الاطار العام
أيحسب الانسان ان يترك سدى ؟ أي شيء في كيانه يدل على العبثية و اللهو ؟ خلقه أطوارا ، أم فطرته القويمة ، أم نفسه اللوامة التي تبصره بنفسه رغم المعاذير التي يلقيها ، أم الحجج البالغة و أعظم بها كالقرآن الذي تكلفل الرب بجمعه و بيانه ؟
هكذا تترى آيات السورة تعمق في وعينا المسؤولية التي تتجلى في يوم القيامة حيث يسوي الله حتى البنان ، و حيث تترى فيه الفواقر و الدواهي .. و لا يجد الانسان مفرا و لا وزرا يلجا اليه .
هكذا نهتدي الى محور السورة المسؤولية ، و هدفها تعميق الشعور بها ، و الآية التي تتجلى بها قوله سبحانه : " بل الأنسان على نفسه بصيرة " .
و تفصيل هذه الحقيقة ان القرآن يذكرنا في مطلع السورة بحقيقتين : القيامة و النفس اللوامة ، و يربط بينهما على أساس انهما مظهر للمسؤولية ، فكما يستحث الايمان بالقيامة الانسان لتحملها فان النفس اللوامة هي الآخرى تقوم بذات الدورمن بعد آخر ، اذ تقف امام تراجعاته ، و تنهره عن التقصير في أداء الواجب ، و عن أقتحام الخطيئات ( الآيات 1 - 2 ) .
و يستنكر السياق زعم الانسان انه لن يبعث تارة اخرى بعد ان يصير اشلاء موزعة و رميما . هل يحسب ان قدرة الله محدودة مثله ؟ كلا .. قدرته تفوق تصور البشر .. فهو ليس قادرا على جمع عظامه و حسب ، و انما يقدر ان يسوي بنانه ايضا ، و الانسان حينما يراجع نفسه ويتفكر في آيات قدرة الله في الطبيعة فانه يعرف تلك الحقيقة ، و لكنه انما يخترع تلك الافكار تبريرا للهروب من عرصة المسؤولية ، و الايمان بالرسالة التي تحدد تصرفاته و لا تجعله مطلقا يتبع الهوى كما يريد .. و يؤكد القرآن مرة اخرى ان هذه هي الخلفية الحقيقيةلسؤاله عن القيامة ( الآيات 3 - 6 ) .
و يداوي ربنا هذا المرض المستعصي في النفس البشرية بالتأكيد للانسان انه و ان استطاع موقتا ( في الدنيا ) تبرير ضلاله و الفرار من المسؤولية تحت غطائه فانه لن يجد في المستقبل مفرا من ربه حينما تقوم القيامة " اذا برق البصر * و خسف القمر * و جمع الشمس و القمر * " و عبر قنطــرة الدنــيا الفانــية الـى دار الاستــقرار عنــد اللــه ، فهــنالك يجــد نفســه وجهــا الى وجــه مــع حقيــقة أمره حيث يجد ما عمل محضرا أمامــه ( الآيات 13 - 17 ) .
و يثير الوحي فينا حس النقد الذاتي ، عن طريق تذكيرنا بحقيقة وجدانية مسلمة ، الا و هي بصيرة الانسان على نفسه ، فانه قبل الآخرين شاهد عليها و عالم بواقعها ، مهما توسل بالاعذار و التبريرات الواهية ، و انما يؤكد القرآن هذه الحقيقة لان المراقبة الذاتية أعظم أثرا ، و ارسخ للتقوى في شخصية الفرد ( الآيات 14 - 15 ) .
ثم ينعطف السياق الى الحديث عن القرآن نفسه ، داعيا الرسول الى عدم التعجل به من قبل ان يقضى اليه وحيه ، مؤكدا تكفله تعالى بجمعه و قرآنه ثم بيانه للناس .. و هذا مما جعل المفسرين يتحيرون في فهم العلاقة بين سياق السورة و بين هذا المقطع ، الا ان هناك علاقة متينة سنتعرض لايضاحها في البينات ( الآيات 16 - 19 ) .
و تهدينا الآيات الى واحد من عوامل الانحراف و عدم تحمل المسؤولية عند الانسان ، و الذي لو استطاع التغلب عليه لاهتدى الى الحق ، و سقط الحجاب بينه و بين الاخرة ، الا و هو حب العاجلة ( الدنيا ) على حساب الآخرة ، و البحث عن النتائج الآنية و إنكار الجزاءالاجل ولو كان الافضل ، بل ولو كان مصيريا بالنسبة اليه ، فهو يعيش لحظته الراهنة دون التفكير في المستقبل ، و هي نظرة ضيقة خطيرة . و حين يفشل الانسان في الموازنة بين الحاضر و المستقبل ، و بين الدنيا و الاخرة فانه يخسرهما معا ( الآيات 20 - 21 ) .
و الحل الناجحع لهذه المعضلة عند البشر يتم بإعادة التوازن بينهما الى نفسه ، و لان العاجلة شهود يعايشه بوعيه و حواسه فان حاجته الملحة الى رفع الغيب الى مستوى الشهود عنده ، و لذلك يضعنا القرآن أمام مشاهــد حيــة من غيب الاخرة حيث الناس فريقان : فريق السعداء الذين تجلل وجوههم النضارة ، و يصلون الى غاية السعادة بالنظر الى ربهم عز وجل ، و فريق البؤساء الخاسرين أصحاب الوجوه الباسرة ، الذين ينتظرون بانفسهم العذاب و الذلة ( الآيات 22 - 25 ) .
و يمضي بنا السياق شوطا آخر يحدثنا فيه عن لحظات الموت الرهيبة حيث تبلغ النفس التراقي فيعالج الانسان سكرات الموت حيث يلف ساقا بساق ، و يقبض كفا و يبسط آخرى ، بلى . انه أول مشهد من الآخرة ، و النافذة على عالمها الواسع .
و كما ان تكذيب أحد بهذه الحقيقة لا يدفعها عنه و لا يغير من شأنها فان التكذيب بالآخرة هو الآخرة لا يغير قدر ذرة من أمرها ، لانها حقيقة واقعة و قائمة ( الآيات 26 - 29 ) .
و لان مشكلة الانسان ليس إنكار الموت ، و لا زعم القدرة على دفعه ، بل الشك فيما بعده او الكفر به ، أنعطف القرآن نحو أنقاذه من حيــرة الشـك في المستقبل و الجهل به ، و كانه يحل لغزا رجع صداه في أكثر النفوس البشرية ، ببيان ان مسيرته في الحياة لا تنتهي بالموت ، و انما الموت جسر الى عالم أبدي أوسع ، هو عالم لقاء الله و الحساب و الجزاء بين يديه ، و ذلك مما يعمق الشعور بالمسؤولية في النفس ( الآية 30 ) .
و غياب هذه الحقيقة من وعي الانسان هو المسؤول عن عدم تصديقه به و صلاته له ، و هو يدفعه الى التكذيب ، و ركوب مطية الغرور ، و ان من يكون على هذه الصفات اولى له الموت من الحياة ، و العذاب من الرحمة ( الآيات 31 - 35 ) .
و يرجعنا القرآن الى الجذر الاصيل لكفر الانسان بالبعث و الجزاء : انه جهله بقدرة ربه سبحانه ، فليتفكر في أصل خلقته حين كان " نطفة من مني يمنى * ثم كان عقلة " فخلقه الله و سواه ، متكاملا في ذاته ، و متكاملا مع الجنس الآخر بأن خلق " منهالزوجين الذكر و الانثى " فهذه آية واضحة للعقل على قدرة الله " على ان يحيي الموتى " ، لان أصل الخلق أعجب و ادل على قدرته تعالى من الاعادة ( الآيات 36 - 40 ) .
|