فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بل الانسان على نفسه بصيرة
بينات من الآيات

[ 1 - 2] حتى يتعمق الايمان عند الانسان و يتحمل مسؤولياته في الحياة لابد ان يستثار فيه حافزان : وعي الآخرة بما تعنيه من بعث و جزاء ، ثم نفسه اللوامة التي تثير في داخله النقد الذاتي بما يعني ردعه عن اقتحام الخطيئة ، فالمسؤولية اذا هي الجذر الاصيل الذي تلتقي فيه فكرة القيامة و حقيقة النفس اللوامة ، من هنا يذكرنا القرآن بهما جنبا الى جنب في سياق علاجه لموضوعها .

[ لا أقسم بيوم القيامة * و لا أقسم بالنفس اللوامة ]و ان لكلمة " القيامة " تعبيرا عن الآخرة هنا إيحاء نفسيا خاصا ، يذكر الانسان بالبعث في واحد من أعظم مشاهد تلك الحياة حيث القيام من وهدة القبر للسحاب و الجزاء و القيام أظهر تجليات الحياة اذ لا يقوم الشيء حتى يستوي تماما و يكتمل .


و لقد مضى الكلام عن كلمة " لا " في القسم ، و خلاصة القول : إنها تفيد معنى القسم ، و ان ما يليها من كلام في منزلة من الوضوح لا داعي معها الى القسم (1) او ان ما وراءها من حقيقة نقسم بها عظيمة نجلها عن القسم ، و هما معا يفيدان معنى التفخيم .
و لا حاجة للحديث هنا عن اختلاف المفسرين في تفسير هذه الصيغة القرآنية لكونه نقل في مواضع آخرى سبقت .

اما عن النفس اللوامة فهناك أقوال كثيرة ، فعن قتادة : ( انها النفس ) الفاجرة يقسم بها (2) ، و عن أبن عباس قال : المذمومة (3) ، و هما رأيان بعيدان جدا تخالفهما النصوص التي جرى استخدام الكلمة فيها على وجه الايجاب ، كما يخالفهما المعنى اللغوي للوامة ،و عن مجاهد : تندم على ما فات و تلوم عليه (4) ، و عن الحسن قال أن المؤمن لا تراه الا يلوم نفسه ، و أن الفاجر يمضي قدما لا يعاتب نفسه (5) .

و الذي اختاره و تدلل عليه النصوص ان في الانسان نفسين : أحدهما تختار الباطل و الفساد و هي الامارة ، و الثانية تدعو الى الحق و الصلاح و هي اللوامة ، و نعبر عنها في الادب الحديث بالضمير و الوجدان ، و هذه النفس تستيقظ داخل الانسان لتعاتبه على عدم العملبالحق ، و تنهره عن اقتحام الباطل . و انما عبر القرآن عنها بصيغة المبالغة ( فعالة ) لانها كثيرة الملامة لصاحبها و النصيحة اليه ، فاذا ما استجاب لها نمت و أخذت موقعها و دورها الايجابي في حياته ، و اذا أدمن الصد عن نداءاتها و مخالفتها تباطأت عن العمل فلا تعود تلومه على خطاياه كثيرا .


(1) راجع سورة الواقعة عند الايتين / 75 - 76 و ما يليها .

(2) الدر المنثور / ج 6 / ص 287 .

(3) المصدر .

(4) المصدر .

(5) المصدر .


و برامج الاسلام تهدف تنمية هذه النفس ، و تعتمد عليها في كثير من تشريعاته جنبا الى جنب أعتماده على العقل ، و هكذا يكون للانسان محكمتــان : محكمــة نفسه اللوامة ، و محكمة الاخرة ، قال الامام الصادق ( ع ) : " الا فحاسبوا أنفسكم قبل ان تحاسبوا ، فان في القيامة خمسين موقفا كل موقف مقام الف سنة " (1) ، و قال الامام السجاد ( ع ) : " أبن آدم ! لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك ، و ما كانت المحاسبة من همك " (2) .

و لان النفس اللوامة تقوم بدورها في حياة الانسان تجعل الرسالات الالهية و المواعظ الخارجية تلقى تجاوبا منه ، و الا فهي لا تؤثر شيئا اذا عطل العقل و مات الضمير ، قال الامام الصادق ( ع ) : " من لم يجعل له واعظا من نفسه فان مواعظ الناس لن تغني عنهشيئا " (3) .

[ 3 - 4 ] و كما ان القيامة يوم البعث و جمع العظام فان النفس اللوامة آية وجدانية على القيامة باعتبارها صورة مصغرة عن تلك المحكمة العظمى ، بل انها تصبح بلا مبرر لولا ان الانسان سيلاقي حسابه الاوفى في يوم من الايام . من هنا يكون كفر البشر بالاخرة مع وجود النفس اللوامة فيه موضع استنكار ، و دليل ضلال فيه مبين ، ما توحي به الآية :

[ أيحسب الانسان ألن نجمع عظامه ]

و المتتبع لموارد استخدام كلمة ( حسب ) على صيغها المختلفة في القرآن يجد انها تعني الظن و الزعم الذي لا أساس له ، و ذلك يعني ان تشكيك الانسان بالآخرة لا(1) موسوعة بحار الانوار / ج 70 / ص 64 .

(2) المصدر .

(3) المصدر / ص 70 .


مبرر له ابدا ، و انما يعتمد على التمنيات الواهية ، و الخيال البعيد ، كما توحي الآية بأن مشكلة الانسان ليست في عدم إيمانه بخطئه ، اذ انه ان لم يعترف به للناس فإنه لا يستطيع الفرار منه امام محكمة الضمير ، و لكن مشكلته كفره بالحقيقة الثانية الا و هي القيامة ، التي تعني البعث و الحساب و الجزاء ، و ذلك انه لا يستطيع استيعاب حقيقة العودة الى الحياة بعد ان يموت و يصير اشلاء موزعة و عظاما بالية تستحيل ذرات تراب مع الأيام .

و جذر هذا التصور نجده حينما نبحث عنه في جهل الانسان بقدرة ربه التي لا تحد ، و تقييم شؤون الخلائق بما فيها البعث و النشور من خلال قياساته الذاتية و قدراته المحدودة ، دون ان يعرف ان للكائنات العظيمة التي خلقها الله من جبال و وهاد و اراضي و بحار و سماوات و مجرات .. ان لها مقاييس اخرى لا تقاس بذاته .

و لهذا فانه حيث يجد نفسه عاجزة عن جمع عظام الموتى يحسب الامر مستحيلا اما لو عرف ربه لتغير تصوره و موقفه ، و أمن بالآخرة مصدقا قول ربه :

[ بلى قادرين على ان نسوى بنانه ]

عن سعيد بن جبير قال : سألت أبن عباس عن الآية فقال : لو شاء لجعله خفا او حافرا .. و لكن جعله الله خلقا سويا حسنا جميلا (1) ، و عنه قال : نجعلها كفا ليس فيه أصابع (2) ، و الاقرب منه ان تكون التسوية هنا بمعنى الخلق الكامل ، بإعادة البنان على خلقها و كمالها الاول بعد الموت و التحلل في التراب ، و هذا رد على شك الانسان في قدرة الله على جمع الأعظم المتفرقة الرميمة ، اي انه تعالى ليس قادرا على جمعها و حسب ، بل هو قادر على كسوها لحما و إعادة الحياة اليها . و اذا(1) الدر المنثور / ج 6 / ص 287 .

(2) المصدر .


كانت اليدان من خصائص الحضارة البشرية فان الاصابع هي ميزة اليد عند الانسان بما فيها من دقة و قوة و إناقة ، و خصوصا البنان الذي يقوم بدور عظيم في حياة الانسان .

و قد اعتبر البعض هذه الآية سبقا في بيان حقيقة علمية يستفاد منها كثيرا في القانون الجنائي ، و هي : اختلاف خطوط أطراف الاصابع من انسان الى آخر ، و التي أصبحت بذاتها علما مستقلا يسمى بعلم البصمات ، ترتكز عليه الدوائر الامنية في مكافحة الجريمة و معرفةالمجرمين .

و تعبير الله في الآية الثالثة " نجمع عظامه " يهدينا الى ان الانسان مهما تحلل في التراب الا انه لا يتحول الى العدم ، بل يبقى اجزاء و ذرات صغيرة متفرقة هنا و هناك ، و الخلق الثاني بالبعث يبدأ بجمعها الى بعضها عبر قوانين دقيقة و ارادة إلهيةتجعل ذرات كل فرد و عضو و جزئياته تجتمع و تلتحم مع بعضها ، و الله العالم .

[ 5 - 6 ] اما سبب كفر الانسان بالآخرة فهو انه لا يريد الالتزام بالشرائع و الحدود ، بل يريد ان يطلق العنان لاهوائه و شهواته ومن ثم لا يتحمل مسؤوليــة فــي الحياة .

[ بل يريد الانسان ليفجر أمامه ]

قال الامام الصادق ( ع ) : " أي يكذبه " (1) ، و على هذا أجمع جل المفسرين قال العلامة الطبرسي : فالفجور هو التكذيب (2) . و قال الفخر الرازي : اي يكذب بما أمامه من البعث و الحساب ، لان من كذب حقا كان فاجرا (3) . و الذي يبدو لي(1) البرهان / ج 4 / ص 406 .

(2) مجمع البيان / ج 10 / ص 395 .

(3) التفسير الكبير / ج 30 / ص 318 .


ان الكلمة بمعناها الاصلي وهو الشق و التحطيم ، و انما سمي الفجر فجرا لانه يشق الظلام و يحطمه ، و الفجور في الاخلاق و السلوك مثل ذلك ، حيث ان الفاجر لا يلتزم بقيمة و لا قانون ، بل يشق عصا المجتمع و الشرع باقتحام اللذات و الخطايا ، و لا يريد أمامه شيئايعيقه ابدا ، و هذا التفسير لا يعارض حديث الامام و لا أقوال المفسرين لان التكذيب مقدمة و مصداق للفجور . و لم اجد من المفسرين من قال ذلك ، الا اشارة عند الرازي اذ قال : من أنكــر المــعاد بنــاء علــى الشهوة فهو الذي حكاه الله تعالى بقوله " الآية " ، و معناه : ان الانسان الذي يميل طبعه الى الاسترسال في الشهوات ، و الاستكثار من اللذات ، لا يكاد يقر بالحشر و النشر ، و بعث الاموات ، لئلا تنغص عليه اللذات الجسمانية ، فيكون أبدا منكرا لذلك (1) .

و الضمير في " أمامه " إما ان يعود الى يوم القيامة ، او الى الله عز وجل ، حيث ان الفاجر يمارس فجوره في حضور و شهادة الله ، او يكون عائدا على الانسان نفسه باعتباره يفجر أمام ضمير و بشهادة من جوارحه التي تدلي بشهادتها عليه عند الحساب . و الاصح ان الضمير يرجع الى الانسان ، لان الحديث حوله و سائر الضمائر ترجع اليه ، و لعل هذا جعل ذلك مستساغا بينما يقال عادة : امام نفسه .

[ يسئل أيان يوم القيامة ]

لان الكفر بالقيامة هو الذي يبرر له التحلل من المسؤولية ، فهو في سعي حثيث و جدل دائم من أجل إنكارها ، و صناعة قناعة ولو داهية لنفسه و للاخرين بذلك ، فسؤاله ليس سؤال استهزاء و سخرية فقط ، بل هو سؤال تبرير و جدل ايضا . و انها لصفة كل من يترك العمل بالحق و يخالف القيم ، اذ لا بد من تبرير لموقفه ، فكيف اذا كان فجورا ؟


(1) المصدر / ص 319 .


و لصيغة السؤال هذه استبعاد و تسويف بالتوبة ، قال الزجاج : و يجوز انه يريد ان يسوف التوبة ، و يقدم الأعمال السيئة (1) ، و قيل معناه : انه يتعجل المعصية ثم يسوف التوبة ، و يقول : أعمل ثم أتوب (2) .

[ 7 - 13] و يبقى المكذب بالاخرة مسترسلا مع أهوائه و شهواته ، في فجور بعد فجور ، لانه لا يسحب حسابا للقاء ربه ، و وقائع القيامة التي تطبع آثارها المذهلة و الرهيبة عليه و على الطبيعة من حوله ، فهنالك لا يجد مفرا من حكومة الله و جزائه ، لان الوضع يختلف في الاخرة عن الدنيا ، حيث تنتهي فرصة الامتحان و الحرية .

[ فاذا برق البصر ]

قال في التبيان : يقال برق البرق اذا لمع ، و اما برق بالكسر فمعناه تحير ، و قال الزجاج : برق اذا فزع ، و برق اذا حار (3) ، و في المجمع قال أبو عبيدة : برق البصر : اذا شق و أنشد (4) ، و قال العلامــة الطبــرسي : اي شخص البصر عند معاينة ملك الموت ، فلا يطرف من شدة الفزع ، و قيل : اذا فزع و تحير من شدة أهوال القيامة (5) ، و قال الرازي بعد ان نقل رأي الزجاج : و الاصل فيه ان يكثر الانسان من النظر الى لمعان البرق ، فيؤثر ذلك في ناظره ، ثم يستعمل ذلك في كل حيرة ، و ان لم يكن هناك نظر الى البرق (6) . وما اختاره ان بروق البصر يحمل معنى الحيرة و الدهشة لحالة الذهول و الخوف التي تصيب الانسان لسبب من الاسباب . و انه يحدث بعض الاحيان نتيجة الارهاق او الصدمات الروحية و المادية ان يرى الواحد(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 395 .

(2) المصدر .

(3) التبيان / ج 10 / ص 192 .

(4) مجمع البيان / ج 10 / ص 394 .

(5) المصدر / ص 395 .

(6) المنجد / مادة برق .


أمام ناظريه ما يشبه النجوم الصغيرة ، و لعل هذه الظاهرة لون من بروق البصر . و في المنجد : برق برقا تحير و دهش فلم يبصر ، البرقة : الدهشة و الخوف (1) . و بصر الانسان يبرق يوم القيامة .. و مع انه يبرق عند الموت الا ان حمل المعنى على القيامة أقرب الى السياق فالحديث عنها ، و المشاهد التالية متصلة بها لا بالموت .

[ و خسف القمر ]

قال الزمخشري : ذهب ضوؤه ، او ذهب نفسه (2) ، و جاء الفعل معلوما بينما يقال عادة خسف ببناء الفعل للمجهول ، و لعله للدلالة على انه في الحالات الطبيعية يحجب نوره بعوامل خارجية كوقوع الارض بينه و بين الشمس في حركتها السنوية ، مما يتسبب في حجب شعاعها عنهو وقوع ظل الارض عليه . اما في الآخرة فان القمر نفسه يخسف و لا يخسف بشيء خارجي ، فهو فاعل الخسف و ليس غيره .

و مشهد مريع آخر يلفت القرآن نظرنا اليه ، و هو اختلال النظام الكوني في الحياة ، و من مظاهره جمع الشمس و القمر ، و هذه النتيجة حتمية و طبيعية في ذلك اليوم ، فالكون و النظام انما أوجدهما الله للانسان ، و حيث ينــتهي دوره في الدنيا يــنتهي معه كل متعلقبه .

[ و جمع الشمس و القمر ]

و علماء الفلك يدركون الآثار التي يخلفها مثل هذا الأمر على الكائنات ، و ما هو أعظم و أرهب بالنسبة للانسان من هذه الاحداث الكونية تلك الحقائق التي يمثلها يوم القيامة و يكشف عنها ، و أهمها حقيقة الجزاء و المسؤولية ، التي طالما كذب بها(1) المنجد / مادة برق .

(2) الكشاف / ج 4 / ص 660 .


و سعى للفرار منها بشتى الحيل و الذرائع ، فهناك يجد نفسه وجها لوجه أمامها ولا سبيل له للهرب منها .

[ يقول الانسان يومئذ أين المفر ]

و انما يكشف القرآن لإانسان مشاهد الآخرة حتى يزرع التقوى في نفسه فيضع بذلك حدا لفجوره و غروره ، و لان المعرفة بالمستقبل و الإيمان بحقائقه يخلف توازنا في مسيرته الدنيوية الحاضرة ، فهو إنما يفجر زعما منه بإن سيجد مهربا من المسؤولية .

[ كلا لا وزر ]

أي ملجا و مأوى . قال المبرد و الزجاج : أصل الوزر الجبل المنيع ، ثم يقال لكل ما التجأت اليه و تحصنت به وزر (1) ، و منه الوزير الذي يلجأ اليه في الأمور (2) ، يقال وزرت الحائط ، اذا قويت بأساس يعتمد عليه ، و قال الحسن : لا جبل ، لان العرب اذا دهمتهم الخيل بغتة قالوا : الوزر ، يعنون الجبل (3) .

و في الاخرة لا يجد أحد مفرا و لا ملجا من جزائه ، و عذاب ربه ، بلى . هناك مفر واحد فقط ينفع الانسان ، وهو ان يفر الى ربه الذي منه العذاب ، و اليه المصير ، و لا يكون ذلك فجأة ، انما يحتاج الأمر الى تمهيد في الدنيا قبل الآخرة .

[ الى ربك يومئذ المستقر ]

قال صاحب المجمع : اي ينتهي الخلق يومئذ الى حكمه و أمــره ، و قيــل " المستقر " :


(1) التفسير الكبير / ج 30 / ص 221 .

(2) مجمع البيان ج 10 ص 395 .

(3) التبيان / ج 10 / ص 194 .


المكان الذي يستقر فيه المؤمن و الكافر ، و ذلك الى الله لا العباد (1) . و الاصح إطلاق الكلمــة كــي تتسع الى كل المعاني الموحية بها هذه العبارة ، كالقرار ، و المصير ، و المقر ، و الحكم ، و الأمر .. الخ ، و في ذلك تنبية للانسان على ان الدنيا ليست محلا للخلود و الاستقرار ، و لا محطة أخيرة ، فيجب ان يكيف نفسه مع هذه الحقيقة الهامة ، و ليس معنى الآية ان المستقر دون ذلك اليوم ليس لله " فلله الآخرة و الاولى " (2) ، و لكن حكمته اقتضت ان تكون لنا الحرية في الدنيا ، و يومئذ يكشف لنا الغطاء بصورةأوضح و أجلى عن هيمنته و سلطانه المطلقين ، و نكتشف فيما نكتشف علمه و إحاطته التامين حينما يعرضنا للحساب و الجزاء فنجد انه أحصى كل صغيرة و كبيرة لنا و علينا .

[ ينبؤا الانسان يومئذ بما قدم و أخر ]

في التبيان و مثله المجمع : اي يخبر الانسان يوم القيامة بأول عمله و آخره فيجازي به ، و قيل : بما قدم من العمل في حياته ، و ما سنه فعمل به بعد موته من خير او شر ، و قيل : بما قدم من المعاصي ( على الطاعات ) و آخر من الطاعات (3) ( على المعاصي ) . قال الامام الباقر ( ع ) : " بما قدم من خير و شر ، و ما أخر مما سن من سنة ، ليستن بها من بعده ، فان كان شرا كان عليه مثل وزرهم ، و لا ينقص من وزرهم شيء ، و ان كان خيرا كان له مثل أجورهم ، و لا ينقص من أجورهم شيء " (4) .

و حضور مشهد الحساب الاخروي في وعي الانسان في الدنيا له دور كبير في(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 395 .

(2) النجم / 25 .

(3) مجمع البيان / ج 10 / ص 395 .

(4) تفسير القمي / ج 2 / ص 397 .


بعثه على التقوى و الطاعة ، و ممارسة النقد الذاتي البناء . و ان الله قادر ان يجازي الناس مباشرة بعد بعثهم و لا أحد يسأله عما يفعل ، و لكنه يأبى الا ان يجلي علمه و عدالته لخلقه .

[ 14 - 15] و السياق مهد السبيل للحديث عن البصيرة الأساسية التي تعتبر محورا هاما في السورة ، و هي وعي الانسان بمسؤوليته عبر استثارة نفسه اللوامة ، التي تجعله عليهــا شـاهدا و رقيبا مما يصلح مسيرته و يوجهه الى تحمل المسؤولية بتمام المعنى ، فلا يمارسالخطيئة لانها تحتاج الى التبريرات و الاعذار ، و هي لا تنفع شيئا عند الله ولا عند محكمة نفسه .

[ بلى الانسان على نفسه بصيرة * ولو القى معاذيره ]و هنا نهتدي الى عده بصائر :

1 / يهدف الاسلام عبر منهجه التربوي تنمية وازع الضمير عند الانسان كضمانة أساسية لا لتزامه بالشرائع . من هنا القرآن يذكره بالحقائق الوجدانية المرة بعد الآخرة .

2 / كما ان الانسان لا يجد مفر من حكومة الله يوم القيامة و لا تنفعه الاعذار ، فانه حين يراجع ذاته ( ضميره و عقله ) يواجه نفس الموقف ، حيث يعلم بأن الأعذار التي يقدمها لا واقع لها ، فهي قد تخدع غيره و لكن لن تخدع وجدانه .

3 / ان الأعذار التي يلقيها الانسان أكثرها كاذبة ، يلجأ اليها لتبرير أخطائه و سلوكياته المنحرفة ، و هي لا تغير من الواقع شيئا لا عند الله و لا عنده . و ورود الكلمة بالجمع " معاذيره " فيه دلالة على انه يتقن فن صناعة التبرير ، و أنه حينما يريد تبرير موقف او عمل ما متصل به لا يكتفي بعذر واحد بل يختلق أعذارا كثيرة .


و هذه البصائر تنسف الثقافة التبريرية التي هي أهم اسباب التخلف و الإجرام ، ذلك لان الانسان الذي خلق في أحسن تقويم ، و أنشات نفسه على فطرة الاستقامة ، ثم زود بالنفس اللوامة التي تراقب إنحرافه بمقياس دقيق ، انه لا يقفز - مرة واحدة - من قمة الحق الى حضيض الباطل ، إنما يهبط اليه عبر سلم التبرير و تقديم الاعذار ، فاذا بنفسه الأمارة بالسوء تسول له الخطيئة ، تقول له مثلا : أنى لك النقاء الكامل ، أنت طيب أكثر من اللازم ، و لا يمكنك أن تعيش من دون ظلم أحد ، كل الناس يظلمون بعضهم .. و هكذا يقدم الأعذارلانحرافه حتى يبتعد كليا عن طريق الحق و يتسافل الى الحضيض .

و اذا عرف الانسان الدور السلبي للأعذار و انها غطاء رقيق لارتكاب الجرائم الخطيرة و انها لا تعني شيئا ، فان ذلك يساهم في استقامته على الحق .

قال الامام الصادق ( ع ) : " ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا و يسر سيئا ، اليس اذا رجع الى نفسه يعلم انه ليس كذلك ؟ و الله سبحانه يقول : " الآية " ان السريرة اذا صلحت قويت العلانية (1) ، و قال ( ع ) : " ما يصنع الانسان يعتذر الى الناسخلاف ما يعلم الله منه ، ان رسول الله ( ص ) كان يقول من أسر سريرة رداه الله رداءها ، ان خيرا فخير ، و ان شر فشر " (2) . و أختلف في تاء " بصيرة " فقيل انها للتأنيث و تعود على الجوارح ، فكأن الآية تقول : ان جوارح الانسان على نفسه بصيرة ،و قيل : هي للمبالغة فإن العرب تقول : فلانة علامة ، و فلان علامة . و الذي يبدو لي اضافة الى ذلك انها راجعة الى النفس ، فنفس الانسان عليه بصيرة ، و لم اجد من المفسرين من قال ذلك .

و قد اعتمد الفقه الاسلامي هذه البصيرة القرآنية في تحديد بعض التشريعات(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 396 .

(2) المصدر .


و التكاليف ، بإيكال تشخيص موضوعها و حكمها الى الانسان نفسه من دون حاجة الى مراجعة الفقيه او المختص ، قال زرارة : سألت أبا عبد الله ( الامام الصادق ( ع ) ) : ما حد المرض الذي يفــطر صاحبه ؟ قال : " بل الانسان على نفس بصيرة ، هو أعلم بما يطيق " (1) ، و في رواية اخرى : " هو اعلم بنفسه ، ذاك اليه " (2) ، و قد ذهب بعض الفقهاء في فهمه لهذه الى حد القول : بأن كلام المختص ليس حجة ملزمة دائما ، فلو أمره بالصيام على أساس ان المرض لا يضره و لكنه ارتأى الضرر فله الحق في مخالفته ، و العكسكذلك صحيح .

[ 16 - 19 ] لكي تتبلور نظرة الانسان الى نفسه ، و تتميز في وعيه حوافز الخير و الصلاح عن شهوات الشر و الفساد ، لا بد ان يعي الآخرة و أهوالها ، و ينتبه الى نفسه اللوامة ، و يستضيء بالقرآن الذي هو حجة ظاهرة فيما العقل حجة باطنة ، و هما يلتقيان في الحقو في إعطاء الانسان مقياسا سليما فيه . من هنا ينعطف السياق الى الحديث عن تبليغ الرسالة داعيا النبي ( ص ) الى عدم الاستعجال بالقرآن .

و قد تحير المفسرون في العلاقة بين الآيات ( 16 - 19 ) و بين السياق العام للسورة ، حتى قاد الجهل بعضهم الى آراء بعيدة كل البعد عن حقيقة الرسالة ، فزعم بان القرآن تعرض الى التغيير عن مواضعه ، اذ لا ينبغي ان ترد الآيات المذكورة في مثل سورة القيامة ، وقال آخرون بأن الحديث هنا ليس عن القرآن و انما هو عن كتاب الانسان الذي يلقاه يوم القيامة منشورا ، فقال القفال : و ان قوله : " الاية 16 " ليس خطاب مع الرسول ( ص ) بل هو خطاب مع الانسان المذكور في قوله : " ينبأ الانسان يومئذ بما قدم و أخر" فكان ذلك للانسان حالما ينبأ بقبائح أفعاله ، و ذلك بأن يعرض عليه كتابه ، فيقال له : " أقرا كتابك كفى بنفسك اليوم(1) المصدر .

(2) المصدر .


عليك حســيبا " فاذا أخــذ في القرآن تلجلج لسانه من شدة الخوف ، و سرعة القراءة فيقال له : " لا تحرك به لسانك " فإنه يجب علينا بحكم الوعد و بحكم الحكمة ان نجمع أعمالك عليك ، و نقرأها عليك ، فاذا قرأناه عليك " فاتبع قرآنه " بالاقرار بانك فعلت تلك الافعال (1) . و مثل ذلك قال العلامة البلخي و نص كلامه : و إنما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة ، يدل على ذلك ما قبله و ما بعده ، و ليس منه شيء يدل على انه القرآن ، و لا شيء من أحكام الدنيا (2) .

و الذي يبدو لي في الصلة بين الآيات ما سبق من ان القرآن - الى جانب يوم القيامة و النفس اللوامة - حجة على الانسان و محكمة لعمله ، يكشف للانسان الحق عندما يرجع الى آياته ، و يعرض نفسه عليها ، و ينبغي للرسول ان لا يستعجل به بهدف إكمال الحجة على الناس ،بل يجب ان يتبع ما يقضى اليه بشأنه ، فان ذلك يكفي لهداية من يريد الهداية و يبحث عنها ، اما الذين لا يريدون تحمل المسؤولية ، و يسعون دائما لالقاء الاعذار و التبريرات ( فلا يخافون يوم القيامة ، و لا يسمعون ملامة أنفسهم ) فان الاستعجال بالقرآن و عرضه كله عليهم مرة واحدة لا يغير في حياتهم شيئا أبدا ، و السبب ان مشكلتهم ليست قلة الآيات ، بل كونهم لا يريدون الايمان و تحمل المسؤولية ، فلماذا العجلة اذا ؟

كما ان علاج الانسان المشتمل على كثير من الصفات السلبية ، كالجدل ، و حب الراحة ، و التبرير ، و ارادة الفجور ، و من ثم التكذيب بالقيامة و بما تعنيه من مسؤولية في الدنيا ، و بعث و حساب و جزاء في الاخرة ، ان علاجه من كل هذه الادواء لا يتم مرة واحدة ، بل لا بد من منهجية تربوية مخططة و متدرجة ، تنتشله من حضيض الباطل الى قمة الحق لتسمو به في آفاق الكمال و الهدى . و هذا يقتضي(1) التفسير الكبير / ج 30 / ص 222 .

(2) مجمع البيان / ج 10 / ص 397 .


التدرج في طرح الاسلام عليه .

[ لا تحرك به لسانك لتعجل به ]

قال أبن عباس : كان النبي ( ص ) اذا نزل عليه القرآن عجل بتحريك لسانه لحبه إياه ، و حرصه على أخذه و ضبطه مخافة ان ينساه ، فنهاه الله عن ذلك ( 1) ، و في الدر المنثور عن مجاهــد قال : كان الرسول ( ص ) يستذكر القرآن مخافة النسيان ، فقيل له : كفيناك يا محمد (2) ، و على هذا الرأي مؤاخذات عدة :

أولها : أن نهي الرسول ( ص ) عن فعل شيء ما لا يعني إتيانه له منذ قبل ، فليس صحيحا انه كان يخشى النسيان وهو على يقين بان الله يلهمه القرآن و يثبته في قلبه ، و قد نهى الله نبينا الاكرم ( ص ) عن أمور كثيرة من قبيل إطاعة الكفار و المنافقين فهل نفهم من ذلك انه خضع لهم ؟ حاشا لحبيب الله . و من ذلك قوله تعالى : " يا ايها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين و المنافقين ان الله كان عليما حكيما " (3) .

ثانيها : انه تعالــى بين لنبيه ( ص ) بانه لا ينسى فقال : " سنقرؤك فلا تنسى " (4) ، و الزعم بان رسول الله ( ص ) كان قد خشي النسيان يعني ( و العياذ بالله ) انه شك في وعد الله و كلامه هذا له .

ثالثها : ان القرآن يشير بوضوح الى باعث النبي على التفكير في الاستعجال بالقرآن ، و هو خشيته من ان تحول الظروف دون ان يجمع القرآن و يقرا على الناس و تبين معانيه لهم . او كان شديد الأهتمام بهداية الناس بالقرآن حتى كاد(1) المصدر .

(2) الدر المنثور / ج 6 / ص 289 .

(3) الاحزاب / 1 .

(4) الاعلى / 6 .


يهلك نفسه ، حتى قال ربنا سبحانه : " فلعلك باخع نفسك على آثارهم ان لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " (1) .

و يبدو ان الذين اخطؤوا في فهم الآية قادهم الى ذلك التصوير الفني في تعبير القرآن : " لا تحرك به لسانك " ، و الذي هو أسلوب شائع في آياته الكريمة .

[ ان علينا جمعه و قرآنه ]

اي جمع آياته فلا يضيع شيء منها ، و الكلمة تتسع الى معنى التاليف و النظم مما يهدينا الى انه تعالى حفظ القرآن عن التحريف بزيادة او نقيصة ، و تكفل هو بتأليف آياته سورا سورا ، فليس ترتيبه على هذه الطريقة التي بين أيدينا من فعل المسلمين ، بل من فعل رسول الله ( ص ) بأمر الله عز وجل ، الذي تكفل اضافة الى ذلك بقراءته للناس بالكيفية الصحيحة التي يريدها هو ان يقرأ بها كتابه . ولعل في ذلك اشارة الى بطلان فكرة القراءات السبع ، و انها من عند القراء أنفسهم ما أنزل الله بها من سلطان . بلى هناك قراءة صحيحة علمها الله لنبيه فعلمها بدوره المسلمين .

و قول الله تعالى : " ان علينا " لا يعني انه بذاته يجمعه و يقرأه ، كلا .. بل انه سبحانه قد هيأ الاشخاص الذين يقومون بهذا الدور و الظروف التي تساعد على تحقق هذه الغاية ، فلم يتوف نبيه حتى بلغ كامل رسالته و قرأها للناس ، بل و كتبت بأمره مبينا ترتيب السور و الآيات .

و تجدر الاشارة هنا الى ان الامام علي ( ع ) كان أول من كتب كامل القرآن و جمعه في حياة الرسول ( ص ) و بعده ، و هذا من أهم الادوار الحضارية التي قام بها(1) الكهف / 6 .


- عليه السلام - ، لان اندثار القيم الحضارية لاي أمة يعني نهاية الامة ، فقد تنحرف مسيرتها و مسيرة قيادتها لفترة من الزمن فتبقى القيم ضمانة العودة ، اما لو خرقت القيم نفسها فلا ضمانة لعودتها .. و هذا ما يجعل تعهد الله بجمع القرآن و بقرآنه و بيانه ضرورةحكيمة تقتضيها حكمته البالغة باعتبار الاسلام دين الانسان الى يوم القيامة ، لا يجوز له ان يبتغي غيره ، فكيف يسمح ربنا اللطيف ان تضيع على البشرية فرصة الهداية بتحريف القرآن ؟

[ فاذا قرأناه فاتبع قرآنه ]

قال في المجمع : اي قرأه جبرئيل عليك بأمرنا " فاتبع قرآنه " اي قراءته ، و المعنى : أقرأه اذا فرغ جبرئيل عن قراءته ، و قيل : اي فاعمل بما فيه من الاحكام و الحلال و الحرام (1) ، و في النصوص ان القرآن أنزل جملة واحدة على الرسول في ليلة القدرفي شهر رمضان ، فكان يأمره الله حسب حكمته بقراءته على الناس في المناسبات المختلفة . و كانت الحكمة الالهية تفرض على الرسول التحرك في المجتمع على ضوء ما يقضي اليه من الآيات و بقدره ، ليبني المجتمع الاسلامي النقي ، و من ثم الامة الاسلامية الحنيفة على ضوءآيات الوحي ، و يتم - بالتالي - تثبيت فؤاد النبي و سائر المؤمنين عبر القرآن ، و هكذا لم ينزل القرآن لمجرد قراءته و حفظه ، بل حتى يطبقه الناس و يتبعوا هداه في الحياة .

و هذا يهدينــا الى ان الله يوفــق الانسان لفهم آيات الذكر بما يتم عليه حجته البالغة ، فإن آمن و اتبع هداه نور قلبه بالمزيد من المعرفة ، و ان كفر جعل قلبه قاسيا ، و طبع عليه بكفره .

و لعل في ذلك بصيرة يحتاجها كل داعية رسالي الا و هي ضرورة تحدي انفعالاته(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 397 .


وردود فعله ، بل يجب ان يتبع خططه الحكيمة ، و ينتظر بكل خطوة و موقف الاذن و الاوان المناسب .

قال الامام الصادق - عليه السلام - : " يا مفضل ! ان القرآن نزل في ثلاث و عشرين سنة ، و الله يقول : " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " ، و قال : " انا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين " ، و قال : " لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك " ، قال المفضل : يا مولاي ! فهذا تنزيله الذي ذكره الله ، و كيف ظهر الوحي في ثلاث و عشرين سنة ؟ قال : نعم يا مفضل ! اعطاه القرآن في شهر رمضان ، و كان لا يبلغه الا في وقت استحقاق الخطاب ، و لا يؤديه الا في وقت أمراو نهي " (1) .

[ ثم ان علينا بيانه ]

ايضاح معانيه ، و بيان حقائقه و تأويلاته ، حتى لا تبقى للانسان حجة على الله ، و لكي تكون لله الحجة البالغة عليه في الدنيا و الاخرة . اما كيف يبين ربنا قرآنه الكريم لكافة الناس فلعل من أسبابه : انه يقيض الدعاة اليه ، و الادلاء عليه ، و أهل البصائر النافذة لتفسيره و بيانه ، ثم ان لله حجتين على الانسان واحدة باطنة هي عقله ، و اخرى ظاهرة هي رسالة الله و رسله ، و هما يلتقيان في وجدان كل إنسان سوي ، فما يأمر به القرآن من قيم الصدق و العدل و الاحسان يأمر به العقل ايضا ، و هذا من سبل بيان القرآن لانه يتطابق و وجدان الانسان و فطرته و عقله و العرف العام عند العقلاء .

وهناك سبب آخر لبيان القرآن : انه يفسر بعضه بعضا ، فلا تكاد كلمة تذكر(1) تفسير البصائر / ج 50 / ص 569 .


في سياق الا و يفسرها ذات السياق قبله و بعده ، ببيان مصاديقها و امثلتها التاريخية و شواهدها الواقعية ، فلا يدع الناس في حيرة من أمرها ، و أبرز مثل لذلك سورة الاخلاص حيث تأتي كل كلمة فيها تفسيرا لما سبقتها ، فتفسير " قل " يأتي بما بعده من قوله: " هو الله " ، و تأويل " هو " : " الله " ، و تفسير الصمد هو انه لم يلد و لم يولد ، كما ان مجملات القرآن في سورة تفسرها مفصلاتها في سور آخرى ، و هكذا جعل الله القرآن ميسرا للذكر بسبل شتى .

[ 20 - 25] و لكن هل يقتنع الانسان بذلك البيان يلزم نفسه بالحجج ؟

[ كلا ]

لانه يريد ان يفجر أمامه ، و من ثم لا يتبع عقله باعتباره يحدد سلوكه و أفعاله ، و انما يتبع هواه ، و تابع الهوى لا يعرف حدا و لا قيمة . و عنوان اتباع الهوى هو حب الدنيا الذي يترتب عليه ترك الآخرة .

[ بل تحبون العاجلة * و تذرون الاخرة ]

و هذا هو جذر كل خطيئة عند الانسان ، كما بين رسول الله ( ص ) في حديثه المشــهور : " حــب الدنــيا رأس كل خطيئــة " . و قــد قــال الله : " العاجلة " و لم يقل : ( الدنيا ) لانه يريد الحديث عن صفة عند البشر هي التي تدعوه للهث وراءحطام الدنيا و ترك الاخرة ، و هي كونه يحب كل مقدم معجل ، و يقدمه على كل مؤخر مؤجل ، دون النظر الى المصلحة العامة و الأساسية في أيهما تكون ، فقد يختار دينارا معجلا على الف مؤجلة ، مع انه قد لا يجد دليلا ينفي ما في المستقبل .

و علاج هذه المعــضلة البــشرية يتــم بإيجاد التوازن في وعيه بين الحاضر و المستقبل ، و ينتهج القرآن من أجل ذلك نهج التذكرة و التصوير لمشاهد الآخرة مما يزيدهاحضورا في وعيه ، و هذا ما نقراه في الآيات التالية .

[ وجوه يومئذ ناضرة ]

و الكلمة تتسع لجميع معاني الحسن و الجمال و البشر التي تعبر عن نفس مطمئنة راضية تفيض سرورا و أملا برحمة الله . قال في المنجد : نضر الوجه نعم و حسن و كان جميلا ، فهو ناضر و نضر و نضير ، و النضر جمع نضار ، و أنضر : الذهب و الفضة ، يقال : " تعرف في وجوههم نضرة النعيم " اي بريقه و رونقه (1) . و وجوه المؤمنين يوم القيامة ناضرة فرحا و سرورا بلقاء ربهم ، و رضوانه ، و جزائه الحسن ، و غاية ذلك نظرهم الى ربهم حيث يعرفون من أسماء ربهــم الحسنــى ، و يرون من آيات بهائه و جلاله ، و ينتظرون من الآئه و نعمائه ما يجعلهم في بحبوحة الرجاء ، و عنفوان الرضا ، و مهرجان الحب و القرب ، و شلال لا ينقطع من نور الله البهي .

[ الى ربها ناظرة ]

قال العلامة الطبرسي : اختلف فيه على وجهين :

الاول : ان معناه نظر العين ، و اختلف من حمله على نظر العين على قولين :

أحدهما : ان المراد الى ثواب ربها " ناظرة " اي هي ناظرة الى نعيم الجنة حالا بعد حال فيزداد بذلك سرورها .

الآخر : ان النظر بمعنى الرؤية ، و المعنى تنظر الى الله معاينة ، رووا ذلك عن الكلبــي و مقاتــل و عطـاء و غيرهم ، و عموم رأي أهل السنة ، ( ورد على هذا الراي فقال : ) و هذا لا يجوز ، لان كل منظور اليه بالعين مشار اليه بالحدقة و اللحاظ ،(1) المنجد / مادة نضر .


و الله يتعالى عن ان يشار اليه بالعين ، كما يجل سبحانه عن ان يشار اليه بالاصابع .

الثاني : انه الانتظار ، و اختلف من حمله على هذا المحمل على أقوال :

الف : ان المعنى منتظرة الى ثواب ربها ، و روي ذلك عن مجاهد و الحسن و سعيد بن جبير و الضحاك و هو المروي عن علي ( ع ) ، و ساق ما قاله شيخ الطائفة من الرد على من اعترض على إمكان تعدي النظر بالى .

باء : ان معناه مؤملة لتجديد الكرامة ، كما يقال : عيني ممدودة الى الله تعالى ، و الى فلان ، و انا شاخص الطرف الى فلان .

جيم : المعنى انهم قطعوا آمالهم و أطماعهم عن كل شيء سوى الله تعالى (1) .

وما يبدو لي ان النظر هنا بكلا المعنيين المجازي و الحقيقي ، فاما المجازي فان المؤمنين يوم القيامة يتأملون من ربهم الثواب و الكرامة ، و يقطعون أملهم الا منه ، و .. و .. و اما الحقيقي فانهم ينظرون الى ربهم ببصائرهم لا أبصارهم من خلال اياته و نوره الذييتجلى لهم إكراما منه تعالى لعباده المتقين .

اما النظر الى ذات الله فهو مستحيل ، و القول بذلك يستدعي التجسيد ، وهو من الثقافة الشركية التي تسربت الى بعض المسلمين من الثقافات الدخلية .

و كيف يجوز النظر الى الله و العين لا تستوعب بعض آياته ؟ هل نظرت الى عين الشمس لحظات ؟ هل تفكر في ان تحدق في الشمس من قرب او لا تحترق عينك ؟ و الشمس آية صغيرة متناهية في الصغر اذا قيست بانوار قدس الرب ! لقد تجلى الله للجبل فجعله دكا ، فكيف يتحمل هذاالبشر الضعيف تجليات الرب الا بقدر ما


(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 398 مع تصرف ترتيبا و تنقيطا و اختصارايشاء الله سبحانه و تعالى عن وصف الواصفين .

جاء في الحديث عن صفوان عن ابن حميد قال : ذاكرت أبا عبد الله ( الامام الصادق عليه السلام ) فيما يروون من الرؤية ( لذات الله عز وجل ) فقال : " الشمس جزء من سبعين جزء من نور الكرسي ، و الكرسي جزء من سبعين جزء من نور العرش ، و العرش جزء من سبعين جزء من نور الحجاب ، و الحجاب جزء من سبعين جزء من نور السر ، فان كانوا صادقين فليملؤوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب !! " (1) .

[ و وجوه يومئذ باسرة ]

و هي وجوه المجرمين حيث القيامة موعدهم مع الفضيحة و العذاب و الذل ، و بسور و جوههم يحكي باطن نفوسهم المنطوية على اليأس و التشاؤم و الخوف مما ستلاقيه .

[ تظن ان يفعل بها فاقرة ]

قال في المنجد : الفاقرة جمعها فواقر : الداهية الشديدة ، فكانها تكسر فقره الظهر ، و الفقرة : الامر العظيم (2) ، و ان المجرمين يوم القيامة ليساورهم هاجس و رعب ينتظرهم من الدواهي ، و هذا الهاجس يعد عذابا عظيما بذاته .

[ 26 - 30] تلك هي حقائق يوم القيامة التي يجب على الانسان ان يتذكرها دائما ، باعتبار الايمان بها يجعله متوازنا في التفكير ، و يسوقه نحو التسليم للحق و العمل به ، و لكن الحجب تحول بينه و بين الايمان بذلك المستقبل فيكذب به ، و لكن هل(1) موسوعة بحار الانوار / 4 ص 44 .

(2) المنجد / مادة فقر .


يغير تكذيبه من الحقائق شيئا ؟ كلا .. فليكذب بالموت فهل يمكنه ان يلغيه ، او يجد مفرا من ملاقة ؟ بالطبع كلا .. فحركته نحونا و حركتنا نحوه سنة حتمية ، و كذلك بالنسبة لمواقف القيامة . و عندما يواجه الانسان المحنة الفاقرة في الدنيا تتساقط الحجب من عينيه فيرى الحقائق بوضوح و يعترف بها بصراحة ، و يندم حتى الأعمال على ما كذب به ، و لا محنة أعظم من الموت ، و لا ساعة أشد على الانسان في الدنيا من ساعة السكرات .

[ كلا اذا بلغت التراقى ]

و هي عظم وصل بين ثغرة النحر و العاتق من الجانبين (1) ، و قال صاحب المجمع : التراقي جمع الترقوه ، و هو مقدم الحلق من أعلى الصدر ، تترقى اليه النفس عند الموت ، و هناك تقع الحشرجة (2) ، و يقال : بلغت الروح التراقي كناية عن صعودها و قرب خروجها من البــدن و مفارقتها له ، و لعلها حقيقة يعانيها الميت عند سكرات الموت .

[ و قيل من راق ]

اي و قال أهله : من راق ؟ اي طبيب شاف يرقيه و يداويه ، و قيل : تختصم ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب أيهم يرقى بروحه (3) ، و به قال الرازي و الزمخشري و صاحب تفسير فتح القدير . و لعل المعنى من الرقية ( الادعية و التعويذات التي تكتب في قرطاس للتشافي بها) و كان المعنى ان أهله او هو نفسه يسألون عمن يكتب له ذلك طمعا في الشفاء .


(1) التفسير الكبير / ج 30 / ص 230 .

(2) مجمع البيان / ج 10 / ص 400 .

(3) المصدر / ص 401 .


[ و ظن أنه الفراق ]

ظن يقين يصل الى حد التصور و شبه الرؤية ، فانه حينئذ يعاين حقيقة الموت والاخرة فاذا به يقبض يدا و يبسط أخرى ، و هكذا يعالج سكرات الموت بروحه و حركاته اليائسة .

[ و التفت الساق بالساق ]

عن قتادة : هما ساقاه عند النزع ، اما رايته كيف يضرب بإحدى رجليه على الاخرى ؟ وقال الحسن : هما ساقاه اذا التفتا في الكفن ، و قيل : اذا مات يبست ساقاه و التصقت أحداهما بالآخرى (1) ، و عن الشعبي و ابي مالك : لانه يذهب بالقوة فيصير كجلدة يلتف بعضها ببعض ، و قيل : يضطرب فلا يزل يمد أحدى رجليه و يرسل الآخرى . و لعل الآية كناية عن الشدائد و الصعاب التي يواجهها الانسان عند الموت ، و قد وجدت اشارة الى هذا المعنى في تفسير القرطبي قال : اي فاتصلت الشدة بالشدة ، شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة ، قاله أبن عباس و الحسن و غيرهما .. و قال الضحاك : اجتمع عليه امران شديدان .. و العرب لا تذكر الساق الا في المحن و الشدائد العظام ، و منه قولهم : قامت الدنيا على ساق ، و قامت الحرب على ساق (2) .

و حينما يفارق الانسان هذه الدنيا بما فيها و من فيها فانه لا يصير الى العدم ، و انما ينتقل من فراقها الى لقاء عظيم بربه .

[ الى ربك يومئذ المساق ]


(1) التفسير الكبير / ج 30 / ص 232 .

(2) الجامع لاحكام القرآن / ج 19 / ص 112 .


قيل : يعني اليه المنتهى او غاية سوق الملائكة لكل نفس ، و هو صحيح ، و لكن يبدو لي ان " المساق " هنا يعني المصير ، حيث ان الأنفس بعد الحساب تسوقها الملائكة الى مأواها و مصيرها ، فاما تسوق الانسان ملائكة الرحمة الى الجنة ، و اما تسوقه ملائكةالعذاب الى النار ، و الى الله وحده و بيده الأمر بكلا المساقين ، فما أحوجه الى معرفة هذه الحقيقة و الايمان بها ، فان ذلك يبعث فيه روح التسليم اليه و السعي الى القرب منه .

[ 31 - 35] و حين لا يؤمن الانسان بلقاء ربه ينحرف عن الصراط المستقيم و يترك الواجبات التي عليه .

[ فلا صدق و لا صلى * و لكن كذب و تولى ]

قيــل : لا صــدق بماله ذخرا عند الله ، و لا صلى الصلوات التي أمره الله بها (1) ، و الاصح حمل التصديق هنا على معناه الاصلي ، و هو تصديق الايمان بالعمل و الباطن بالظاهر و العكس ، وهذا الفهم يجعل الكلمة تتسع لكثير من المفردات و المصاديق و من بينها الانفاق . كما ان الصلاة رمز الصلة و القرب مع الخالق و رمز التواصل مع الخلق ، و هكذا الايتان تفسران بعضهما ، فالتكذيب نقيض التصديق ، و التولي نقيض التواصل ، و المكذب بالحق يرتكب ذنبين : أحدهما عدم التصديق و الصلاة ، و الآخر التكذيب و التولي ، و ابتعاد الانسان عن الحق ليس يقطع علاقته بالله و برسوله فقط ، و انما يفسد علاقته بالناس ايضا ، فهو يركب مطية الغرور و التكبر بينهم .

[ ثم ذهب الى أهله يتمطى ]


(1) المصدر / 113 .


أصل التمطي تمدد البدن من الكسل ، و هو من لوى مطاه اي ظهره . قالوا : انه اشارة الى التبختر على نهج القرآن في ذكر الصفات بالتصوير الظاهر . و لعله أعم من ذلك حيث يدل على حالة الل مسؤولية و الاشتغال باللهو و اللعب عن الجد و الاجتهاد .

ثم يتوعد الله من تكون صفاته التي مر ذكرها بالعذاب بعد العذاب فيقول :

[ اولى لك فاولى * ثم الوى لك فأولى ]

قال عبد العظيم بن عبد الله الحسني : سألت محمد بن علي الرضا ( ع ) عن قول الله عز وجل : " الايتين " قال : " يقول الله عز وجل : بعدا لك من خير الدنيا و بعدا لك من خير الاخرة " (1) .

و أصل الكلمة وعيد و تهديد ، و معناه : ان المكروه يقترب منك و أنت صاحبه و جاءت الرواية : ان رسول الله ( ص ) أخذ بيد ابي جهل ثم قال له : " أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى " فقال ابو جهل : باي شيء تهددني ؟ لا تستطيع انت و لا ربك ان تفعلا بي شيئا ، و أني لاعز أهل الوادي ، فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول الله (2) ، و قال القرطبي : و قيل : معناه الويل لك (3) .

[ 36 - 40 ] و يستنكر القرآن على الانسان شذوذه عن الحق و كفره به ؟

[ أيحسب الانسان ان يترك سدى ]

كل شيء في حياة الانسان يهديه الى إحاطة تدبير الله به ، و شمول رعايته(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 466 .


لحياته ، و الا لأعدمت او تحولت جحيما لا يطاق ، و أبرز ذلك خلقته : كيف حملته يد اللطف من صلب أبيه حيث كان حيوانا منويا لا يرى الى رحم أمه ، و أجرى له من الطعام و الشراب ، و ضمن له من السلامة و الأمن حتى أصبح علقة ، ثم رعاه و حماه و رباه حتى جعله خلقا سويا .. فهل يعقل ان يترك في المستقبل سدى و هو لم يترك كذلك سلفا ، بل لا شيء في كيانه ترك بلا هدف او غاية ؟

[ الم يك نطفة من مني يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الوجين الذكر و الانثى ]و كما ان هذه المراحل حتمية بالنسبة للانسان فان الآخرة هي الأخرى حتمية ، و الفكرة هذه تفسر ربط القرآن الدائم بين الحديث عن الآخرة و الحديث عن مراحل خلقة الانسان و أطواره ، التي يهتدي المتدبر فيها الى معرفة ربه حيث هي آيات لطفه و حكمته و قدرته . و بعد تفكر البشر في نفسه و خلقه يجب ان يطرح على نفسه هذا السؤال الحاسم :

[ اليس ذلك بقادر على أن يحي الموتى ]

و لن يجد أحدنا جوابا لهذا السؤال الا ان يقول : بلى . وحينئذ سيؤمن بيوم القيامة و حقائق الآخرة ، لان الشك في فكرة الآخرة منبعث من الجهل بقدرة الله النافذة التي لا تحد .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس