فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


عبس و تولى ان جاءه الاعمى
بينات من الآيات

[ 1] اثارت الايات الاولى في هذه السورة المباركة التساؤل فيمن نزلت ؟ علما بان مثل القران مثل الشمس ، و انه لا ينبغي البحث عن اسباب نزول أية آية منه ، فلم يكن القرآن كتاب حقبة خاصة من الزمن حتى نفتش فيها عن تطبيقاته ، بل لعل تأويل اية كريمة لا يتاتي الا بعد قرون و قرون ، بلى . كانت آيات كثيرة تجد تطبيقها في حياة الرسول ( ص ) و قد اعتقد أهل التفسير انها نزلت في تلك الموارد بينما الحقيقة انها تاولت فيها فقط و لم تكن سوى مصداق من مصاديق القرآن ، و لعل التعبير التالي عند المفسرين الاوائل " نزلت في فلان مثلا " كان يعني انها طبقت عليه واولت فيه وليس نزولها لهذه الحادثة ، و الدليل على ذلك اننا نجد آيات كثيرة ذكر لها المفسرون موارد متأخرة عن نزولها او متقدمة ، مثلا : نجد آيات مكية يذكر المفسرون من الجيل الاول انها نزلت في اشخاص لم يكونوافي مكة ( و لعل الآيات الاولى من سورة عبس منها ) او بالعكس او حتى انهم يؤولونها فيمن لم يكن فيعهد الرسول ( ص ) . (1) .

بلى . عند الاجيال التالية من المفسرين اصبح التعبير " نزلت في كذا " يوحي بان الآية نزلت بتلك المناسبة .

و فيما يتصل بالآيات في هذه السورة فقد قال القرطبي : روى أهل التفسير اجمع : ان قوما من اشراف قريش كانوا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - و قد طمع في اسلامهم فاقبل عبد الله بن ام مكتوم ، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ان يقطع عبد الله عليه كلامه ، فاعرض عنه ، ففيه نزلت الآية (2) .

و قال الشيخ المكارم في تفسيره " نمونه " مايلي : المشهور بين المفسرين ( السنة و الشيعة ) ذلك ، و لكنه روى حديثا عن الامام الصادق - عليه السلام - يقول : " انها نزلت في شخص من بني امية " و اضاف : انه ليس من شأن الرسول ان يعبس في وجه احد من الناس ، كيف وهو الذي قال عنه ربنا سبحانه : " و انك لعلى خلق عظيم " (3) .

و يبدو لي ان الآية لم تنزل في شان النبي ، و ان المفسرين ذهبوا الى ذلك بسبب ما توهموه من دلالة الآية ، و من بعض الروايات المتشابهة المختلفة ، فمثلا : نجد في بعضها : ان النبي كان مع الوليد بن المغيرة ، و في بعضها انه كان مع امية بن خلف ، و قال مجاهد: كانوا ثلاثة : عتبة و شيبة - ابنا ربيعة - و ابي بن خلف ، و قال سفيان الثوري : كان النبي مع عمه العباس .


(1) و الى مثل هذا الراي ذهب الدهلوي في كتابه الفوز الكبير في اصول التفسير / ص 107 / 108 الطبعة الثانية دار البشائر الاسلامية .

(2) القرطبي / ج 19 / ص 211 .

(3) تفسير نمونه .


و على افتراض ان القصة كانت صحيحة ، فمن يقول ان المراد ان النبي قد عبس ، فلعل واحدا من المسلمين كان حاضرا وهو الذي فعل ذلك ، و الشاهد انه لم يقل ربنا : عبست و توليت ، و من ثم يكون السياق بلغة الخطاب ، و لكن اليس من الممكن ان يكون ذلك من باب تحويل الكلام الى الخطاب بعد ذكر الغائب ، و كانه قد اصبح بذكره حاضرا كما نجد في سورة الحمد ، حيث يقول تحول الخطاب الى الحضور بعد ذكر الله سبحانه و قال : " اياك نعبد و اياك نستعين " .

ثم ان السورة مكية بالاتفاق و كان ابن ام مكتوم في المدينة حسبما يقول ابن العربي على حسب ما نقل القرطبي . دعنا نستمع الى نصه : اما قول علماؤنا انه الوليد ابن المغيرة ، فقد قال آخرون انه امية بن خلف ، و العباس و هذا كله باطل ، و جهل من المفسرين الذين لم يتحققوا من الدين ، ذلك ان امية بن خلف والوليد كانا بمكة ، و ابن ام مكتوم كان بالمدينة ، ما حضر معهما و لا حضرا معه ، و كان موتهما كافرين ، احدهما قبل الهجرة ، و الاخر ببدر ، و لم يقصد قط امية المدينة ، و لا حضر عنده منفردا و لا مع احد . (1)و ينبغي ان نتساءل : اذا كان ابن ام مكتوم في المدينة فكيف نزلت السورة بمكة تروي قصته ؟ !

و ايا كان سبب نزول الآية ، فان علينا التدبر في كلماتها المشعة ، و التعرض لامواج نورها المتدفق .

[ عبس و تولى ]

لقد بسر بوجهه ، فانعكست حالته النفسية تجاه الرجل على ملامح وجهه التي .


(1) القرطبي / ج 19 / ص 212 .


تفضح تقلبات فؤاده انى حاول اخفاءها ، ثم تولى بركنه عنه عمليا ، و هكذا تكاملت ملامح الموقف السلبي .

[ 2] [ ان جاءه الاعمى ]

اي بسبب زيارة الاعمى له ، و هذا يتنافى مع ما ذكر في بعض النصوص : ان الرسول ( ص ) انه انما انزعج عندما سأله ابن ام مكتوم و ليس من زيارته .

[ 3] لقد جاءه الاعمى زائرا و ربما ساعيا نحو الهداية ، و اذا عوض الاعمى او اي معوق آخر نقص جوارحه بتزكية نفسه فانه يسمو فوق كل بصير و سليم .

[ و ما يدريك لعله يزكى ]

و هكذا تكون تزكية النفس اهم غاية يسعى نحوها الانسان .

[ 4] و قد لا يسمو الفرد الى التزكية و لكنه يبلغ مستوى التذكرة التي تنفعه في اصلاح بعض جوانب سلوكه و هكذا الاعمى الفقير الذي تقدم الى ذلك المجلس .

[ او يذكر فتنفعه الذكرى ]

[ 5] الغنى مطلوب و لكن الاستغناء مرفوض ، فالغني المتواضع الذي يمتلك الثروة دون ان تمتلكه قريب من الله ، قريب من الناس ، و لكن الذي تقوده ثروته ، بل يذوب في ثروته الى درجة العبادة فانه بعيد عن الله ، بعيد عن الناس ، قريب من النار . و لا بد ان تتخذ القيادة الالهية موقفا حازما منه .

[ اما من استغنى ]

و معروف ان الاستغناء يؤدي الى الطغيان ، او لم يقل ربنا الحكيم : " كلا انالانسان ليطغى * ان رآه استغنى " (1) .

[ 6] مثل هذا الانسان ينبغي طرده لكي لا يتسلل الى قيادة المجتمع عبر ثروته . ان مثله مثل قارون الذي خرج على الناس بزينته ، فانبهر الناس بها ؛ فاذا خضع رجال الدعوة لهم او مالؤوهم فمن ينقذ الناس من شرورهم و استطالتهم على الفقراء و المحرومين ، و من يأخذحق المستضعفين و البؤساء منهم ؟ لذلك يعيب السياق على صاحب الدعوة ترك الفقير الاعمى و التوجه تلقاء المستغنين .

[ فانت له تصدى ]

قالوا : التصدي : الاصغاء ، و يبدو ان معناه : الاقبال عليه ، و الاهتمام به .

[ 7] و قد يزعم حملة الدعوة و امناء الرسالة انهم مسؤولون عن الاغنياء ، و ان عليهم ان يجتذبوهم بأية وسيلة ممكنة ، فيقدمون لهم التنازلات ، بينما يحرمون الفقراء من عطفهم و حنانهم ، بينما مسؤولية الداعية تنتهي عند ابلاغ الرسالة .

[ و ما عليك الا يزكى ]

فهو ولست انت المسؤول عن تزكيته .

[ 8 - 10] من الذي يتصدى له صاحب الدعوة ؟ هل الذي يتولى بركنه ، و كلا .. حتى ولو كان شريفا في قومه ، غنيا قويا . لماذا ؟ لان الرسالة الالهية جاءت لاصلاح نظرة الانسان الى نفسه من خلال مركزه او ماله او لغته او ما اشبه ، فاذا تأثرت الرسالة بهذه القيم المادية فانها لا تستطيع اصلاحه ، لذلك جاء في الحديث عن الامام الصادق ( ع ) قال : " اذا رايتم العالم محبا للدنيا فاتهموه(1) العلق / 6 - 7 .


على دينكم ، فان كل محب يحوط ما احب " (1) .

و الرسالة تنظر الى الانسان كأنسان بعيدا عن سائر الاعتبارات المادية ، فمن سعى الى الرسول بلا تردد ..

[ و اما من جاءك يسعى ]

نحو الهداية او تعلم الدين .

[ وهو يخشى ]

و الخشية هي التي تساعده على قبول الدين .

[ فانت عنه تلهى ]

تنشغل عنه و كانه لا يهمك .

[ 11 - 12] قيم الوحي ، و جاهلية المادة في صراع قديم ، و لا يجوز المهادنة مع الباطل لكسب المزيد من الاتباع ؛ لان حكمة الوحي ضبط المادة ، فاذا خضع له لم يبق للرسالة مبرر ، و من هنا لا ينظر الرسول الى الاشخاص الا من زاوية رسالته .

[ كلا ]

فان للغنى اعتبار زائف .

[ انها تذكرة ]


(1) موسوعة بحار الانوار ج 2 / 107 .


آيات الله تذكرة لكل الناس ، و لا يختلف الناس الا بقدر استجابتهم للوحي .

[ فمن شاء ذكره ]

العقل اصل الانسان ، او ليس به يتميز عن سائر الاحياء ، او لم يكرمه الله به على كثير ممن خلق ؟ ! ان العقل يغط في سبات الغفلة فلا ينتفع به صاحبه ، و تأتي ايات القران توقضه من سباته . اذلك خير ام بعض الدراهم و الدنانير ، كلا .. انى كانت الثروة كبيرة فان العقل اسمى ؛ لان الثروة لا تحصل الا بالعقل ، و اذا لم يكتمل العقل فان الثروة تضر صاحبها قبل ان تنفعه ، و قد تكون الثروة وسيلة لتكريس التخلف ، و الفقر ، و بسط الفساد ، و نشر الرذيلة ، بيد ان العقل يجعل الانسان على طريق ثروة نافعة كما يوفر له سائر عوامل السعادة كالخلق الرفيع ، و الحرية ، و السلام .

و لا تعني التذكرة ان الناس يهتدون بها حتى ولو لم يشاؤوا ذلك كلا .. ان التذكرة لا تتم بدون ان يشاء الانسان نفسه ، و هكذا جعل الله حرية الانسان اصلا ثابتا في شريعته و في سننه الحاكمة على الخليقة ، و حتى الايمان به جعله منوطا بارادة الانسان و لم يجعلهكرها عليه .

[ 13 - 14] و بعد ان ينسف السياق القيم الجاهلية يرسي دعائم قيم الوحي التي ينبغي ترسيخها في المجتمع ، فيشرع في بيان عظمة القرآن حتى يكون القرآن هو محور المجتمع ، و ميزان التفاضل بين الناس ، ثم يبين كرامة السفرة الذين يحملونه ، و بذلك يوحي بان عليكم ان تعظموا القرآن و الدعاة اليه و ليس المال و الجاه و اصحابهما .

[ في صحف مكرمة ]


قالوا : ان كتاب الله مكتوبا في الواح تكرمت به ، و تسامت مجدا ، و قال البعض : بل المراد انه كان مكتوبا في اللوح المحفوظ قبل ان يتنزل على قلب الرسول - صلى الله عليه واله - و انى كانت الصحف فان الآية تدل على ان القرآن محفوظ في صحف لا تنالها ايدي التحريف و التزوير و لا يسمو اليها الكذب و الدجل ، كما تدل على ان الله اكرم هذه الصحف بانها تكشف الحق ، و اكرمها باعلاء درجة من يتبعها في الدنيا و الاخرة ، ذلك ان كرامة كل شيء بحسبه ، و كرامة الصحيفة صدقها ، و سمو مجدها ، و تعاليها عمن يريد بها عبثا ، و لذلك قال ربنا بعدئذ :

[ مرفوعة مطهرة ]

و هذا في الواقع تفسير لكرامة الصحيفة ، فان الله يرفع بها من يعمل بها و يحمل رسالتها اولم يقل ربنا : " في بيوت اذن الله لها ان ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو و الاصال رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله . . " (1) و قال سبحانه : " يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين اوتوا العلم درجات و الله بما تعملون خبير " (2) .

ثم انها مطهرة من الباطل و الكذب ، و من دس الدجالين و المنافقين و قد قال سبحانه : " انا نحن نزلنا الذكر و انا له لحافظون " (3) و قال : " لا يمسه الا المطهرون " (4) .

و هي مطهرة عن نيل اصحاب الهوى و البدع ، و الرياء و الشرك وحملة الدعوات(1) النور / 36 .

(2) المجادلة / 11 .

(3) الحجر / 9 .

(4) الواقعة / 79 .


الضالة ، و الثقافات الجاهلية . ان هؤلاء جميعا لا يبلغون فقه الكتاب و لا يحصلون على علمه و معارفه .

[ 15 - 16] و هكذا يكون حملة القرآن هم فقط السفراء الصادقون ، المكرمون من الهوى و النفاق ، و اتباع المصالح ، و عبادة الطغاة .

[ بايدي سفرة ]

السفرة هم حملة الكتاب ، و الداعون اليه .

[ كرام بررة ]

كرام لانهم اكرموا انفسهم عن الاثم و الفحشاء ، و اتباع اولي الثروة و القوة ، و السعي وراء شهوات الدنيا الزائلة . و هم بررة يبرون بالناس و يؤثرون المؤمنين على انفسهم ، و يسارعون الى الخيرات .

و هذه الآيات توضح لنا الفئة التي يجب ان نرفعها و نتبع هديها ، و هم حملة القران الصادقين ، الزاهدين في درجات الدنيا ، و المكرمين من اوساخها ، و من الاهواء و البدع و الثقافات الدخيلة ، و لا يجوز اتباع كل من يدعو بلسانه الى كتاب الله بينما تراه قد ولغفي الشبهات ، و سعى نحو الجاه و الشهرة و تقرب الى السلاطين ، و قرب اليه المترفين و المستكبرين .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس