انما نطعمكم لوجه الله
بينات من الآيات [ 1 - 4] اذا عرف الانسان ربه عرفه الله بنفسه . كذلك اذا عرف نفسه عرف ربه ، حيث انه حين يتفكر فيها لا يجد فيها الا آيات الصنع و شواهد التدبير .
و أهم آثارة علمية يلقيها القرآن على الانسان : حقيقة حدوثه بعد العدم ، و انه أصبح شيئا مذكورا بعد ان كان خاملا مجهولا .
[ هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ]و هذه الأثارة التي تنفذ في أغوار الانسان ، و التي تعبر عنها صيغة الاستفهام ، إنها تجعلنا عندما نتفكر في ابعادها نعيش وعي الصيرورة الزمنية في نشأتنا ، هذا الوعي الذي يزيد العقل ، و يقضي على الغرور ، و يرفع الانسان الى مستوى الحكمة .
و قد اختلفوا في حرف " هل " ، فقال بعضهم : انه هنا بمعنى ( قد ) ، و قال آخرون : بل هو استفهام تقريري ، يعرف السائل الجواب سلفا ـ و انما يطرح الكلام لاخذ الاقرار من الطرف الاخر .
و يبدو لي ان الكلمات تبقى بمعناها اللغوي عند الاستعمالات الادبية المختلفة ، الا ان هدف الاستخدام يختلف حسب السياق ، فهل هنا - مثلا - جاء بمعنى الاستفهام ، اما لماذا جاء الاستفهام ؟ فهو ليس شأن الكلمات انما هو شأن الذي استخدمها . و يكون مثل ذلك في عالم الماديات : السيارة التي تقوم بحمل الانسان . اما الى أين و لماذا يتحرك الانسان ؟ فهذا ليس شأنها إنما هو شأنه .
و لقد فسر أئمة الهدى هذه الآية عدة تفاسير مما كشف عن أبعادها المتنوعة ، فعن مالك الجهني قال : سألت أبا عبد الله الامام الصادق ( ع ) عن قوله : " الآية " فقال : " كان مقدرا غير مذكور " (1) ، و عن زرارة قال سألت أبا جعفر ( الامام الباقر ) - عليه السلام - عن قوله : " الآية " فقال : " كان شيئا و لم يكن مذكورا " (2) ، و عن الباقر ( ع ) قال : " كان مذكورا في العلم ، و لمن يكن مذكورا في الخلق " (3) . و هكذا روايات أخرى كثيرة تهدينا الى ان الانسان يمر قبل وجوده المادي في الحياة بمرحلتين هما :
الاولى : عالم التقدير في علم الله .
الثانية : عوالم النشاة ، مثل عالم الاشباح ( الارواح ) ، عالم الذر ، عالم(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 478 .
(2) المصدر .
(3) المصدر .
الاصلاب ، ثم عالم الأرحام ، فعالم الدنيا ، و في تلك العوالم و قبل عالم الدنيا كان الانسان شيئا - في علم الله - و لم يكن مذكورا عند الخلق لضالته المتناهية .
[ إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج ]
اي مختلطة ، قال الامام الباقر ( ع ) : " ماء الرجل و المرأة اختلطا جميعا " (1) ، كما انها مختلطة من الناحية المعنوية اذ تحمل الصفات الوراثية و النفسية و الشكلية من الطرفين بما يمثلانه من امتداد في التاريخ و المجتمع كالأجداد و الآباء و الاخوال ، و قد أشار الامام علي ( ع ) الى هذا المعنى اذ وصف الانسان بقوله : " و محط الأمشاج من مشارب الاصلاب " (2) ، و من ناحية ثالثة يعيش الانسان ثنائية هامة ، فهو في البداية خليط من تطلعات الفطرة و العقل و الايمان ، و شهوات الهوى والجهل و الجحود ، بين جنود الرحمن ، و أعوان الشيطان .
و هكذا كل شيء في الانسان يحتمل نزعتين ، و صبغتين ، و منهجين ، و وجهتين : الحق و الباطل ، الله او الشيطان ، العقل او الجهل ، الإيمان او الجحود ، الجنة او النار ، و يبدو ان هذه الثنائية أقرب الى كلمة الأمشاج لان شان الثنائيات ( الاختلاط بين ماء الرجلو ماء المرأة ، او بين مختلف العوامل الوراثية من الاباء و الامهات ) مقدمة لهذه الثنائية ، و يدل على ذلك بيان حكمة الابتلاء بعد بيان الثنائية .
[ نبتليه ]
و لا يصدق الابتلاء في حياة الانسان حتى يكون مختارا ، و ذلك بان تكون(1) المصدر / ص 469 .
(2) المصدر نقلا عن نهج البلاغة .
خلقته خليطا من نزعتين و تطلعين : أحدهما الخير و الآخر الشر . و من الضروري للانسان و هو يمارس الحياة و نعمة الوجود ان يعرف بأن الابتلاء جزء من وجوده ، من دونه تصبح حياته بلا معنى بلا روح و بلا هدف .. تماما كتفاحة فاسدة لا طعم لها و لا رائحة ، او كماء آسن لا ينفع سقيا و لا طهورا .
و إطلاق كلمة الابتلاء يدلنا على أن الانسان ممتحن بكل شيء يتصل به خيرا كان او شرا ، و أول ما يبتلى به نعمة الخلق ، فهل يشكر ربه عليها حيث خلقه و أوجده و لم يكن شيئا مذكورا أم يقابله بالجحود و الكفران ؟ قال الامام الباقر ( ع ) : " ان النبي قال لعلي ( ع ) : قل : ما أول نعمة أبلاك الله عز وجل و أنعم عليك بها ؟ قال : ان خلقني جل ثناؤه و لم أك شيئا مذكورا ، قال : صدقت " (1) .
و حيث أراد ربنا امتحان الانسان وفر من جهته الشروط و المستلزمات التي تجعل البشر مسؤولا عن الامتحان فتكون حجة عليه عندما يكفر ، و وسيلة لصالحه عندما يريد الايمان و الشكر .
[ فجعلناه سميعا بصيرا ]
و السمع و البصر نافذتان لعقل الانسان على الخليقة ، و هما أهم أدوات المعرفة عنده ، و بالتالي أبرز وسائل الاختيار ، فبسمعه يتلقى نصائح الآخرين و تجاربهم ، و ببصره و بصيرته يرى و يقلب وجوه الأمور ثم يختار لنفسه الموقف و الطريق ، و ذلك يكفي دافعا يحملهالمسؤولية و يقيم عليه الحجة ، و لكن الله أبى الا ان تكون له الحجة البالغة عليه فهداه السبيل مبينا له الحق و الباطل و الصواب و الخطا .
[ إنا هديناه السبيل ]
(1) المصدر .
فمعالم الطريق الصحيح بينة و واضحة للبشر ، هداه الله اليها بالفطرة و العقل و الرسالات و الرسل ، و لكنه لم يجبره لكي لا يتنافى و حكمة الابتلاء ، و انما جعل القرار موكولا اليه يختار أحد الطريقين .
[ إما شاكرا ]
يتبع فطرته و عقله و هدى ربه ، الذي هو السبيل الذي يسره له ، فيشكره على كل نعمة و من شكره طاعته .
[ و إما كفورا ]
لا يســمع نداء الحق ، و لا يبصر الطريق و لا يسلكه ، فلا يشكر ربه على نعمه ، و إنما عبر الله بالشكر و الكفر عن الهدى و الضلال لأنهما الأساس و المعول ، فكل ضلال و كفر و انحراف في حياة البشر هو كفران لنعم الله عليه ، و كل هدى و إيمان و عمل صالح هو شكر.
قال حمران بن أعين : سألت ابا عبد الله ( ع ) عن قوله عز وجل : " الآية " قال : " إما آخذ ( بالسبيل ) فهو شاكر ، و إما تارك فهو كافر " (1) . و حينما يكفر الانسان بربه و نعمه فإنه يصير الى عذاب شديد أعده لكل كفور .
[ إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا و أغلالا و سعيرا ]
قال القرطبي : السلاسل : القيود في جهنم طول كل سلسلة سبعون ذراعا (2) ، و قال الرازي : السلاسل تشد بها أرجلهم ، و اما الأغلال فتشد بها أيديهم الى(1) المصدر .
(2) الجامع لاحكام القرآن / ج 19 / ص 123 .
رقابهم (1) . و لعل السلاسل ما يشهد بها المجرمون الى بعضهم و يسحبون بها ، بينما الاغلال ما يقيد بها الواحد من يديه و رجليه و رقبته . و هذا جزاء مناسب للكافرين ، لانهم يسيؤون الإستفادة من الحرية المعطاة اليهم في الدنيا فيقيدون في الآخرة . و سلاسل الآخرةو اغلالها تجسيدات لمثلها في الدنيا ، لأن من يخالف قيم الحق و سبيل الهدى و يتبع المناهج البشرية يتورط في أغلال العبودية و العقد و المشاكل المختلفة .
[ 5 ] أما الشاكرون الذين يهبهم ربهم و سام الأبرار فإنهم يتحررون من سلاسل الضلال و أغلاله و سعيره في الدنيا فقط ، بل و يكسبون الحرية الكاملة في الآخرة و الثواب الجزيل جزاء شكرهم و اتباعهم رسالة الله عز وجل .
[ ان الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ]
قيل : هو جمع بر ، و في الصحاح : و جمع البر الأبرار ، و فلان يبر خالقه و يتبرره أي يطيعه (2) . و القرآن يفسر معنى " الأبرار " من خلال بيانه لصفاتهم ، و هذا يقرب المعنى و يرسخه في الاذهان بصورة أوضح و أفضل .
و ما يشربه الأبرار في الجنة مختلط طعمه و مزاجه بصفات الكافور الحسنة ، وهو اسم عين ماء في الجنة عن أبن عباس (3) ، و قال سعيد عن قتادة : تمزج لهم بالكافور ، و تختم بالمسك ، و قيل أراد كالكافور في بياضه و طيب رائحته و برده ، لان الكافور لا يشرب (4) ،و قال مقاتل : ليس بكافور الدنيا ، و لكن سمى الله
(1) التفسير الكبير / ج 30 / ص 240 .
(2) الجامع لاحكام القران / ج 19 / ص 125 .
(3) المصدر .
(4) المصدر .
ما عنده بما عندكم حتى تهتدي لها القلوب (1) . و من فوائد الكافور طبعه البارد ، و تسكينه للعطش ، و حين يمتزج بشراب يكون انفع للجسم . و قوله " من كأس " كناية عما في الكأس من الشراب .
[ 6 ] [ عينا يشرب بها عباد الله ]
لماذا استــخدمت هنا كلمة " بها " اوليس الانسان يشرب من العين و ليس بالعين ؟ قالوا : ان الكلمة قد أشربت معنى الارتواء أي يشربون منها و يرتوون بها .. اما عن هذه العين فقد جاء عن الامام الصادق ( ع ) : قال : " هي عين في دار النبي ( ص ) تفجر الى دور الانبياء و المؤمنين " (2) .
[ يفجرونها تفجيرا ]
فمتــى ما أرادوا توجهــوا تلقاء العين التي لا تزال مختومة ففجروها - بإذن الله - و شربوا من باكورة رفدها الطاهر ما شاؤوا .
وفــي تفسير القرطبي : ان الرجل منهم ليمشي في بويتاته و يصعد الى قصوره ، و بيده قضيب يشير به الى الماء فيجري معه حيثما دار في منازله على مستوى الارض في غير أخدود (3) . و الى مثل هذا الجزاء تتطلع النفوس بصورة فطرية ، من هنا يوجهنا القرآن الى حقيقة هامة وهي ان ذلك النعيم لم يصل اليه الأبرار عبثا و من دون سعي ، و إنما لما جسدوا في حياتهم من صفات الخير ، فان ما عند الله لا ينال بالتمني و التظني بل بالسعي و الاجتهاد .
(1) المصدر / ص 126 .
(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 477 .
(3) الجامع لاحكام القرآن / ص 126 .
[ 7 ] [ يوفون بالنذر ]
اي نذر و عهد يقطعونه على أنفسهم ، و أظهر مصاديق النذر في حياة الانسان عهده الذي أخذه الله منه ، و تعهد هو بالوفاء به في الميثاق الاول في عالم الذر حيث قطع على نفسه بتوحيد ربه و طاعته و تولي أوليائه ، و قد بين أئمة الهدى هذا المعنى قال الامام الرضا( ع ) : " يوفون بالنذر " الذي أخذ عليهم من ولايتنا " (1) ، و عنه قال : " يوفون لله بالنذر الذي اخذ عليهم في الميثاق من ولايتنا (2) ، و حينما تنبني شخصية المجتمع على أساس الوفاء بالتعهدات فذلك مما يزيد الثقة و الاطمئنان بينهم ، ويجعل المجتمع مهيأ للتقدم و التحضر ، لان الحضارة في حقيقتها مجموعة من القيم التي يؤمن بها المجتمع و يتعهد الوفاء بها ، و أصل الحضارة تكاثف الجهود ، و تراكم الانجازات ، و تركز الخبرات ، و كل اولئك رهين الثقة المتبادلة و التي يزرعها الوفاء بالعهود .
اما لماذا يلتزم الأبرار بالعهد و يوفون بالنذر فلانهم يعيشون أهوال القيامة فيخشونها ، و يرتفعون الى الحالة الجدية التي يتطلبها مثل ذلك اليوم !
[ و يخافون يوما كان شره مستطيرا ]
قال الامام الصادق ( ع ) : " عابسا كلوحا " (3) ، و عن علي بن ابراهيم قال : " المستطير العظيم " (4) . فالخوف الحقيقي من الآخرة اذا هو الذي يتحول الى إيمان يردع الانسان عن الخيانة و نقض العهد و الكذب و كل خطيئة ، و يدفعه الى كل
(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 477 .
(2) المصدر / ص 478 .
(3) المصدر / ص 477 .
(4) المصدر / ص 478 .
فضيلة و صفة حسنة في الدنيا ، و بتعبير آخر : ان الخوف من الآخرة و قود الانسان في مسيرته الصاعدة نحو الكمال . و هكذا تجد القرآن يذكرنا بها المرة بعد الاخرى لتصبح جزء من كياننا الثقافي ، و مزيجة مع شخصياتنا ، و صبغة أساسية لحياتنا .
[ 8] و صفة أخرى تقرب الأبرار الى ربهم و الى ذلك النعيم الكبير هي تحمل المسؤولية الاجتماعية تجاه الضعفاء و أهل الحاجة بالرغم من حاجتهم الماسة الى الطعام .
[ و يطعمون الطعام على حبه مسكينا و يتيما و أسيرا ]قيل : " على حبه " اي على حب الله ، و هذا صحيح من ناحية المعنى ، اما سياق الكلام فيدل على حب الطعام ( لانه أقرب الى الضمير ، و لان حب الله ( و وجهه ) ذكر في الآية التالية بصورة مستقلة لأهميته فلا داعي للتكرار .. ) .
و هذا يعني ان المراد من حب الطعام هنا : ان الأبرار لا يطعمون الآخرين من فاضل طعامهم ، بل مما يطعمونه أنفسهم و الى حد الايثار ، بحيث يتصدقون بما عندهم و ينفقونه مع حاجة و حب اليه ، و هذه من أرفع مراحل التضحية و العطاء ، و يؤكد ذلك ان الانفاق مما تحبه النفس من شروط القران لبلوغ درجة البر ، كما قال سبحانه : " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " .
[ 9 ] قد يكون الانفاق بهدف الاستكبار و التعالي على الآخرين و بسط السلطة عليهم . انه إنفاق المن و الرياء ، و لكن الابرار يخلصون في انفاقهم .
[ انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء و لا شكورا ]ان الأبرار لا يتطلعون الى شيء وراء إنفاقهم و خدماتهم للآخرين الا رضى اللهو ثوابه ، مما يعكس تمحض التوحيد في أنفسهم ، فلا يطالبون حتى بكلمة الشكر ( شكر و احسنتم ) و ما الى ذلك ، قال الامام الصادق ( ع ) : " و الله ما قالوا هذا ، و لكنهم اضمروه في أنفسهم فأخبر الله بأضمارهم ، يقولون : لا نريد جزاء تكافوننا به ، و لاشكورا تثنون علينا به ، و لكنا انما نطعمكم لوجه الله و طلب ثوابه " (1) ، و هذا ما يجعلهم في عطاء دائم ، لانه لا ينقطع بسبب عدم مجازات الآخرين لهم او حتى وقوفهم من احسانهم موقفا سلبيا .
[ 10] كيف يتجرد الابرار من حب الذات الى هذه الدرجة السامية ؟ كيف ينتزعون من انفسهم حب الاموال التي يحتاجونها لطعامهم و قد فطرت الانفس على حب المال ، و بالذات حينما يكون ثمن أهم حاجة عند الانسان حاجة الطعام ؟ و أعظم من هذا كيف يسيطرون على غريزة حب السلطة و العلو في الارض التي هي أعظم غريزة عند الانسان ، و كانت وراء خروج آدم ( عليه السلام ) من الجنة ، حتى تراهم لا يبحثون عن كلمة شكر تقال لهم ، او أي جزاء من أي نوع يكافؤون به ؟
الجواب : انهم يعيشون أهوال القيامة ، و كل همهم النجاة منها . انهم يعيشون - اذا - عالما آخر له همومه و تطلعاته المختلفة عن هذا العالم المادي المحدود ، و هم يعرفون ان ثمن النجاة في ذلك اليوم الرعيب الرهيب الفظيع انما هو بأتقاء شح الذات و ايثار الضعفاء و المحتاجين ، اذا ان المسؤولية الاجتماعية تجاه المحرومين و البؤساء ليست اختيارية يتحملها الانسان او لا يتحملها ، و انما هي واجب ديني يتصل بمصيرة في الاخرة ، و عاقبته عند الله ، و اذا ما دخلت هذه الحقيقة الى وعي الانسان فسوف لن يتوانى في ادائها .
(1) المصدر نقلا عن امالي الصدوق .
[ انا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا ]
اي شديدا و عسيرا ، قال الاخفش القمطرير : أشد ما يكون من الأيام و أطوله في البلاء (1) ، و قال الكسائي : يوم مقمطر اذا كان صعبا شديدا (2) .
و يجدر بنا ان ننقل هنا شأن نزول السورة حسب الرواة و المفسرين من كل الفرق الاسلامية ، لكي نعرف ان هذه الصفات المذكورة في القرآن قد جسدها فعلا بشر امثالنا ، قد خلقوا من لحم و دم و كانت فيهم الحاجات و الغرائز فتغلبوا عليها بحول الله و قوته و بفضل وعيالآخرة . انهم ذرية رسول الله فاطمة و بعلها و بنوها و خادمتهم فضة عليهم السلام .
قال العلامة الطبرسي : نزلت في علي و فاطمة و الحسن و الحسين - عليهم السلام - و جارية لهم تسمى فضة ، و هو المروي عن ابن عباس و مجاهد و أبي صالح ، و القصة طويلة جملتها انهم قالوا : مرض الحسن و الحسين فعادهما جدهما و وجوه العرب ، و قالوا : يا ابا الحسنلو نذرت على ولديك نذرا ؟ فنذر صوم ثلاثة ايام ان شفاهما الله سبحانه ، و نذرت فاطمة ( عليها السلام ) و كذلك فضة ، فبرءا و ليس عندهم شيء ، فاستقرض علي - عليه السلام - ثلاثة أصوع من شعير من يهودي ، و روي : انه أخذها ليغزل له صوفا ، و جاء به الى فاطمة فطحنت صاعا منها فاختبزته و صلى علي ( ع ) المغرب و قربته اليهم فاتاهم مسكين يدعوهم و سألهم فأعطوه و لم يذوقوا الا الماء ، فلما كان اليوم الثاني أخذت صاعا و طحنته و اختبزته و قدمته الى علي ( ع ) فاذا يتيم بالباب يستطعم فأعطوه و لم يذوقوا الا الماء ، فلماكان اليوم الثالث عمدت الباقي فطحنته و اختبزته و قدمته الى علي ( ع ) فاذا أسير بالباب يستطعم فأعطوه و لم يذوقوا الا الماء ، فلما كان اليوم الرابع و قد قضوا(1) الجامع لاحكام القرآن / ج 19 / ص 135 .
(2) المصدر .
نذورهم اتى علي و معه الحسن و الحسين - عليهم السلام - الى النبي - صلى الله عليه وآله - و بهما ضعف فبكى رسول الله ( ص ) و نزل جبرئيل بسورة : " هل أتى " (1) .
[ 11 ] [ فوقاهم الله شر ذلك اليوم و لقاهم نضرة و سرورا ]قال الحسن و مجاهد : نضرة في وجوههم و سرورا في قلوبهم ، وقوله " فوقاهم " يدل على ان النجاة من عذاب ذلك اليوم و الفوز بجنة الله و رضوانه نتيجة لأمرين هما : الخوف من الاخرة و العمل الخالص لوجه الله : و في الرواية عن الامام الباقر ( ع ) ؛ قال: " قال رسول الله ( ص ) يؤتى يوم القيامة برجل فيقال له : احتج ، فيقول : يا رب خلقتني و هديتني فاوسعت علي، فلم أزل أوسع على خلقك و أيسر عليهم لكي تنشر علي هذا اليوم رحمتك و تيسره ؟ فيقول الرب جل ثناؤه و تعالى ذكره : صدق عبدي أدخلوه الجنة "(2) .
[ 12 ] و هكذا يؤكد ربنا - سبحانه - على ان ثمن نعيم الآخرة الصبر في الدنيا فيقول :
[ و جزاهم بما صبروا ]
على الطاعة ، و عن المعصية ، و عند المصائب و النوائب .
[ جنة و حريرا ]
و لعل في الآية إشارة الى ان أخلاص الانسان في عمله ، و خروجه من حب(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 405 بنقل صاحب نور الثقلين .
(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 479 .
الذات ( حب التظاهر و الاطراء ) عند الانفاق بالذات ، بحاجة الى إرادة عالية و صبر عظيم يقاوم بهما تحديات النفس و الشيطان .
[ 13 - 19] و يفصل القرآن في بيان نعيم جنة الآبرار تشويقا لنا في الرغبة اليها و العمل على الفوز بها .
[ متكئين فيها على الارائك ]
جمع أريكة ، و هي الأسرة المحشوة على أفضل وجه .
[ لا يرون فيها شمسا و لا زمهريرا ]
و الشمس كناية عن الحر ، اما الزمهرير فهو البرد الشديد ، قال الامام الرضا ( ع ) : " ان الشمس و القمر آيتان من آيات الله ، يجريان بأمره ، مطيعان له ، و ضوؤهما من نور عرشه ، و حرهما من جهنم ، فاذا كانت القيامة عاد الى العرش نورهما ، و عاد الى النار حرها ، فلا يكون شمس و لا قمر " (1) ، فالجنة اذا مكيفة أجواؤها بربيع دائم .
[ و دانية عليهم ظلالها ]
ليس لان فيها شمسا و حرا ، بل هي كناية عن تناسب أشجار الجنة و حالة الرفاه المهياة لاهلها بحيث تغطي فوقهم . و لكنها في نفس الوقت قريبة ثمارها اليهم ، ميسرة عليهم تناولها .
[ و ذللت قطوفها تذليلا ]
(1) المصدر / ص 480 .
و المفعول المطلق " تذليلا " يفيد التاكيد و المبالغة ، اي انها مذللة ايما تذليل ، قال رسول الله ( ص ) : " من قربها منهم يتناول المؤمن من النوع الذي يشتهيه من الثمار بفيه و هو متكىء ، و ان الانواع من الفاكهة ليقلن لولي الله : يا ولي الله كلني قبل ان تاكل هذه قبلي " (1) .
و حيث تغمر الأبرار فرحة الفوز و البهجة بما في حياتهم من النعيم يتقدم اليهم خدمهم من الولدان بأواني و أكواب في غاية الروعة معدنا و منظرا و شرابا .
[ و يطاف عليهم بآنية من فضة و اكواب كانت قواريرا ]و لعل الآنية المطاف بها هي التي يستقل الولدان فيها اكواب الشراب ، او التي يكون فيها الشراب الذي يصب في الاكواب بعدئذ ، او هي أواني الاكل و الفواكه التي يحملها الولدان الى اولياء الله عز وجل . بينما الاكواب هي الكؤوس التي لها مقبض و عروة ، و في صنعتها الرائعة تتجلى قدرة الله و كرامته لاوليائه .
[ قوريرا من فضة ]
قال الامام الصادق ( ع ) : " ينفذ البصر في فضة الجنة كما ينفذ في الزجاج " (2) ، و عن قتادة قال : صفاء القوارير في بياض الفضة (3) وقال ابن عباس : لو اخذت فضة فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء من ورائها ، و لكن قوارير الجنة بياض الفضة في صفاء القوارير (4) ولن يستطيع بشر تصور شيء من نعيم الجنة على حقيقتها ابدا .
(1) المصدر / 481 .
(2) مجمع البيان / ج 10 / ص 410 .
(3) الدر المنثور / ج 6 / ص 300 .
(4) المصدر .
ثم يشير القرآن الى صفة اخرى في الاكواب التي يطاف بها على المؤمنين فيقول :
[ قدروها تقديرا ]
قال ابن عباس : أتوا بها على قدرهم ، لا يفضلون شيئا ، و لا يشتهون شيئا بعدها ، و عن مجاهد : انها ليست بالملأى التي تفيض ، و لا ناقصة بقدر ، و قال ابن عباس : قدرتها السقاة (1) ، و قيل : قدروها في انفسهم قبل مجيئها على صفة فجاءت على ما قدروا ، و الضمير في قدروها للشاربين (2) . و الذي يبدو لي ان المراد من الاية هنا ان الاكواب التي يطاف بها مقدرة و محكمة من كل جوانبها ، في شكلها و حجمها و شرابها و عددها و كل شيء . قال الزمخشري : فان قلت ما معنى كانت في قوله : " كانت قواريرا " ؟ قلت : هو منيكون في قوله : " كن فيكون " اي تكونت قواريرا بتكوين الله ، تفخيما لتلك الخلقة العجيبة الشأن ، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين (3) .
[ و يسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا ]
و الزنجبيل يعطي ما يمزج اليه نكهة طيبة ، كما انه بذاته فيه فؤائد كثيرة ، قال في التبيان : الزنجيل ضرب من القرفة ، طيب الطعام ، يلذع اللسان ، يربى بالعسل ، يستدفع به المضار ، اذا مزج به الشراب فاق في الإلذاذ ، و العرب تستطيب الزنجبيل جدا (4) . و ربنا يقول :
(1) المصدر / 301 .
(2) مجمع البيان / ج 10 / ص 410 .
(3) الكشاف / ج 4 / ص 670 .
(4) التبيان / ج 10 / ص 214 .
[ عينا فيها ]
قيل : " فيها " عائدة الى الكأس ، و قيل : يعني في الجنة .
[ تسمى سلسبيلا ]
قال في المجمع : و السلسبيل الشراب السهل اللذيذ ، يقال : شراب سلس و سلسال و سلسبيل ، قال ابن الاعرابي : لم اسمع السلسبيل الا في القرآن ، و قال الزجاج : هو صفة لما كان في غاية السلاسة (1) ، و في الكشاف : يعني انها في طعم الزنجيل ، و فيه لذعة ، و لكننقيض اللذع وهو السلاسة (2) .
[ و يطوف عليهم ولدان مخلدون ]
قيل : يعني ملبسون الخلدة و هي ضرب من القرط من الذهب او الفضة ، و يبدو لي ان " مخلدون " بمعنى انهم يبقون على نضارة الغلام دائما لا يتداركهم شباب و لا هرم ، و انما يبقيهم الله كذلك لان خدمة الصغار على هذا السن ألذ لأهل الجنة من خدمة غيرهم ،و الولدان في تطواف دائم يترقبون أمر المؤمنين لهم ، على استعداد تام لخدمتهم ، بل ان مجرد تطوافهم امامهم يبعث فيهم البهجة و السرور ، لما يمثله الولدان من نعمة الخدمة ، و لمنظرهم الانيق و الجميل .
[ اذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ]
قال العلامة الطبرسي : انما شبههم بالمنثور لانتثارهم ( و توزعهم ) في الخدمة ، فلو كانوا صفا لشبهوا بالمنظوم (3) . كما ان للؤلؤ حينما ينثر منظرا رائعا في الجمال(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 410 .
(2) الكشاف / ج 4 / ص 672 .
(3) مجمع البيان / ج 10 / ص 411 .
و الجاذبية خصوصا في المروج الخضراء ، و تنقل الولدان للخدمة من موقع لآخر يعطي المنظر روعة جديدة كما يتجلى اللؤلؤ بتحريكه .
[ 20 - 22] و لا ينتهي نعيم الأبرار الى هذا الحد فهو كبير جدا ، و واسع بحيث لا يستطيع بشر ان يستوعب تعداده و بيانه ، و الى هذه الحقيقة يهدينا القرآن الكريم .
[ و اذا رأيت ثم رأيت نعيما و ملكا كبيرا ]
وحتى نفهم معنى كلمة " كبيرا " يجب ان ننظر اليها على أساس انها تعبير عن أربعة أمور ، هي : الكثرة ، و الحجم ، و التنوع ، و العظمة . و تكرار كلمة " رأيت " يأتي لبيان انك مهما تكرر بنظرك و تعيد الرؤية فانك لا تستطيع ان تصل الى حد ملك الأبرار من النعيم في الجنة ، و انما تعلم بصورة مجملة انه نعيم و ملك كبير . و كفى به عظمة وسعة انه يزداد مع الزمن بفضل الله و كرمه المتتابع على أهل الجنة (4) . قد أشار الامام الصادق ( ع ) في حديث له الى تفسير الكبير بالعظمة ، قال عباس بن يزيد : قلتلابي عبد الله - عليه السلام - و كنت عنده ذات يوم : أخبرني عن قول الله عز وجل : " الآية " ما هذا الملك الذي كبر الله عز وجل حتى سماه " كبيرا " ؟ ! قال : " اذا ادخل الله اهل الجنة الجنة ارسل رسولا الى ولي من اوليائه ، فيجد الحجبعلى بابه ، فتقول له : قف حتى نستاذن لك ، فما يصل اليه رسول ربه الا باذن ، فهو قوله عز وجل : " الآية " (1) ، وقال - عليه السلام - مبينا معنى الآية : " لا يزول و لا يفنى " (2) ، و قيل : هو انهم : لا يريدون شيئا الا قدروا عليه (3)، و عن الحسن البصري عن رسول الله (ص ) انه
(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 481 .
(2) مجمع البيان / ج 10 / ص 411 .
(3) المصدر .
قال : " أدنى أهل الجنة منزلة الذي بركب في ألف ألف من الخدمة من الولدان المخلدين على خيل من ياقوتة حمراء لها أجنحة من ذهب " (1) .
و عن ابي جعفر ( الامام الباقر ) - عليه السلام - قال : " ان رسول الله ( ص ) سئل عن قول الله عز وجل : " يوم نحشر المتقين الى الرحمن وفدا " فقال : يا علي ان الوفد لا يكون الا ركبانا " الى قوله : " فقال علي - عليه السلام - يا رسول الله أخبرنا عن قول الله عز وجل : " غرف مبنية من فوقها غرف " بماذا بنيت يا رسول الله ؟ فقال : يا علي تلك غرف بناها الله عز وجل لاوليائه بالدر و الياقوت و الزبرجد ، سقوفها الذهب محبوكة بالفضة ، لكل غرفة منها الف باب من ذهب . على كل باب منها ملك موكل به ، فيها فرش مرفوعة بعضها فوق بعض من الحرير و الديباج بألوان مختلفة و حشوها الكافور و العنبر ، و ذلك قول الله عز وجل : " وفرش مرفوعة " . اذا أدخل المؤمن الى منازله في الجنة ، و وضع على رأسه تاج الملك و الكرامة ، البس حلل الذهب والفضة و الياقوت و الدر منظومة في الاكليل تحت التاج ، قال : فالبس سبعين حلة حرير بألوان مختلفة و ضروب مختلفة منسوجة بالذهب و الفضة و اللؤلؤ و الياقوت الاحمر ، فذلك قوله عز وجل : " يحلون فيها من اساور من ذهب و لؤلؤا و لباسهم فيها حرير " ، فاذا جلس المؤمن على سريره اهتز سريره فرحا ، فاذا استقر لولي الله عز وجل منازله في الجنان استأذن عليه الموكل بجنانه ليهنئه بكرامة الله عز وجل إياه ، فيقول له خدام المؤمن من الوصفاء و الوصائف : مكانك فان ولي الله قد اتكى على أريكته ، و زوجته الحوراء تهيأ له فاصبر لولي الله " (2) .
[ عاليهم ثياب سندس خضر و إستبرق ]
(1) الدر المنثور / ج 6 / ص 301 .
(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 482 .
قال شيخ الطائفة : السندس الديباج ( الحرير ) الرقيق الفاخر الحسن ، و الاستبرق : الديباج الغليظ الذي له بريق (1) . و في "عاليهم " اختلفوا ، فمنهم من جعلها ظرفا بمنزلة قولك : فوقهم ثياب سندس ، و منهم من جعلها حالا فهو بمنزلة قولك : يعلوهم ثياب سندس ، و روي عن الامام الصادق ( ع ) : " تعلوهم الثياب فيلبسونها " (2) .
[ وحلوا أساور من فضة ]
و التحلية بمعنى الزينة ، اي زينوا بإلباسهم حللا أساور من فضة ، و يعلم الله كم هو جمال تلك الاساور التي صنعتها يد القدرة الالهية و ابدعتها ، و كم هو الرونق و الجمال الذي تعطيه للابسها حينما يتزين بها .
[ و سقاهم ربهم شرابا طهورا ]
قال في المجمع : اي طاهرا من الاقذاء ، لم تدنسها الايدي ، و لم تدسها الارجل كخمر الدنيا ، و قيل : طهورا لا يصير بولا نجسا ، و لكنه يصير رشحا في أبدانهم كريح المسك ، و ان الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا ، و أكلهم و نهمتهم ، فاذا أكل ما شاء سقي شرابا طهورا فيطهر بطنه ، و يصير ما أكل رشحا يخرج من جلده ، أطيب ريحا من المسك الاذفر ، و يضمر بطنه ، و تعود شهوته . رواه ابو قلابه . و قيل : " يطهرهم من كل شيء سوى الله ، اذ لا طاهر من تدنس بشيء من الاكوان الا الله " عن الصادق ( ع ) (3) . و قد يكون هو شراب نهر الكوثر الذي يعطيه الله لأهل الجنة بيد رسوله ( ص ) و وليه(1) التبيان / ج 10 ص 217 - 218 .
(2) مجمع البيان / ج 10 ص 411 .
(3) المصدر .
أمير المؤمنين ( ع ) قبل دخولهم الى الجنة فيطهرهم من كل عيب و دنس . و قال الرازي : و انه المطهر (1) .
و يبدو لي ان الله سبحانه و تعالى هو الذي يسقي الابرار ذلك الشراب بصورة غيبية ، لا عن طريق الولدان ، اكراما لهم منه عز وجل . و لكن ما هذا الشراب الطهور الذي يسقيهم الرب بيده ؟ هل شراب سائل كالماء و الخمر و العسل و اللبن ، أم هو شراب الود و القرب و الحب و النجوى ؟
لان الادب القرأني أدب تصويري يهدينا من ظاهر الاحداث الى غيب الحقائق فان لنا ان تصور ان الشراب الرباني ليس مجرد شراب مادي ، و حتى لو كان كذلك فانه حين يكون الساقي هو الرب الباقي فانه يتحول من نعمة مادية الى درجة معنوية دونها كل درجة ، فأي كرامة أعظممن اقامة صلة قريبة بين العبد هذا المخلوق المتضاءل المتناهي في الضعف و العجز و بين الرب العظيم المتعال ، و اي نشاط يسري في نفس العبد هذا ، و اي جمال يغمر فؤاده ، و اي سكينة تغشى نفسه ، و اي عزة تحيط كيانه .. سبحانه الله ! لا علم لنا ، و لا ندري ما نقول .
ان مثل الامام زين العابدين - عليه السلام - حري بوصف تلك اللحظات التي يقترب العبد فيها من الرب حين يقول :
" فقد انقطعت اليك همتي ، و أنصرفت نحوك رغبتي ، فانت لا غيرك مرادي ، و لك لا لسواك سهري و سهادي ، و لقاؤك قرة عيني ، و وصلك منى نفسي ، و اليك شوقي ، و في محبتك ولهي ، و الى هواك صبابتي ، و رضاك بغيتي ، و رؤيتك حاجتي ، و جوارك طلبي ، و قربك غايةسؤلي ، و في مناجاتك روحي و راحتى ، و عندك دواء علتي ، و شفاء علتي ، و برد لوعتي ، فكن انيسي في(1) التفسير الكبير / ج 30 / ص 254 .
وحشتي ... و لا تقطعني عنك ، و لا تبعدني منك ، يا نعيمي و جنتي ، و يا دنياي و اخرتي " (1) .
و في مناجاة كريمة أخرى يقول - عليه السلام - : " ... و غلتي لا يبردها الا وصلك ، و لوعتي لا يطفيها الا لقاؤك ، و شوقي اليك لا يبله الا النظر الى وجهك ، و قراري لا يقر دون دنوي منك ، و لهفتي لا يردها الا روحكم ، و سقمي لا يشفيه الا طبك ، و غمي لا يزيله الا قربك ... فيا منتهى أمل الاملين ، و يا غاية سؤل السائلين ، و يا اقصى طلبة الطالبين ، و يا أعلى رغبة الراغبين ... أسألك ان تنيلني من روح رضوانك ، و تديم علي نعم امتنانك " (2) .
و نلاحظ ان ايحاء الآيات ينتهي الى هدف واحد هو بيان ان الابرار في راحة تامة عند ربهم في الآخرة ، " متكئين ، دانية ، ذللت ، يسقون ، يطوف عليهم ، و سقاهم ربهم " و ذلك لانهم في الدنيا يتعبون انفسهم في خدمة الناس و بالاعمال الصالحة لوجه الله ، و يمسهم من ذلك الكثير من التعب ، و ليس انسب لتسكين انفسهم و أشباع تطلعاتهم من بيان ما يصيرون اليه من الراحة في الآخرة .
[ ان هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا ]
و هذا جواب نيتهم الخالصة لوجهه تعالى و قولهم : " انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء و لا شكورا " ، فحيث ترفعوا عن اي رياء و مطمع مادي من وراء عملهم الصالح و انفاقهم في سبيل الله جازاهم ربهم على ذلك خير الجزاء و شكر سعيهم بافضل الشكر.
(1) مناجاة المريدين / الامام السجاد / مفاتيح الجنان .
(2) مناجاة المفتقرين / المصدر .
و إن تحسيس المؤمن في الجنة بان كل تلك النعم العريضة الواسعة هي شكر لاعماله و جزاء أخلاصه ان هذا التحسيس بذاته كرامة جديدة لأهل الجنة و نعمة كبيرة ، اذا يجعلهم في نهاية الراحة النفسية ان اختيارهم في الدنيا كان صائبا و أعمالهم كانت مقبولة .
[ 23 - 26 ] و حيث حدثنا ربنا عن نعيم الابرار فان نفوسنا لا ريب ستتوق اليه ، و القرآن يستجيب لهذه الصفة الفطرية بتوجيه تمنيات الانسان و تطلعاته ضمن قناتها الصحيحة حيث العمل بالمنهج الحق الموصل الى ذلك النعيم ، و من هذا المنطلق تأتي الاشارة الى القرآن الكريم .
[ انا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا ]
اي منجما و ليس دفعة واحدة ، و ذلك يتماشى مع هدف القرآن ، و هو بناء شخصية الابرار في كل الابعاد ، حتى يرتقي الى قمة ذلك الرضوان و النعيم الالهي السامقة درجة درجة . و من اراد الوصول اليها فان الطريق واحد ، و هو ان يترك الاماني و الظنون المجردة الى السعي و الاجتهاد على هدى كتاب الابرار و السمو عبر معراج آياته . و هذا بحاجة الى الصبر على العقبات ، فان طريق الجنة عموما محفوف بالمكاره فكيف اذا كان الهدف هو أعلى درجاتها و أفضلها ( درجة الابرار ) ؟
ان بلوغ هذا الهدف العظيم يستدعي الحقائق التالية :
اولا : التسليم المطلق لقضاء الله و قدره ، و سننه في الخليقة و شرائعه .
[ فاصبر لحكم ربك ]
و حكم الله هو تدبيره لخلقه و رسالته الى الناس ، و المؤمن بحاجة الى الاستقامةو التحمل كي يجني ثمار التوكل على ربه و التسليم لأمره و رسالته ، فقد نطبق رسالة الله و لكن ليس بالضرورة ان نحصل على النتائج مباشرة ؛ اذن يجب ان ندع الاستعجال و نفوض أمرنا الى الله سبحانه دون ان نتأفف على ما يقدره الرب او نضجر من طول الانتظار . ثم ان تطبيق القرآن يستلزم روح الصبر ، لانه يضع الانسان امام قرارات صعبة و تحديات كثيرة في ذاته و في المحيط ، و تجرع مرارة الصبر على كل ذلك ضرورة أساسية لبلوغ أهداف الرسالة و تطلعاتها .
ثانيا : الاستقامة امام الضغوط ، لان الانسان حينما يقرر العمل بالقرآن و تغيير نفسه و واقعه على هدى آياته فسوف تتوالى عليه الضغوط المختلفة من قبل الآخرين الذين لا يريدون الاصلاح و لا التغيير اجتماعيا و سياسيا ، و بالذات اولئك الذين تقوم مصالحهم على أساس الواقع المتخلف و الفاسد كالمترفين و اصحاب السلطة ، او الذين تتعارض افكارهم و ثقافتهم المبدئية مع خط الرسالة وقيمها .
اما وسائلهم في الضغط فهي تختلف فقد تكون مباشرة ، كما يفعل الحكام و الطغاة ضد المؤمنين تارة بالترغيب و تارة بالترهيب ، و قد تكون عبر الاعلام و المواقف الاجتماعية و الاقتصادية و .. و ... ، و لا بد لكل مؤمن يختار طريق الحق ان تكون هذه الصورة الواقعيةحاضرة في وعيه ، حتى لا يتفاجأ من جهة ، و لكي يستعد نفسيا و عمليا لمواجهتها .
[ و لا تطع منهم اثما او كفورا ]
قال الزمخشري : معناه : و لا تطع منهم راكبا لما هو اثم داعيا لك اليه ، او فاعلا لما هو كفر داعيا لك اليه ، لانهم اما ان يدعوه لمساعدتهم على فعل ما هو اثم او كفر ، او غير اثم و لا كفر ، فنهي ان يساعدهم على الاثنين دون الثالث (1) .
(1) الكشاف / ج 4 / ص 674 .
و الذي يظهر لي ان الآية تشمل المنافقين الذين يتظاهرون بالاسلام و لكنهم يرتكبون الاثم و يريدون الباطل ، كما تشمل الكفار الذين يبالغون في الكفر و يعادون الحق بصورة صريحة و ظاهرة .
ثالثا : الروحية العالية ، و ذلك لان هزيمة الانسان و انتصاره و استقامته و تراجعه كل اولئك يرتكز على قوة إرادته و صلابة شخصيته ، فعلى المؤمنين ان يشحذوا عزائمهم ، و يوفروا ارادتهم ، و ينموا قوة شخصياتهم ، حتى يرتفعوا الى مستوى الالتزام بالرسالة و مقاومة التحديات في الدنيا ، و الى مستوى الابرار و نعيمهم في الاخرة . و ذكر الله الدائم و صلاتهم بالليل هما معراج المؤمنين الى تلك الفضيلة و المنزلة ، لذا يدعو القرآن رسول الله و كل فرد مؤمن الى الذكر و الصلاة .
[ و اذكر اسم ربك بكرة و أصيلا * و من اليل فاسجد له و سبحه ليلا طويلا ]و البكور هو أول الصباح ، و الاصيل هو اول الليل و أصله ، و المراد هو المداومة على الذكر نهارا و ليلا . و قيل : " بكرة " يعني صلاة الصبح ، و " أصيلا " يعني صلاتي الظهر و العصر ، " و من الليل " اشارة الى صلاتي المغرب و العشاء اللتان تقعان في بعض الليل من اوله ، " و سبحه ليلا طويلا " يعني " صلاة الليل " (1) روي ذلك عن الامام الرضا ( ع ) . و تأكيد الله على مفردات معينة في الايتين لحكمة ، فقد قال الله : ( اذكر ، اسجد ، و سبح ) و كلها تتمحور حول قيمةالتوحيد و تأكيد العبودية لله ، و ذلك هو سر الفضيلة و التسامي على الضغوط و التحديات التي تدعو الانسان الى الشرك .
[ 27 - 31 ] و بعد ان فصل لنا القرآن الحديث عن الابرار الذين يختارون(1) نور الثقلين / ج 5 ص 489 .
سبيل الشكر و الهدى ، و ان ايمانهم باليوم الآخر و خوفهم منه عامل رئيس في اختيارهم طريق الحق و سلوكهم السليم في الحياة ، يؤكد لنا بان مشكلة الكفار التي دعتهم الى الاثم و الضلال تتمثل في حبهم الشديد للدنيا و كفرهم بالاخرة .
[ ان هؤلاء يحبون العاجلة و يذرون وراءهم يوما ثقيلا ]ومن الآية نفهم ان حب الدنيا هو الحجاب الذي يحول بين الانسان و بين الايمان بالآخرة ، و ان الطريق لخرق هذا الحجاب هو حضور يوم القيامة العصيب في وعيه بتذكر مواقفه الرهيبة و مشاهدة الثقيلة .
[ نحن خلقناهم و شددنا أسرهم ]
قال صاحب المجمع : الاسر اصله الشد ، و منه قتب مأسور : اي مشدود ، و منه الاسير : لانهم كانوا يشدونه بالقيد ، و قولهم : خذ بأسره بشده (1) ، " و شددنا أسرهم " اي قوينا و احكمنا خلقهم عن قتادة و مجاهد ، و قيل : أسرهم : اي مفاصلهم عن الربيع ،و قيل : اوصالهم بعضها الى بعض بالعروق و العصب ، و لولا أحكامه إياها على هذا الترتيب لما امكن العمل بها و الانتفاع منها ، و قيل : جعلناهم اقوياء عن الجبائي ، و قيل معناه : كلفناهم و شددناهم بالأمر و النهي كيلا يجاوزوا حدود الله ، كما يشد الاسير بالقيد لئلا يهرب (2) .
و لعل المعنى هو ظاهر الاسر ، فان ذلك يتناسب مع الشطر الثاني للآية ، و ينسجم مع السياق ، فحيث بين الله حب الكفار للعاجلة ، و من ثم تركهم الآخرة و الالتزام بأوامر الله و نواهيه ، و اطلاقهم العنان لانفسهم في الاهواء و الشهوات ، اراد(1) مجمع البيان / ج 10 / ص 412 .
(2) المصدر / ص 413 .
ان يؤكد بأنه لا يعصى عن غلبة ابدا . و هذا ما يستدعي التأكيد عى حاكمية الله في الانسان و هيمنته عليه ، و ان حوله منه و قوته به ، و انه لا حول و لا قوة له ذاتية .
و لعل استخدام كلمة الاسر هنا للايحاء بان الانسان مقيد بقدرة الله و قوته حيث ان شد أسره بيده ( و بهذا تجتمع معاني الاسر في الآية ) .
و الذي يتفكر في وجود الانسان يجد انه أسير لله تكوينيا و عمليا ، فهو من جهة محكوم بقوانين تكوينية كالنمو و التنقل من مرحلة الى أخرى قسرا عنه ، و الدورة الدموية و دقات القلب و حركة الجهاز الهضمي و الكبد و .. و .. ، و من جهة أخرى هو أسير تدبير الله وسننه في الحياة ، لا يستطيع ان يقاوم الموت مثلا .. و قد وجدت أشارة الى هذا التفسير لدى العلامة الطباطبائي اذ قال : و الآية في معنى دفع الدخل ، كان متوهما يتوهم انهم بحبهم للدنيا و اعراضهم عن الاخرة يعجزونه تعالى ، و يفسدون عليه ارادته منهم ان يؤمنوا ويطيعوا ، فاجيب بانهم مخلوقون لله ، خلقهم و شد أسرهم اذا شاء اذهبهم و جاء بآخرين ، فكيف يعجزونه و خلقهم و أمرهم و حياتهم وقوتهم بيده ؟ ! (1) . و اظهر آيات أسر الله للبشر هو الموت الذي قهرهم به ، فهو يميتهم حيثما شاء و كيفما اراد ، و يأتي بغيرهم دون انيقدر احد على رد ارادته ، اذ توحد بالبقاء " و قهر عباده بالموت و الفناء " (2) .
[ و اذا شئنا بدلنا امثالهم تبديلا ]
اي جئنا باخرين امثالهم بديلا عنهم ، باهلاكهم ، او بجعلهم الحاكمين . و انما ذكرت كلمة الامثال هنا - و في موارد متشابهة - للاشارة الى صفاتهم و ان من كان بصفة العجز و الضعف و المحدودية - امثال هؤلاء - لا يعجزون الله شيئا ،(1) الميزان / ج 20 / ص 123 .
(2) دعاء الصباح ( مفاتيح الجنان ) .
لان بيده أسرهم و هو قادر على تبديلهم .
علما بان كلمة المثل تدل على الشبيه و لكن بلحاظ مواصفاته و طبائعه ، و الله العالم .
و حري بالانسان الذي يأتي عليه الموت ان يفكر فيما بعده من مستقبل ، و يستعد له ، باتباع الحق و الصراط المستقيم الذي هو السبيل الى رضوان الله ، الذي بيده الامر و الحكم و اليه المصير .
[ ان هذه تذكرة ]
اي التي طرحتها الاية السابقة و كل آيات السورة . و الموقف السليم منها ان يهتدي بها البشر الى الايمان بربه ، و اتباع سبيله المتمثل في رسالته و اوليائه و حزبه .
[ فمن شاء اتخذ الى ربه سبيلا ]
و تأكيد مشيئة الانسان هنا هو تقرير لحرية الاختيار عنده ، و مسؤوليته عن مصيره ، فالاختبار بيده يتبع اي سبيل شاء سبيل الشكر او سبيل الكفر ، و له الغنم و عليه الغرم .
[ و ما تشاءون الا ان يشاء الله ]
لان المخلوقين لا يمكنهم ان يملكوا ارادة ذاتية ابدا ، فهم حيث يشاؤون فوسائل مشيئتهم من عقل و ارادة و جوارح كلها من عند الله ، و لا تنشأ لمخلوق مشيئة بدون اذنه ، فيسلب البعض توفيق الهداية و يهبه لآخرين . و لكن ليس اعتباطا ، بل على أساس علمه بحال المخلوق و حكمته البالغة .
[ ان الله كان عليما حكيما ]
فتعليقه لمشيئة المخلوق على مشيئته لا يعني الجبر ، لان ذلك يلغي دور الانسان و مسؤوليته ، كما ينفي حكمة الله حين خلقه و ابتلاه ، فتعالى الله عما يصفون . و لكن اعطاءه المشيئة لهم لا يعني استطالتهم على ربهم و استقلالهم عنه ، فان هذا من التفويض الباطل ،انما أعطاهم المشيئة و هو المدبر المحيط بهم علما و قدرة .
[ يدخل من يشاء في رحمته ]
و لكنه حين علق مشيئته بعلمه و حكمته فلن يدخل في رحمته من ليس أهلها انما الذي سعى و عمل صالحا . و هذا ما يبرر عدم ذكر النقيض للظالمين ، و اقتصار القران على ذكرهم ، لانه لا يدخل رحمة الله الا من كان مؤمنا و طاهرا من دنس الضلال و الظلم .
[ و الظالمين اعد لهم عذابا اليما ]
جزاء لظلمهم ، كما ان النعيم و الملك الكبير كان للابرار جزاء و كان سعيهم مشكورا .
|