فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 32 - 37 ] ان الرسالة الالهية ذكرى للبشر ، و لكن الكفار - و بالذات المترفين و أصحاب السلطة منهم - يخشون من الإعتراف بها ، لانها تفضح ما هم عليه من الاثم و الضلال ، و لذلك تجدهم لا يعترفون ؛ تمنعهم عن ذلك عزة الجاهلية ، كما انها تفرض عليهم مجموعة من المسؤوليات و التنازلات كمسؤولية الانفاق في سبيل الله ، و الطاعة للرسول ( ص ) ، و التنازل عن السلطة ، و ذلك مما لا تطيقه أنفسهم الضيقة المستكبرة .. فلا بد اذا من إخراج لموقفهم الباطل من هذه الذكرى ، و لما فكروا و قدروا بهذه الخلفية الثقيلة فتمخضت أفكارهم و تقديراتهم عن نتائج خاطئة ، فزعموا ان الرسالة " سحر يؤثر " و أنها ليست " الا قول البشر " ، و حتى إنذار الله لهم بالسقر لم ينفعهم ، بل اتخذوه تبريرا جديدا لكفرهم ، حيث قالوا بأن العدد المذكور عن حراسها التسعة عشر : عدد قليليمكن مواجهتهم !

و هكذا يفعل كل مترف و متسلط ، لا تزيده الحجج الا لجاجا ، اذ يبحث فيها عن تبرير جديد يزعم انه يسوغ له الكفر و حتى الاستهزاء حتى أنك تجد مثلا بعض المتصوفة يستهزىء بالنار و يقول : سوف أطفئها بطرف ردائي !

و هكذا توالت كلمات القسم في السياق لعلنا نستجيب لها ، و نفكر جديا بأمر لعقاب .

[ كلا و القمر ]

قيل : معناه ليس الامر على ما يتوهمونه من إنهم يمكنهم دفع خزنة جهنمو غلبتهم (1) ، و قال الرازي وهو بعيد : إنه إنكار - بعد ان جعلها ذكرى - ان تكون لهم ذكرى لانهم لا يتذكرون (2) ، و مثله الزمخشري في الكشاف . و وجه استبعاد هذا الراي ان نفي الذكرى بعد اثباتها بقوله : " و ما هي الا ذكرى للبشر " يحتاج الى تبعيض وتخصيص يفرد الكفار و مرضى القلوب عن عموم البشر ، و لا دليل عليه . و الافضل ان نقول : ان كلمة " كلا " تأتي لردع الانسان عن الجهل و الغفلة و عن مجمل الافكار الباطلة التي كان اولئك يؤمنون بها ، لانها تأتي في سياق الجدال مع الخصم فيتاول - عند السامع - الى نفي أفكاره .

و قسم الله بهذا الكوكب كقسمه بأي شيء آخر يعطيه أهمية و شأنا في وعي الانسان المؤمن بالذات ، و نحن على ضوء هذه الاشارة الالهية القرآنية ينبغي ان نتحرك لفتح آفاق من المعرفة بهذا الكوكب و أهميته ، و علاقة القسم به بما يريد بيانه القرآن في هذه الآية و سياقها .

ان القمر و هكذا الليل بإدباره و الصبح عند تنفسه كل هذه الظواهر الكونية تهدينا عند التفكر فيها الى عظمة الرسالة ، و انها فعلا لاحدى الكبر ، و ان أباطيل الكفار ليست صحيحة أبدا . و لعل القسم بالقمر جاء للاغراض التالية : ان الحقيقة - و جزء منها رسالةالله - قضية واقعية لا تنتفي بمجرد إنكارها ، كما ان القمر و الحقائق الأخرى لا تنمحي من واقع الوجود بإنكار البعض لها .

و هكذا تبقى الرسالة كالقمر المنير تفرض نفسها على ظلام الكفر انى حاولوا إنكارها . انها رسالة عظيمة لو وعوا حقيقتها لتذكروا بها ، و عرفوا كم هي إنذار شديد و عظيم للبشر .


(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 391 .

(2) التفسير الكبير / ج 30 / ص 208 .


[ و اليل إذا أدبر ]

قال أكثر المفسرين ان " أدبر " بمعنى ولي و ذهب ، أي قسما بالليل اذ سحب ذيوله مؤذنا بطلوع الفجر . و في التفسير الكبير قال قطرب : إذا أقبل بعد مضي النهار (1) ، على أساس أنه يقع في دبر النهار و يحل ظلامه على خطى رحيله الأخيرة ، و هذا رأي بعيد ، و قد عجز البعض عن إدراك وقع " إذ " في هذه الآية ودورها في إداء المعنى ، فافترض ما يشاء ، و اعترض على قول الله سبحانه . قال القرطبي بعد بيان الاختلاف في القراءات و المصاحف : و اختار أبو عبيد إذا أدبر ( و ليس إذ ) قال : لانها أكثر موافقة للحروف التي تليه ، أتراه يقول : " و الصبح إذا أسفر ، فكيف يكون أحدهما " إذ " و الآخر " اذا " ؟ و ليس في القرآن قسم تعقبه " إذ " و إنما يتعقبه " إذا " (2) و يبدو لي ان " إذ " هنا ظرفية لا شرطية كما في " إذا أسفر " ، فيكون المعنى انه تعالى يقسم باللحظة المباشرة لجمع الليل فلول ظلامه ، و كأنه يريدنا ان نعيش ظاهرة إدبار و بزوغ الفجر .

[ و الصبح إذا أسفر ]

أي اضاء و انبلج نوره ، لان الصبح له مراحل يتدرج عبرها و يتضح شيئا فشيئا ، حتى تطلع الشمس فتطرد كل فلول الظلام ، و تكشف للناظر عن وجه الطبيعة من حوله ، و في اللغة : سفرت المرأة سفورا كشفت عن وجهها فهي سافر ، و أسفر مقدم رأسه : انحسر عنه الشعر ، وأنسفر الغيم تفرق (3) فأبدى وجه السماء ، و يقال لصبح أسفر لانه حينما يتشعشع نوره يكشف عن نفسه و عن الطبيعة بكل وضوح . و ربنا يقسم به في مرحلة الاسفار و ليس في أي مرحلة أخرى من مراحله ،(1) التفسير الكبير / ج 30 / ص 209 .

(2) الجامع لاحكام القران للقرطبي / ج 19 / ص 84 .

(3) المنجد مادة سفر .


لتلعق شرط " إذا " بها بالذات .

وحينما يلتفت الانسان ببصره الى هذه الظواهر الكونية الثلاث ، و يتفكر فيها بعقله ، فإنه يجدها آيات هادية الى حقيقة التوحيد و الربوبية العظمى ، و الى ذات الحقيقة بتفاصيلها تهديه آيات القرآن ، و حديثه عن سقر و ملائكتها و تذكره بها ، مما يؤكد ان الذي خلق هذا الكون هو الذي أنزل ذلك التشريع ، و انه اذا كانت هذه الظواهر و أمثالها كبيرة في نفس الانسان و عظيمة فإن القرآن و الآخرة واحدة من أعظم الحقائق المنذرة .

[ انها لاحدى الكبر ]

قال القرطبي : روي عن أبن عباس " إنها " أي ان تكذيبهم بمحمد ( ص ) " لإحدى الكبر " أي لكبيرة من الكبائر (1) ، و ليس في السياق ما يؤيد هذا الرأي ، بالذات اذا وصلنا الآية بما يليها ، و قيل : ان قيام الساعة لإحدى الكبر (2) ، و هذا صحيح مسلم به إلا أنه لا دليل عليه لا في النص و لا في السياق ، وقيل : يعني سقر ، و فيه وجه لانها واحدة من أعظم شعب النار ، و أكبر النذر للناس ، و قد ذكرت و قيل : آيات القرآن لاحدى الكبر في الوعيد (3) ، و هو أقرب الآراء و المصاديق الى الآية . كما أولهاائمة الهدى في الولاية ، عن أبي الحسن الماضي قال : " الولاية " (4) باعتبارها سنام الاسلام ، وواحدة من أكبر أركانه و أهمها ، و عن الباقر ( ع ) قال : " يعني فاطمة عليها السلام " (5) لان ولاءها وحبها جزء من تولي(1) الجامع لاحكام القرآن للقرطبي / ج 19 / ص 85 .

(2) المصدر .

(3) مجمع البيان / ج 10 / ص 331 .

(4) نور الثقلين / ج 5 / ص 458 .

(5) تفسير القمي / ج 2 / ص 296 .


الله و رســوله و حبهما بإجماع كل المذاهب الاسلامية التي تواترت أحاديث فضلها في كتبهم . ثم يقول الله :

[ نذيرا للبشر ]

عن كل ضلال و تقصير و ذنب ، و إنما يتم الإنذار ببيان العواقب السيئة لكل ذلك ، و بيان طريقة تجنبها . و قد اختلف في من هو النذير الى أقوال أقربها ثلاثة : أحدها : أنه النار التي ما جعــل الله أصحابها الا ملائكة ، و الثاني : أنه رسول الله صلى الله عليهواله ، و الثالث : وهو أقربها جميعا : أنه القرآن باعتباره المنذر الاعظم و الثقل الاكبر على مر الدهور و الاجيال .

[ لمن شاء منكم ان يتقدم او يتأخر ]

فالرسالة الالهية اذا لا جبر فيها لاحد على اختيار طريقها ، بل الناس بالخيار بين الايمان و الكفر ، و التقدم و التأخر ، و على هذا الأساس يجب على كل مصلح ممارسة التغيير و الإنذار في مجتمعه و أمته . هذا واحد من معاني الآية و هناك تفاسير أخرى :

الاول : فمن شاء ان يتقدم في الايمان بالرسالة فيكون من السابقين او يتاخر فيكون من اللاحقين فان القرآن نذير له .

الثاني : ان " سقر " نذير و جزاء لكل من تقدم الى ائمة الهدى و نهجهم فامن او تاخر فكفر بهم لا فرق .

و عن ابي الفضيل عن ابي الحسن ( ع ) قال : " كل من تقدم الى ولايتنا تأخرعن سقر ، و كل من تاخر عن ولايتنا تقد الى سقر " (1) ، و الى قريب من هذا المعنى أشار ابن عباس بقوله : من شاء اتبع طاعة الله ، و من شاء تاخر عنها (2) ، و قال العلامة الطبرســي : و قيــل انه سبحانه عبر عن الايمان و الطاعة بالتقدم لان صاحبه متقدم فيالعقول و الدرجات ، و عن الكفر و المعصية بالتأخر لانه متأخر في العقول و الدرجات (3) .

الثالث : التقدم و التأخر الحضاريين في الدنيا ، و التقدم و التأخر في الدرجات في الاخرة ، فانهما مرهونان بموقف الانسان ( فردا و مجتمعا و أمة و بشرية ) من كتاب الله و ذكراه للبشرية ، فان استمعت للنذر و اتبعت الآيات وصلت الى السعادة في الدارين و تقدمتمسيرتها ، و الا صارت الى الشقاء و التخلف و واقع المسلمين في التاريخ و الان خير دليل على هذه الحقيقة ، فهم لما اتبعوا القرآن سعدوا و تقدموا و قادوا ركب الحضارة البشرية ، و لكنهم الان حيث هجروه تورطوا في انواع المشاكل و البلاء ، و صدق رسول الله ( ص ) حينما قال : " القرآن هدى من الضلالة ، و تبيان من العمى ، و استقالة من العثرة ، و نور من الظلمة ، و ضياء من الاحزان و عصمة من الهلكة ، و رشد من الغواية ، و بيان من الفتن ، و بلاغ من الدنيا الى الاخرة ، و فيه كمال دينكم ( قال الامام الصادق عليه السلام ) فهــذه صفـة رسول الله للقرآن و ما عدل احد عن القرآن الا الى النار " (4) .

[ 38 / 47] و مع اننا نقول بان للرسالة الالهية دورا أساسيا في تقدم البشرية او تخلفها و لكن بشرط ان يسعى الانسان جاهدا في العمل بها .


(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 391 .

(2) الدر المنثور / ج 6 / ص 385 .

(3) مجمع البيان / ج 10 / ص 390 .

(4) موسوعة بحار الانوار / ج 92 / ص 26 .


[ كل نفس بما كسبت رهينة ]

و تاكيد القرآن على هذه الحقيقة في كثير من المواضيع و بصيغ مختلفة ينطلق من كونها بصيرة أساسية يجب على الانسان وعيها في حياته ، اذ هي روح المسؤولية ، و الدافع الحقيقي لتحملها .. فمتى ما أمن احد بالعلاقة بين واقعه و بين سعيه و مستقبله و بين سعيه في الحياة تحمل مسؤوليته بتمامها . و من الآية الكريمة نهتدي الى البصائر التالية :

الف : ان فكرة الجبر فكرة خاطئة ، فان الله قد جعل مصير البشر بايديهم و لم يشلأ ان يحتم عليهم مصائرهم ، بل انهم هم الذين يرتهنون انفسهم في النار بسعيهم السيء كالمجرمين او يفكون أسرهم و يصيرون الى الجنة بأعمالهم كأصحاب اليمين ، و هذا من أبرز مظاهر العدالة و الحكمة الالهية . قال الامام الصادق ( ع ) يعظ واحدا من أصحابه : " اقصر نفسك عما يضرها قبل ان تفارقك ، واسع في فكاكها كما تسعى معيشتك ، فان نفسك رهينة بعملك " (1) .

باء : ان هذه القاعدة جارية على كل نفس بدون استثناء او تمييز بين أبيض و أسود ، او ذكر و انثى ، او عربي و أعجمي ، فلا قيمة أسمى من العمل الصالح . هكذا يشــرع الله لعــباده ، و ذلك يعني ان كل الفلسفات الضيقة العنصرية و العرقية و القومية و .. و .. مرفوضة .

جيم : ان أغلب المآسي التي تصيب النفس و تصبح رهينة لها هي من كسبها و سعيها ، كما قال ربنا سبحانه : " و ما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم و يعفوا عن كثير " (2) ، فالحوادث انما نذوق طعمها لقلة انتباهنا و ضعف وعينا بأمور الحياة(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 458 .

(2) الشورى / 30 .


و قوانينها ، و الامراض انما تتسلل الى اجسادنا لعدم أهتمامنا و القواعد الصحية ، و التخلف و التمزق و سيطرة الطغاة و الظالمين ، و حتى الزلازل و الانهيارات و سائر الكوارث الطبيعية .. انها جميعا من عند الانسان نفسه ، و هكذا الجزاء الاخروي ، فإن أصحاب النار هم المسؤولون عن تورطهم فيها لما أقدموا عليه من الجرائم و السيئات ، كما انهم كانوا قادرين قبل انقضاء فرصة العمر على افتداء أنفسهم و فك أسرها بعمل الصالحات ، كأصحاب اليمين الذين يمتازون عن سائر الناس بذلك .

[ الا أصحاب اليمين ]

قال الامام الباقر ( ع ) : " نحن و شيعتنا أصحاب اليمين ، و كل من أبغضنا أهل البيت فهم المرتهنون " (1) ، و في الكشاف : و عن علي ( ع ) انه فسر اصحاب اليمين بالاطفال ، لانهم لا اعمال لهم يرتهنون بها (2) ، و ردجحه الرازي في تفسيره ، و ليست هذهالا مصاديق لحقيقة واحدة ، فالاصل من اليمن نقيض الشؤم ، كما مر علينا في سورة الواقعة عند قول تعالى : " و أصحاب الميمنة ما اصحاب الميمنة * واصحاب المشئمة ما اصحاب المشئمة " (3) ، و ارجاع التعبير الى أصله يجعله يتسع لمصاديق اخرى كثيرة . و قداستثنى ربنا أصحاب اليمين بأعتبارهم من دون كل الناس ليسوا رهائن لان كسبهم و سعيهم محمود ، بل هم في نعيم واسع مقيم .

[ في جنات يتساءلون * عن المجرمين ]

و السؤال ما هي أهمية التساؤل عن المجرمين بالنسبة لاصحاب الجنة ؟

اولا : لان ذلك يزيد المؤمنين لذة بالنعم مادية و معنوية ، فكما ان تحسس الغني(1) تفسير البصائر / ج 50 / ص 432 .

(2) الكشاف / ج 4 / ص 655 .

(3) الواقعة / 8 - 9 .


لاوضاع الفقراء يزيده شعورا بفضل الله عليه فان أصحاب اليمين تزداد لذتهم بنعم الجنة و نعمة الهداية حينما يطلعون على نقيضهم .

ثانيا : هذا الحوار المستقبلي نافع للمؤمنين في الدنيا ، لانه يكشف لهم عن مكامن الخطر ، و معالم طريق النار ، مما يمكنهم من تجنب الاخطاء و المزالق ، فان المعرفة بها لا تقل أهمية عن المعرفة بالصواب و الحق . و الذي يسعى لبناء شخصية إيمانية في نفسه ينبغيله ان يعرف صفات أهل النار ليتجنبها .

[ ما سلككم في سقر ]

اي شيء ( عمل و منهج ) قادكم الى النار ؟

و أجابتهم تبين معالم الشخصية المجرمة من جهة ، و تؤكد عمليا ارتهان كل نفس بكسبها من جهة اخرى ، فما هي الاسباب التي ادت بهم الى الجريمة و من ثم الى عذاب سقر ؟

اولا : تركهم الصلاة .

[ قالوا لم نك من المصلين ]

و الآية تشمل التاركين للصلاة من الأساس كالكفار و الممسوخين من المسلمين ، كما تشمل اولئك الذين يمارسون طقوس العبادة و لكنهم لا يلتزمون بقيمها و أهدافها ، و هم الذين قال عنهم ربنا : " فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون " (1) ، فانهم عند الله ليسوا من عداد المصلين ، لان تارك الصلاة انما يصبح مجرما لانه ترك أعظم دافع نحو الخير و أفضل رادع عن الشر وهو الصلاة ،(1) الماعون / 4 - 5 .


قال تعالى : " ان الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر " (1) و ذلك انها عمود الدين ، و روح الايمان ، وصلة التقرب بالله .

قال الامام علي ( ع ) يعظ محمد بن ابي بكر : " و أعلم يا محمد ان كل شيء تبع لصــلاتك ، و أعلــم ان مــن ضيـع الصلاة فهو لغيرها أضيع " (2) ، و قال رسول الله ( ص ) : " لا يزال الشيطان يرعب من بني آدم ما حافظ على الصلوات الخمس ، فاذا ضيعهنتجرأ عليه و اوقعه في العظائم " (3) .

وقد أعطى ائمة الهدى بعدا سياسيا و اجتماعيا لهذه الآية ، من خلال تفسير ترك الصلاة في ترك الانتماء الى حزب الله و رفض القيادة الرسالية ، قال إدريس بن عبد الله سألته - يعني الامام الصادق ( ع ) - عن تفسير هذه الآية ، قال : " أي لم نك من اتباع الائمة عليهم السلام " (4) ، و قال : " اما ترى الناس يسمون الذين يلي السابق في الحلبة المصلي ؟ ! أعني حيث قال : " الآية " لم نك من اتباع السابقين " (5) ، و هذا واضح في نص الآية الكريمة عند قوله : " من المصلين " .. فالمصلون اذا خط و حزب و قياده ، و عدم الانتماء اليهم يستوجب عذاب سقر .. و من هذه الفكرة نهتدي الى ان التفرج على الصراع بين الحق و الباطل في المجتمع دون الانتماء الى فريق الحق مسالة مرفوضة في الاسلام .

و مع ان الكفار و المشركين كافرون بأصول الدين الا ان الله يشير الى كفرهم بالصلاة و هي فرع من فروع الدين كواحدة من الكبائر . لماذا ؟ ! لانها عمود(1) العنكبوت / 45 .

(2) موسوعة بحار الانوار / ج 83 / ص 24 .

(3) المصدر / ج 83 / ص 202 .

(4) البرهان / ج 4 / ص 404 .

(5) المصدر .


الدين ، و لان الكفار يحاسبون على الفروع ايضا ، فالقانون واحد لا فرق فيه بين المؤمنين و الكفار .

ثانيا : عدم اطعام المسكين .

[ و لم نك نطعم المسكين ]

و المسكين أشد حاجة من الفقير ، لانه الذي يسكنه الفقر و لا يملك قوت يومه ، و مساعدة هذه الطبقة من الناس واجب شرعي إنساني اجتماعي يفرضه الاسلام كما يفرضه العقل و العرف ، فحينما يصل العوز بفرد من الافراد الى حد الضروريات الاولية كالطعام اللازم للحياةفان المجتمع مسؤول امام الله عن رفع حاجته بأية طريقة ممكنة .

و قد عكس الاسلام هذا المــبدا في نظامه الاقتصادي و تشريعاته الجنائية و القضائية ، بحيث رفع حد السرقة عمن تدفعه اليها الحاجة الضرورية و قد تخلف مجتمعه عن إداء مسؤوليته تجاهه . و اعتبر دراسة الاحوال الشخصية و الظروف الاجتماعية و الاقتصادية جزء من نظامه القضائي في المجتمع . و تأخذنا الآية الكريمة حينما نتدبرها ضمن سياقها ( صفات المجرمين ) الى أبعد من ذلك حينما تعتبر الانسان الذي لا يتحمل مسؤولية الفقراء و المساكين ( فردا و مجتمعا ) هو مجرما ايضا ، لان أندفاع المسكين الى ممارسة السرقة و الفساد تحتمس الجوع و الحاجة ليس بأعظم جريمة من جريمة عدم اسعافه من قبل ذوي الاستطاعة .

ان موقف الاسلام الحازم و الواضح من مساعدة المساكين و المحرومين جزء من نهجه الاقوم لعلاج مشكلة الظلم و الطبقية ، و قد ربط القرآن بين العاقبة ( سلوك سقر ) و بين الاسباب ( الآيات 43 / 48 ) لبيان ان عذاب سقر ليس الا سلوكياتو اخلاق تتجسد في الاخرة . و لتقريب الفكرة نقول : لو افترضنا ( سقرا ) سجنا ذا أربعة جدران من نار فان كل واحدة من صفات المجرمين الاربع تمثل واحدا منها .

ثالثا : الاسترسال مع التيار .

[ و كنا نخوض مع الخائضين ]

قال قتادة : معناه كلما غوى غاو للدخول في الباطل غوينا معه ، اي كنا نلوث أنفسنا بالمرور في الباطل كتلويث الرجل بالخوض ، فلما كان هؤلاء يخرجون مع من يكذب بالحق مشيعين لهم في القول كانوا خائضين معهم (1) و مثل لذلك ابن زيد فقال : نخوض مع الخائضين في أمر محمد ( ص ) وهو قولهم : كاذب ، مجنون ساحر .. (2) .

الاستقلال من أهم أهداف الانسان في الحياة ، باعتباره محتوى التوحيد ، و جوهر العبودية لله ، و لباب حرية الانسان .. من هنا كان الخوض مع الخائضين و الاسترسال مع التيار الغالب انى اتجه كان ذلك جرما عظيما يرتكبه الانسان في حق نفسه ، و هو يعتبر كذلك من مصاديق الشرك بالله ، الذي يستوجب عند الله أشد العذاب ، لانه عامل رئيسي من عوامل خطأ الانسان و أنحرافه و ضلاله (3) .

و قد جاءت رسالات الله تهدي الانسان الى ذاته ، و معرفة كرامته عند الله ، و آفاق عالمه الكبير ، بينما الشيطان ، و اولياؤه يريدون تضليل الانسان عن نفسه ، و تجهيله بقيمتها و كرامتها و دورها المرسوم في انتخاب الخير و محاربة الشر ، و من هنا(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 386 .

(2) فتح القدير / ج 5 / ص 333 .

(3) لقد بينا دور حس التوافق الاجتماعي السلبي في كتابنا المنطق الاسلامي اصوله و مناهجه / ص 219 - 240 .


نجد الطغاة و المترفين اليوم قد تسلحوا بأجهزة إعلامية فائقة الكفاءة من أجل سلب الاختيار من الانسان الفرد ، و قولبة شخصيته ضمن القنوات التي يختارونها له ، و تلقي المواقف و الافكار الجاهزة من خلال وسائل السلطة . و لقد استطاعت الانظمة الاستكبارية في الغربربط شعوبها بوسائلها الاعلامية بالخصوص في القضايا السياسية ، فهي تخوض حينما خاضت حكوماتها و أحزابها . و الشاشة الصغيرة و شبكات الصحف الكبيرة أصبحت اليوم آلهة تعبد من دون الله ، و تفرض آراءها على الناس في شتى الأمور . و حتى اختيار لون فستان زوجته ، وتسريحة شعرها و طبيعة العلاقة معها ، يستمده الانسان الغربي من وسائل الدعاية و الاعلام لا من اختيار حر مستقل .

اما كيف يؤدي حس التوافق الى الجريمة ؟ فالأمر واضح جدا ، اذ ان الفرد الذي فقد الاستقلال سوف يشارك مجتمعه فــي اخطائه حينما يتجه مركبه صوب الجريمة و الضلال ، فاذا فسد أخلاقيا فسد معه ، و اذا شن حربا ظالمة على الاخرين خاض في دمائهم كما يخوضون ، و اذاجلس مجالس الغيبة و البهتان و النميمة أدلى بدلوه في لهو الحديث و لغوه دون ان يملك شجاعة المعارضة .

رابعا : التكذيب بالاخرة .

[ و كنا نكذب بيوم الدين * حتى اتانا اليقين ]

و اليقين هنا بمعنى العلم ، و قد فسرت الكلمة بالموت لان الانسان حينما يموت يرتفع عن بصره كل حجاب ، فيرى الاخرة و الجزاء و كل الحقائق التي ذكرت بها رسالات الله عين اليقين . و في الايتين اشارة الى ان فرصة النجاة قائمة ما دام حيا ، فلو وقع في خط الباطلو الاجرام ثم تاب و أصلح قبل الموت نفعه ذلك و الا فلا . و حيث لا يعلم الانسان موعده مع الموت و لقاء ربه و جزائه فانه ينبغي له ملازمةالطاعة و العمل الصالح بلا انقطاع ، فلعله و قد فكر في المعصية و واقعها وافاه الاجل فصار الى سوء العاقبة . هكذا اوصى امير المؤمنين ابنه الحسن - عليهما السلام - محذرا اياه من الموت : " فكن منه على حذر ان يدركك و انت على حال سيئة ، قد كنت تحدث نفسك منها بالتوبة ، فيحول بينك و بين ذلك ، فاذا انت قد أهلكت نفسك " (1) .

و يعتبر الاسلام التكذيب بالاخرة و جزائها من أهم العوامل التي تدعوا البشر الى التحلل من المسؤولية ، و الافراط في الانحراف و الذنوب ، و التعبير القرآني الوارد في الآية دقيق جدا اذ يقول الله " نكذب بيوم الدين " و كان التكذيب بالاخرة وسيلة الى كل تكذيب . بلى . ان خشية العقاب تردع الانسان من مخالفة القوانين ، و من لا يخشى عقاب ربه كيف يلتزم بشرائعه ؟ من هنا يؤكد العلماء على ضرورة القوانين الجزائية ، لانها ضرورة ملحة في تنظيم علاقات المجتمع .

و قد اطلق الله على يوم القيامة أسماء كثيرة قد تتفق في حيثياتها الاولية ، و لكنها بلا شك تختلف في إيحاءاتها النفسية و المعنوية ، بحيث يمكن لنا القطع بأن التعبير بـ " يوم الدين " في هذا السياق أصلح من أي تعبير آخر ، و نكتشف ذلك في المفرداتضمن السياق الذي ترد فيه .

و لان سياق سورة المدثر عن تبليغ الرسالة و تكذيب الكفار و مرضى القلوب بحقائق الدين كان من الحكمة التأكيد على " يوم الدين " بالذات ، لبيان ان الدين هو المحور و الميزان في الاخرة ، و ان حقائقه التي يكذب بها أعداء الرسالة سوف يأتي اليوم الذييجليها ، و بالتالي التأكيد على ان التدين ضرورة مصيرية لكل إنسان .

[ 48 / 53 ] و يبين لنا القرآن صفة خامسة لأصحاب سقر هي في الحقيقة(1) نهج البلاغة / ك 31 / ص 400 .


عامل رئيسي من عوامل الجريمة و المعصية ، و هو الفهم الخاطىء لمفهوم الشفاعة الذي تنادي به كل رسالات الله ، حيث التمنيات التي تحولها الى مبرر لممارسة الخطايا .

و اذا كان هذا الفهم تبلور لدى اليهود في نظرية البنوة و شعب الله المختار ، و لدى النصارى في نظرية الفداء ، فان بعض المسلمين ايضا أنزلق الى مثل هذه المفاهيم و التمنيات ، و لكن بقوالب و تعابير مختلفة ، فقال البعض ان المسلمين خير أمة أخرجت للناس ، و انالله لا يعذب أمة فيها حبيبه النبي محمد ( ص ) ، و قال فريق : ان الاولياء يشفعون له الخطايا من دون قيد و شرط ، و القرآن ينسف كل هذه التمنيات الباطلة حتى لا يدع مجالا للانسان يفر عبره عن تحمل المسؤولية ، و قد حذر ائمة الهدى من هذا الفهم الخاطىء للشفاعة، قال أبو بصير : دخلت على حميدة أعزيها بأبي عبد الله فبكت ، ثم قالت : يا أبا محمد لو شهدته حين حضره الموت و قد قبض إحدى عينيه ثم قال : " ادعوا لي قرابتي و من لطف لي " فلما اجتمعوا حوله قال : " ان شفاعتنا لن تنال مستخفا بالصلاة " (
1) .

و الآية القرآنية قوية في وقعها .

[ فما تنفعهم شفاعة الشافعين ]

لان أحدا لا يشفع لهم ، و على افتراض ذلك لا تنفعهم ، فكيف و ان اولياء الله لا يشفعون الا لمن ارتضى رب العزة ؟ و انما عبر القرآن بهذه الصيغة لينسف تصوراتهم الخاطئة و المغرقة في الاماني ، و ليس لبيان ان أحدا قد يتقدم للشفاعة في المجرمين ، بلى . ان الشفاعة حقيقة واقعية و لكنها تنفع من تكون مسيرته الكلية مسيرة صحيحة فتسقط عنه سيئاته الجانبية ، و لا تكون مسيرة الانسان العامة سليمة الا بالاقبال على رسالة الله ، و اتباع و رسله اوليائه ، من هنا يستنكر الله على الكفار(1) موسوعة بحار الانوار / ج 82 / ص 236 .


و المشركين إعراضهم عن تذكرته في الوقت الذي يتطلعون الى ذلك .

[ فمالهم عن التذكرة معرضين ]

قال مقاتل : الاعراض عن القرآن من وجهين : أحدهما الجحود و الانكار ، و الوجه الآخر ترك العمل بما فيه (1) ، مع ان التذكرة إنما جاءت من أجل نجاتهم ( البشر ) بتعبير القرآن ، و ليس ضدهم ، فحق ان يستنكر القرآن موقفهم اللئيم من إحسان الله اليهم بالرسالة ،و ان يشبههم بالحمير وصفا لواقعهم وحطا من قدرهم .

[ كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة ]

و الاستنفار من النفور المختلط بشعور الخوف و الخطر ، و الكلمة دخلت مصطلحا في علم العسكرية ، يقال : استنفر الجيش اذا توقع و تاهب لدفعه ، و في المنجد : المستنفر الشارد المذعور (2) ، و الكلمة على وزن مستفعل مما يهدينا الى ان المعرضين عن التذكرة يزيد أحدهم الاخر إعراضا و نفورا عن الحق ، كما يزيد أفراد القطيع من حمار الوحش بعضهم بعضا ذعرا و شرودا من سطوة الأسد الهصور حينما يهجم عليهم . و القسورة على الاقرب إسم الأسد حينما ينقض على طريدته ، من القسر بمعنى القهر ، اي انه يقهر السباع ، و الحمر الوحشيةتهرب من السباع (3) كاشد ما يكون ، و سمي الرامي و الصياد قسورة لانه بسهمه يصطاد الصيد و يقهره ، و تقول العرب لكل رجل قوي شديد قسورة لانه يصرع الأقران ، و يخافه الآخرون ، و ما ابلغه من تشبيه تصويري رائع .

و لعل سائلا يسال : لماذا يفر البشر من التذكرة ؟ و الجواب : ان وجدان(1) الجامع لاحكام القرآن للقرطبي / ج 19 / ص 88 .

(2) المنجد مادة نفر .

(3) الجامع لاحكام القرآن للقرطبي / ج 19 / ص 89 .


الانسان و عقله يرفضان كفره و عصيانه ، و يعيش المجرم صراعا دائما معهما و لكنه قد عقد عزمه على المضي قدما مع شهواته ، فيتهرب من الوعظ و الارشاد حتى لا يدعم جانب عقله و وجدانه ، لان الرسالة تكبح جماح الهوى ، و تحدد تصرفات النفس بالأحكام و النظم ، و تحملهكامل المسؤولية في كل بعد من ابعاد الحياة الفردية و الاجتماعية .

[ بل يريد كل امرىء منهم ان يؤتى صحفا منشرة ]

قال أبن عباس : كانوا يقولون : ان كان محمد صادقا فليصبح عند كل رجل منا صحيفة فيها برائته و أمنه من النار ، قال مطر الوراق : أرادوا ان يعطوا بغير عمل ، و قال الكلبي : قال المشركون : بلغنا ان الرجل من بني إسرائيل كان يصبح عند رأسه مكتوبا ذنبه و كفارته، فاتنا بمثل ذلك ، و قيــل : ان ابا جهل و جماعة من قريش قالوا : يا محمد ! ائتنا بكتب من رب العالمين مكتوب فيها : اني قد أرسلت اليكم محمدا ( ص ) . نظيره : " و لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " (1) . وما يريدونه محمول على ثلاثة أوجه:

الاول : أنهم يريدون مشاهدة الرسالة الالهية تتنزل في قرطاس يلمسونه ، و يكون متميزا معجزا من كل جهاته ، و ما ذلك الا شرط تبريري للفرار من مسؤولية الايمان و الطاعة للرسول ، و قد فضح الله هذه النوايا الخفية ، و كشف عما في قلوبهم من مرض فقال : " ولو أنزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا ان هذا الا سحر مبين " (2) .

الثاني : ان الخضوع لقيادة الاخرين ، و بالذات الخضوع الشامل لجوانب(1) المصدر / ص 90 بتقديم و تأخير .

(2) الانعام / 7 .


الحياة ، كما في الاطروحة الاسلامية للقيادة ، من أصعب الآمور على الانسان ، باعتباره يفرض عليه الخروج من شح النفس و حب الذات ، و يحدد مواقفه و تصرفاته ، هذا في سائر الناس ، اما اذا كان من المترفين و أصحاب الوجاهة فالأمر أثقل عليه و أصعب ، حيث تتوق نفسهللرئاسة على الآخرين ، بينما النظام الاسلامي يفرض عليه الانصياع لاوامر القيادة الرسالية ، و ربما التنازل عن المراكز الاجتماعية التي لا يستحقها و الاموال التي جمعها من غير حلها .. و هذا ما لا يطيقه أبو جهل و أمثاله ، لذلك ترى كل واحد منهم يتمنى لو يكونهو الرسول الذي يختاره الله فينزل عليه وحيه ، و من ثم يفرض قيادته على الناس ، و يوجب عليهم الخضوع له . قال مجاهد : أرادوا ان ينزل على كل واحد منهم كتاب فيه من الله عز وجل : الى فلان بن فلان (1) . و في الآية أعتراف ضمني من المشركين و الكفار بان الرسالةفضل عظيم ، تمناها كل واحد منهم لنفسه لما فيها من الشرف .

الثالث : ان هذه الآية كشفت عن عقدة مستعصية عند الانسان لابد من الجهاد حتى يتغلب عليها ، و هي تلك العقدة التي أشارت اليها آيات عديدة في الذكر تبين طلبات الكفار الاعجازية ، مثل قوله سبحانه : " و قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا * اوتكون لك جنة من نخيل و عنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا * او تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا او تأتي بالله و الملائكة قبيلا " (2) ، و قالوا : " مال هذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الاسواق لولا أنزل اليه ملك فيكون معه نذيرا " (3) ، فهذهالآيات و نظائرها تكشف عن عقدة أساسية عند الانسان و هي أنه ينتظر ما يجبره على اتباع الحق جبرا ، فتراه دائم الطلب بما يراه علة لايمانه او يسوف الايمان و العمل الصالح الى أيام يزعم ان يجد فيها ما(1) الجامع لاحكام القرآن للقرطبي / ج 19 / ص 90 .

(2) الاسراء / 90 - 92 .

(3) الفرقان / 7 .


يكون سببا تاما لهما . و كما تتجلى هذه الطبيعة في الانسان الفرد فانها قد تتجلى في شعب كامل و أمة كاملة ، و ثابت عمليا في تاريخ البشر و لدى علماء النفس ان بعض الشعوب تنتظر حالة الكره على القانون حتى تلتزم به ، و هو أنتظار سخيف ، اذ شرف الانسان و كرامته( فرد او أمة ) يتمثل في انتخابه الحر للخير و الفضيلة ، وليس في تحويله الى اداة طيعة لارادة قاهرة حتى ولو أستخدمت في الطريق الصحيح .

هكذا كانت الهداية من مسؤولية الانسان ذاته ، ان يختارها ، و يسعى جاهدا اليها ، و يجار الى ربه لتوفيقه اليها .. و يكون دليله في كل ذلك عقله الذي يميز له و بوضوح كاف سبيل الهدى عن طريق الضلال ، مما لا يدع له مجالا للتبرير ، وهو اكبر حجة لله عليه ، و لعل الكلمة التالية توحي بذلك :

[ كلا ]

ليس تبريرهم مقبولا ، و ليس سبب أستمرارهم على الكفر عدم وجود هذا الشر او ذاك .

و قوله في الآية السابقة " كل امرء منهم " اشارة الى كون هذه الصفة مرتكزة في كل فرد فرد من البشر الا ما شاء الله ، و الا من ينتصرون عليها و يصلحون أنفسهم . ثم يبين ربنا بقول فصل العامل الرئيسي في موقف الكفار من قيم الدين و قيادة الرسول ، الا وهو عدم حضور لآاخرة في وعيهم .

[ بل لا يخافون الآخرة ]

اذن فطلبهم صحفا منشرة و المعجزات الآخرى ليس الا تبريرا لموقفهم ، و غطاء لشيء آخر هو عدم الخوف من الآخرة ، فالآخرة اذن ليست فكرة مجردة يكفيالانسان ان يلقلق بها لسانه ، و يحفظها في ذاكرته ، بل هيه حقيقة كبيرة يجب ان يتفاعل معها عمليا ، فتعكــس آثــارها في سلوكه و شخصيته ، و أظهر آيات ذلك الخوف من الآخرة ، بالخوف من عذاب الله و غضبه ، فانها أحق بان يخافها البشر . وعدم الخوف من الآخرة قد يكون نتيجة للكفر المحض بها ، و قد يكون نتيجة للافكار التبريرية التي ينسجها الأنسان بخياله ، كالشرك بالله ، و أفكار الفداء الخاطئة .

[ 54 / 56 ] ثم يقول الله :

[ كلا انه تذكرة ]

اي ان الاعراض و النفور عن القرآن لا يصيره باطلا ، فهو بآياته و حقائقه يذكر البشر بأعظم الحقائق ، بل بها كلها ، اذ فيه تبيان لكل شيء .

و الرسول هو الآخر مصداق للتذكرة ، حيث يقوم بذات الاهداف التي جاء من أجلها القرآن ، و أعظمها تذكير الانسان بربه عز وجل ، عبر الادلة و الآيات التي تثير فيه العقل و توقظ الضمير و لكن من دون جبر ، فالرسول ما عليه الا البلاغ المبين ، و القرآن ليس دوره الا بيان الحق و الباطل معا ، و وضع الانسان بكل وجوده المادي و المعنوي امام الاختيار .

[ فمن شاء ذكره ]

بإرادته و وعيه ، فان أي اختيار آخر مرفوض عند الله ، و لا ينفع صاحبه بشيء لا في الدنيا و لا في الاخرة ، و لعمري انها لمن أظهر الآيات على ان الرسالة حق ، ان تعترف للانسان بحريته و اختياره و مسؤوليته ، و ان لا يمارس معه اي لون من الوان الاكراه اذ " لا اكراه في الدين " أنطلاقا من حاجته هو الى الحق ، و ليس العكس . و هذه في نفس الوقت خصيصة تميز الرسالة الالهية عن الدعوات البشريةالمرتكزة على الجبر و الاكراه ، و من ثم تجاهل دور الانسان و حقه في تعيين مصيره .

و توازن الآيات بين الجبر و التفويض ، لان بصيرة القرآن تهدي الى أمر بين أمرين ، و ذلك من خلال تذكيرنا بحقيقة مهمة بقرار الانسان و اختياره في الحياة ، الا و هي ان مشيئته لا تكون الا بالله . او ليس الله خلق الانسان و اسبغ عليه نعمه ظاهرة و باطنة ، فلولا خلقه هل كان شيئا حتى يشاء ؟ ثم انه منحه العقل و الارادة ، و وفر له فرصة المشيئة ، و لو كان الانسان كالحجر لا يملك عقلا او ارادة فهل كان يشاء شيئا ؟ و عندما وفرت له فرصة المشيئة و في لحظة المشيئة لولا نور التأييد الذي ينمي ارادته لم يكن يمضي في مشيئته قدما في مقاومة جواذب الشهوة و ركائز النقص و العجز و الجهل التي هو فيها . اليس كذلك ؟ و حينما تكون الهداية محور المشيئة أفيمكن للانسان ان يبلغها من دون تذكرة ربه و توفيقه ؟

بلى . و هكذا قرار الانسان مركب من أمرين : أحدهما متصل به ، و الآخر متصل بربه ، فحيث يختار الهداية و يسعى اليها سعيها يهديه الله و يبارك سعيه ، و هذا معنى قول الامام الصادق ( ع ) : " لا جــبر و لا تفــويض ، و لكن أمر بين أمرين " ( قال المفضل ) قلت : ما أمر بين أمرين ؟ قال : " مثــل رجــل رأيــته على معصية فنهيته فلم ينته ، فتركته ففعل تلك المعصية ، فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت انت الذي أمرته بالمعصية " (1) ، و قال - عليه السلام - : " الله تبارك و تعالى أكرم من ان يكلفالناس ما لا يطيقونه ( يجبرهم ) ، و الله أعز من ان يكون في سلطانه ما لا يريد " (2) ( فيفوض لهم الأمر ) .

و قال الامام علي بن موسى الرضا ( ع ) لما سأله المأمون : يا أبا الحسن ! الخلق(1) موسوعة بحار الانوار / ج 5 / ص 17 .

(2) توحيد المفضل / ص 360 .

مجبورون ؟ : " الله أعدل من ان يجبر خلقه ثم يعذبهم " قال : فمطلقون ؟ قال : " الله أحكم من ان يهمل عبده و يكله الى نفسه " (1) ، و هذا البيان العميق للائمة - عليهم السلام - في شأن ارادة الانسان و قراره هو الحق الذي تهدينــا اليه الادلة و الحجج البالغة ، و أهداها وجدان الانسان نفسه و تجاربه الشخصية ، فان الجبرية و ان جادلوا عن رأيهم الا ان كل واحد واحد منهم يعلم علم يقين انه الذي يقرر ما يريد لا يكرهه أحد على ذلك ، و ان المفوضة ليعلمون بأن الامور ليست كلها بأيديهم .

[ و ما يذكرون الا ان يشاء الله هو أهل التقوى و أهل المغفرة ]اي انه - عز وجل - أهل ان يتقيه خلقه و يخافوه ، و أهل ان ترجى رحمته و مغفرته ، و هذه اللمسة القرانية الاخيرة تضع الانسان على الصراط السوي بين الخوف و الرجاء ، كما وضعته الآيات بين الجبر و التفويض ، على ان مغفرة الله تسبق غضبه .


(1) موسوعة بحار الانوار / ج 5 / ص 59 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس