فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


الاطار العام
ويل للمطففين
بينات من الآيات

[ 1] هل انا مؤمن ؟ بلى . اولست اصلي و اصوم و انفق من اموالي في سبيل الله ؟ كلا .. هذه وحدها لا تكفي ، فلنحذر من خداع الذات ، اوليس كل الناس حتى اعتى الطغاة و المجرمين يبرؤون ساحة انفسهم ؟ ! فما الميزان اذا ؟ انه القرآن ، هكذا قال الامام ابو جعفر( الباقر ) عليه السلام لجابر بن يزيد الجعفي : " و اعلم بانك لا ناس على هذا الاساس ، فلذلك يغش و يسرق و يستولي على حقوق الاخرين ، و علامة هذا الفريق من الناس انهم اذا ارادوا استيفاء حق من حقوقهم من الناس اخذوه وافيا ، و اذا طلب منهم اداء حق للناسانتقصوا منه ، و يجري هذا في كافة شؤون حياتهم . ان لهؤلاء الويل لانهم ليسوا منصفين .

[ ويل للمطففين ]

قالوا : الويل بمعنى : الشر و الحزن و العذاب او الهلاك ، و هو بمعنى اللعنة ، اما المطفف فانه من الطف اي جانب الشيء ، و التطفيف تنقيص الشيء من جوانبه .

و قال بعضهم : الويل واد في جهنم يجري فيه صديد اهل النار .

[ 2] من هم هؤلاء المطففون ؟ هناك مثل بارز لهم في اولئك الذين ينقصون المكيال لغيرهم ، اما اذا اكتالوا لانفسهم اخذوا حقهم وافيا .

[ الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون ]

قالوا : " على " هنا بمعنى اللام ، و يبدو لي ان على تعطي هنا ايضا ظلالها العام الذي يوحي بالضرر ، اذا ان الاستيفاء يتم على الناس اي في ضررهم .

و قال بعضهم : انه بمعنى اذا كالوا ما على الناس .

[ 3] و لكنهم اذا اكتالوا لغيرهم تراهم يعطونهم اقل من حقهم .

[ و اذا كالوهم او وزنوهم يخسرون ]

قالوا : معناه كالوا لهم او وزنوا لهم ، ثم حذف اللام ، و استشهدوا بقولالشاعر :

و لقد جنيتك اكما و عساقلا و لقد نهيتك عن بنات الأوبرحيث كان في الاصل جنيت لك ، و يبدو لي ان حذف اللام هنا من بديع بلاغة القرآن ، حيث ان اللام توحي بالفائدة و النفع ، بينما لا منفعة لمن يكال لهم لانهم يخسرونهم .

و التطفيف في المكيال و الميزان كان شائعا - حسب التواريخ - في يثرب قبل هجرة النبي - صلى الله عليه واله - و كانت هذه السورة اول سورة نزلت على قلب النبي ( ص ) في المدينة ، و اثرت فيهم اثرا بالغا فاقتلعوا عن هذه العادة و اصبحوا من احسن الناس مكيالا ، هكذا روي عن ابن عباس ، حيث اضاف : فلما نزلت هذه السورة انتهوا فهم اوفى الناس كيلا الى يومهم هذا .

و قد حاربت رسالات الله الفساد الاقتصادي في المجتمع بكل الوانه ، و التطفيف واحد من اسوء انواع هذا الفساد .

و قد حكى ربنا عن شعيب - عليه السلام - قوله : " اوفوا الكيل و لا تكونوا من المخسرين و زنوا بالقسطاس المستقيم و لا تبخسوا الناس اشياءهم و لا تعثوا في الارض مفسدين " (1) .

و لكن هل الفساد الاقتصادي خاص بالتطفيف في الوزن و المكيال ام انهما مجرد مثلين لما هو اعم و اشمل ؟ فالغش و الاحتكار و استغلال طاقات الضعفاء ، و استثمار ثروات البلاد المتخلفة ، و الابتزاز و سائر اساليب الكسب اللا مشروع كل(1) الشعراء / 182 .


تلك من الوان الفساد الاقتصادي .

ثم ان التطفيف في الميزان لا يخص الجانب الاقتصادي ، بل يتسع للجوانب السياسية و الاجتماعية ايضا ، فلا يجوز ان تطالب الناس بكامل حقك ، ثم اذا طالبوك بحقوقهم بخستهم جاء في الحديث عن الصادق - عليه السلام - : " ليس من الانصاف مطالبة الاخوان بالانصاف" (1) لابد ان نتعامل مع الناس بمثل ما نحب ان يتعاملوا معنا . ان افضل ميزان للعدل هو ان تضع نفسك دائما في موضع الاخرين و تساءل : ماذا كنت انتظر منهم لو كنت في موقعهم ، هكذا هم ينتظرون و علي ان افي بحقهم .

هكذا توالت نصوص الدين الا فلنستمع الى بعضها :

1 / عن ابي عبد الله - عليه السلام - : " احبوا للناس ما تحبون لانفسكم " .

2 / عن الصادق - عليه السلام - قال : " قال رسول الله - صلى الله عليه واله وسلم - : اعدل الناس من رضي للناس ما يرضى لنفسه ، و كره لهم ما يكره لنفسه " .

3 / عن امير المؤمنين - عليه السلام - فيما كتبه لمحمد بن ابي بكر : " احب لعامة رعيتك ما تحب لنفسك و أهل بيتك ، و اكره لهم ما تكره لنفسك و أهل بيتك ، فان ذلك اوجب للحجة ، و اصلح للرعية " .

4 / عن ابي عبد الله - عليه السلام - قال : " ما ناصح الله عبد في نفسه فاعطى الحق منها ، و اخذ الحق لها الا اعطي خصلتين : رزق من الله يسعه ،(1) موسوعة بحار الانوار / ج 75 / ص 27 .


و رضى عن الله ينجيه " .

5 / و جاء في نهج البلاغة في وصية امير المؤمنين لابنه الحسن - عليهما السلام - : " يا بني ! اجعل نفسك ميزانا فيما بينك و بين غيرك ، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك ، و اكره له ما تكره لها ، و لا تظلم كما لا تحب ان تظلم ، و احسن كما تحب ان يحسن اليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك ، و ارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك ، و لا تقل مالا تعلم ، و قل ما تعلم ، و لا تقل مالا تحب ان يقال لك " (1) .

و نختم حديثنا برواية ماثورة عن النبي - صلى الله عليه واله - انه قال : " خمس يخمس : ما نقض قوم العهد الا سلط الله عليهم عدوهم ، و لاحكموا بغير ما انزل الله الا فشا فيهم الفقر ، و ما ظهرت الفاحشة فيهم الا ظهر الطاعون ، و ما طففوا الكيل الا منعواالنبات و اخذوا بالسنين ، و لا منعوا الزكاة الا حبس الله عنهم المطر " (2) .

[ 4] من الذي يطفف ؟ انه الذي لا يعترف بالقيامة ، حيث يقف امام رب العالمين للحساب ، فلو كان الواحد ينظن مجرد ظن بذلك لما تجاوز حقه ، و اعتدى على حقوق الناس .

[ الا يظن اولائك انهم مبعوثون ]

قال بعضهم : ان الظن هنا بمعناه المعروف و هو ضد اليقين ، ذلك ان مجرد الظن بالبعث يكفي العاقل تحرزا و اتقاء منه ، الا ترى انك لا تسلك طريقا تظن الهلاك به ، و لا تشرب ما تخشى ان يكون سما ، و تحتاط من عمل تخاف منه الهلاك ؟


(1) المصدر / ص 24 - 59 .

(2) القرطبي / ج 19 / ص 253 ، و سائر التفاسير المعروفة .


و قال اخرون : بل الظن هنا بمعنى اليقين ، لان اصل معنى الظن ما يحدث في ذهن الانسان من الشواهد الخارجية ، فان كانت تامة احدثت يقينا و الا اثارت الظن ، من هنا يعبر عن اليقين ايضا بالظن .

و قد استشهدوا بالحديث الماثور عن الامام امير المؤمنين - عليه السلام - الذي قال في تفسير هذه الآية : " اي اليس يوقنون انهم مبعوثون " (1) .

و كذلك بالنص المروي عنه ايضا حيث يقول - عليه السلام - : " الظن ظنان : ظن شك ، و ظن يقين ، فما كان من امر المعاد من الظن فهو ظن يقين ، و ما كان من امر الدنيا فهو على الشك " (2) .

و لعل الامام يشير الى حقيقة بينها الامام الرضا - عليه السلام - بصيغة اخرى ، حين قال : " ما خلق الله يقينا لا شك فيه اشبه بشك لا يقين فيه من الموت " (3) .

ذلك ان كل الحقائق تشهد بان الانسان ميت و لكنه لا يتصوره ، لماذا ؟ لان مثل هذا التصور يفرض عليه الحذر و الاتقاء ، وهو لا يريد ذلك فيبقى حائرا بين شواهد علمية تكشف له حقيقة الموت ، و أهواء نفسية تحجب عنه هذه الحقيقة ، تماما كمن مني بهزيمة في المعركةيظل لفترة مترددا بين قبولها وفقا للمعلومات الصادقة او رفضها استرسالا مع هواه و غروره .

و يبدو ان الايمان بالاخرة هو الاخر يصطدم بأهواء النفس و شهواتها ، فتتحول الى ظن لا لقلة الشواهد عليها بل لصعوبة التصديق بها .. و الله العالم .


(1) تفسير نمونه عن تفسير البرهان / ج 4 / ص 438 .

(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 528 .

(3) الفرقان / نقلا عن الخصال للصدوق ( ره ) .


و قد سبق ان قلنا و بتكرار ان معنى الظن - فيما يبدو - هو : التصور ، و فسرنا الآية التالية بذلك حيث قال ربنا : " قال الذين يظنون انهم ملاقوا ربهم كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله و الله مع الصابرين " (1) و قوله : " الذين يظنونانهم ملاقوا ربهم و انهم اليه راجعون " (2) .

حيث ان تصور البعث و ما يعقبه من القيام للحساب امام رب العالمين يكفي الانسان رادعا عن كل سيئة ، و ربما يوحي الى ذلك قول الامام امير المؤمنين - عليه السلام - في تفسير الايمان حيث سئل عنه فقال : " الايمان على اربع دعائم : ... فمن اشتاق الى الجنةسلا عن الشهوات ، و من اشفق من النار اجتنب المحرمات " (3) .

[ 5] ثلاث حقائق متصلة ببعضها لو تمثلت امام عين العاصي ارتدع و اتقى : البعث و الساعة ، و القيامة . ان حياة الانسان سجل ، يطوى اليوم و يكتب فيه بقلم الطبيعة ما يفعله ، فاذا نشر نشر معه سجله بالكامل ، فيا للفضيحة الكبرى يومئذ !

ثم الساعة و اشراطها يوم تبدل الارض غير الارض ، و تطوى السموات كطي السجل للكتب ، فاذا لم يعمل اليوم لبلوغ الامان من اهوالها فياللخسارة العظمى !

اما قيام الناس امام رب العالمين فانه رهيب عظيم ، لا يسع الفكر تصور تلك اللحظة التي يتمثل هذا المخلوق المتناهي في الضعف و المسكنة امام جبار السموات و الارض ، او لم تقرا ان اسرافيل اعظم ملائكة الله يتضاءل امام هيبة الرب حتى يصبح كالوصع - كما ذكر في سورة التكوير اية 23 - ، فمن انا غير هذا العبد المسكين المستكين الضعيف الحقير امام رب العزة و العظمة ؟ !


(1) البقرة / 249 .

(2) البقرة / 46 .

(3) نهج البلاغة / خ 31 .


هكذا يذكرنا القرآن بهذه الحقائق ، فبعد ان يقول : " انهم مبعوثون " يذكرنا بالساعة فيقول :

[ ليوم عظيم ]

عظمت اثاره في السماوات و الارض حتى اشفقت منه ، فلولا اتقاء اهواله بالعمل الصالح انى نحصل فيه على امان ، و السموات تنفطر و الجبال تكون سرابا و الارض تزلزل زلزالها ؟ !

[ 6] و اعظم من كل تلك الاهوال قيام الناس امام رب العالمين ..

[ يوم يقوم الناس لرب العالمين ]

يكاد القلب البشري يتصدع حينما يحمله الله شيئا من نور عطفه و حنانه ، فكيف يصمد هذا القلب امام عقاب الله و زجره ؟ !

جاء في الحديث الماثور عن النبي - صلى الله عليه واله - : " في يوم كان مقداره خمسين الف سنة ، فمنهم من يبلغ العرق كعبيه ، و منهم من يبلغ ركبتيه ، و منهم من يبلغ حقويه ، و منهم من يبلغ صدره ، و منهم من يلغ اذنيه حتى ان احدهم يغيب في رشحه كما يغيبالضفدع " (1) .

بيد ان المؤمنين في امان من اهوال القيامة ، هكذا ورد في حديث مأثور عن النبي - صلى الله عليه واله - " انه ليخفف عن المؤمن حتى يكون اخف عليه من صلاة المكتوبة ، يصليها في الدنيا " (2) .


(1) القرطبي / ج 19 / ص 255 .

(2) المصدر .


و كلمة اخيرة : ان المؤمن ليقوم في الدنيا لله قياما يساعده في قيامه في الاخرة ، اولم يأمره ربنا سبحانه بذلك حين قال : " و قوموا لله قانتين .. " و قال : " ان تقوموا لله " .

[ 7] و لكن هؤلاء المجرمين لا يظنون ذلك حتى يأتيهم بغتة ، و لذلك فان كتابهم محفوظ في سجين ، حيث لا يمكن تغييره ، و هو كتاب واضح لا لبس فيه و لا تزوير .

[ كلا ]

يبدو ان معنى " كلا " في الاصل النفي المؤكد ، كأن تقول : ابدا لا ، و لكن تعطي في مثل هذا السياق معنى الردع و الزجر ، كما توحي بتاكيد الحقائق التي ذكرت انفا ، و كأنه نفي للتكذيب بها ، و من هنا قال بعضهم : ان معنى كلا هنا حقا ، و نقل عن ابنعباس : ان معناه الا تصدقون .

[ ان كتاب الفجار لفي سجين ]

ماهو سجين ؟ يبدو انه مبالغة في السجن ، اي المحل الذي لا تناله ايدي السرقة او التزوير . فما هو الكتاب ؟ بالرغم من ان هناك كتبا كثيرة تسجل فيها اعمال العباد ، الارض تكتب ، و السموات تصور ، و اشياء الطبيعة تحفظ اثار العمل ، و حتى اعضاء الجسد تشهد ،الا ان الظاهر من الكتاب هو ما يسجل على الفرد من اقواله و افعاله ، و حتى نياته مما ذكره الله بقول : " ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد " (1) .

ثم يطوى هذا الكتاب ، و يحفظ في خزانة محكمة هي سجين ، فاين تقع هذه(1) ق / 18 .


الخزانة ؟ لقد حدد هذا النص التالي محلها :

روي عن النبي - صلى الله عليه و آله - انه قال : " ان الملك يرفع العمل للعبد يرى ان في يديه منه سرورا ، حتى ينتهي الى الميقات الذي وصفه الله له ، فيضع العمل فيه فيناديه الجبار من فوقه : ارم بما معك في سجين , و سجين الارض السابعة ، فيقول الملك مارفعت اليك الا حقا ، فيقول : صدقت ، ارم بما معك في سجين " (1) و روي عن الامام الباقر - عليه السلام - انه قال : " السجين الارض السابعة ، و عليون السماء الرابعة " (2) .

و قال بعضهم : سجين : صخرة في الارض السابعة ، و روى ابو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وآله - : سجين جب في جهنم ، و هو مفتوح " و قال عكرمة : سجين خسار و ضلال ، كقولهم لمن سقط قدره قد زلق بالحضيض .

و يبدو لي ان اصلها السجن كما ذكرنا ، و انما سائر التفاسير تحديد لموقع السجن او ملابساته ، لذلك قال ابو عبيدة و غيره في تفسير الآية : لفي حبس و ضيق شديد ، فعيل من السجن كما يقول فسيق و شريب .

[ 8] و هناك افتراض اخر : ان يكون سجين اسما لتلك السجلات التي تحفظ الكتب ، و ان يكون معنى الكتاب هنا ما يكتب من اعمال ، فيكون المعنى هكذا : ان اعمال الفجار مكتوبة في سجين وهو كتاب مرقوم ، و يؤيد هذا المعنى السياق التالي :

[ و ما ادراك ما سجين ]


(1) الفرقان عن الدر المنثور / ج 6 / ص 325 .

(2) نمونه عن نور الثقلين / ج 5 / ص 530 .


و هذه الكلمة تأتي للايحاء بعظمة ذلك الكتاب - حسب هذا المعنى - بلى . الكتاب الذي لا يغادر صغيرة و لا كبيرة الا احصاها ، الكتاب الذي يسجل حتى انفاس الخلق و وساوس افئدتهم ، و نيات افعالهم ، الكتاب الذي يحيط بكل افعال الفجار انى كانوا ، و انى عملوا . انه كتاب عظيم .

[ 9] [ كتاب مرقوم ]

و هكذا تكون هذه الآية تفسيرا للآية السابقة : اي سجين كتاب مرقوم ، كما قال ربنا سبحانه : " انا انزلناه في ليلة القدر * و ما ادراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من الف شهر " و المرقوم بمعنى متجل بوضوح ، لان اصل معنى الرقم الكتابة الغليظة ،و قيل : معناه مختوم ، و قيل : مكتوب كالرقم في الثوب لا ينسى و لا يمحى ، كل هذا التفسير قائم على اساس الافتراض بان السجين اسم للكتاب المسجل ، و يؤيده ان بعضهم قال : ان اصل سجين سجيل .

اما في غير هذا الافتراض فيكون تفسير هذه الآية : ان الكتاب الذي هو في سجين كتاب مرقوم ، لا تتشابه خطوطه ؛ لانه كتاب واضح ، و الله العالم .

و ينبغي ان نختم حديثنا عن السجين بحديث يفيض عبرة و نصحا ، مأثور عن الامام الصادق - عليه السلام - في معنى السجين و الاعمال ، و الاشخاص الذي يهوون اليه ، قال - عليه السلام - : " مر عيسى بن مريم على قرية قد مات اهلها و طيرها و دوابها ، فقال : اماانهم لم يموتوا الا بسخط ، و لو ماتوا متفرقين لتدافنوا ، فقال الحواريون : يا روح الله و كلمته ! ادع الله ان يحييهم لنا ، فيخبرونا ما كانت اعمالهم فنجتنبها ، فدعا عيسى ربه ، فنودي من الجو ان : نادهم ، فقام عيسى بالليل على شرف من الارض فقال : يا أهل هذهالقرية ! فاجابه منهم مجيب : لبيك يا روح الله و كلمته ، فقال : و يحكم : ما كانت اعمالكم ؟


قال : عبادة الطاغوت ، و حب الدنيا ، مع خوف قليل ، و امل بعيد ، و غفلة في لهو ولعب ، قال : كيف كان حبكم للدنيا ؟ قال : كحب الصبي لامه اذا اقبلت علينا فرحنا و سررنا ، و اذا ادبرت بكينا و حزنا ، قال : كيف كانت عبادتكم للطاغوت ؟ قال : الطاعة لاهل المعاصي، قال : كيف كانت عاقبة أمركم ؟ قال : بتنا ليلة في عافية ، و اصبحنا في الهاوية ، فقال : و ما الهاوية ؟ فقال : سجين ، قال : و ما سجين ؟ قال : جبال من جمر توقد علينا الى يوم القيامة ؟ (1) .

[ 10] يتلقى الجاهل الموقف الصعب بتكذيبه ، و يزعم انه لو دفن رأسه في التراب فان الآخرين لا يرونه ، كلا .. ان الشمس لا تتلاشى اذا اغلقت نافذة غرفتك عنها ، كذلك حقيقة المسؤولية لا تنماث اذا انكرتها ، بل كلما جحد الجاهل المسؤولية بنبرة اقوى و صلافة اشدكلما ازداد بعدا عن تحملها و قربا من العذاب ، ذلك ان التكذيب جريمة ، كما انه علة لسائر الجرائم ، و تبلو عاقبة التكذيب عند قيام الساعة .

[ و يل يومئذ للمكذبين ]

[ 11] هكذا القرآن يغلق امام النفس ابواب التبرير لعلها تعي المسؤولية و تتحملها ، و اعظم التبرير التكذيب ، و لا سيما التكذيب بيوم الدين الذي يهدم أساس الفكر .

[ الدين يكذبون بيوم الدين ]

لهؤلاء الويل و اللعنة و الثبور لمجرد تكذيبهم ، فكيف بسائر الجرائم التي ارتكبوها ؟ !


(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 531 .


[ 12] و لكن لماذا يكذبون بيوم الدين ؟ هل لنقص في شواهده ؟ كلا .. بل لقرار اتخذوه حاليا ، و جرائم ارتكبوها سابقا ، اما قرارهم فهو الاستمرار في الاعتداء على حقوق الاخرين ، و التواصل في ارتكاب الاثم .

[ و ما يكذب به الا كل معتد اثيم ]

انهم الفجار الذين لم يلتزموا لا بحقوق الاخرين فاعتدوا عليها و اكلوا اموال الناس بالباطل ، و لا بحق الله عليهم فاثموا و ارتكبوا الفواحش .

[ 13] و يقارن التكذيب في ألسنة هؤلاء - البذيئة - بالاستهزاء ، و محاولة حرف الاخرين عن آيات الله ، فتراهم اذا تتلى عليهم آيات الله رموها بالرجعية ، و زعموا بانها : ليست سوى الخرافات السابقة .

[ اذا تتلى عليه آياتنا ]

يبدو ان الذين يتلون عليهم هذه الآيات هم الدعاة الى الله ، و الآيات تهديهم الى الله و رسالاته و شرائعه ، و لكنهم ينكرونها رأسا دون ان يتفكروا قليلا ، خشية ان يتأثروا بها ، فيفقدوا نعيمهم الزائل ، و موقعهم الزائف القائم على الاثم و العدوان .

[ قال اساطير الاولين ]

و لعل مرادهم من هذا الحديث بيان انهم لن يتأثروا بها مستقبلا ، كما انهم لم ينتفعوا بها سابقا ، ذلك لانها مجرد تكرار لدعوات سابقة ، و هذه الآية نظير قولهم كما في آية اخرى : " و قالوا اساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة و اصيلا " (1).


(1) الفرقان / 5 .


[ 14 ] لماذا يقف بعض الناس موقف الجاحد المعاند و بهذه الدرجة من آيات الله البينات ، او لا يحبون انفسهم ، او لا يحكم العقل بضرورة الاستماع الى النذير فلعله يكون صادقا فيقعون في خطر عظيم ؟ ! يجيب السياق عن هذا التساؤل : بان للذنب اثرا سيئا على القلبالبشري ، و كلما تراكمت الذنوب تراكمت آثارها .

[ كلا ]

ليست اساطير الاولين ، بل انها حقائق من عند الله .

[ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ]

قالوا : ران بمعنى غلب ، و استشهدوا على ذلك باستخدام مفرداته ، مثل : رانت به الخمرة ، و ران عليهم النعاس ، و يقال : قد رين بالرجل رينا اذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ، و لكن - يبدو لي - ان الاصل في الرين الصدا ، و هو الغلالة الخفيفة التي تحيط بالحديدة و ما اشبه و تدل على فسادها . و لعل الفارق بينه و بين الصدا ان الصدا قد يكون في جزء ، بينما الرين يستخدم اذا احاط الصدا بالقلب تماما ، لذلك قال بعضهم : الرين ان يسود القلب من الذنوب ، و نقل عن ابن عباس : ران على قلوبهم اي غطى عليها .

و لكن كيف يرين الذنب على القلب ؟ ان في قلب الانسان قوى تتنازعه ، و ارادة الانسان فوقها ، فاذا استسلم الانسان لقوة الشهوات ضعفت ارادته ، و كسف نور عقله ، فلا يزال كذلك حتى يخبو عقله ، و تنماث ارادته فيسترسل كليا مع الشهوات ، و من جهة اخرى : عندما يرتكب البشر جريمة او ذنبا يتهرب من وخز ضميره بتبريرهما ، و لا يزال يبرر لنفسه ما يرتكبه حتى يقتنع بذلك التبرير ، بل يتحول عنده الى ثقافة متكاملة ، فلا يكاد يعرف الحقيقة ، و من جهة ثالثة : الخيرعادة و الشر عادة ، و من عود نفسه على الشر كيف سلوكه و سائر تصرفاته مع تلك العادة ، و كان كدودة القز تنسج حول نفسها ما يقتلها .. ارايت الذي يكتسب الحرام ، اما بالسرقة او الغش او التطفيف او التعاون مع الظالمين او العمل كجاسوس محترف للطغاة او الاجانب ، ارايته يتخلص من هذه المهنة و قد كيف نفسه معها ، و اعتمد عليها في رزقه اليومي ؟ !

لذلك ينبغي للرشيد ان لا يتبع الشيطان منذ الخطوة الاولى ، و لا يرتكب حتى الذنب الاول ، و اذا مر به طائف من الشيطان فخدعه عن دينه ، و ارتكب ذنبا فعليه ان يتوب عن قريب ، و لا يتابع مسيرة الذنب ؛ فان الذنب بعد الذنب يفسد القلب ، و يبعد عن الانسان توفيقالتوبة .

هكذا روي عن الامام الباقر - عليه السلام - انه قال : " ما من شيء افسد للقلب من الخطيئة . ان القلب ليواقع الخطيئة ، فما يزال به حتى تغلب عليه ، فيصير اسفله " اعلاه ، و اعلاه اسفله قال رسول الله صلى الله عليه وآله : " ان المؤمن اذا اذنبكانت نكتة سوداء في قلبه ، فان تاب و نزع و استغفر صقل قلبه منه ، و ان ازداد زادت ، فذلك الرين الذي ذكره الله تعالى في كتابه : " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " (1) .

من هنا ينبغي التوبة الى الله في كل يوم بل و في كل ساعة حتى يمحى اثر الذنوب التي لازلنا نمارسها قبل ان تترسخ في القلب فتفسده ، كما ينبغي التلاقي و التواصي بالحق و الصبر ، و التناصح حتى تجلى الافئدة من رينها ، هكذا اوصانا رسول الله - صلى الله عليهوآله - فيما روي عنه انه قال : " تذاكروا و تلاقوا و تحدثوا ، فان الحديث جلاء للقلوب . ان القلوب لترين كما يرين السيف(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 531 .


وجلاؤه الحديث " (1) .

[ 15 ] هذه القلوب التي ترين بالذنب لا تتشرف بلقاء ربها يوم القيامة ، ذلك ان هذه الذنوب تصبح حجبا كثيفة تمنع عنه انوار الله البهية .

[ كلا ]

فليرتدعوا عن الاسترسال مع الذنوب و ما يسبب لهم رين القلب ؛ لان لذلك عاقبة سوأى ، و هي :

[ انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ]

لقد حجبهم الذنب عن رحمة الله و عطفه و رعايته ، كما حجبهم الذنب عن نور لقائه و مشاهدته بحقيقة الايمان ، اليس اعظم نعم الله على المؤمن رضاه عنه و مناجاته له ، و لقاء قلبه بنوره ؟ ان هذا لهو النعيم المقيم الذي يسعى اليه المؤمن ، انه اعظم جائزة يتوقعهامن ربه ، فقد جاء في الحديث : " ان أهل الجنة يزورون العرش كل ليلة جمعة ، فينظرون الى نور ربهم فيقعون له ساجدين " .

و قد عبر الامام زين العابدين - عليه السلام - عن هذا اللقاء العاصف بالشوق و الوله بين العبد و الرب بقوله في مناجاته : " فقد انقطعت اليك همتي ، و انصرفت نحوك رغبتي ، فانت لا غيرك مرادي ، و لك لا لسواك سهري و سهادي ، و لقاؤك قرة عيني ، و وصلك منىنفسي ، و اليك شوقي ، و في محبتك ولهي ، و الى هواك صبابتي ، و رضاك بغيتي ، و رؤيتك حاجتي ، و جوارك طلبي ، و قربك غاية سؤلي ، و في مناجاتك روحي و راحتي ، و عندك دواء علتي ، و شفاء غلتي ، و برد لوعتي ، و كشف كربتي .. الى ان يقول : و لا تبعدني منك يا نعيمي و جنتي ، و يا


(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 521 .


دنياي و آخرتي . يا ارحم الراحمين " (1) .

و اذا كان لقاء الله اعظم نعم المؤمنين فان حرمان الفجار منه يعد اعظم عذاب لهم ، و لا يعرفون عمق هذه المأساة الا في يوم القيامة ، لذلك ترى الامام امير المؤمنين - عليه السلام - يجأر الى ربه خشية فراقه و يقول : " فهبني يا الهي و سيدي و مولاي و ربيصبرت على عذابك فكيف اصبر على فراقك ، و هبني صبرت على حر نارك فكيف اصبر عن النظر الى كرامتك " (2) .

[ 16] و العذاب الاخر تصلية النار ، فلا حجاب بينهم و بينها ، و لا ستر ، او ليسوا لم يستروا انفسهم منها في دار الدنيا ، و لم يتقوا حرها و لهيبها ؟ ! فهاهم اليوم يصلونها و يذوقون مسها مباشرة .

[ ثم انهم لصالوا الجحيم ]

اما المؤمنون فقد تزودوا من الدنيا بزاد التقوى فسترهم عن النار في الآخرة كما استتروا بها عن الذنوب في الدنيا ؛ لانهم عرفوا ان الذنوب تصحبهم من هناك الى هناك ، حيث تتحول نيرانا لاهبة ، و حيات و عقارب و ظلمات و الاما ، فتحصنوا عنها بحصن التقوى .

[ 17] اما العذاب الثالث فهو الاذلال و التحقير و الاهانة و التبكيت او ليسوا قد استهزاوا بالرسالات ، و قالو : ان هي الا اساطير الاولين ، فاليوم يشمت بهم حتى يذوقوا العذاب الروحي الذي كانوا يذيقونه الدعاة الى الله بتكذيبهم و الاستهزاء منهم .

[ ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون ]


(1) الصحيفة السجادية / مناجاة المريدين .

(2) دعاء كميل / مفاتيح الجنان .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس