الاطار العام بعد ان يستنهض الوحي النبي المدثر لتحمل أعباء الرسالة بالانذار ، و تكبير الله ، و تطهير ثيابه من كل نجاسة مادية و معنوية ، و مقاطعة الرجز بالهجران ، ينهاه عن المنة على الله لانها تقطع الخير ، و يأمره بالصبر له كضرورة تفرض نفسها على كل داعية حق و حامل رسالة . اوليس يريد الثورة على الواقع المنحرف و المتخلف ؟ اذن يجب ان يتوقع الكثير من المشاكل و الضغوط المضادة في هذا الطريق ، و عليه يجب ان يتحمل و يصبر كشرط للاستقامة و تحقيق الهدف ( الايات 1 / 7 ) .
و لان المؤمن يؤلمه تسلط الطغاة و المنحرفين من قوى سياسية و اقتصادية و اجتماعية و عسكرية ، و بالتالي يستعجل لهم الهلاك و الجزاء ، فان القرآن يسكن ألمه هذا بتوجيهنا الى يوم القيامة حيث الانتقام الاعظم من اعداء الرسالة و المؤمنين ، اذ ينقر في الناقورايذانا ببدء يوم عسير لا يسر فيه على الكافرين و اشباههم ، يلاقون فيه ألوانا من العذاب الخالد الذي لا يطاق .. و انى يطيق المخلوق الضعيف انتقام رب العزة ؟ ! ( الآيات 8 / 10 ) .
و هكذا نهتدي الى ان محور السورة - فيما يبدو لي - صراع الرسول مع مراكز القوة التي لا بد ان يتحداها بكل اقتدار .
و يعالج السياق طائفة من الافكار الخاطئة التي يتشبث بها المتسلطون و المترفون لدعم مواقعهم القيادية ، منها الزعم بانه لولا رضا الله عنهم لما اوسع عليهم نعمة .
اذا فما في يد الكفار و الطغاة من نعيم ليس دليلا على حب الله لهم ، و لا على صحة منهجهم في الحياة .. بلى . ان عندهم مالا ممدودا ، و أتباعا كثيرة و أبناء ، و ممهدة لهم وسائل العيش الرغيد ، الذي لا يشبعون منه ، بل يطمعون في زيادته .. ولكنهم ضالون عن الصراط السوي ، جاحدون لآيات الله .. و بالتالي مستحقون لعذابه و انتقامه ، و المقياس السليم للتقييم ليس المادة ، بل القيم ، و ليس الدنيا بل الاخرة ، و المترفون على عناد مع قيم الحق ، و خاسرون في الاخرة ، فهنالك لا يبقى لهم نعيم و لا انصار ، و لا مقام احترام كما هم في الدنيا ، بل يتبدل واقعهم الى قطع من العذاب الاليم و المهين ، و تصبح كل نعمة أعطيت لهم و بالا عليهم حيث لم يؤدوا شكرها .. فهم اشد الناس عذابا لانهم قد املي لهم من فضل الله ، و من الم ما يلقون عذابا الصعود المرهق ( الآيات 11 / 17 ) .
و ليس ارهاقهم بالعذاب مجرد انتقام عبثي ، بل هو انتقام متأسس على الحساب الدقيق و الحكمة و العدل ، فانك حيث تحقق في سببه تجده منهجيتهم الخاطئة و الضالة في الحياة ، و التي ترتكز على التفكير المنحرف و التقديرات الخاطئة .. فانها حقا هي المسؤولية عما يحلبهم من اللعن و القتل و العذاب ، فهم الذين عبسوا و بسروا ثم أدبروا و استكبروا ، و كان هذا موقفهم من الحق قيما و قيادة و حزبا ، بل ذهبوا الى ابعد من ذلك حينما رموا الحق بالتهم الرخيصة الباطلة ، فقالوا : " ان هذا الا سحر يؤثر " ، و قالوا : بلهو من صنع البشر و ليس رسالة من الله .. من دون دليل الاللطعن فيه و التهرب من مسؤولية الايمان ، و الا لتضليل الناس عن طريق الهدى و سبيل الرشاد ( الآيات 18 / 25 ) .
من هنا حق لو عذب الله الكفار المعاندين باعتبارهم يبارزون رب العزة و يحاربون الحق ، و بالذات كبراؤهم و الملأ المترفين منهم ، كالحكام الطغاة ، و أصحاب الثروة ، و ادعياء العلم ، و لذلك يتوعد الجبار واحدهم باشد العذاب ، و يؤكد ذلك لرسول ( ص ) و كل رسالي يقف على خط المواجهة و في جبهة التحدي و الصراع ضد الباطل بانه سيصليه سقر ، و هي أشد أقسام النار تلظيا و حرارة و رهبة بحيث لا يمكن لبشر ان يتصورها و يدري ما هي ، الا ان القرآن يشير الى بعض صفاتها الرهيبة حيث انها لا تبقي و لا تذر ، لواحة للبشر .. و منظر آخر مخيف منها يمثله ملائكة غلاظ شداد النار نفسها فرقة منهم .
انهم تسعة عشر .. هكذا يقول الله .. فأما المؤمنون فانهم تقشعر جلودهم ثم تلين ، و هكذا يزداد خوفهم و تقواهم لمجرد سماعهم قول رب العزة ، لان المهم عندهم حقيقة الأمر لا تفاصيله حتى يختلفون في ألوان اولئك النفر الموكلون بسقر من الملائكة ، و لا في احجامهم و اوزانهم و عددهم .. كما اختلف الكفار و الذين في قلوبهم مرض ، و فتنوا انفسهم قائلين : " ماذا أراد الله بهذا مثلا " ؟ ! فضلوا عن الهدف و الحكمة الا و هي التذكرة ( الايات 26 / 31 ) .
" كلا و القمر * و الليل اذ أدبر * و الصبح اذا اسفر " هكذا يقسم ربنا أقساما غليظة عظيمة مترادفة ، و يؤكد بان القضية كبيرة و مشتملة على موعظة و انذار عظيمين للبشر لو كانوا يعقلون .. بل انها ركيزة أساسية و ملحة للانسان في مسيرته و مصيره ، وذلك ان تقدمه ( فردا و أمة ) و كذلك تأخره رهين موقفه من حقائق هذه الذكرى الالهية للبشر ( الايات 33 / 37 ) .
و في سياق الحديث عن الاخرة و عذاب سقر ينعطف بنا القرآن الى آية مهمة في سورة ، بل في المنهجية الاسلامية بصورة عامة ، و ذلك حينما يربط بين مستقبل الانسان و حاضره و بين سعيه و مصيره و مؤكدا بأنه المسؤول عن نفسه ، فهو الذي بيده حبسها في العذاب كما بيدهفك رهانها منه ، و الدخول بها الى جنات الخلد والنعيم . و يضع الله الناس فردا فردا امام حقيقة عظيمة و مهمة يجب ان يضعوها نصب أعينهم ، و يتحركوا في الحياة على ايحاءاتها و مستلزماتها .. الا و هي ان الانفس كلها رهينة .. شهواتها و ضلالها و قراراتها المنحرفة الخاطئة ، الا ان يعتصم البشر بحبل الايمان و يتبع منهجه فيخلصها الله من سجنها الخطير، كما صنع و يصنع بأصحاب اليمين ( الآيات 38 / 39 ) .
و من خلال حوار قصصي يدور بين اصحاب الجنة و المجرمين - ينقله القرآن - تبصرنا الآيات الربانية بأهم ركائز الجريمة التي تؤدي الى سقر و التي حذرنا ربنا منها ، و بذلك يجيب القرآن على سؤال يفرض نفسه على كل من يعرف حقيقة سقر ، حيث يبحث عن النجاة من شرها ،و يسعى لتجنب أسباب التورط فيها ، وهي اربعة أساسية كما يقر المجرمون انفسهم : ( عدم كونهم من المصلين ، و عدم اطعامهم المسكين ، و خوضهم مع الخائضين ، و التكذيب بالاخرة ) و ماذا يرتجى لمن يوافيه الاجل ، و يلقى ربه على هذا الضلال البعيد و الجريمة ؟ ؟ ( الايات 40 / 47 ) .
و من يتورط في الذنوب الاربعة الكبيرة التي مر ذكرها فإن مصيره النار لا محالة ، لانه لا عمل صالح عنده ينجيه من العذاب ، ولن تدركه رحمة من الله و قد بارزه و حاربه ، ولن يشفع له احد ، ولو استشفع له احد - جدلا - فلن تنفعه شفاعة ابدا ، لان الشفاعة تنفعمن تكون مسيرته العامة في الحياة مسيرة سليمة ، ثم يرتكب بعض الذنوب و المعاصي .. و ليس المجرمون كذلك ( الاية 48 ) .
و في خاتمة السورة يستنكر القرآن على المجرمين ( الكفار و مرضى القلوب ) إعراضهم عن تذكرة الله لهم و رحمته المتمثلة في آيات وحيه الهادية ، مع انهم مستقبلون أمرا عظيما و نارا لا تبقي و لا تذر .. و لا خلاص لهم الا بالاقبال على التذكرة ، و العمل على ضوءبصائرها و هداها ! ! انهم حقا يشبهون - حيث يعرضون عن آيات الله - قطيع حمر انقض عليه ليث لا يدرون قسورة الى اين يفرون منه ، و ما الحيلة للخلاص .. و الحال ان آيات الله على عكس ذلك جاءت لتاخذ بأيديهم الى ساحل الأمن و الرحمة و السعادة ، و اولى بهم ان يستقبلوها كما يستقبل الضمأى و المجدبون غيث السماء .. " بل يريد كل أمرء منهم ان يؤتي صحفا منشرة " و لن يكون ذلك ابدا ، " بل لا يخافون الاخرة " و هذا في الحقيقة - أعني الكفر بالاخرة و عدم حضورها في وعي الانسان - أكبر عامل في الانحراف ، وعدم الاهتمام بالتذكرة و التاثر بها ( الآيات 49 / 53 ) .
و يرد القرآن على أباطيل المدبرين عنه و المستكبرين على الحق ، الذين قالوا : " ان هذا الا سحر يُؤثر * ان هذا الا قول البشر " ردا موضوعيا حاسما في آيات ثلاث ( 54 ، 55 ، 56 ) تبين في نفس الوقت دور القرآن بانه التذكرة بالله و بالحق ، و ان الانسان مكلف بالاستجابة لهداه ، و لكنه غير مجبور على ذلك بل مخير ، و ان كان توفيق التذكر و الهداية لا يحصل " الا ان يشاء الله هو أهل التقوى و أهل المغفرة " و معرفة هذه الحقيقة امر ضروري بالنسبة للانسان ، لانها تحيي فيه روح التوكل على الله و التضرع اليه ، و تبعده عن الغرور الناشىء من الاعتماد على الذات .
خلاصة القول : ان الموضوع الرُئيسي في السورة تصدي الرسول لمراكز القوى الجاهلية ، و لكنها تعالج ايضا قضايا هامة اخرى و هي : ان الغنى و القدرة و سائر نعم الله مجرد ابتلاء ، و ليست دليلا على رضا الله عن أصحابها ، و ان الانسان رهن سعيه ، و ان عليه هو انيسعى نحو الهداية ، و انه لا يكره عليها إكراها .
|