بينات من الآيات [ 261] الله هو واهب الحياة و واهب نعمها ، والآن يطلب منا ان نقدم له بعضا مما اعطانا ، حتى يعوضنا عنه اضعافا مضاعفة ، ان ما نقدم لله لن يضيع ، بل مثله كالحبة التي ندفنها تحت الارض ، فهي لا تنتهي ، بل الاخرى التي نأكلها هي التي تنتهي ، اما هذه التي سترناها تحت الارض ، فهي تنمو و تنمو حتى تصبح مئات الحبات ، هذا صنع الله ، انه يأخذ منك قدرا بسيطا من المال تنفقه في سبيله فيضاعفه لك .
[ مثل الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة و الله يضاعف لمن يشاء و الله واسع عليم ][ 262] قد يكون الانفاق في سبيل الله في ظروف صعبة ، كان يكون صاحبه قليل المال ، ولكنه ينفق على من هو افقر منه ، او يؤثر الاخرين على نفسه وبها حاجة ، او يتحدى بالانفاق سلطات الطاغوت ، او يداوي جرح مظلوم . و انئذ يكون الجزاء بقدر المشقة ، و بحسب الظروف الموضوعية والنفسية التي تكتنف الانفاق ، و الله يعلم بهذه الظروف تماما ، و قادر على ان يضاعف العطاء بسببها .
اذا الانفاق في سبيل الله نوع من الاستثمار في الحياة الدنيا و الاخرة ، ولكن هذا الاستثمار مهدد بالخسارة ، لو لم يحافظ عليه صاحبه ، و يقاوم شهوة الشهرة و السلطة ، والا يتبع انفاقه بالمن والاذى .
[ الذين ينفقون اموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما انفقوا ، منا ولا اذى ]فلا يشبع شهوة الشهرة ، او السلطة ، في نفسه عن طريق الانفاق ، فيتعالى على الفقير او يتجبر عليه بغير حق ، ويكون لنفسه طبقة ضد طبقة الفقراء .
[ لهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ][ 263] ثم يؤكد القرآن هذا الشرط الصعب في الانفاق ، والذي يحتاج تحقيقه الى ترويض شديد للنفس الامارة بالسوء ، و ردع دائم للشهوات الشيطانية فيها . يؤكده ويقول :
[ قول معروف و مغفرة خير من صدقة يتبعها اذى ]
فلو لم يدفع الغني ماله للفقراء ، ولكنه يجالسهم ويحسب نفسه واحدا منهم و يعتبرهم اخوانه ، ولم يتسلط عليهم ، بل اذا صدرت منهم خطيئة صبر عليها ، و غفرها لهم . هذا افضل عند الله من ان يدفع ماله بدافع السيطرة عليهم ، و تذليل كرامتهم ، و تكوين حالة طبقيةفي الامة .
هكذا يرفض الاسلام اي نوع من الانفاق المشروط من قبل الاغنياء يكرس كبرياءهم المزيفة ، و تسلطهم اللامشروع .
[ و الله غني ]
فلا يحتاج الى انفاق المرائين ولا غيرهم وانما المحتاج هو الانسان نفسه وهو سبحانه .
[ حليم ]
لا يأخذ الناس بالعذاب بل يترك المجال مفتوحا لهم ليتوبوا حينما يغلبهم الشيطان .
[ 264] و يتابع القرآن الحديث عن ذات الفكرة بكلمة توجيهية للمؤمنين يحذر فيها من ان صدقاتهم سوف تتبخر ، بل و تحترق ، بمجرد استخدامها في سبيل السيطرة على الفقراء و المحرومين ، ولا تعود الصدقات سببا لنمو المال ، ولا لرحمة الله في الآخرة .
و يضرب لنا مثلا موضحا ويقول : أرأيت كيف يبطل الانسان عمل الخير ؟ انه اشبه شيء بارض جبلية صماء ، جمع الفلاح حفنة من التراب عليها ليزرع فيها ، ولكن سيول المطر ذهبت بتلك الحفنة من التراب ، فعادت الارض كطبيعتها الاولى ، لا تصلح للزرع هكذا .. الذي ينفقماله ، ثم يستخدم انفاقه للسيطرة كالصحراء لا تصلح لنبات الخير .
[ يا ايها الذين امنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الاذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ]حتى يراه الناس فيرضون عنه ، و يقدرون جهوده ، وبالتالي يتعالى عليهم .
[ ولا يؤمن بالله ]
حتى يكون عطاؤه في سبيله فهو لا يعمل لوجهه .
[ و اليوم الآخر ]
و مادام ايمانه باليوم الآخر ضعيفا فهو يبحث عن الشهرة و السمعة ، النتائج العاجلة ، فسعيه يكون للدنيا وحدها .. دون ان تدخل فيه حسابات الآخرة ..
[ فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا ]الصفوان : الحجر الاملس المستوية ، و الوابل : المطر الشديد الوقع ، والصلد :
الصخرة الملساء التي لا تنبت شيئا .
[ لا يقدرون على شيء مما كسبوا ]
لانهم ابطلوا استثمارهم ، ولم يبق لديهم شيء في بورصة الآخرة .
[ و الله لا يهدي القوم الكافرين ]
بل تتحــول قلوبهــم كتلك الصخــرة الصمــاء ، لا تــزرع فيــها الهداية ، لانها - اساسا - لا تطلب الهداية ، بل تعشق السلطة و السيطرة والتكبر على الناس .
[ 265] و هناك مثل آخر ، يعاكس هذا المثل تماما ، انه مثل المؤمنين المخلصين لله في انفاقهم : انهم سوف يحصلون على ثلاث فوائد ، الاولى : اكتساب مرضاة الله ، و الثانية : تزكية انفسهم وتربيتها على التقوى و العطاء ، والثالثة : جني ثمار العطاء في شكل ثوابعظيم في الدنيا وفي الآخرة .
[ ومثل الذين ينفقون اموالهم ابتغاء مرضات الله و تثبيتا من انفسهم ]لان الايمان ، كأية موهبة اخرى ، تزداد كلما استفاد الانسان منها ، كالارادة تقوى كلما تحدت الصعاب ، و المعرفة تزداد كلما انتفع بها صاحبها في العمل ، و الحب ينمو كلما اهتم به صاحبه ، وهكذا الايمان يثبته العمل الصالح وينميه .
[ كمثل جنة بربوة ]
فهـي جنــة اساسا .. لا مجرد صخور ، كذلك قلب المؤمن ، ارض قابلة للزراعة ..
[ اصابها وابل ]
عن طريق العمل الصالح المركز .. كالانفاق في الظروف الحرجة ، حيث انه سوف يضاعف من قوة الايمان ، و ثباته في النفس .
[فأتت اكلها ضعفين فان لم يصبها وابل فطل ]
اذ ان طبيعة الجنة ، انها تستدر الرطوبة و تكثفها في الفضاء ، فلابد ان يصيبها طل ، مطر خفيف ، او رطوبة مفيدة ، كذلك القلب المؤمن حتى ولو لم يواجه بنجاح تحديات خطيرة ( كالانفاق في المجاعة ) فانه سوف يمارس الاعمال الصالحة اليومية ، مما يحافظ على ايمانه.
[ و الله بما تعملون بصير ]
فلا تفكروا في الناس ولا تراؤوهم ، كفى بالله رقيبا على اعمالكم ، و كفى به مثيبا .
[ 266] و يضرب الله : مثلا رائعا لما يصيب الانسان من خيبة امل بسبب احباط اعماله ، يوم يحتاج الى الجزاء ، فيكتشف ان لذة الشهرة . او السيطرة التي ارادها من عمله فاتبعه بالمن و الاذى ، قد ذهبت بخيراته ، و اصبحت هباء منثورا ، يقول ربنا :
[ ايود احدكم ان تكون له جنة من نخيل و اعناب تجري من تحتها الانهار له فيها من كل الثمرات و اصابه الكبر وله ذرية ضعفاء ]كم يحتاج هذا المسكين الى هذه الجنة ، التي هي خلاصة جهوده في الحياة الدنيا ..؟ ولكن كيف به اذا احاط الخطر بجنته .
[ فأصابها اعصار فيه نار فأحترقت ]
هل يمكن تصور خيبة امل هذا الشيخ المحروم من جهده ، كذلك هي حالة ذلك الذي انفق امواله رجاء الثواب ، ثم بعث بنار المن و الاذى ، فالتهمت ثواب انفاقه ، و يوم احتاج الى ذلك الثواب لم يجده ، و وجد الله هناك اعد له نارا لاهبة ، جزاء ريائه و كبريائه السخيفة.
[ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ]
[ 267] اذا الشرط الاول للانفاق الصالح : ان يكون في سبيل الله ، و الشرط الثاني الا يتبع بالمن و الاذى ، فلا يستثمر من اجل تكريس الطبقية في المجتمع ، و الشرط الثالث يبينه القرآن في هذه الآية و يقول :
[ يا ايها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم ومما اخرجنا لكم من الارض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ]فعليكم باختيار افضل ما عندكم ، سواء حصلتم عليه بالجهد ، كما المال و البناء ، وما صنعتم بايديكم ، او لم تصرفوا فيه جهدا ، كما الزرع و الضرع .. المهم ان تختاروا افضل اموالكم لتقدموه لله ، ولا تتوجهوا نحو الخبيث ، حتى تختاروه للانفاق ، و فكروا لو عكست الآية وكنتم انتم الفقراء و غيركم ينفق عليكم هل كنتم تقبلون بهذا الخبيث ؟
[ و لستم باخذيه الا ان تغمضوا ]
و تتساهلوا .
[ فيه ]
[ و اعلموا ان الله غني حميد ]
و ليس بحاجة الى انفاقكم ، فهو غني وهو حميد في غناه . يتفضل عليكم من بحر غناه فيحمده الجميع وانتم - عباد الله المؤمنين به - تخلقوا باخلاق ربكم ، و اعطوا من غناكم شيئا يحمدكم الناس عليه .
[ 268] ولا تستجيبوا لصراخ الشيطان الذي يناديكم من داخل انفسكم : لا تنفقوا لانكم سوف تصبحون فقراء لو انفقتم ، كلا .. ان الانفاق يدور الثروة بين الناس ، ويسبب انتعاش الاقتصاد ، وبالتالي استفادة الجميع ، وحين يدعوكم الى العطاء ، فانه يدعوكم الى افضل منه ، ومن جهة اخرى ، الشيطان يخوفكم من الفقر ، فتمسكون ايديكم فيكرهكم الناس ، و تنتشر البغضاء ، و تتولد منها الفحشاء ، او ليس الافضل هو الانفاق ، حتى ينتشر بدل الحقد : المحبة والوئام .
[ الشيطان يعدكم الفقر ]
لانه يخوفكم منه اجل ، ولكن لماذا يريد الانسان المال ؟ أليس حتى يتصرف فيه بحرية ؟ اما اذا جاءه الفقير ، فانه سوف لا يتصرف في المال ، واذا فما الفرق بينه وبين الفقير الذي لا يملك شيئا ، كلاهما لا يملك قدرة التصرف في المال .
ومن يخشى الفقر يهضم الحقوق و يظلم الناس و يشيع الفحشاء في المجتمع وهذا من عمل الشيطان .
[ و يأمركم بالفحشاء و الله يعدكم مغفرة منه ]
متمثلة في السلام داخل قنوات المجتمع . بالاضافة الى تزكية النفس من رواسب الذنوب ، و النجاة من النار في الاخرة .
[ و فضلا ]
متمثلا في مردود العطاء في سبيل الله حيث ينزل بالطبع على المنفق بالخير الكثير .
[ و الله واسع ]
العطاء .. اذا انفق في سبيله .
[ عليم ]
بمن ينفق فيجازيه خيرا من لدنه .
[ 269] هذه حكمة و علم للحياة ، و معرفة بالقوانين الثابتة التي تحكمها ، ان العطاء يزيد من المال و البخل ينقصه .. ولكن ليس كل الناس يملكون الحكمة التي هي خير كثير ، لان التعرف على الحياة طريق للسيطرة عليها .
[ يــؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا وما يذكر الا أولوا الالباب ]الذين اوتوا العقل ، و يستفيدون من عقولهم بالتنبيه و التذكرة ، لان العقل يكتشف الاشياء و يحيط بها علما ، بشرط ان يتوجه اليها ، و مهمة التذكرة التوجيه الى العقل .
[ 270] تأثير العطاء في الرخاء الاقتصادي ، تأثير فطري ترعاه سنة الله في الحياة ، سواء عرف الناس بالعطاء ام لا ، لان علم الناس اوجهلهم ، بالعطاء ليس له اثر في مدى تأثير العطاء في نمو الاقتصاد ، و يكفي : ان الله يعلم بذلك ، وهو الذي يزيد الثروة بالانفاق لا الناس .
[ وما انفقتم من نفقة او نذرتم من نذر فان الله يعلمه ]فيجزي به خيرا ، سواء كان انفاقكم بسابق نذر اولا ، اما الذين لا ينفقون اموالهم ولا يفون بنذورهم ، فحتى لو اعتقد الناس انهم فعلوا ذلك ، فلن ينفعهم ادعاؤهم بالانفاق ، او ادعاؤهم به في نمو اموالهم ، او في منع الكوارث عنهم .
[ وما للظالمين من انصار ]
يمكنهم من نصرة الظالم ، الذي لا يدفع حقوق الناس او حقوق الله .
[ 271] مهدت الآية السابقة للحديث عن كتمان الانفاق ، و جاءت هذه الاية تشرحــه بوضوح اكثر .. مادام الانفاق في سبيل الله وليس بهدف الاستعلاء على الناس ، فهو عمل صالح ولا يضره علم الناس به ، ولكن كتمانه افضل ، لانه ابعد عن هواجس النفس و وساوس الشيطان . .
[ ان تبدوا الصدقات فنعما هي ]
خصوصا اذا كان ذلك يشجع الآخرين على العطاء .
[ وان تخفوها و تؤتوها الفقراء فهو خير لكم و يكفر عنكم من سيئاتكم و الله بما تعملون خبير ]فلستم بحاجة ابدا الى علم الناس .. بل الله يعلم ، وهو يزيدكم بالانفاق خيرا ، و يدفع عنكم الضر ، و يكفر بعض السيئات ..
[ 272] و الانفاق انما هو في سبيل الله ، و ليست القيادة الاسلامية الا قناة للمال المنفــق توصله الى مستحقيه ، و ليست مسؤولة عن انفاق الاغنياء اكثر من ذلك ..
[ ليس عليك هداهم و لكن الله يهدي من يشاء ]
انما المسؤول الاول عن اعمال الشخص هو ذاته ، لان فوائده و اضــراره تصيبه مباشرة .
[ وما تنفقوا من خير فلانفسكم ]
ولا يحسب انفاق عند الله ، الا ذلك الانفاق الخالص لوجه الله .
[ و ما تنفقون الا ابتغاء وجه الله ]
و الانفاق لا يختص بالمال ، بل يمكن ان يشمل اي شيء يملكه المرء كالجاه حين يبذله في خير الضعفاء ، و العلم يدل به الجهال الى الخير ، وكل شيء ينفق فهو محبوب عند الله في كتاب ، مجزي به غدا .
[ و ما تنفقوا من خير يوف اليكم وانتم لا تظلمون ]
[ 273] الــى هــنا عرفـنا شروط الانفاق الصالح ، يبقى ان نعرف : اين ننفق الاموال و لمن ؟
يجيب السياق على هذا السؤال .
[ للفقراء الذين احصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الارض ]بسبب منع العدو لهم ، كالذين اخرجوا من ديارهم ، لانهم لم يستسلموا للطاغوت .. او بسبب الضعف و المرض كالمحاربين القدامى الذين اكلت المعارك شبابهم ، ثم اصبحوا ضعفاء ، لا يستطيعون امتهان عمل ، ولا يمكنهم العودة الى عملهم السابق .
[ يحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف ]
لانهم لا يسألون احدا شيئا لكرامتهم و عفة نفوسهم ..
[ تعرفهــم بسيماهم لا يسألون الناس الحافا وما تنفقوا من خير فان الله به عليم ][ 274] و كلمة اخيرة في الانفاق في سبيل الله على الانسان الا يضع حدا لانفــاقه بل عليــه ان ينفــق ، انى وجد ثغرة في المجتمع يحاول سدها بانفاقه ، ويكون من . [ الذين ينفقون اموالهم بالليل و النهار سرا و علانية فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون ]
|