاب و الفرقان لعلكم تهتدون ]ماذا فعل موسى ( ع) عفا عنهم بامر الله ثم تلا عليهم الكتاب ( وفيه الرؤى العقائدية العامة ) و الفرقان ( وفيـه التعاليــم التفصيلــية للحياة ) فصحح بذلك رؤاهم و علمهم كيف يقتلعون من انفسهم جذور الاستعباد حتــى لا يعــودوا الــى عبــادة المال ( العجل )مرة اخرى هذه كانت ثورة ثقافية .

[ 54] باء : ولكن انتهاء عبادة المال ، من قبل اكثر الامة ، لم تدل على انتهاء دور الثروة في تهديد تحرر الامة اجتماعيا . اذ كانت هناك طبقة قد اشربت قلوبهم بحب العجل . وكانت الامة بحاجة الى عملية تطهير ، لتصفية العناصر الخبيثة منها .

[ واذ قال موسى لقومه يا قوم انكم ظلمتم انفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا الى بارئكم فاقتلوا انفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم انه هو التواب الرحيم ][ 55] جيم : وبقيت المشكلة الثالثة هي التي نسميها بالمشكلة الايدلوجية حيث كان لابد من ثورة علمية توحيدية ، تخلص الامة من رواسب الجاهلية المادية ، المتمثلة في تصور الله في شيء مادي ، وبالتالي تقديس الاشياء ، انطلاقا من الباسها ثوب الالهوية . والامة لا تصبح متحررة بالكامل ، الا اذا تحررت من تقديس اي شيء او شخص من دون الله سبحانه . اذ لولا ذلك لكانت الامة معرضة للاستعباد .

فالامة التي تقدس الاصنام ، لابد ان تستعبدها الاصنام او كهنة الاصنام . و الامة التي تؤله عيسى (ع) لابد ان يستعبدها كهنة الكنيسة . و الامة التي تقدس الاولياء على انهم قد دخلتهم روح من الله ، لابد ان يستعبدها المنتسبون الى اولئك الاولياء .

من هنا حرصت الرسالة الالهية على إنقاذ البشرية من جاهلية الشرك ، لتصبح حرة كريمة لا تقدس الا الله سبحانه . ولا تطيع الا من امر الله بطاعته .

[ واذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وانتم تنظرون ]اختار موسى من قومه سبعين رجلا ليرافقوه الى الطور ، ولكنهم سرعان ما استبدت بهم جاهليتهم الاولى وقالوا : ارنا الله والا سوف نعود كفارا . فاذا بصاعقة من السماء تحرقهم جزاء كفرهم الصريح .

[ 56] [ ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون]

وكانت هذه الهزة كافية لتصفية نفوس هؤلاء من رواسب الشرك و تسبيح الله وحده .

[ 57] دال : وبعــد ان انقـــذ الله بنــي اسرائيل برسالته الكريمة عن مشاكلهم ( استعباد فرعون ، عبودية العجل ، طبقة اصحاب العجل ، رواسب الشرك ) اسبغ عليهم مختلف النعم المادية وقال سبحانه :

[ و ظللنا عليكم الغمام و انزلنا عليكم المن والسلوى ]فهناك نعمة السكن و نعمة الغذاء . و المن هو الحلوى . و السلوى هو طير معروف .

[ كلوا من طيبات ما رزقناكم ]

ولكنهم كفروا بانعم الله .. مثلما يحدثنا القرآن بعدئذ .

[ وما ظلمونا ولكن كانوا انفسهم يظلمون ]

انهم ارادوا الدخول في المدينة ، وكانت تلك نكسة لهم . اذ الاستقرار كان سيفقدهم الكثير من مزاياهم ، ومنها بالطبع حريتهم وقدرتهم على مواجهة اعدائهم . ولكنهم تعبوا من حياة البدو ، و اسلموا انفسهم للخفض و الدعة . فقال لهم الله : اهبطو مصرا .

[ 58] [ واذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا ]ولكي يضمن لكم الاستقرار في المدينة فعليكم التزام الطاعة لله ، و التضرع و حسن السلوك .

[ و ادخلوا الباب سجدا ]

لله

[ و قولوا حطة ]

اي توبة الى الله .

[ نغفر لكم خطاياكم و سنزيد المحسنين ]

[ 59] ولكن ، يبدو انهم لم يطبقوا تعاليم الله ، فأخذوا يتكبرون و يسرفون و يقولون حنطة خير لنا من حطة ..

[ فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ]متمثلا في نقص في الثمرات ، و خلاف عريض بينهم على مغانم المدينة . حسبما يذكره القرآن في آية اتية . والسبب في ذلك الرجز هو فسقهم ، و ابتعادهم عن تعاليم الله .

[ 60] تلك كانت نعمة الاستقرار التي اسبغها الله عليهم ، ولكنهم كفروا بها . وهذه نعمة الماء الاشد ضرورة للعمران يسبغها عليهم ربنا ويقول :

[ واذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فأنفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل اناس مشربهم ]لانهم كانوا اثنتي عشرة قبيلة مختلفين . وكان من المفروض الا تتداخل حياتهم مع بعضهم لوجود الحساسيات القديمة بينهم .

[ كلوا و اشربوا من رزق الله ]

ولكن مع توافر النعم تنمو عند الانسان حالة الطغيان ويقوم بالاعتداء على الاخرين ، او الاسراف في استهلاك المواد . من هنا حذرهم الله فقال :

[ ولا تعثوا في الارض مفسدين ]

[ 61] كان بنوا اسرائيل امة بدوية ثم تحضرت . ولكنها لم تستطع ان تقاوم سلبيات التحضــر فأستعبدها فرعون في مصر ، و تجذرت بذلك حالة العبودية في نفوسهم . فاصبحوا ضعفاء جبناء مختلفين لا يثق بعضهم ببعض . ثم قادهم النبي موسى ( عليه السلام ) الى سيناء . و تربى في الصحراء جيل منهم استعادوا بعضا من خصائصهم الاولى التي تميزوا بها حين كانوا بدوا . ولكن كثيرا من آثار مرحلة العبودية لم تزل في نفوسهم وحين طلبوا من نبيهم ان يإذن لهم بالعودة الى فلسطين و الاستقرار في المدن ، لم يكن في صالحهم ذلك اذ ان آثار العبودية والتي منها الاختلافات المتجذرة في نفوسهم ، كانت تهددهم بالانحراف مرة اخرى و تحطيم حضارتهم .

بيد انهم اصروا على ذلك فلما ( هبطوا مصرا ) عادت اليهم سلبيات الحضارة كما يحدثنا عنها القرآن ..

[ واذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فأدع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال اتستبدلون الذي هو ادنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فان لكم ما سألتم ]فهبطوا مصرا وشاعت في انفسهم صفات الجبن و اللاثقة و الفردية ، و فقدوا الروح العسكرية التي اكتسبوها في الصحراء وكانت النتيجة ..

[ و ضربت عليهم الذلة ]

ومع العبودية السياسية تأتي العبودية الاقتصادية . اذ لا يستعبد الطغاة الناس الا لكي يستثمروا طاقاتهم ، و يستفيدوا من خيراتهم . فضربت عليهم المسكنة ايضا .

[ و المسكنة و باؤوا بغضب من الله ]

حتى كادوا يفقدوا قوتهم اليومي . ولكن لماذا ؟ لانهم كفروا بمنهج الله في الحياة و تركوا الالتفاف حول رسالتهم ، و الانتماء اليها ، دون الانتماء الى العنصريات المقيتة . و تركوا الاهتمام بتعاليم الدين في العمل الصالح و التعاون عليه ، و الجهاد من اجل الدين .

و زادوا ضعفا واستسلاما حين حولوا عنفهم الى الداخل ، فاخذوا يصفون العناصر الخيرة فيهم ، و يقتلون الانبياء لانهم يامرونهم بالعودة الى رسالتهم .

ولم يكونوا يكفرون بآيات الله ، و يقتلون النبيين لو لم يعصوا الله سبحانه منذ البدء ، في تنفيذ تعاليمه . اذ ان العصيان لابد ان ينتهي بالكفر ، كما ان الاعتداءات البسيطة ضد بعضهم تعاظمت حتى اعتدوا على المصلحين الكبار في مجتمعهم وهم الانبياء عليهم السلام . يقول الله سبحانه :

[ ذلك بانهم كانوا يكفرون بآيات الله و يقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ]ان كل امة تنتهي بانتشار روح العصيان و الاعتداء فيها ، اذ تنمو هذه الروح الخبيثة حتى تقضي على قيم الامة وعلى الصفوة الصالحة فيها . وماذا تبقى من الامة لو انتهت قيمها و رجالها الصالحون ؟


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس