فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


قم الليل الا قليلا
بينات من الآيات

[ 1 ] [ يا ايها المزمل ]

لقد وقف المفسرون طويلا عند هذه الآية ، و اختلفوا في معنى المتزمل ، فقال بعضهم : المتزمل بعباءة النبوة ، و المتحمل لأثقالها (1) ، و علق العلامة الطباطبائي على هذا الراي قائلا : و لا شاهد عليه (2) . و في الكشاف : كان رسول الله ( ص ) نائما بالليل متزملا في قطيفته فنبه بما يهجن اليه الحالة التي كان عليها من التزمل في قطيفته و استعداده للنوم ، كما يفعل من لا يهمه امر و لا يعنيه شان (3) ، و روي في الدر المنثور عن جابر قال : اجتمعت قريش في دار الندوة ، فقالوا : سموا هذا الرجل اسما نصــدر الناس عنـــه، فقــالوا : كاهــن ، قالوا : ليس بكاهن ، قالوا : مجنون ، قالوا : ليس بمجنون ، قالوا : ساحر ، قالوا : ليس بساحر ، قالوا : يفرق بين الحبيب و حبيبه ،(1) تفسير مجمع البيان / ج 10 / ص 377 عن عكرمة .

(2) تفسير الميزان / ج 20 / ص 60 .

(3) تفسير الكشاف / ج 4 / ص 644 .


فتفرق المشركون على ذلك ، فبلغ ذلك النبي ( ص ) فتزمل في ثيابه و تدثر فيها (1) ، و قيل كان يتزمل بالثياب اول ما جاء به جبرئيل خوفا حتى انس به ، و انما خوطب بهذا في بدء الوحي و لم يكن قد بلغ شيئا ، ثم خوطب ( ص ) بعد ذلك بالنبي و الرسول (2) .

و قبل ان نبين راينا في هذه الآية الكريمة نسجل بعض الملاحظات حول بعض من الاراء ، فان ما علق به الزمخشري من حيث العبارة ( يهجن .. لا يهمه امر .. لا يعنيه شان ) و من حيث المعنى لا يليق بمقام حبيب الله و صفوة انبيائه و رسله و هو المعصوم ، و المهتم بامرالرسالة الى حد كاد يهلك نفسه من اجلها ، و تحمل من الاذى لها حتى خاطبه ربه سبحانه : " طه * ما انزلنا عليك القران لتشقى * الا تذكرة لمن يخشى " (3) .

و كذلك لا يليق بمقامه ( ص ) ما روي في الدر المنثور من انه تاثر باعلام الجاهليين سلبيا فتزمل و تدثر في ثيابه ! اما ما قيل من ان النبي ( ص ) كان يتزمل خوفا او ذهب الى خديجة قائلا : ( زملوني زملوني .. دثروني دثروني ) اول ما اتصل بالله عبر امينه جبرئيلحتى انس به .. هذا الراي الذي تبناه بعض المفسرين ، فانه ابعد ما يكــون عــن طبيــعة الانـــبياء و شخصية سيدهم الاعظم صلوات الله عليهم .

و السبــب ان فيه شيئا من نسبة الشك في صحة الرسالة و الاتصال بالله عنده ( ص ) ، و هذا نقيض قول الله عنه : " و لقد راه بالافق المبين * و ما هو على الغيب بضنين * و ما هو بقول شيطان رجيم " (4) .


(1) تفسير الدر المنثور / ج 6 / ص 276 .

(2) تفسير مجمع البيان / ج 5 / ص 377 .

(3) طه / 1 -3 .

(4) التكوير / 23 -25 .


و الذي يبدو لي ان كلمة " المزمل " تحتمل معنيين :

الاول : ما اشار اليه عكرمة بانه المحتمل لاعباء النبوة ، فان المتصدي لامر الرسالة و مسُؤولية التغيير بها احوج ما يكون الى قيام الليل ، يستمد منه روح الايمــان و ارادة الاستقامــة على الصراط المليء بالمصاعب و التحديات . جاء في المنجد : زمل زملا الشــيء : حملـــه ، ازدمـــل الحمــل : حملة بمرة واحدة ، الزمل : الحمل (1) .

الثاني : الذي لف عليه ثيابه او غطاءه على وجه الوصف لحال النبي حين نزل الوحي عليه بهذه الآيات ، و هو ظاهر اللفظ و في الخطاب بهذه الكلمة فائدتان :

اولا : تلطف و تعطف و دلالة على قرب الرسول من ربه حتى يخاطبه بمثل هذا التعبير الذي يجري بين الاحبة .

و ثانيا : التوسع الى كل من يتزمل للنوم ، فان الحديث يشمله انطلاقا من قاعدة : ( اياك اعني و اسمعي يا جارة ) التي نزلت بها ايات الذكر الحكيم .

على ان المعنى الاول هو الاخر يتسع لكل من تحمل اعباء الدعاء الى الله ، و ليس في هذا التعبير ادنى مساس بعظمة الرسول ( ص ) - كما زعم البعض - فانه بشر مثلنا يحتاج الى الراحة و النوم . و لعل الرسول كان ينام اول الليل ليقوم في منتصفه و اخره ، موصلا قيامه بالليل بصلاة الصبح كما نقل عنه ، و يقوي هذا الاحتمال اللغة حيث جاء فيها : زمل الشيء بثوبه او فيه : لفة (2) .

[ 2 ] و حيث ينتفض كل مزمل على نداء الوحي الالهي المتوجه اليه يجد نفسهأمام أمر هام .

[ قم الليل ]

و لم يقل : ( صل ) لان التعبير بالقيام اشمل من الصلاة ، فالقيام يشمل الصلاة المخصوصة و غيرها ، و كذلك الدعاء و قراءة القرآن و التفكر و الاستغفار ، و الذي يستتبع محاكمة الماضي بالمحاسبة الذاتية و التفكير المنهجي في المستقبل . اذن فالليل ليس لمجرد النوم و الراحة ، كلا .. انما هو فرصة المؤمنين الذهبية للعروج نحو الكمال الروحي و العقلي ، و الاتصال برب العالمين .. و من ثم التخطيط السليم للمستقبل ، سواء مستقبل الاخرة البعيد ، او مستقبل الغد القريب في الدنيا ، حيث السبح الطويل كل نهار . و يتميز الليل عن النهار بهدوئه و صفائه ، و كون الانسان فيه بعيدا عن كثير من المؤثرات التي تواجهه في النهار ، و لذلك جعله الله ميعاد لقائه بعباده الصالحين .

ان الاسلام يريد لاتباعه ان يقودوا البشرية ، و يشيدوا على هداه سعادتها الخالدة ، و ذلك بحاجة الى العزيمة العالية ، و الارادة الصلبة ، و مناجاة الله الذي من عنده كل خير و سعادة .. و قيام الليل يؤمن لهم كل ذلك ، كما ان بلوغ ذلك الهدف رهين السعي المستمر نحوه و الذي لا يكفيه النهار مما يدعو المؤمنين الى مواصلة السعي فــي النهار بقيام الليل ، فلا ينامون الا قليلا ، بلى : ان الهدف عظيم ، و الفرصة قصيرة ، فلا بد اذن من سعي مضاعف ، يسخرون فيه ما يمكنهم من طاقاتهم ، و ينتهزون لاجله ما يمكن من الوقت .


[ الا قليلا ]

من عمرهم يخصصونه لراحة ابدانهم كحاجة طبيعية تفرض نفسها على كلمخلوق ، و حيث يستريحون بالنوم فليس لذاته ، بل لينهضوا من بعده الى عمل دؤوب و انجازات عظيمة ، فاذا بك تدرس حياة احدهم لتقسم انجازاته على ايام عمره تجده احيانا يسبق الزمان بانجازاته الكبيرة ، و على عكسهم اولئك الذين يستسلمون لحب النوم و الراحة ، فان واحدهم يعيش ثمانين عاما في ظاهر الامر و لكنك حينما تقيم حياته على اساس الاعمال و المنجزات تجده لم يعش اكثر من عشرين او ثلاثين سنة ، لانه كان ينام ساعات طويلة في اليوم ، اما اوقات يقظته فانها تضيع بين غفلة و لهو و لعب .

بلى . ان الله يريد لنا ان نقوم النصف الاخر من اعمارنا ، و الذي عادة ما يخسره الناس ، قياما نعمره بالعمل الصالح ، و اي عمل صالح افضل من التقرب اليه تعالى ، و التدبر في كتابه ، و استثارة العقل بآياته فيه وفي الطبيعة ؟

و اذا كان الامر القراني " قم " ظاهر في الوجوب بالنسبة الى النبي و المعصومين - عليه و عليهم الصلاة و السلام - و محمول على الاستحباب لمن سواهم فان المتقين يتلقونه على وجه الفرض عمليا ، بحيث يلتزمون قيام الليل كالتزامهم بالصلوات اليومية ،انطلاقا من تحسس أهمية هذا الامر و دوره في حياتهم و شخصيتهم و حركتهم و ايمانا بان القرآن موجهة آياته الى كل فرد فرد ، و اليهم بصورة اخص من العالمين .

[ 3 / 4 ] و بعد ان امر الله تعالى نبيه ( ص ) و من خلاله كل مؤمن بقيام الليل الا قليلا كأعلى و أفضل نسبة للقيام ، يضعنا امام ثلاثة خيارات اخرى :

[ نصفه او انقض منه قليلا * او زد عليه ]

و قد اختلف في الضمير المتصل بكلمة النصف هل هو عائد على الليل او على القليل ، و بالتاليل اختلف نحويا في كون " نصفه " بدلا عن ايهما ؟ فقال البعضو من بينهم شيخ الطائفة : نصفه بدل من الليل ، كقولك : ضرب زيدا رأسه (1) ، و قيل : انه بدل من القليل ، فيكون بيانا للمستثنى ، و يؤيد هذا القول ما روي عن الصادق ( ع ) قال : " القليل النصف ، او انقص من القليل قليلا ، او زد على القليل قليلا " (2) ، و الاقرب - كما يبدو لي - ان الضمير في " نصفه " عائد الى الليل فيكون المعنى : قم كل الليل الا قليلا ، او نصفه ، او اقل من النصف بالانقاص منه قليلا ، او اكثر من النصف بالزيادة عليه .

و نستطيـــع ان نقـول : بان المقصود من الليل في قوله : " قم الليل " هو الجنس ، و ان المستثنى بعضه ، فيكون المعنى : قم كل الليالي الا قليلها و بعضها ، و هي - كما عبر صاحب المجمع - ليالي العذر كالمرض و غلبة النوم و علة العين و نحوها (3) ، ويؤيد ذلك ما رواه محمد بن مسلم عن الامام الباقر - عليه السلام - قال : سالته عن قول الله تعالى : " الآية " قال : " أمره الله ان يصلي كل ليلة الا ان تاتي عليه ليلة من الليالي لا يصلي فيها شيئا " (4) لعذر من الاعذار .

و السؤال : لماذا أمر الله بالقيام على شبه من التردد بين اربعة خيارات دون تحديد ؟ لعله للاسباب التالية :

1 - لان الفرض المحدد امر مستحيل في بعض الظروف حتى بالنسبة الى الرسول و المعصومين الذين يجب عليهم قيام الليل وجوبا شرعيا عينيا ، ذلك ان الانسان من الزاوية الواقعية عرضة للظروف المتغيرة التي لا يمكنه مقاومتها ، كالمرض و الحرب و الظروف الامنية ، قال علي ابن ابي طالب : " خير الله نبيه ( ص ) في هذه(1) التبيان / ج 10 / ص 162 .

(2) تفسير مجمع البيان / ج 10 / ص 377 .

(3) المصدر .

(4) تفسير الميزان / ج 20 / ص 71 عن كتاب التهذيب .


الساعات القيام بالليل ، و جعله موكولا الى رأيه ، و كان النبي ( ص ) و طائفة من المؤمنين معه يقومون على هذه المقادير ، و شق ذلك عليهم ، فكان الرجل منهم لا يدري كم صلى ، و كم بقي من الليل ، فكان يقوم الليل كله مخافة ان لا يحفظ القدر الواجب حتى خفف الله عنهم بآخر السورة " (1) الذي يشير القرآن فيه إشارة واضحة لواحد من اسباب تعدد الخيارات .

2 - ثم ان وضع المكلف امام خيارات متعددة تختلف في ثقلها على النفس و فضلها عند الله ، لا فرق بين درجة التكليف هل هي الوجوب او الندب و الاستحباب ، يكشف عن مدى إيمانه و ارادته حين يختار بنفسه ايها شاء ، وفي ذلك نوع من الامتحان الالهي للمؤمنين .

3 - كما نهتدي من ذلك بالنسبة لغير النبي ( ص ) الى استحباب قيام الليل لا وجوبه كحكم شرعي ، و قد اعتبر الفقهاء الاختلاف في النصوص ضيقا وسعة ، و كثرة و قلة ، دليلا على الاستحباب ، و ذلك ان الفرض الواجب يكون محددا .

و قيام الليل - كما تقدمت الاشارة - لا ينحصر في عدد من الركعات و الاذكار و حسب ، بل هو برنامج متكامل للجسم و الروح و العقل ، و ذلك بما يتضمنه من صلاة و مناجاة و تلاوة للقرآن ، يعرج من خلالها القائمون بالليل الى آفاق الإيمان و المعرفة ، و بالذات منهاترتيل القران الذي يحقق تسامى الروح و انفتاح العقل معا ، مما يسبب في ان واحد عروج الانسان الى مراتب الكمال .

و ان قراءة القران و تدبر معانيه روح قيام الليل ، فهو عهد الله للانسان ، وحبله الممدود من السماء الى الارض ، و نهجه الذي يداوي به ادواءه و يصل الى السعادة عبره ، فمنه يستمد روح التوحيد و التوكيل و الصبر ، و من آياته يستلهم بصائر الهدى(1) تفسير مجمع البيان / ج 10 / ص 377 .


و الحق في كل ميدان من الحياة ، لينطلق بالنهار على هدى من ربه ، و بين يديه بلسم لكل داء ، و حل لكل مشكلة ، و رؤية صائبة في كل قضية و حركة في الحياة ، فردية او اجتماعية ، و في اي حقل من حقولها ، بلى . ان قراءة القرآن بذاتها بركة و حسنة عظيمة ، و لكن هدفالقرآن أعظم من مجرد التبرك ، بل ان خيره الاكبر لا يحصل الا باستثارة العقل به ، و تدبر معانيه . او لم تسمع قول الله عز وجل : " كتاب انزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته و ليتذكر اولوا الالباب " ؟ و التدبر فيه ليس لمجرد الفهم و انما للعمل و التطبيق ايضا ، و لهذا يربط القرآن نفسه بين ترتيله بالليل و السبح الطويل بالنهار . و لان القراءة بذاتها ليست هدفا يأمرنا الله بقراءة آياته على وجه مخصوص هو الترتيل .

[ و رتل القران ترتيلا ]

و الترتيل هي القراءة الحسنة و المتأنية المصحوبة بالتفكر و التدبر ، فعن عبد الله بن سليمان قال : سألت ابا عبد الله ( الامام الصادق عليه السلام ) عن قول الله عز وجل : " الآية " ، قال " قال أمير المؤمنين ( ع ) : بينه بيانا ، و لا تهذه هذ الشعر ، و لا تنثره نثر الرمل ، و لكن أفزعوا قلوبكم القاسية ، و لا يكن هم أحدكم آخر السورة " (1) ، و قال الامام الصادق ( ع ) : " ان القرآن لا يقرا هذرمة ( بسرعة ) و لكن يرتل ترتيلا ، فاذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها ، و أسال الله -عز وجل - الجنة ، و اذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها ، و تعوذ بالله من النار " (2) ، و قال - عليه السلام - : " هو ان تتمكث فيه ، و تحسن به صوتك " (3) و عن أم سلمة : كان رسول الله يقطع قراءته آية آية (4) ، و عن انس(1) تفسير نور الثقلين / ج 5 / ص 446 .

(2) المصدر .

(3) المصدر / ص 447 .

(4) المصدر .


قال : كان يمد صوته مدا (1) ، و يصف الامام علي - عليه السلام - المتقين كيف يتعاملون مع القرآن عند قيام الليل فيقول : " اما الليل فصافون أقدامهم ، تالين لأجزاء القران يرتلونها ترتيلا ، يحزنون به انفسهم ، و يستثيرون به دواء دائهم ، فاذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، و تطلعت نفوسهم إليها شوقا ، و ظنوا انها نصب أعينهم ، و إذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا اليها مسامع قلوبهم ، و ظنوا ان زفير جهنم و شهيقها في أصول آذانهم ، فهم حانون على اوساطهم ، مفترشون لجباههم و أكفهم و ركبهم ، و أطراف أقدامهم ، يطلبون الى الله تعالى في فكاك رقابهم " و هذا ينعكس بالنهار على شخصياتهم ماديا و معنويا ، حيث يضيف الإمام - عليه السلام - قائلا : " و اما النهار فحلماء علماء ، أبرار أتقياء " (2) .

والمعنى اللغوي للترتيل يلتقي مع ما تقدم ، يقال : رتل الشيء : تناسق و انتظم انتظاما حسنا ، فهو رتل ، و رتل الكلام : أحسن تأليفه الى بعضه ، و القرآن تأنق في تلاوته ، و الرتل في المصطلح العسكري صف الجنود او الآليات المتراص ، و قيل : خفض الصوت عند القراءة (3) .

[ 5 / 6 ] و يبين الله واحدة من الخلفيات الأساسية التي تكشف أهمية قيام الليل ، و ذلك ببيان دوره الأساسي في بناء الشخصية الرسالية القادرة على تحمل مسؤولية الوحي ، فالأمانة الإلهية ثقيلة لأنها تخالف أهواء الإنسان و حبه للراحة و الاسترسال ، و الموقف السليم منها ليس الهروب من حملها ، و إنما العروج بالنفس الى مستوى حملها بالتزكية و التربية و التعليم من خلال البرامج المختلفة ، و من بينها و اهمها قيام الليل على الوجه الذي أشارت اليه الآيات الآنفة .


(1) المصدر .

(2) نهج البلاغة / خ 193 / ص 304 .

(3) المنجد / مادة رتل باضافة و تصرف .


[ انا سنلقى عليك قولا ثقيلا ]

قال عبد الله بن عمر : اي سنوحي اليك قولا يثقل عليك و على امتك (1) ، و قيل " ثقيلا " : لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ، و نفس مؤيدة بالتوحيد ، و قيل : عظيم الشأن ، كما يقال : هذا كلام رصين ، و هذا الكلام له وزن إذا كان واقعا موقعه (2) ، وقيل هو : ثقيل في الميزان يوم القيامة ، و قال القرطبي : هو متصل بما فرض من قيام الليل ، أي سنلقي بافتراض صلاة الليل قولا ثقيلا يثقل حمله ، لأن الليل للمنام ، فمن أمر بقيام أكثره لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل شديد على النفس ، و مجاهدة الشيطان ، فهو أمر يثقلعلى العبد (3) ، و ذهب البعض الى تفسير مادي لمعنى الثقيل مستدلا بمرويات غير محققة كقول عائشة : إنه كان ليوحى الى رسول الله ( ص ) و هو على راحلته فتضرب بجرانها ( 4) ( أي تضرب بمقدم عنقها الى مذبحها الأرض ) و في رواية : كانت تبرك الدابة على الأرض من ثقلالوحي . و ان جبين الرسول ( ص ) ليرفض عرقا (5) .

و الذي أختاره : أن الثقل هو الثقل المعنوي قبل أن يكون الثقل المادي ، و إذا صحت الروايات المتقدمة حول ما يتركه نزول الوحي من أثر مادي على رسول الله ( ص ) و على دابته من باب " لو أنزلنا هذا القران على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله "فإنها مظاهر و دلالات على الآثار و الحقائق المعنوية ليس إلا . و لا ريب أن القرآن قول ثقيل باعتباره يحمل الإنسان مسؤوليات عظيمة كمسؤولية الاستقلال و التغيير و التزكية و تحدي الباطل ، و لذلك فالإنسان بحاجة إلى قيام الليل(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 447 .

(2) مجمع البيان / ج 10 / ص 378 .

(3) الجامع لاحكام القران / ج 19 / ص 38 .

(4) تفسير نور الثقلين / ج 5 / ص 447 .

(5) المصدر .


ليسموا الى احتماله ، و هكذا تجد السياق يبين الصلة بين ثقل القرآن و بين قيام الليل ، فيبين أن الصلاة و التهجد و الحالة النفسية المنبعثة منها إذا نشا كل ذلك بالليل كان أفضل منه إذا نشأ بالنهار .

[ إن ناشئة الليل ]

و الناشئة في اللغة من نشأ الليل أي أحدثه ، و الله : خلقه ، و الحديث او الكلام : وضعه و ابتدأه ، و سميت ساعات أول الليل ناشئة لابتداء الليل بها (1) ، و عندنا : ما ينشأ بالليل من عبادة روحانية أو بصيرة عقلانية أو حكمة ربانية . أما المفسرون فذهبوا إلىقولين : أحدهما : أنها ركعتان بعد صلاة المغرب ( لعلها الغفيلة ، و قيل غير ذلك ) (2) ، و الآخر : أنها قيام الليل ، ففي مجمع البيان عن الباقر و الصادق ( ع ) : " هي القيام في آخر الليل إلى صلاة الليل " (3) ، و هو الأقرب إلى سياق السورة كما سبق.

[ هي أشد وطئا ]

و شدة الوطأ بمعنى ثبات القدم الذي يعكسه ثقل الوطأة و شدتها ، فالوطأة الشديدة على الارض أثبت للقدم ، قال قتادة : أثبت في الخير (4) ، و قال الفراء : أشد ثبات قدم ، لأن النهار يضطرب فيه الناس ، و يتقلبون فيه للمعاش (5) . و لا ريب أن الإستقامة على طريقالرسالة أمر مستصعب بحاجة إلى الإرادة الصلبة و الروح العالية ، حتى يواجه الإنسان بهما تحديات الإستقامة على الحق .. و قيام الليل(1) المنجد / مادة نشا .

(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 448 نقلا عن الكافي .

(3) مجمع البيان / ج 10 / ص 378 .

(4) الدر المنثور / ج 6 / ص 278 .

(5) التفسير الكبير / ج 30 / ص 175 .


بقراءة القرآن و التدبر فيه و الدعاء و الإستغفار يعطي إرادة الثبات و روح التحمل و عند هذه الآية ينبغي أن ندرس حياة الأجيال الأولى من المسلمين الذين صنعوا المنجزات العظيمة في التاريخ ، و غيروا مسيرة الإنسانية ، فإنهم لا ريب كانوا يستلهمون من قيامهم الليل و ما إلى ذلك همتهم العالية ، و إرادتهم الصلبة ، فكانوا رهبان الليل و فرسان النهار .

كما أن ناشئة الليل ثقيلة على النفوس لأن القائم لأدائها يواجه تحدي النفس التي يغالبها النعاس ، و تحن إلى الفرار من المسؤولية ، و تفضل الراحة الجسدية على لقاء ربها الجبار ، و تواجه كذلك تحدي الشيطان الذي يوسوس إليها بالتسويف ، لها بالنوم بعذر أو آخر، و هكذا يكون قيام الليل منطلقا لإصلاح جذري في النفس و المجتمع ، فهو إذا عملية صعبة ، و قد أشار القرآن إلى هذا المعنى بقوله تعالى : " و استعينوا بالصبر و الصلاة و إنها لكبيرة إلا على الخاشعين " (1) .

و هكذا رأى بعضهم أن المراد من شدة الوطأ صعوبة صلاة الليل ذاتها ، قيل أثقل و أغلظ على المصلي من صلاة النهار ، وهو من قولك : اشتدت على القوم وطأة السلطان .. فأعلم الله نبيه ان الثواب في قيام الليل على قدر شدة الوطأة و ثقلها ، و نظير قوله ( ص ) : " أفضل العبادات أحمزها " (2) و قيام الليل حمز ( صعب ) لأنه يخلق توازن الشخصية عند الإنسان لتكون قائمة على أسس رشيدة على قيم الوحي و هدى العقل و تجارب البشر ، فإذا برهبان الليل طاهرة ألسنتهم عن الغيبة و الشتم و سائر الأخطاء و الذنوب المنطقية التيمن بينها شهادة الزور ، لأن قيامهم بالليل يزيل من قلوبهم العقد ، و يزرع فيها التقوى ، كما يجعلهم يفكرون في كلامهم قبل النطق به ، و يزنونه بميزان الحق و الصواب ، لأامر الذي يعلهم يصيبون الحق حين(1) البقرة / 45 .

(2) التفسير الكبير / ج 30 / ص 176 .


يتكلمون ، فإذا سكتوا تفكروا ، و إذا نطقوا تفجرت الحكمة من جوانبهم ، كما وصفهم سيدهم أمير المؤمنين ( ع ) بقوله : " منطقهم الصواب " (1) .

[ وأقوم قيلا ]

أي أنهم أصوب للحق بجهاته المختلفة من غيرهم على الاطلاق ، فهم الأقوم ( يعني الأفضل ) ، قال الفخر الرازي مفسرا الآية : أحسن لفظا ، و قال أنس : أصوب و أهيأ وأحد (2) ، و هذا أمر طبيعي لأن القائم بالليل يتصل بقول الله و وحيه ( القرآن ) و يؤسس به تفكيرهو منطقه في الحياة ، و هو الذي يهديه للتي هي أقوم كما نعته عز وجل ، و لأن إثارة العقل بالتفكير في آيات الله ليلا يرسم السبيل للمنطق الأقوم عند السبح و الكلام في النهار .

و إذا اعتبرنا القرآن من مصاديق القول الثقيل الذي ألقاه الله على رسوله و على أتباعه فإن ناشئة الليل التي تهيء القلب لإستقباله تجعله أهيأ و أصلح لفهم معانيه و ثبوته فيه و العمل به .

[ 7 ] إن مسؤوليات الليل تتكامل - في منهج المؤمن - مع مسؤوليات النهار الذي يستوعب انتشارا واسعا ، و سبحا طويلا .

[ إن لك في النهار سبحا طويلا ]

هناك رأيان كلاهما ينتهي لعلاج التوهم بالتناقض بين مهام الانسان في الليل و مهامه في النهار ، فلإاسلام يعتبر الإثنين يتكاملان :


(1) نهج البلاغة / خ 183 / ص 303 .

(2) التفسير الكبير / ج 30 / ص 176 .


الرأي الأول : السبح بمعنى : المهام و العمل ، يقال : سبح القوم : تقلبوا و انتشروا في الأرض (1) ، فكان القرآن يريد القول لنا بأن للمؤمن مسؤوليتين : إحداهما بالنهار على عشرات المهام و الأمور ، و الأخرى بالليل تتحدد بقيامه ، و مهما كانت المسؤولية في النهار كبيرة طلب علم ، أو جهاد في سبيل الله ، أو سعي للرزق الحلال ) فإنه من الخطأ إستعاضة مسؤولية الليل بالنهار ، لأان العالم لو لم يخلص لكان ضرر العلم عليه و على الناس أكبر من نفعه ، و الذي يجعل العلم مفيدا ، و العالم ملتزما برسالته في الحياة ، فلا يزيف الحقائق ، و لا يبيع نفسه و علمه على أية حكومة و طاغية و مترف ، هو الإيمان الذي يستلهمه من قيام الليل .

إن حاجة المؤمن لقيام الليل في أي خندق كان هي حاجة ملحة و أكيدة ، لأن سبحه الطويل بالنهار جسد لابد له من عقل و روح لا يجدهما إلا في الأتصال بالله و إتباع وحيه . و إنه لخطأ فظيع أن يقبل الإنسان على سبح النهار الطويل و يخوض لججه من دون إعداد كاف ، و إن الامام عليا ( ع ) ليؤكد بأن ما يصير أليه المتقون من الفضيلة بالنهار إنما هي ثمرة قيامهم بالليل ، و ذلك حينما قال و قد وصف شأنهم بالليل كما سبق : " و أما النهار فحلماء علماء ، أبرار اتقياء ، قد براهم الخوف يري القداح ، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى ، و ما بالقوم من مرض ، و يقول : لقد خولطوا ، و لقد خالطهم أمر عظيم ! لا يرضون من أعمالهم القليل ، و لا يستكثرون الكثير ، فهم لإنفسهم متهمون ، و من أعمالهم مشفقون ، إذا زكي أحد منهم خاف مما يقال له ، فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري ، و ربي أعلمبي من نفسي . اللهم لا تؤاخذني بما يقولون ، و اجعلني أفضل مما يظنون ، و اغفر لي ما لا يعلمون " (2) .

الرأي الثاني : السبح بمعنى الفراغ و الفرصة ، قال الجبائي : إن فاتك شيء بالليل(1) المنجد : مادة سبح .

(2) نهج البلاغة / خ 193 / ص 304 .


فلك في النهار فراغ تقضيه (1) ، و جدير أن ننقل هنا ما قاله العلامة الطبرسي : إن مذاهبك في النهار و مشاغلك كثيرة ، فإنك تحتاج فيه إلى تبليغ الرسالة ، و دعوة الخلق ، و تعليم الفرائض و السنن ، و إصلاح المعيشة لنفسك و عيالك ، و في الليل يفرغ للتذكرة و القراءة ، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك ، لتأخذ بحظك من خير الدنيا و الآخرة ، و في هذا دلالة على أنه لا عذر لأحد في ترك صلاة الليل لأجل التعليم و التعلم ، لأن النبي ( ص ) كان يحتاج الى التعليم أكثر مما يحتاج الواحد منا ، ثم لم يرض أن يترك حظه من قيام الليل (
2) ، فلا يصح أن يتعلل المؤمن بشيء عن قيامه ، ففي النهار فرصة كافية للمهام الأخرى ، أما الليل فإنه بالدرجة الأولى موضوع للقيام .

[ 8 ] في حديث معروف : إن شئت أن يكلمك الله فاقرأ القرآن ، و إن شئت أن تتكلم مع الله فناجه ، و هكذا المؤمنون في قيامهم الليلي تراهم يبادلون ربهم الحديث ، فمرة يتلون الكتاب و أخرى يذكرون ربهم بالدعاء ، كما أمرهم الله فقال :

[ و اذكر اسم ربك ]

و ذكر الله هو مخ العبادة ، بل هو الهدف الرئيسي في الاسلام ، لأن نسيانه تعالى سبب كل إنحراف في حياة الإنسان . و قال : " اسم ربك " لأن المخلوق عاجز عن معرفة الذات و الإتصال بها مباشرة ، فجعل الله أسماءه ذرائع العباد و وسائلهم إليه ، و ذكر أسماء الله ليس بتلفظ حرفها وحسب ، بل بالإيمان بها و معرفته من خلالها ، إذ لكل إسم منها إنعكاس في خلقه .

و لقوله : " إسم " بالإفراد دلالة على الإطلاق الذي يفيده استخدام أي إسم من(1) التبيان / ج 10 / ص 163 .

(2) مجمع البيان / ج 10 / ص 378 .


اسمائه الحسنى ، وهو الأقرب ، لأن ذكر الله يتم بذكر أي من أسمائه ، كما قال عز وجل : " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " (1) .

و الذكر الحقيقي ليس مجرد التلفظ بأسماء الله ، بل هو إضافة الى ذلك تعميق الصلة به ، في آفاق توحيده ، و الإنقطاع إليه ، و لذلك يردف الله مع الأمر بالذكر أمرا بالتبتل .

[ و تبتل اليه تبتيلا ]

روى أبو بصير عن الامام الصادق ( ع ) : " و اما التبتل فإيماء باصبعك السبابة " (2) ، و روى زرارة و حمران عن أبي جعفر و عن أبي عبد الله - عليهما الســلام - : " ان التــبتل هنا رفع اليدين في الصلاة " (3) ، و عن الامام الكاظم ( ع ) قال : " التبتل ان تقلب كفيك في الدعاء اذا دعوت " (4) ، و قد أشار جملة من المفسرين الى ان المعنى هو الاخلاص في الدعاء ، و ما الايماء بالإصبع ، و رفع اليدين ، و تقليب الكف الا مظاهر له ، فمثلها مثل الركوع و السجود و القنوت ، و الأصل اللغوي للكلمة يهدينا الى هذا المعنى ، قال شيخ الطائفة : فالتبتل الانقاطع الى عبادة الله ، و منه : مريم البتول و فاطمة البتول ، لإنقطاع مريم الى عبادة الله ، و إنقطاع فاطمة عن القرين ( لولا علي ) . و قيل : الانقطاع الى الله تأميل الخير من جهته دون غيره (5) ، و أضاف الفخر الرازي : و قيل : صدقة بتلة منقطعة من مال صاحبها ، و قال الفراء : يقال للعابد اذا ترك كل شيء و أقبل على العبادة قد تبتل ، اي انقطع عن(1) الاسراء / 110 .

(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 450 .

(3) مجمع البيان / ج 10 / ص 379 .

(4) نور الثقلين / ج 5 / ص 449 .

(5) التبيان / ج 10 / ص 164 .


كل شيء الى أمر الله و طاعته (1) ، و في الدر المنثور عن قتادة : " و تبتل اليه تبتيلا " قال : أخلص له الدعوة و العبادة ، و عن مجاهد : اي أخلص المسالة و الدعاء إخلاصا .

و اختلف في " تبتيلا " لماذا جاء بهذه الصيغة ، بينما يعتبر مصدر التبتل في هذه الآية ، فذهب البعض الى ما لا يليق بادب الوحي و عظمته ، اذ قالوا : لمراعات الفواصل (2) ، و يبدو ان التبتل مصدر كلمة أخرى أشير اليها ، فكانت العبادة تحتمل معنين :
الاول : الانقطار الجدي ، و عبر عنه بكلمة " و تبتل " ، و الثاني : الانقطاع المرة بعد الأخرى ، و عبر عنه بالمصدر " تبتيلا " ، على ان الكلمة الاولى جاءت بصيغة التفعل ، و الثانية بصيغة التفعيل . و يبدو ان الكلمة تفيد التأكيد على التبتل و ان يكون حقيقيا ، فليس كل مظهر تبتل يحسب تبتلا عند الله ، و التبتل على وزن التفعل الذي يعني المداومة و العودا اليه حينا بعد حين ، و ذلك ان الانسان عرضة للانحراف و للتأثر بالعوامل السلبية في كل لحظة .. اذن فهو بحاجة الى مداواة هذه المعضلة بالالحاح على الانقطاع الى الله ، و التبتل اليه حينا بعد حين .

[ 9 ] و يتعمق ذكر الله و التبتل اليه في نفس الانسان و على جوارحه حينما يتأسسان على المعرفة به سبحانه ، و غاية معرفته توحيده و التوكل عليه ، و هذه هي الزاوية التي تنتظم من خلالها الآية التاسعة في سياق السورة حيث تعرفنا بربنا .

[ رب المشرق و المغرب ]

قال صاحب المجمع : اي رب العالم بما فيه لانه بين المشرق و المغرب ، و قيل : رب مشرق الشمس و مغربها (3) ، و الإطلاق هو الأقرب بصرف المعنى للمشرق(1) التفسير الكبير / ج 30 / ص 178 .

(2) الميزان / ج 20 / ص 65 .

(3) مجمع البيان / ج 10 / ص 379 .


و المغرب و ما بينهما ، فكل الكائنات بمفرداتها آيات على ربوبيته ، و انها مخلوقات له عز وجل . و في الآية تناسب بين الاشارة الى حركة الشروق و الغروب الكونية و بين اسم ( الرب ) باعتبارهما مظهر و آية للربوبية التي تعني الانماء و التجديد و الاضافة في الخلق، كما هناك تناسب مع قيام الليل و السبح بالنهار لارتباطهما بشروق الشمس و غروبها .

وحيث يطوف الانسان بنظره و فكره متدبرا في المشرق و المغرب و ما بينهما تتأكد له حقيقة التوحيد ، اذ يكتشف ان كل شيء مخلوق لا يصح الاعتماد عليه ؛ لان له شروقا و غروبا ، الا الرب الواحد الاحد الذي كان قبل الانشاء ، و يبقى بعد فناء الاشياء .

[ لا اله الا هو فاتخذه وكيلا ]

و لا تتخذ غيره ، لان الغير متغير ، لا ينبغي الاعتماد عليه ؛ لان ما سوى الله عرضة للزوال و الفناء . قال العلامة الطبرسي : اي حفيظا للقيام بأمرك ، و قيل : فاتخذه كافيا لما وعدك به ، و اعتمد عليه ، وفوض أمرك اليه تجده خير حفيظ و كاف (1) ، و في فتح القدير : اي اذا عرفت انه المختص بالربوبية فاتخذه وكيلا (2) .

[ 10 ] و حاجة الانسان الرسالي الى التوكل على الله و توحيده و التبتل اليه و ذكره ، و بالتالي حاجته الى قيام الليل ، حاجة ملحة تفرضها مسيرته الجهادية الصعبة ، حيث التحديات التي يواجهها . ولولا التوكل على الله و الاستمداد منه إنحرف عن الصراط المستقيمشيئا كثيرا او قليلا .


(1) المصدر .

(2) فتح القدير / ج 5 / ص 318 .


و من أعظم تلك التحديات و الضغوط ما يقوله الاعداء ضد المؤمنين و بالخصوص قيادتهم ، و ذلك ان الاعلام السلبي من أهم أسلحتهم الخطيرة التي يوجهون حرابها ضدهم ، فاذا بهم يسعون لتشويه سمعة الرساليين ، و على المؤمنين ان يواجهوا ذلك بالصبر و الهجران الجميل .


[ و اصبر على ما يقولون و اهجرهم هجرا جميلا ]

والهجر الجميل هو المقاطعة بحكمة ، و بعيدا عن الإثارة ، لان الهجر حينما يخرج عن سياق الحكمة قد يتحول الى صراع مادي حاد في ظروف غير مناسبة ، مما يضر أكثر مما ينفع ، قال الفخر الرازي : الهجر الجميل ان يجانبهم بقلبه و هواه ، و يخالفهم مع حسن المخالفة والمداراة و الاغضاء ، و ترك المكافاة (1) .

ان الاسلام يريد للانسان ان يبني شخصيته و مواقفه على أساس الاستقلال فلا يتاثر بردات الفعل كالكلام السلبي الذي يوجه ضده ، بل يمضي قدما في تنفيذ خطته الحكيمة التي رسمها لنفسه ، دون ان يستفزه الاخرون ، و يسيرونه حسب خطتهم ، و يفرضوا عليه ساعة المعركة وطريقتها و أرضها ، و من هنا فان الصبر لا يعني عدم اتخاد الخطوات اللازمة تجاه تحديات الاعداء ، بل يعني الانتظار حتى تحين الفرصة المناسبة حسب الخطة المرسومة ، و كل ذلك يوفره قيام الليل و التوكل على الله .

و التعبير القراني دقيق للغاية حيث قال تعالى : " و اصبر على ما يقولون " اي ان ما يقوله الاخرون لا ينبغي ان يزلزل الرساليين عن مواقفهم الصحيحة الى غيرها ، فقد يصعد المستكبرون و المترفون حربهم الاعلامية ضد قيمة من القيم الالهية كالحجاب على أساس انه لون من ألوان الارهاب ، و هكذا الجهاد من أجل التحرر(1) التفسير الكبير / ج 30 / ص 180 .


و الاستقلال .. فيجب على الرساليين ان يصبروا و يتجرعوا كلمات الشتم و التجريح ، و ضغط الاعلام ، لا ان يتنازلوا عن قيمهم و يداهنوا فيها .

و قد نستوحي من الهجر الجميل انه القائم على أساس العدل و الحكمة ، فلا ينبغي ان يهجر المؤمن طرفا هجرا كاسحا ، فيبخس الناس أشياءهم ، و لا يعترف لهم بأية إيجابية ، او يقطع صلته معهم الى حد يحرم نفسه إيجابياتهم .. و بتعبير آخر : ينبغي ان ننصف الناس - حتى اعدائنا - من انفسنا ، فلا تصحب المقاطعة و الهجر عملية اسقاط للاخرين بعيدة عن حدود الله و شرائعه .

[ 11 ] و يستلهم المؤمنون روح الصبر من أمرين هما : التوكل على الله ، و الايمان بأنه سوف يجازي أعداءهم شر مجازات ، فلماذا الاستعجال و عدم الصبر ما دام الفوت غير ممكن ؟ ! بلى . قد لا يعاصر جيل من المؤمنين انتقام الله من أعدائهم و أعداء الرسالة ، و قدلا ينتقم منهم في الدنيا ، و لكن الأمر واقع لا محالة ان فيها او في الاخرة ، حيث عذاب الخزي الذي يلحق بالمترفين و المستكبرين المكذبين بالرسالة .

[ و ذرني و المكذبين اولى النعمة و مهلهم قليلا ]

اي المترفين الذين يعارضون الرسالة ، و يكذبون بايات الله . و كلمة " ذرني " تفيد التهديد و الوعيد ، كما تشير الى معنى التوكل على الله نعم الوكيل ، حيث ينبغي للمؤمن و هو يصبر على ما يقوله الاعداء ان يطمئن اطمئنانا تاما بان صبره لن يذهب هباء، لان المتوكل عليه سوف ينتقل له و للحق منهم . و لعل ذكر تنعمهم يهدينا الى ان العذاب الذي سيحل بهم يشمل تغيير ماهم عليه من النعيم ، و الى ذلك أشار صاحب الميزان فقال : و الجمع بين توصيفهم بالمكذبين و توصيفهم باولي النعمة للاشارة الى علة ما يهددهم به منالعذاب ، فان تكذيبهم بالدعوة الالهية و هم متنعمون بنعمة ربهم كفران منهم بالنعمة ، و جزاء الكفران سلب النعمة ، و تبديلهابالنقمة (1) .

و مهما استطال شوط الصبر في تصور المؤمنين ، و امتد ترف المكذبين و نعيمهم ، الا انه قصير بالقياس الى معادلة الزمن الحقيقية عند الله ، بل هو قصير بالفعل ، و الذي يدرس تاريخ الصراع بين الحق و الباطل يصل الى قناعة راسخة بهذه السنة الالهية ، تقول عائشة :
لما نزلت " الآية " لم يكن الا قليل حتى كانت وقعة بدر (2) التي أذل الله فيها المشركين ، و قيل : نزلت في المطعمين ببدر و هم عشرة ، و قيل : نزلت في صناديد قريش المستهزئين (3) ، و أضاف الزمخشري في الكشاف : و كانوا أهل تنعم و ترفه (4) ، و ما ذلك الا شاهدا و مصداقا لسنة الله في الحياة التي تمتد الى الوراء من أعماق التاريخ و الى الامام الى المستقبل البعيد .

[ 12 / 14 ] و يكشف لنا القرآن حجابا عن غيب ما أعد الله للمترفين المكذبين من عذاب اليم و مهين في الآخرة ، يو م ترجف الارض و الجبال .

[ ان لدينا انكالا و جحيما ]

قال صاحب المنجد : أنكال و نكول : القيد الشديد من اي شيء كان ، و حديدة اللجام (5) ، و قيل وهو الأقرب : الصنيع الفظيع من العذاب الذي يخشاه من يراه و يحذر منه ، و نكل به صنع به صنيعا يحذر غيره ، و يجعله عبرة له (6) و لعل الكلمة تحمل في طياتها معنى الشدة و الانتقام و الاذلال ، و القيود و الاغلال مظهر(1) الميزان / ج 20 / ص 67 .

(2) الدر المنثور / ج 6 / ص 279 .

(3) مجمع البيان / ج 10 / ص 380 .

(4) الكشاف / ج 4 /ص 640 .

(5) المنجد / مادة نكل .

(6) المصدر .


للتنكيل يرافقها عذاب الحريق بجهنم ، و ما يلقاه الانسان في الاخرة من أنواع العذاب ليست مفروضة علية و آتية من خارج القوانين و السنن الطبيعية ، بل هي من صنع يده ، قدمها لنفسه ، فالكذب الذي يمارسه في الدنيا يتحول اصرا و نادا عليه في الاخرة ، و هكذا الغيبةو السرقة ، و السباب ، و أكل أموال الناس بالباطل .. كلها تصير انكالا و جحيما .

[ و طعاما ذا غصة و عذابا اليما ]

اي الطعام الذي لا يتهنأ بأكله و لا طعمه و لا رائحته الآكلون ، بل يصعب عليهم مضغه و بلعه لما فيه من العذاب و أسباب الاذى . قال أكثر المفسرين : ان به شوكا ، و قيل : لشدة خشونته ، و أوله الزمخشري و الرازي على انه شجرة الزقوم ، و بهذا النفس عبر صاحب الكشاف : الذي لا يساغ يعني الضريع و شجر الزقوم (1) . و من أنواع العذاب المذكورة في الايتين يتبين لنا بانها تأتي نقيضا لما هم فيه من النعمة و الراحة في الدنيا كجزاء لتكذيبهم ، و عدم شكرهم ربهم عليها .

[ يوم ترجف الارض و الجبال ]

اي تتحرك باضطراب شديد ، و ترجف الجبال معها ايضا ، و تضطرب بمن عليها (2) ، من هول ذلك اليوم ، الأمر الذي يكشف عن عظمة الموقف و مدى رهبته ، فما بالك بهذا الانسان الضعيف في يوم أحداثه ترجف بالارض و الجبال ؟ ! انه يكون ادنى من ريشة في ريح عاصف يتقاذفهاالتيار الكاسح .

ان تصور هذا الموقف و الحضور عند هذه الحقيقة بالقلب يكفي وسيلة يقتلع(1) راجع الدر المنثور و الكشاف و المجمع و التفسير الكبير و التبيان عند الاية .

(2) مجمع البيان / ج 10 / ص 380 .


الانسان بها جذور الغرور بنفسه و قدرته في شخصيته ، و أتكاله على الدنيا و ما فيها ، و يتعرف عن طريقها على ربه و قدرته المطلقة ، فيؤمن به و برسالته بدل التكذيب كما هو شان أولي النعمة المبطرين بها .

ان الجبال الراسية و المتماسكة تستحيل يومئذ كذرات الرمل نتيجة الرجف الشديد المتتالي الذي تتعرض له .

[ و كانت الجبال كثيبا مهيلا ]

قال القمي مثل الرمل (1) ، و في مجمع البيان : اي رملا متناثرا عن ابن عباس ، و قيل : المهيل الذي اذا وطأته القدم زل من تحتها ، و اذا أخذت أسفله انهار أعلاه (2) ، و في المنجد : انكثب الرمل : اجتمع و انتشر بعضه فوق بعض ، و كل ما انصب في شيء فقد انكثفيه (3) ، و المهيل الذي يهال فيقع بعضه على بعض ، يقال : أهال التراب : اذا هده من أساسه فانهار على بعضه منتثرا ، و يسمى التراب الناعم الذي تجمعه الرياح في الصحراء كثيب ، و جمعه كثبان ، و من خصائصه انه سريع و سهل الانهيار و الانتشار و التطاير في الهواء. و اذا كانت الجبال الصخرية الراسية تستحيل كثيبا مهيلا فما بال الانسان الضعيف عندما ترجف به الارض ؟ و لماذا يتحدى قدرة ربه ؟ !

و العلاقة بين سياق السورة عن قيام الليل و بين الحديث عن مشاهد عذاب الاخرة هذه ان الخوف من أهوال ذلك اليوم يدفع المؤمنين الى السعي من أجل الخلاص ، و من ثم ينفخ فيهم روح القيام بالليل . و انها حقا لتقض مضجع كل(1) تفسير القمي / ج 2 ص 392 .

(2) مجمع البيان / ج 10 ص 380 .

(3) المنجد / مادة كثب .


ذي لب و ضمير حيين ، اذ كيف تنام عينه و هو مطالب باقتحام هذه العقبات ، و تجاوز أهوالها بنجاح ؟ !

و ثمة علاقة بين أمر الله للرسول ( ص ) بالصبر على ما يقوله المكذبون و بين كلامه عما أعد لهم من العذاب ؛ و هي : ان عدم التصبر ( الاستعجال ) انما يندفع اليه الانسان بهدف الانتقام ورد الفعل ، و المؤمن يصبر و لا يتعجل لانه لا يخاف الفوت ، و يعلم ان سوفياتي اليوم الذي ينتقم الله ( وكيله ) له من اعدائه .

[ 15 / 19 ] و الى جانب التحذير من عذاب الآخرة يحذر الله المترفين و غيرهم من عواقب التكذيب التي تنتظرهم في الدنيا ، و ذلك من خلال التذكير بالسنن الثابتة في الحياة و مصير أحدى الامم التي عصت رسولها فاهلك الله أهلها و أخذهم اخذا و بيلا .

[ انا ارسلنا اليكم رسولا شاهدا عليكم كما ارسلنا الى فرعون رسولا ]اي يقوم بالشهادة الحقة فيكم ، و يجسد القيم الالهية ، مما يجعله ميزانا لمعرفة الحق و الباطل ، و أسوة لمن أراد الهداية الى الصراط المستقيم . و قد ذكر الله قوم فرعون لان وجوه التشابه بين واقع اولئك و الواقع الذي عاصره الرسول كثيرة ، و من أبرزها : ان المترفين هم الذين يمثلون جبهة الباطل في الصراع في كلا المقطعين التاريخيين .

و كما ان لله سنة ماضية في حياة المجتمعات في إرسال الرسل في الامم بعد الامم ، و الاجيال بعد الاجيال ، فانه - عز وجل - جعل سنة الجزاء لا تنفك عنها ابدا ، فاذا ما استجابت الاقوام لقيادة الرسول و قيم الرسالة اجزيت خيرا و سعادة في الدنيا و الاخرة ، امااذا عصت و كذبت فستعرض نفسها للانتقام و سوء العذاب ،كقوم فرعون الذين عصوا رسولهم موسى ( ع ) فاغرقوا و أهلكوا .

[ فعصى فرعون الرسول فأخذناه اخذا و بيلا ]

اي أخذا شديدا منكرا ، و في الآية تحذير للمشركين و لأمة محمد ( ص ) من معصيته ، و تلويح بأن سنة الاخذ ليست منحصرة في زمان دون آخر ، و لا في قوم دون غيرهم . و اذا يذكرنا القرآن بصورة من الانتقام الالهي في التاريخ فلكي يسد بابا من ابواب الشيطان الذي يوغل بالانسان من خلاله في الانحراف و الضلال البعيد ، حيث يهمز في اذنه و فكره : ان الله رحيم بعباده ، و يستحيل ان يعذبهم في الاخرة ، و ان هذه الوعود ليست الا لمجرد التخويف لا اكثر .. و لهذا يوجه الله الخطاب مباشرة لمعاصري الرسول و رسالة الاسلام بانكم لاتستطيعون الهروب من سطوات الله اذا اراد الانتقام .

[ فكيف تتقون ان كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا ]

و ذلك لشدة أهواله و رهبة مشاهده ، قال القمي : تشيب الولدان من الفزع حيث يسمعون الصيحة (1) ، و في الدر المنثور عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه واله - قال : " اذا كان يوم القيامة فان ربنا يدعو ادم فيقول : يا ادم ! اخرج بعث النار ، فيقول :
اي رب الا علم لي الا ما علمتني : فيقول الله : أخرج بعث النار من كل الف تسعمائة و تسعة و تسعين يساقون الى النار سوقا مقرنين كالحين ، فاذا خرج بعث النار شاب كل وليد " (2) ، و فيه عن ابن عباس : فاشتد ذلك على المسلمين ، فقال حين أبصر ذلك في وجوههم :
" ان بني آدم كثير ، و ان يأجوج و مأجوج من ولد آدم ، وانه لا يموت رجل منهم حتى يرثه لصلبه الف رجل ففيهم(1) تفسير القمي / ج 2 / ص 393 .

(2) الدر المنثور / ج 6 / ص 279 .


و أشباههم جند لكم " (1) ، و قد حذر الامام علي بن ابي طالب ( ع ) من ذلك اليوم فقال : " احذروا يوما تفحص فيه الأعمال ، و يكثر في الزلزال ، و تشيب في الأطفال (2) ، و كيف لا يشيب الوليد من أهواله وهو اليوم الذي يفصل الله فيه بين الخلائق و يقررمصائرهم ، فمن صائر الى الجنة و من صائر الى النار خالدين فيها ابدا .

بلى انه يوم عظيم ، بل هو أعظم يوم في وجود العالمين إنسا و جنا ، و كيف لا يسرع الشيب الى من يقف بين يدي جبار السموات و الارض ينتظر المسير الى مصيره الابدي ، و بالذات اولئك المجرمون الذي سودوا صحائفهم بالسيئات و الفواحش ، و بعدهم المذنبون ، اما المؤمنون و المتقون فإنهم في مأمن من رحمة الله ، بل هو يوم سعادتهم و فرحتهم العظمى . او ليسوا يلتقون حبيبهم و سيدهم رب العالمين ؟

و الشيب ليس كناية عن الشدة و المحنة (3) و حسب ، بل لعله حقيقة مادية تقع يوم القيامة ، حيث ان حوادث ذلك اليوم الفظيع أعظم من قدرة احتمال جسد الانسان ، و لولا ان الله لم يقدر عليهم الموت لكانت كل حادثة منها تقضي عليهم جميعا .

ان الحوادث ذلك اليوم لا تنعكس فقط على الانسان بل على الطبيعة الصامتة ايضا ، فتأخذ الرجفة الارض و الجبال لرهبة الموقف ، و هكذا تشقق السماء .

[ السماء منفطر به ]


(1) التفسير الكبير / ج 30 / ص 184 .

(2) نهج البلاغة خ 157 / ص 222 .

(3) المصدر .


و ليس في حدوث هذا اليوم شك و تردد ، لانه مما وعده الله الوفي المقتدر ، و هذا ما يجعل التعبير عن وقائع القيامة يأتي بصيغة الماضي في الاغلب و كأنها وقعت .

[ كان وعده مفعولا ]

إذن فالأمر ليس كما يتمنى الانسان ، و لا كما يضله الشيطان الغرور بان و عوده تعالى للتخويف فقط ، كلا .. فوعود الله صادقة و واقعة لا محالة ، و لا بأس ان نشير هنا الى ان بعض الفلسفات المادية ذهبت في الضلال بعيدا حينما زعمت بأن الاخرة لا واقع لها ، و إنما طرحتها الفلسفات الدينية لكي تكون عاملا في توجيه أتباعها نحو التقيد بمبادئها لا غير ! و هذه الآية الكريمة ترد ردا حاسما و ناسفا على هذه الظنون و المزاعم الخاطئة بالتاكيد على ان وعد الله مفعول قطعا .

ثم يقول الله مشيرا الى ما تقدم من بيان الآيات الكريمة .

[ ان هذه تذكرة ]

تذكر الانسان بالحق ، و تثير فيه العقل و كوامن الخير التي تهديه الى رب العزة و ترسم له الصراط المستقيم و النهج القويم اليه سبحانه .. فدور التذكرة اذا هو بيان الخطوط العامة ، و رسم معالم الطريق للانسان ، لا فرض خيار معين كرها ، لان الاختيار من خصائصالانسان نفسه ، فهو الذي يريد الحق و الباطل او لا يريد .

[ فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلا ]

قال الفخر الرازي : ان التذكرة ما تقدم من السورة كلها ، و اتخاذ السبيل عبارة عن الاشتغال بالطاعة ، و الإحتراز عن المعصية (1) ، و اختار صاحب الميزان تعميم(1) التفسير الكبير / ج 30 / ص 185 .


التذكرة على كل ما سبق ، و خص صلاة الليل بالسبيل ، لانها تهدي العبد الى ربه (1) ، و الاصح : ان السبيل عموم الصراط المستقيم الموصل الى رضوان الله ، و قيام الليل خطوات فيه ، الا ان أبرز مصاديق السبيل القيم الالهية ، و اظهرها القران ، و القيادة الرسالية ،و مصداقها الرسول الاعظم ( ص ) و ائمة الهدى - عليهم السلام - كما جاء في دعاء الندبة : " ثم جعلت اجر محمد - صلواتك عليه واله - مودتهم في كتابك ، فقلت : " قل ما اسالكم عليه من اجر الا من شاء ان يتخذ الى ربه سبيلا " فكانوا هم السبيل اليك، و المسلك الى رضوانك " (2) .

[ 20 ] و في ختام السورة يعود القرآن للحديث عن قيام الليل ، بالاشارة الى برنامج القيام عند الرعيل الأول و بالذات عند أسوة المؤمنين و سيدهم حبيب الله النبي محمد - صلى الله عليه وآله - و ببيان سماحة دين الاسلام و واقعيته ، حيث يعتبر الظروف الحقيقية عاملا مٌؤثرا في التشريع ، بحيث يرتفع التكليف بقيام الليل عن ذوي الاعذار المشروعة بصورة تامة ، او يخفف الى حد الاكتفاء بقراءة ما يتيسر من القرآن ، و ممارسة مجموعة من الواجبات العامة التي من بينها الصلاة و الزكاة و الانفاق و الاستغفار .

[ ان ربك يعلم انك تقوم ادنى من ثلثي الليل ]

أي أقل من الثلثين ، و أكثر من النصف بعض الاحيان .

[ ونصفه ]

أحيانا أخرى .


(1) الميزان / ج 20 / ص 69 .

(2) مفاتيح الجنان / ص 533 .


[ وثلثه ]

أحيانا .. وهذا يعني انه - صلى الله عليه وآله - يطبق أمر الله بقيام الليل ، و الذي مر بيانه في الآيات ( 2 / 4 ) . و للآية واحدة من دلالتين : الاولى : ان رسول الله ( ص ) كان يقوم كل ليلة بأختلاف في مدة القيام بين ليلة وأخرى ، فمرة يقوم أقل من الثلثين، و ثانية يقوم النصف ، و ثالثة الثلث ، او أنه - صلى الله عليه وآله - كان ينهض لقيام الليل ثلاث مرات يستريح بينهما ، كل ليلة ( أدنى من الثلثين ، و منتصف الليل ، و ثلثه ) .

و هناك رواية تشير الى الاحتمال الثاني ذكرها العلامة الطوسي في التهذيب : قال الامام الصادق ( ع ) و قد ذكر صلاة النبي ( ص ) : " كان يؤتى بطهور و يخمر عند رأسه ( اي يغطى بخمار ) و يوضع سواكه تحت فراشه ، ثم ينام ما شاء الله ، و اذا استيقظ جلس ، ثمقلب بصره في السماء ، ثم تلا الآيات من آل عمران " ان في خلق السماوات و الارض و اختلاف الليل و النهار .. " ، ثم يستن ( اي يعمل بسنة السواك ) و يتطهر ، ثم يقوم الى المسجد ، فيركع أربع ركعات على قدر قراءته ركوعه و سجوده ، و سجوده على قدر ركوعه، يركع حتى يقال : متى يرفع رأسه ؟ و يسجد حتى يقال : متى يرفع رأسه ؟ ثم يعود الى فراشه فينام ما شاء الله ، ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات ، ثم يقلب بصره في السماء ثم يستن و يتطهر و يقوم الى المسجد ، فيصلي أربع ركعات كما ركع قبل ذلك ، ثم يعود الى فراشه فينام ما شاء الله ، ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران ، و يقلب بصره في السماء ، ثم يستن و يتطهر و يقوم الى المسجد فيوتر ( يصلي الوتر ) و يصلي الركعتين ( يعني ركعتي الشفع او نافلة الفجر ) ثم يخرج الى الصلاة " (1) .

و على خطى الرسول ( ص ) كان خلص أصحابه من الرعيل الاول يقومون(1) نور الثقلين / ج 1 / ص 422 .


الليل كما يقومه النبي ( ص ) تأسيا به ، اذ جعله الله أسوة المؤمنين ، و كان الآية تبين معنى المعية بأنها ليست مجرد الزعم ، و لا الانتماء الديني و الإجتماعي الظاهر لقيادة الرسول وخطه ، بل الصحبة الحقيقية تتمثل في الاتباع العملي لقيادته و رسالته .

[ و طائفة من الذين معك ]

و نحن الاجيال الحاضرة - اذا فاتتنا صحبة النبي - صلى الله عليه واله - بالأبدان و معيته فاننا نستطيع ان نكون معه باقتفاء أثره ، و من أثره جهاده و قيامه بالليل قال الحسكاني : " الذين معك " علي و ابو ذر (1) .

[ و الله يقدر الليل و النهار ]

قال صاحب المجمع : اي يقدر اوقاتهما لتعلموا فيها على ما يأمركم به ، و قيل : لا يفوته علم ما تفعلون ، و المراد : انه يعلم مقادير الليل و النهار ، فيعلم القدر الذي تقومونه من الليل (2) ، و لعل في التقدير أشارة الى إختلاف الليالي و الايام في الجانب الزمني ، حيث تطول و تقصر ، و ربنا هو الذي يعين المقادير المختلفة .

[ علم ان لن تحصوه ]

و في معنى الاحصاء قولان : أحدهما : الظاهر أي لن تعدوه ، و الاخر : لن تطيقوا قيامه ، وهو الاقرب بدلالة السياق ، حيث يجري الحديث مباشرة عن التوبة و التخفيف ، و حيث يشير القرآن الى جانب من الاعذار المشروعة التي تعيق عن قيام الليل بصورته الاولية .. قالمقاتل : كان الرجل يصلي الليل كله مخافة ان


(1) تفسير البصائر / ج 50 / ص 132 عن المجمع .

(2) مجمع البيان / ج 10 / ص 381 .


لا يصيب ما أمر به من القيام ، فقال سبحانه : " علم ان لن تحصوه " اي لم تطيقوا معرفة ذلك ، و قال الحسن : قاموا حتى انتفخت أقدامهم ، فقال : انكم لا تطيقون احصاءه على الحقيقة ، و قيل معناه : لن تطيقوا المداومة على قيام الليل ، و يقع التقصير فيه(1) .

[ فتاب عليكم ]

اي رحمكم و تلطف بكم ، لان من تاب الله عليه فقد رحمه . و اذا اخذنا بالمعنى الاصيل للتوبة وهو الرجوع فإن المعنى : يكون : انه تعالى بدى له أمر فعادلكم وحيه بحكم آخر غير الحكم الاول الذي يقتضي قيام الليل كله الا قليلا ، او الذي كان القيام فيه واجبا لا مستحبا (2) .

[ فاقرءوا ما تيسر من القرآن ]

و تأكيد الله على قراءة القرآن يهدينا الى عظمته ، و ان تلاوته و تدبر معانيه روح قيام الليل و من أهم أهدافه ، حيث يعود الانسان الى كلام ربه و عهده اليه ، فيستلهم منه بصائر الحق ، و مناهج حياته في كل بعد و جانب . ان غاية قيام الليل هي تكامل الانسان ، تكاملا روحيا بالتهجد و التبتل و الصلاة ، و تكاملا عقليا بالتفكر في خلق الله و تدبر آيات قرآنه .. نعم . ان الظروف قد لا تسمح بقيام الليل على صورته الاولية ، و لكن لا ينبغي للمؤمن ان يترك قراءة القرآن على أية حال ، ولو قراءة ما تيسر منه . فما معنى قول الله : " ما تيسر منه " ؟

لقد اختلف المفسرون و القراء في القدر الذي تضمنه هذا الأمر من القراءة ،(1) المصدر .

(2) مع انه لا توجد روايات صريحة بان قيام الليل كان واجبا شرعيا على المسلمين في اول الدعوة ، الا انه محتمل ، او هكذا استقبلوه ثم تبين لهم غير ذلك .


فقال سعيد بن جبير : خمسين آية ، و قال ابن عباس : مائة آية ، و قال السدي : مائتا آية ، و قال جويبر : ثلث القرآن لان الله يسره على عباده (1) إشارة لقوله تعالى : " و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر " (2) ، و ليس بين الاقوال الاربعة تناقض ، لان ما تيسر هو ما يجده القارىء يسيرا على نفسه ، سواء كان آية واحدة او القرآن كله ، و أن كانت الكلمة في ظاهرها اشارة الى القليل ، و قد ذهب البعض بعيدا حينما فسروا الآية في الصلاة و قال معناه : فصلوا ما تيسر من الصلاة ، و عبر عن الصلاة بالقران لانها تتضمنه (3) .

و جدير التساؤل عن السبب في التيسير بعد التشدد في منهجية التشريع الاسلامي ، الأمر الذي يكاد يصبح ظاهرة في أحكام الله لكثرة شواهده ، فقد فرض الله على المؤمنين تقديم صدقة بين يدي نجواهم الرسول (4) ثم الغيت الصدقة ، و حرم عليهم مقاربة ازواجهم حتى لياليالصيام ثم احلها (5) و في الجهاد فرضه واجبا اذا كانت نسبة المؤمنين الى أعدائهم تعادل واحدا الى عشرة ، اي أنهم يجب عليهم الجهاد وخوض الحرب اذا كانوا مائة و كان العدو الفا ، ثم خفف الحكم بنسبة واحد الى اثنين (6) ، و مثل ذلك احكام عديدة و التي من بينهاقيام الليل الذي نحن بصدد الكلام عنه .

ان هذه الظاهرة في التشريع الاسلامي تهدينا الى ان إصلاح الانسان - و بالذات في الانطلاقة - بحاجة الى برنامج مركز و صعب حتى يصلح نفسه(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 381 .

(2) القمر / 40 .

(3) نقل هذا القول مجمع البيان / ج 10 / ص 381 و به قال صاحب الكشاف و الفخر الرازي .

(4) المجادلة / 12 - 13 .

(5) البقرة / 187 .

(6) الانفال / 65 - 66 .


إصلاحا جذريا ، كما المقاتل في دورته العسكرية الاولى ، فاذا ما استمر قطاره على السكة يخفف عنه ، و هذه منهجية الاسلام في بناء أفراده و مجتمعه ، و اذا صح هذا التحليل فاننا يجب ان نستفيد من ذلك في حياتنا و مسيرتنا ، ففي بداية التغيير ينبغي ان تؤخذ الامةبالشدة حتى تذوب في بوتقة الايمان و العمل الرسالي ، ثم يأتي دور التخفيف عنها شيئا ما .

و يلفتنا القرآن الى خصيصة تشريعية في الاسلام و هي واقعيته ، وأخذه ظروف المشرع له بعين الاعتبار ، فهو ليس نظاما قسريا ، بل تشريعا واقعيا مرنا ، و ذلك مما يؤكد حقانيته .

[ علم ان سيكون منكم مرضى ]

يعيقهم مرضهم عن القيام ، او يجعله امرا مكلفا . و هذه كناية عن المقوقات البدنية التي تصيب الانسان بالضعف .

[ و ءاخرون يضربون في الارض يبتغون من فضل الله ]

طلبا للرزق . و الضرب في الارض كناية عن التنقل و الترحل و السعي الحثيث ، و علل الرازي تخفيف الفرض على هذا الفريق و من يلونهم ( المقاتلين في سبيل الله ) قائلا : و اما المسافرون و المجاهدون فهم مشتغلون في النهار بالاعمال الشاقة ، فلو لم يناموا في الليل لتوالت اسباب المشقة عليهم (1) .

[ و ءاخرون يقاتلون في سبيل الله ]

اعلاء لكلمته ، و انفاذا لامره ، و تحكيما لشرعه ، و دفاعا عن ثغور المسلمين ،(1) التفسير الكبير / ج 30 / ص 187 .


وهؤلاء لا شك لهم من الاجر الشيء العظيم ، و لعمري ان جهادهم بمثابة قيام الليل أجرا و قدرا عند الله ؛ لانهم لولا جهادهم و قتالهم لكان الامر كما حكى الله تعالى : " لهدمت صوامع و بيع وصلوات و مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا " (1) . قال الفخر الرازي : و من لطائف هذه الآية انه تعالى سوى بين المجاهدين و المسافرين للكسب الحلال (2) ، و هذا يؤيد قول رسول الله ( ص ) : " ايما رجل جلب شيئا الى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء " (3) ، وهو تأكيد لقول الامام الصادق - عليه السلام - : " الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله " ، و يؤكد الله مرة اخرى أمره بتلاوة القرآن .

[ فاقرءوا ما تيسر منه ]

و لو بضع آيات ، المهم ان لا يترك المؤمن رسالة ربه ، لانه قد يستغني عن قيام الليل و لكنه لا يستغني عن بصائر الوحي في حياته مهما كانت الظروف .

[ و أقيموا الصلاة ]

بممارسة شعائرها و فروضها ، و حقيقيا بالتزام مضامينها ، و تحقيق أهدافها على الصعيد الشخصي و في المجتمع .

[ و ءاتوا الزكاة ]

كناية عن كل انفاق واجب ، يزكي المؤمن نفسه و ماله باعطائه .

[ و اقرضوا الله قرضا حسنا ]


(1) الحج / 40 .

(2) التفسير الكبير / ج 30 / ص 187 .

(3) المصدر عن ابن مسعود .


وهو كل انفاق مستحب في سبيل الله (1) الذي لا يضيع عنده عمل عامل ابدا .

[ وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله ]

في الدنيا و الاخرة . و في الآية إشارة ليس الى العمل الصالح الذي يمهد للمؤمنين آخرتهم و حسب ، بل ان كثيرا من التوفيقات و البركات التي ينالها الانسان في الدنيا ، و هكذا المكاره التي تدفع عنه ، ليست الا نتائج قائمة على مقدمات سابقة بادر اليها ، والتيمن بينها الانفاق في سبيل الله ، فالمكروه الذي يرتفع عن المتصدق انما ترفعه صدقته التي قدمها قبل حدوثه .. فالمنفق في حقيقة الامر يقدم بانفاقه خيرا لنفسه .

[ هو خيرا و أعظم أجرا ]

حيث يتضاعف خيره و أجره بفضل الله تعالى ، و كيف لا يتضاعف و المجازي رب المحسنين ؟ ! بلى . ان الصدقة القليلة لا ينحصر خيرها و أجرها في الدنيا ، بدفع الشر عن صاحبها ، و جلب البركة و التوفيق اليه ، بل يمتد الى الاخرة ايضا ، فاذا بالدرهم الواحد يستحيل جنة عالية و حورا و نعيما لا ينقطع ، بل يضاعفه الله يوما بعد يوم .

[ و استغفروا الله ]

هناك قال و قد خفف حكم قيام الليل : " فتاب عليكم " و هنا يأمر المؤمنين بالاستغفار ، مما يوحي لهم بان ترك القيام بالليل غير محمود عند ربهم في حال وجود العذر ، فكيف بتركه دونه ؟ ّ! كما يثير في انفسهم الشعور بالتقصير ، و من ثم يدفهم للمزيد منالسعي و العمل الصالح و التقرب اليه بالاستغفار .


(1) لقد مر تفصيل في معنى القرض الحسن في سورة الحديد / 11 فراجع .


[ ان الله غفور رحيم ]

وهذه الخاتمة تملا القلوب أملا و طمعا في غفرانه و رحمته تعالى ، حيث أمرهم بالاستغفار ، و أكد اليهم بأنه الغفور الرحيم ، و كأن الخاتمة ضمانة بالاجابة بعد الامر المتقدم بالاستغفار ، و لعل القرآن يريد ان يقول لنا بإن اداء المؤمن للفروض الواجبة - كإقامةالصلاة و الزكاة و الانفاق - ينبغي ان لا يشحنه بالغرور و شعور الاكتفاء ، فيقتصر على ذلك من دون المستحبات المشرعة في الدين و من بينها قيام الليل .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس