بينات من الآيات [ 27] لماذا يطغى الانسان ؟ اوليس لانه لم يستوعب او يعترف بالنشور و الحساب ؟ و لكن كيف يؤمن بذلك و وساوس الشيطان تبعده عنه و تطرح في روحه التساؤلات المتلاحقة : كيف و متى و انى ؟
من اجل ان يتجاوز الانسان هذه الوساوس و لا يقع في شرك الشيطان يذكره الرب سبحانه بما يحيط به من خلق السماوات و الارض ، و ذلك لأمرين :
اولا : لكي نؤمن بعظيم قدرة الله التي تتجلى في هذا الخلق مما يهدينا الى انه لا يعجزه شيء .
ثانيا : لكي نزداد وعيا بحكمة الخلق ، و ان له هدفا محددا ، و ان الانسان لن يشذ عن هذه السنة العامة .
و اذا وعى الانسان هاتين البصيرتين فانه يستطيع مقاومة وساوس الشيطان .
[ ءأنتم اشد خلقا ام السماء بناها ]
فقدرة الرب التي بنت هذه الاجرام التي لا يبلغ حتى خيال اعظم العلماء مداها لا تعجزه اعادة الانسان الى الحياة مرة اخرى ، و قال الله سبحانه : " لخلق السماوات و الارض اكبر من خلق الناس و لكن اكثر الناس لا يعلمون " (1) .
[ 28 ] و اذا كان خلق السماوت شاهدا على قدرة الرب فان نظامها الدقيق شاهد(1) غافر / 57 .
على حكمته . أنظر الى السماء كيف ارتفعت بلا عمد نراها ، و كيف استوت ضمن سلسلة لا تحصى من السنن و الانظمة الحكيمة .
[ رفع سمكها فسواها ]
قالوا : اذا نظرت من فوق الجبل الى الوادي قلت عمق الوادي ، و اذا نظرت من الوادي الى قمة الجبل قلت سمك السماء ، هكذا رفع الله السماء و جعلها عالية ، و ألزم اجرامها و غازاتها و اشعتها قوانين لا تحيد عنها قيد شعرة ، و لعل هذا معنى التسوية .
[ 29] و تهيئة نظام الطبيعة للحياة بدوره شاهد على مدى القدرة و الحكمة في الخلق ، فاختلاف الليل و النهار ، و بالتالي الظلام و النور و السبات و الحركة يهدينا الى مدى عمق الحكمة التي وراء الخلق .
[ و اغطش ليلها و أخرج ضحاها ]
قالوا : الغطش : الظلام . و الضحى : وقت انتشار نور الشمس ، هكذا دبر القدير الحكيم أمر الارض و السماء لتتوفر فرصة الحياة على الارض بما لا نجد مثيلا لها في الكرات القريبة منا . او كان كل ذلك بلا هدف ؟
[ 30 ] و بعد خلق السماء و الارض تم دحو الارض و تمهيدها و تسويتها ..
[ و الارض بعد ذلك دحاها ]
قالوا : ان ذلك اشارة الى العوامل الطبيعية التي تتابعت على الارض حتى تهيات للعيش ، ثم تعرضها للامطار الغزيرة و السيول العظيمة ، ثم انحسار المياه عن بعض المناطق دون غيرها .
[ 31] ثم اعد الله الارض بما اودع فيها من مواد تساعد على زراعتها ، و بما جعل في باطنها و ظاهرها من مخازن و مجاري للمياه لسقيها طوال العام .
[ اخرج منها ماءها و مرعاها ]
و لذلك فان المناطق القاحلة لا تصلح للزراعة ، اما بسبب فقر التربة او قلة الماء .
[ 32] و لان الزلازل و البراكين و جاذبية القمر و العواصف الهوج التي قد تعترض الارض كانت تهدد حياة الانسان فوق البسيطة خلق الله الجبال و ارسى بها دعائم الارض .
[ و الجبال ارساها ]
اي اثبتها بقدرته ، و جعلها درعا حصينة للارض ، يقول الامام علي - عليه السلام - " بعد ان تحدث عن السماوات و الارض و كيف انهما دليل على اقتدار جبروت ربنا و بديع لطف صنعته " : " و جبل جلاميدها " اي الارض " و نشوز متونها و أطوادها فأرساها في مراسيها ، و الزمها قراراتها ، فمضت رؤوسها في الهواء ، و رست أصولها في الماء ، فأنهد جبالها عن سهولها ، و أساخ قواعدها في متون اقطارها و مواضع انصابها ، فاشهق قلالها ، و طال انشازها ، و جعلها للارض عمادا ، و أرزها فيها أوتادا ، فسكنت علىحركتها من ان تميد بأهلها او تسيخ بحملها او تزول عن مواضعها " (1) .
[ 33] كل ذلك لكي تتوفر فرص الحياة للانسان و البهائم التي تخدم الانسان بصورة مباشرة او غير مباشرة .
(1) نهج البلاغة / خطبة 211 .
[ متاعا لكم و لانعامكم ]
او ليس كل ذلك دليلا على ان لوجودنا حكمة بالغة ، فلماذا ننكر المسؤولية ؟
[ 34] ان للكفر بيوم المعاد سببا نفسيا هو التمادي في الغفلة ، و القرآن يخرق باياته الصاعقة حجب الغفلة لمن تدبر فيها .
[ فاذا جاءت الطامة الكبرى ]
فأي شيء ينقذنا من تلك الطامة ؟ هل الغفلة تبرر عدم الاعداد لها ؟ و الطامة من الطم بمعنى ردم الفجوة ، و تسمى المآسي المروعة بها لانها تملا النفس رعبا او لانها قد بلغت منتهى المأساة . و القرآن يضيف كلمة " الكبرى " لعلنا نتصور تلك الساعة التيثقلت في السماوات و الارض و نحن عنها غافلون .
[ 35 ] في ذلك اليوم يمر شريط أعمال المرء أمام عينيه . اوليس يرى جزاء كل صغيرة و كبيرة من أعماله ؟ اولا يقرؤها في طائره الذي علق في رقبته ، فلا أحد يستطيع التكذيب او الفرار من مغبة اعماله ؟
[ يوم يتذكر الانسان ما سعى ]
و في يوم القيامة تتساقط الحجب من عين الانسان و عقله فاذا هو يتذكر و باستمرار كل مساعيه .
[ 36 ] كما ان الجحيم التي هي معتقل الطغاة و المجرمين تبرز امام الجميع بما فيها من نيران تكاد تتميز من الغيظ ، و من عقارب و حيات تتربص بالقادمين ، و من شياطين و عفاريت ينتظرون الفتك بقرنائهم .
[ و برزت الجحيم لمن يرى ]
فكل ذي عين بصيرة يرى الجحيم بلا حجاب ، فيكون المذنبون في حسرة عظمى و خوف لا يوصف .
[ 37] هنالك الجزاء الاوفي للطغاة ، الذين كفروا بالنشور ، و اغرقوا في شهوات الدنيا ، و لم يخافوا ربهم .
[ فأما من طغى ]
و أعظم الطغيان مخالفة القيادة الشرعية ، فقد جاء في الحديث المأثور عن الامام علي - عليه السلام - :
" ومن طغى ضل على عمل بلا حجة " (1) .
و انما تطغى النفس باتباع الهوى لانه يصد الانسان عن الحق ، قال الامام أمير المؤمنين - عليه السلام - :
" ان أخوف ما أخاف عليكم اثنان : اتباع الهوى ، و طول الامل ، فاما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، و اما طول الامل فينسي الآخرة " (2) .
[ 38] [ وءاثر الحياة الدنيا ]
فقدمها على الآخرة .
[ 39] [ فان الجحيم هي المأوى ]
انها النهاية التي اختارها بنفسه ، و يبدو ان هذه الجملة هي جواب اذا الشرطية(1) تفسير نمونه / ج 26 / ص 107 عن نور الثقلين / ج 5 / ص 506 .
(2) نهج البلاغة / الخطبة 42 .
في قوله : " فاذا جاءت " كما هي جواب لقوله : " فأما من طغى " فيكون الأمر مركبا على شرطين ، كما لو قال احدهم : اذا كان رمضان و كنت حاضرا صمت .
[ 40] كيف نتقي طغيان النفس و غرورها ؟ بمخافة الله ، و يبدو ان السورة تعالج هذه الحالة المتجذرة في نفس البشر . و لكن من ذا الذي يخشى ربه ؟ الذي يعرف مقامه . اولم يقل ربنا : " انما يخشى الله من عباده العلماء " .
ان معرفة اسماء الله ، و انه احاط بنا علما و قدرة ، و انه مليك السماوات و الارض ، و انه الجبار المقتدر .. انها تجعل أقسى القلوب خاشعة ، و من هنا تزيغ وساوس الشيطان بنا عن معرفة ربنا سبحانه .
[ و اما من خاف مقام ربه ]
ليتقي طغيان نفسه .
[ و نهى النفس عن الهوى ]
لكي لا يؤثر على الآخرة شهوات الدنيا الزائلة ، و لا يذهب طيباته في الحياة الاولى ، و لكي ينظر لما قدمت يداه لغده و لدار اقامته التي هي الحيوان حقا .
[ 41] [ فان الجنة هي المأوى ]
يعود اليها ، لانه اصبح في الدنيا من أهلها ، و كل امرء يعود الى مأواه الاصيل و وطنه الدائم . فالميزان اذا ثمة ليس الانتماءات الظاهرة في الدنيا ، و ليس التسجيل في حفيظة التقوى انما مخالفة الهوى ، و اتباع الحق ، أرأيت كيف أصبح مصعب بن عمير - الذي قيلان الآية نزلت فيه - من صفوة اهل الجنة ، بينما كان اخوه عامر بن عمير في الدرك الاسفل من النار ؟ بماذا ؟ اليس لانعامر طغى و خالف الحق و اتبع هواه ، بينما اتبع مصعب رسول الله ، و جاهد بين يديه ، و قيل انه قتل اخاه في احد ، و وقى الرسول بنفسه حتى نفذت المشاقص في جوفه ؟
[ 42] و حين يقرر الانسان الكفر بشيء يبرر ذلك لنفسه بالتشكيك فيه و بانه لا يعرف كيف يقع و بأية صورة و متى .. و هكذا طفق الكفار يرتابون في الاخرة ، و يتساءلون : كيف يبعث الله العظام البالية ، و متى ، و لماذا تاجلت هذه المدة الطويلة ؟ لماذا لم يبعث حتى الان الذين ماتوا في اول الزمان ؟ و هكذا ..
و لكن كل هذه التساؤلات لا تنفي حقيقة الساعة ، و انها واقعة لا ريب فيها .
[ يسئلونك عن الساعة أيان مرساها ]
متى تستقر كما تستقر السفينة في النهاية على شاطئها ؟
[ 43] و لكن الله اخفى علمها عن العالمين ، بل لم يحدد لها وقتا انما يقررها متى ما شاء ، و حسب حديث مروي عن رسول الله ( ص ) انه قال : " لا تقوم الساعة الا بغضبة يغضبها ربك " (1) .
و لكن معرفة ميعاد الساعة او الجهل بها لا يغير من واقعها شيئا . انها عظيمة الى درجة تشفق السماوات من وقعها ! افلا نتذكرها و نعد لها عدة ؟
[ فيم انت من ذكراها ]
يبدو لي ان معنى هذه الآية : اين انت من قصتها و حديثها ، و لماذا لا تتذكرها ، و ليس معناها كما قالوا : ليس لك السؤال عنها ، او فيم انت من ذلك حتى يسالونك(1) القرطبي / ج 19 / ص 209 .
بيانه ، و لست ممن يعلم .
و قال بعضهم : يحتمل ان يكون الوقف عند " فيم " و كانه قيل فيم تسأل و انت من ذكراها اي ان رسول الله ، من اشراط الساعة (1) .
بيد ان تفسيرنا اقرب الى السياق الذي يهدف التذكرة بالساعة و أهوالها .
[ 44] الله سبحانه الذي يأمر بها متى شاء و كيف شاء . انها مما لم يطلع عليه الرب احدا من خلقه .
[ الى ربك منتهاها ]
فاليه المرجع في امرها ، كما قال سبحانه : " انما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها الا هو " ، و قال : " ان الله عنده علم الساعة " .
[ 45] بلى . حري بنا ان نترك السؤال عن الساعة الى العمل من اجلها ، و الى تذكرها لحظة بلحظة لانها آتية لا ريب فيها ، و قد توفرت اشراطها ، و من اشراطها النذير المبين رسول الله .
[ انما انت منذر من يخشاها ]
فبدل ان نعاود السؤال عن وقت الساعة تعالوا نخشاها بعد ان جاءنا النذير .
[ 46] و ماذا ينفع المجرمين لو تأخرت الساعة عنهم ، هل يخفف عنهم شيئا من عذاب ربهم ؟ كلا ..
[ كانهم يوم يرونها لم يلبثوا الا عشية اوضاحها ]
(1) انظر القرطبي / ج 19 / ص 209 و الرازي / ج 31 / ص 52 .
ما قيمة سبعين عاما من العمر جلها سبات النوم و غفلة الجهل و الانشغال بالدنيا و ضروراتها ، ما قيمتها اذا قيست بخمسين الف عام مدة اليوم الاول من ايام الاخرة ؟ ! هناك يتذكر الانسان ان عمره في الدنيا كان يوما او بعض يوم ، و انه قصر فيه تقصيرا كبيرا حيثلم يستعد ليوم الاهوال .
و لعل معنى " عشية اوضحاها " : النهار الذي يتصل بالعشية او ينصرم بالضحى ، و ذلك على عادة العرب في قولهم : اتيك العشية او غداتها .. فأهل القيامة قالوا في البدء : كاننا عشنا في الدنيا نهارا كاملا ، ثم اكثروا النهار فقالوا : بل نصف نهار ، كماقال ربنا سبحانه : " ان لبثتم الا عشرا " و قوله : " و قال امثلهم طريقة ان لبثتم الا يوما " و قال : " كانهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا الا ساعة من نهار " .
نسأل الله سبحانه ان يجعلنا ممن وعى رسالة النذير ، و استعد للرحيل و لم ينس الساعة و أهوالها .
|