قتل الانسان ما اكفره
بينات من الآيات [ 17] نعم الله تترى على الانسان ، و لكنه لا يزال يطمع لما في ايدي الآخرين ، بدل ان يسلم وجهه لله الذي اسبغ عليه نعمه ظاهرة و باطنة ، تراه يروح يعبد الطغاة ، او يخضع للمترفين لما يعطونه من فتات الرزق .
لماذا لا يطرق باب رحمة الله التي وسعت كل شيء ؟ ! او غير عليه الرب عادات امتنانه و تفضله ؟ ! اوليس الله بقادر على ان يغنيه عما في ايدي العباد ؟ !
انه اعظم نعم الله الكتاب الذي يذكره سبيل سعادته ، و يغنيه ليس في اموال الدنيا فحسب ، بل في كل شيء من الدنيا الى الآخرة ، و لكنه لا يزال يكفر ، قتله الله بكفره !
[ قتل الانسان ما اكفره ]
و كلمة " قتل " لعنة عليه ، و تعبير عن منتهى الغضب ، و في نفس الوقت فيها ايحاء بان الكفر يقتل الانسان ، يقتل مواهبه و فضائله و فرص سعادته ، و حتى ينتهي بقتله تماما ! اليس القتل درجات ، و الكفر باية نعمة الهية يؤدي الى قتل فرصة من فرص الحياة عند الانسان ، و بالتالي فهو يعتبر درجة من القتل و مستوى منه ؟ ! ارايت الذي يملك رصيدا عظيما في البنك و لكنه لا يؤمن بذلك ، و كلما قيل له عنه كذب و ابى ! اليس يعدم موهبة الهية ؟ ! كذلك الذي يملك رصيدا عظيما في القرآن يستطيع ان يتخذه لنفسه سعادة و فلاحا ثم يكفر به .
و التعبير بـ " ما اكفره " يوحي بمدى كفره ؛ انه كفر واسع المدى ، متعدد الابعاد ، و من هنا قال بعضهم : الكفر هنا جاء بمعناه اللغوي الذي يعني الستر ، و يشمل الكفر بالله او بنعمة او حتى الكفر بنعمة واحدة ، و لذلك فان كلمة " الانسان " هنا تسع كل الناس لانه ما من انسان الا و يكفر بقدر ما بنعمة الله .
[ 18 - 19] ثم يعدد السياق نعم الله على الانسان و التي يقابلها بالكفر و اولها نعمة خلقه من النطفة و يقول :
[ من اي شيء خلقه * من نطفة خلقه فقدره ]
هذه القطرة من الماء التي تخرج من الصلب و تلك القطرة التي تتدفق من الترائب ، تلتقيان فيخلق الله بهما الانسان في ظلمات الارحام ، حيث لا يعرف حتى ابواه ماذا يجري هنالك ، فلا تزال عين الله ترعاه ، و يده تقلبه من طور الى طور ، حتى يخرج انسانا سويا ، كيفقدر الله مواد جسمه من انواع العناصر ، و بعض من هذه العناصر استقدمه الرب من نجوم تبعد عنا الاف البلايين من الاميال ، ثم قدر حجم كل عنصر و مقداره في بنيته ، و يصوره بأحسن تصوير ، و قدر جوارحه بانظمة معقدة لا نزال لا نعرف الا جانبا منها هو الذي نجده فيالغدد المنظمة لنمو الاعضاء ،
و قدر مجمل وزنه ، فلا يصبح اطنانا و لا يبقى عند الوزن الذي اخرج من بطن امه انما يتراوح بين الستين و التسعين غالبا ، كما يحدد طوله فلا نجد من ارتفع امتارا متطاولة ، كما لا نجد الاقزام الا قليلا .
كما يقدر رغبات نفسه ، و شهوات جسده ، و يكيفها وفق ظروفه ، كل ذلك لا يهديه الى ربه و لا يجعله يسلم وجهه اليه ! بلى ما اكفره ما اكفره ! !
[ 20] و هداه الى ما ينفعه و ما يضره ، و الى ما يسعده و يشقيه ، و الى رزقه من اين يأتيه و كيف يصرفه . ان الانسان مزود بفطرته و عقله ، بمنظومة من الغرائز و الافكار تهديه الى سبل العيش .
[ ثم السبيل يسره ]
بلى . الهمه فجوره و تقواه ، و ارسل الانبياء ليذكروه بتقواه ، و ينذروه من الفجور ، و زودهم بشرائع تفصيلية تبين له سبل السلام .
[ 21] و بعد ان انقضت دورته قهره بالموت ليكون عبرة لمن بعده ، و ينقله الى حياة اخرى ، و يسعده فيها ان عمل صالحا ، و لم يدع جسمه عرضة لنهش الحشرات و الجوارح و السباع ، و انما هيا له قبرا يوارى فيه كرامة له .
[ ثم اماته فأقبره ]
[ 22] و ان الله الذي قلب الانسان بين يدي قدرته في مختلف الاطوار قادر على ان يعيده متى شاء .
[ ثم اذا شاء انشره ]
[ 23 ] و لكن الانسان الذي اسبغ عليه الرب كل هذه النعم لا يزال متحديا قدرته و سلطانه ، و لا يزال يتمرد على اوامره و لا يقضيها .
[ كلا لما يقض ما امره ]
ماذا تعني " كلا " ؟ يبدو ان معناها هنا و في سائر مواقع استخدامها الايذان بوقوع مالا ينبغي ، و لا يتوقع العقل بعد سرد تلك النعم الا ان يكون الانسان في منتهى التسليم لربه وفاء لبعض دينه ، و لكن العكس تماما هو الذي يقع .
اما كلمة " لما " فتعني النفي مع التوقع ، او نفي ما كان متوقعا ، و كلاهما صحيح في هذا السياق ، اذ يرجى تطبيق الانسان لاوامر الرب ، و كما ان عدم التطبيق خلاف ما كان منتظرا .
[ 24] و يعود السياق الى جملة نعم الله على الانسان التي تهديه الى قدرته و حكمته و رحمته ، فهذا الماء تحمله سحب الخير الى عنان السماء ثم تصبه على الارض بسهلها و حزنها ليسقيها ، ثم تنشق الارض عما يطعم الانسان من الوان الحبوب و الثمار .
[ فلينظر الانسان الى طعامه ]
ليس فقط يعرف كيف وفره الله له ، و انما ايضا ليتعلم من مدرسة الخليقة كيف يستفيد منه . اليس كل هذه الطبيعة مسخرة لاطعامك ، الا ترى في ذلك حكمة بالغة ، و قدرة قاهرة ، او لا يعني ان وراء هذه الطبيعة تقديرا و تدبيرا و حكمة ، و ان مراد ربك ان يسعدك ثميهديك ثم يعدك لجنته ؟ ! بلى . و صدق الامام الحسين عليه السلام حينما خاطب ربه قائلا :
" عميت عين لا تراك عليها رقيبا ، و خسرت صفقة عبد لم تجعل له في حبكقسما " (1) .
فاذا نظرت الى الطعام بهذه الرؤية فانك تسمو من درجة التهام الطعام بشهية حيوانية الى مستوى التمتع به براحة نفسية ، و بشكر و امتنان ، و انئذ لا يتغذى به جسدك فقط ، و انما روحك و نفسك ايضا . اليس الشكر و الرضا غذاء النفس ؟ و قد سن الاسلام اداب الطعام لهذا السبب ، فانك من قبل الطعام تقول : " الحمد لله الذي يطعم و لا يطعم ، و يجير و لا يجار عليه ، و يستغنى و يفتقر اليه ، اللهم لك الحمد على ما رزقتني من طعام و ادام ، في يسر و عافية من غير كد مني و لا مشقة " و بعد الانتهاء من الطعام تقول : " الحمد لله الذي اطعمني فاشبعني ، و سقاني فأرواني ، و صانني و حماني ، الحمد لله الذي عرفني البركة ، و اليمن بما اصبته و تركته منه ، اللهم اجعله هنيئا مريئا ، لا و بيا و لا دويا ، و ابقني بعده سويا ، قائما بشكرك ، محافظا على طاعتك ، و ارزقني رزقا دارا و اعشني عيشا قارا ، و اجعلني ناسكا بارا ، و اجعل ما يتلقاني في المعاد مبهجا سارا ، برحمتك يا ارحم الراحمين " (2) .
و حين ينظر الانسان الى الطعام نظر عميقا يعرف ان ليس كل الطعام صالحا لكل وقت ، فلا بد ان يميز بين الضار منه و النافع ، الجيد و الرديء ، و الحلال و الحرام ، فلا ياكل الا ما ينفعه و ما يحل له ، و بقدر انتفاع جسده منه ، لذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وآله - : " لا تموتوا القلوب بكثرة الطعام و الشراب ، فان القلوب تموت كالزرع اذا كثر عليه الماء " (3) .
و في الحديث عن الامام علي - عليه السلام - : " من اكل الطعام على النقاء ، و اجاد تمضغا ، و ترك الطعام وهو يشتهيه ، و لم يحبس الغائط اذا اتى لم يمرض الا(1) مفاتيح الجنان - دعاء عرفة .
(2) مكارم الاخلاق / ص 142 ، و نقله مستدرك وسائل الشيعة / ج 3 / ص 93 .
(3) مكارم الاخلاق / ص 150 .
مرض الموت " (1) .
و روي عن الامام الصادق - عليه السلام - انه قال : " كان رسول الله ( ص ) اذا اتي بفاكهة حديثة قبلها و وضعها على عينه و يقول : اللهم اريتنا اولها في عافية ، فارنا اخرها في عافية " (2) .
و روي عن رسول الله - صلى الله عليه واله - انه قال : " النفخ في الطعام يذهب بالبركة " (3) .
و هناك عشرات الاداب الاخرى للطعام يبينها الاسلام و غيرها في الكتب الفقهية ، و اذا كان الطعام وهو غذاء البدن اولاه الدين هذا الاهتمام فكيف بالعلم ، اوليس هو غذاء الفكر ، فهل يجدر ان يأخذه من اي مصدر ؟ ! كلا .. لابد ان ننظر ممن نتعلم ، و ما هي مصادرالمعلومات التي توجهنا فان كثيرا منها خاطئة و وراءها الجناة الذين لا هم لهم سوى تضليل الانسان عن الصراط السوي . ان هذه المعلومات اشد ضررا على الانسان من السم الزعاف .
كذلك جاء في الحديث في تفسير هذه الآية الكريمة : " علمه الذي يأخذه عمن يأخذه " (4) .
[ 25] كيف وفر الله لك الطعام ؟
[ انا صببنا الماء صبا ]
(1) المصدر / ص 146 .
(2) المصدر .
(3) المصدر .
(4) تفسير البرهان / ج 4 / ص 429 .
فجاء الماء امل الحياة من فوق و بانصباب و وفرة ، حتى يكفينا النظر الى نظام الغيث ايمانا بربنا العزيز .
[ 26] و الارض كيف جعلها الله صالحة للزراعة ! بان لم يجعلها صلبة قاسية ، و لا رخوة مائعة ( كالرمل المتحرك ) و اودع فيها مواد الزراعة .
[ ثم شققنا الارض شقا ]
ما اروع انفلاق الارض عن النبتة التي تشق طريقها الى الظهور ، ربما عبر الصخور الصلدة ، و قال بعضهم : الاية تشير الى العصور الاولى من عمر الارض ، حيث كانت قشرتها صماء لا تصلح للزراعة فذللها الرب بفعل السيول المستمرة و الله العالم .
عن ابي جعفر - عليهما السلام - في حديث طويل يقول فيه : " فان قول الله عزوجل : " كانتا رتقا " يقول : كانت السماء رتقا لا تنزل المطر ، و كانت الارض رتقا لا تنبت الحب ، فلما خلق الله تبارك و تعالى الخلق ، و بث فيهما من كل دابة فتق السماءبالمطر ، و الارض بنبات الحب " (1) .
[ 27] ثم اعد ربنا الارض للزراعة ، و اودع فيها الوفا من انواع النبات التي يقوم كل نوع منها بدور عظيم في تكاملية الخلقة .
[ فانبتنا فيها حبا ]
قال بعضهم انها الحنطة و الشعير ، و قال اخرون : بل سائر انواع الحبوب كالذرة و الفاصوليا و العدس و الحمص ، و معروف ان الحب لا يزال يشكل المصدر الاول(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 504 .
للطعام في العالم وهو الطعام الطبيعي المناسب ، الذي لا ينافسه غذاء اخر لما فيه من السلامة و التكاثر و الفائدة ، و بالرغم من تضاعف سكان الارض عدة مرات خلال القرون الاخيرة فان الارض لا تزال تفي بواجبها في اطعام المزيد من الافواه الفاغرة ، و اذا راينا مجاعة هنا ، و نقصا في المواد الغذائية هناك فانما بسبب كوارث الطبيعة او سوء في التوزيع ، او سوء في الادارة ، و الا فان ما في الارض من القمح يكفي لاهلها و يزيد حسب الاحصاءات الدقيقة .
[ 28] [ و عنبا و قضبا ]
يشير القران الى نوعين اخرين من الطعام ميسورين و اساسيين للغذاء يتدرجان معا من فصيلة الخضروات و النباتات الارضية ، و هما العنب و القضب ، و القضب : هو النبتة التي تجزر و تقطع كانواع الخضروات و البقليات كالباذنجان و الطماطم و اليقطين و اللفت و ما اشبه، مما تحمل الينا اعظم الفوائد و لعل هذا الترتيب يدل على التدرج في الفائدة ، و قد كشف العلم عما في الخضروات من منافع عظيمة .
[ 29] و من نعم الله الزيتون الغني بمواد غذائية ، و بالدهن و الذي يكون عادة صبغا للاكلين ، و هكذا النخل التي يستفاد من جذعه و سعفه و ليفه في مختلف الصناعات ، اما ثمرته ففيه غذاء كامل لا يدانيه طعام .
[ و زيتونا و نخلا ]
[ 30] و الاشجار التي تلتف الى بعضها و تتغالب للوصول الى اشعة الشمس و تغلظ سيقانها ، و تتحدى الاعاصير و الافات . انها نعمة الهية اخرى يسبغها علينا الرب بالغيث .
[ وحدائق غلبا ]
قال البعض الاغلب ذا الرقبة الغليظة ، و قيل : انه من التغالب و الالتفاف الى بعضهما ، كما قال ربنا سبحانه و تعالى : " و جنات الفافا " (1) .
ان هذه الحدائق تضيف الى ارضنا بهجة و صفاء ، و تلطف الجو ، و تصلح البيئة ، و تستمطر السماء ، و تساهم في تكون احواض طبيعية في الارض لحفظ المياه ، و تعطي الثمرات المختلفة ، و تتربى الطيور الجميلة في احضانها ، و تؤوي الحيوانات اللاليفة اليها ، فقد جعلت ضرورة لبقاء الانسان و سعادته (2) .
[ 31] و من ثمار هذه الحدائق يتمتع الانسان بفواكه كثيرة تختلف الوانها و احجامها و متعتها و فائدتها ، و هي جميعا تنتزع من حديقة واحدة يسقى بماء واحد ، هل لاحظت الفرق بين الفستق و اللوز و الجوز و بين الطلح ( الموز ) و الاناناس و جوز الهند ، ان جوزة واحدة من الهند تكون بحجم مئات الحبات من الفستق ، على ان كلا منهما لذيذ و مفيد و رائع الجمال سبحان الله ، و بالاضافة الى الفاكهة خلق الله علف الحيوانات الاهلة .
[ و فاكهة و أبا ]
قالوا : الاب علف الحيوانات سمي بذلك لان الحيوان يعود اليه .
و قيل : بل الاب هي الفواكه اليابسة و قال ابن عباس : الاب ما تنبت الارض مما ياكل الناس و الانعام .
(1) النبا / 16 .
(2) اكتب هذه الكلمات في يوم ربيعي متميز و في ظل اشجار بالغة الجمال ، و منظر خلاب لشتيلات الازهار المنظمة ، و في حديقة زاهية تمتد على مسافة 240 هكتارا الى جنب بحيرة رائعة في مدينة بنكلور الهندية و ارى واحدا من تجليات الجمال الالهي على الارض و اقوال : سبحانك ما اعظمك ، سبحانك ما ارحمك ، غفرانك اللهم و اليك المصير .
ورد : ان ابا بكر سئل عن قوله تعالى : " و فاكهة و ابا " فلم يعرف معنى الاب من القران فقال : اي سماء تظلني ، ام اي ارض تقلني ، ام كيف اصنع ان قلت في كتاب الله بما لا اعلم ، اما الفاكهة فنعرفها ، و اما الاب فالله اعلم به ، فبلغ امير المؤمنين( ع ) مقاله فقال : " يا سبحان الله ! اما علم ان الاب هو الكلا و المرعى ، و ان قوله تعالى : " و فاكهة و ابا " اعتداد من الله تعالى بانعامه على خلقه بما غذاهم به ، و خلقهم لهم و لانعامهم مما تحيي انفسهم ، و تقوم به اجسادهم " (1) .
و في الدر المنثور : عن انس : ان عمر قرا على المنبر : " فانبتنا فيها حبا * و عنبا و قضبا * و زيتونا و نخلا * و حدائق غلبا * و فاكهة و ابا " قال : كل هذا عرفناه فما الاب ؟ ثم رفض عصا كانت في يده ، فقال : هذا لعمر الله هو التكلف ، فما عليك ان لا تدري ما الاب ، اتبعوا ما بين لكم هداه من الكتاب فاعلموا به ، و ما لم تعرفوا فكلوه الى ربه (2) .
[ 32] و الذي خلق الفاكهة خلق في الانسان الحاجة اليها ، و التلذذ بها و الاستفادة منها ، و الذي خلق الاب ( على ان يكون معناه علف الحيوانات ) خلق في الانعام ما ينسجم معه ، او تدري مثلا : ان جسد الانعام قادرة على استخراج بروتين الحشائش ، بينما لا يستطيعه جسم الانسان ، و لذلك ترى الحيوانات تحول ما لا ينتفع الانسان به من قشور الفاكهة و بقايا النبات الى بروتين و لحم ليعود بالتالي طعاما للانسان ؟
[ متاعا لكم و لانعامكم ]
[ 33] كل هذه النعم المتواصلة التي اسبغها الرب على الانسان بين سائر(1) الارشاد للمفيد / ص 107 .
(2) الدر المنثور / ج 6 / 317 .
الاحياء و النبات تحمله مسؤولية اضافية ، فهو المسؤول الوحيد بين سائر الاحياء ، و هكذا يبعث بعد موته للحساب و الجزاء في يوم الصيحة الكبرى .
[ فاذا جاءت الصاخة ]
قالوا : الصاخة : الصيحة ، و انها النفخة الثانية ، تصخ الاسماع اي تصمها ، و قيل : بل تصخ لها الاسماع ، و هي بالتالي ماخوذة من صخه بالحجر اي صكه ، و من هذا الباب قالت العرب : صختهم الصاخة و باءتهم البائنة و هي الداهية .
[ 34] يومئذ تكاد تصم الصيحة اذان الخلائق بقوتها ، و لكن الاذان يومئذ غيرها في الدنيا فان الله جعلها بحيث تستوعب المزيد من الاثارة ، كما ان الاجسام تستوعب الالام و اسباب الموت دون ان تعدم .
يومئذ تنقطع الارحام ، و تنفصم عرى العلاقات ، و تتلاشى الاحساب و الانساب التي كانت وسيلة للتفاخر في الدنيا ، و لا يبقى اثر لهذه القيم ابتة .
[ يوم يفر المرء من اخيه ]
و الاخ هو اقرب معين للانسان و قد قال الشاعر :
اخاك اخاك فمن لا اخ له كساع الى الهيجاء بغير سلاحو لكن الانسان يهرب منه . لماذا ؟ لانه يخشى ان يلحق به عذابه ، او يطالبه بحق له في الدنيا ، او يستعين به على العذاب فلا يستطيعه .
بل انه يفر منه لان مجرد رؤيته تشكل له حرجا فكيف بالتعاون معه ، و هذه لا تكون الا عند اعظم الشدائد حيث يركز فكر الانسان في نفسه دون احد سواه .
و قد جاء في الروايات : ان الذي يفر من اخيه : قابيل من هابيل ، و قيل : بل هابيل يفر من قابيل لكي لا يطلب منه الشفاعة ، و لعلهما جميعا يفران من بعضهما .
[ 35] و بعد العلاقة الاخوية تأتي علاقة الولد بوالديه و التي تنفصم يومئذ الى درجة ترى المرء يهرب من والديه فكيف يستطيع الوالدان الاعتماد عليه يومئذ .
[ و امه و ابيه ]
افلا ينبغي الا نترك ديننا لرضا ابائنا الذين قد لا ينفعوننا في الدنيا فكيف بالاخرة و كم منا من تنازل عن قيمه و لم يميز الحلال و الحرام من اجل ابويه فهل ينفعونه غدا شيئا ؟ !
[ 36] اما صلة الانسان بزوجته او ابنائه فهي الاخرى لا تغنيه يومئذ عن عذاب الله فلا يهلك نفسه اليوم لهذه الصلة الزائلة .
[ و صاحبته و بنيه ]
قالوا : الذي يفر من صاحبته لوط ، و من ابنه نوح .
عن الرضا ( ع ) من قصة الشامي مع امير المؤمنين ( ع ) في مسجد الكوفة قال :
" و قام رجل يساله ، فقال يا امير المؤمنين ! اخبرنا عن قول الله تعالى : " يوم يفر المرء من اخيه * و امه و ابيه * و صاحبته و بنيه " من هم ؟ قال : قابيل و هابيل ، و الذي يفر من امه موسى ، و الذي يفر من ابيه ابراهيم - يعني الاب المربي لا الوالد - و الذي يفر من صاحبته لوط ، و الذي يفر من ابنه نوح و ابنه كنعان " (1) .
(1) راجع نور الثقلين / ج 5 / 511 .
[ 37] لماذا يفرون من بعضهم ؟ انما لهول الحساب و خشية العذاب ، لذلك فان كل لهثهم في انقاذ انفسهم .
[ لكل امرىء منهم يومئذ شان يغنيه ]
و انما يصرف الانسان المزيد من جهده للاخرين ، اما في الاخرة فلا يبقى لفكره و جهده و وقته فضل حتى يوفر لغيره حتى ولو كانوا الاقربين .
[ 38 - 39] و هكذا الانسان اكرم في الدنيا بهذه الكرامة العظيمة ليحاسب غدا بذلك الحساب العظيم ، و تكون عاقبته - لو تحمل مسؤوليته كاملة هنا - النعيم ، تنعكس على روحهم بالبشارة ، و على ملامح و جوههم بالبشر و البشاشة .
[ وجوه يومئذ مسفرة ]
قالوا يعني : مضيئة متهللة ، من اسفر الصبح اذا اضاء ، و يبدو لي ان معناه : منشرحة منبسطة ، و قيل : كل ذلك من صلاة الليل ، بل و ايضا من سائر اعمالهم الصالحة .
[ ضاحكة مستبشرة ]
و انبساط وجوه المؤمنين انعكاس لانعدام الهم ، اما ضحكهم فدليل انبهارهم بالنعم ، بينما استبشارهم يعكس رجاءهم في نعيم ربهم او بشاشتهم برضوان ربهم ، و هو اغلى منى يبحث عنه المؤمنون .
[ 40] اما الذين لم يتحملوا مسؤولياتهم فانهم يصابون باحباط شديد ، تعلو و جوههم سيئاتهم في صورة غبار الذل و الهوان .
[ و وجوه يومئذ عليها غبرة ]
[ 41] و الى جانب الغبار ترى الدخان الاسود على وجوههم جزاء تقصيرهم في تطهير انفسهم و تزكيتها في الدنيا .
[ ترهقها قترة ]
قالوا : " ترهقها " تدركها عن قرب كقولك : رهقت الجمل اذا لحقته بسرعة ، اما القتار فقالوا : سواد كالدخان .
[ 42] بلى . غبار الكفر يعلو و جوههم بما ستروا من الحق ، و قتار الفجور يلحقهم بما عملوه من الفواحش .
[ اولئك هم الكفرة الفجرة ]
فلا ينفعهم المال و السلطان ، و لا تشفع لهم العلاقات الحميمة .
اعاذنا الله من هذه العاقبة السوئى .
|