انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه
بينات من الآيات [ 1] هل تستطيع ان تتصور السماء كيف تنشق ، و النجوم كيف تنتثر ، و هذه السلاسل الجبلية التي تزن ملايين الاطنان من الصخور العملاقة كيف تندك اندكاكا ؟
أرايت البحر حين يهيج فاذا بأمواجه كالجبال تتطلام فوق سطحه . هل لك ان تتصور لو ان بحار الارض كلها سجرت . انها اعظم من الوف ملايين من القنابل الهيدروجينية حين تنفجر معا .. انني اعترف بعجز قدرة الخيال عندي من ان تتصور كل هذه الاحوال .. فكيف بنا و نحن لابد ان نشاهدها عن كثب ؟ عظيم اذا شأن هذا الانسان الذي يستضاف لمثل هذا البرنامج بل المهرجان الكوني ، لا ان الانسان ليس يومئذ ضيف شرف ، بل متهم يساق الى المحاكمة ، و يوقف للسؤال . حقا انه ذا شأن عظيم ، و ان مسؤوليته التي يتحملها اليوم جدا عظيمة . تعالى- يا اخي -
نرتفع لحظات الى مستوى تصور الساعة كما يصفها ربنا . و اني لعلى يقين ان مجرد تصورها يجعلنا ننظر الى الامور بطريقة مختلفة ، و نعرف انئذ اننا لازلنا في ضلال بعيد لازلنا لا نعرف قيمة انفسنا . من نحن ، ما هي حكمة وجودنا ، و الى اي مصير نساق ؟
لمحكمة الرب جو رهيب . انها ليست في قاعة مفروشة بالسجاد . انها في الفضاء الرحب .. و اجرامها تصدع قلوب الجلاميد . السماء يومئذ تنشق . و لعل النيازك السماوية تتساقط من خلال شقوقها فوق الارض ، و لا نعرف ماذا تحدث من دمار و صعقات ، اما الارض فان جبالها تندك ، و بحارها تتسجر ، و تمتد الى ما شاء الله حتى تصبح كأديم مبسوط .
[ اذا السماء انشقت ]
و اذا كانت قاعة المحكمة في الدنيا محاطة بجنود محافظين ، فان جنود السموات و الارض تقف يومئذ مستعدة لتنفيذ اوامر الرب فورا .
[ 2] [ و اذنت لربها و حقت ]
و هل تستطيع ان تتمرد السموات عن امر ربها ؟ كلا .. بل حق لها ان تأذن لربها ، اي تقف انتظارا لاوامره الصارمة .
[ 3] [ و اذا الارض مدت ]
فلا جبال و لا آكام و لا روابي و لا بناء و لا اشجار .. انها في ذلك اليوم قاع صفصف .
[ 4] [ وألقت ما فيها و تخلت ]
فلا معادن و لا مقابر كلها اليوم فوق الارض .. فلا يستطيع احد ان يبحث داخل الارض عن مخبأ او خندق .
[ 5] [ و اذنت لربها و حقت ]
و كيف لا تنتظر اوامر الرب و هي مخلوقة مدبرة . افلا يحق لها الخضوع ؟ ! بلى .
[ 6] يومئذ و في هذه الاجزاء المرعبة يلقى الانسان ربه ليسأله عما فعله ، و ليعطيه جزاءه الاوفى ، و لكن بينه و بين ذلك اليوم الرهيب عقبات و صعوبات تكون بمثابة ارهاصات و اشراط لما قد يلقاه الانسان يومئذ .
[ يا ايها الانسان انك كادح الى ربك كدحا ]
الولادة ساعة كدح لك و لامك . تحديك للامراض منذ نعومة اظفارك و الاخطار . و تعرضك لاعراض الجوع و العطش ، و الحر و البرد ، و الالم و الشدائد ، و تواصل الاحباط و الحرمان عليك منذ ان ميزت يمينك عن شمالك ، ثم حينما نموت و ترعرعت واجهت الوان الضغوط الجسدية و النفسية ، و دخلت معترك الحياة التي كلها صراع و صعوبات . ان كل هذه الوان من الكدح في حياة الانسان . ولكن ياليت كانت هي النهاية ؟ كلا .. بعد كل ذلك يأتي يوم اللقاء مع من ؟ مع رب العزة ، و لم ؟ للسؤال ، و في اي يوم ؟ في يوم الطامة .
ان كل ذلك يجعلنا ننظر الى انفسنا باحترام بالغ . انها ليست كالشجرة التي تنبت في مزرعتنا ثم تمضي لشانها بعد عمر محدود دون عناء التحديات ، و ليست كالانعام او اي حي اخر يمضي دورته الحياتية برتابة و دون تحديات او كدح . انها النفس التي اكرمها الله و سخرلها الشمس و القمر و ما في الارض جميعا ، و لهدف عظيم . ان ذلك الهدف هو لقاء الرب للمحاكمة فالجزاء ، و هذه الحياة بما فيها منكدح شاهد على ذلك المصير بما فيه من جزاء .
[ فملاقيه ]
و اذا كانت الحياة سلسلة متواصلة من الكدح و النصب فلماذا السرور و اللهو اذا ؟ و لماذا يبيع الانسان الاخرة بالدنيا ما دمنا جميعا كادحون . اهل الصلاح و المفسدون كل في طريقه ؟ و لعل المفسد يتعرض لكدح اكبر ، لانه يفقد امل المستقبل و توكل المؤمن على ربه ، و يبدو ان الامام زين العابدين يشير الى ذلك حين يقول فيما روي عنه :
" الراحة لم تخلق في الدنيا و لا لاهل الدنيا ، انما خلقت الراحة في الجنة لاهل الجنة ، و التعب و النصب خلقا في الدنيا ، و لاهل الدنيا . و ما اعطي احد منها جفنة الا اعطي من الحرص مثليها ، و من اصاب من الدنيا اكثر كان فيها اشد فقرا ، لانه يفتقرالى الناس في حفظ امواله ، و يفتقر الى كل الة من آلات الدنيا ، فليس في غنى الدنيا راحة . كلا ما تعب اولياء الله في الدنيا للدنيا ، بل تعبوا في الدنيا للاخرة " (1) .
[ 7] و شتان بين لقاء المؤمن ربه و غيره . ان المؤمن يلقى ربه ليستلم جائزته بيمينه .
[ فاما من اوتي كتابه بيمينه ]
[ 8] يأخذه بفرح بالغ . لقد انتهى الكدح و الى الابد . انها ولادة جديدة ، و مستقبل زاهر .
[ فسوف يحاسب حسابا يسيرا ]
(1) تفسير نمونه / ج 26 / ص 304 نقلا عن خصال الصدوق .
فالحساب لا بد منه لكل انسان الا عدد محدود من الصديقين و الصابرين ، بيد ان حساب اصحاب اليمين يسير ، فاذا مروا بحسناتهم قبلت . و اذا وجدوا بينها هفوات غفرت ، و لكن الحساب العسير يعني عدم قبول حسناتهم ، و عدم التجاوز عن سيئاتهم .
وفي الخبر المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وأله : " ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابا يسيرا ، و ادخله الجنة برحمته " قالوا : و ما هي يا رسول الله ؟ قال : " تعطي من حرمك ، و تصل من قطعك ، و تعفو عمن ظلمك " (1) .
و لعل السبب في ذلك سلامة خطهم العام مما يشفع لهم في الانحرافات الجانبية .
[ 9] و يجتمع المؤمنون تحت ظل عرش الله ، ينظرون الى ساحة المحكمة ، و ينتظرون رفاقهم الذين ينتهون من الحساب و يلتحقون بجمعهم المبارك ، فاذا اخذ المؤمن كتابه اسرع اليه مسرورا .
[ و ينقلب الى اهله مسرورا ]
ان هذا السرور يلازم منذ خروجه من قبره بسبب صفاته الحميدة ، و لعل ابرزها رضاه عن ربه ، فقد جاء في الحديث عن الصادق عليه السلام : " و من رضى باليسير من المعاش ، رضى الله منه باليسير من العمل " (2) .
و جاء في حديث ماثور عن الامام الصادق عليه السلام : " اذا بعث الله عز وجل المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدمه امامه ، كلما راى المؤمن هولا من اهوال يوم القيامة قال له المثال : لا تفرغ و لا تحزن ، و ابشر بالسرور و الكرامة من الله جل و عز ، حتى يقفبين يدي الله جل و عز فيحاسبه حسابا يسيرا ، و يأمر به الى(1) موسوعة بحار الانوار / ج 69 / ص 406 .
(2) مجمع البيان / ج 10 / ص 461 .
الجنة و المثال امامه ، فيقول له المؤمن : رحمك الله . نعم الخارج خرجت معي من قبري و مازلت تبشرني بالسرور و الكرامة من ربي حتى رايت ذلك ، من انت ؟ فيقول : انا السرور الذي كنت ادخلته على اخيك المؤمن في الدنيا ، خلقني الله جل و عز منه لابشرك " (1) .
[ 10] اما الكافر و المنافق و الفاسق فانه يستلم كتابه من وراء ظهره اما بعد ان تخلع يسراه و توضع الى ظهره ، و اما لان يديه مغلولتان وراء عنقه . فيوضع الكتاب في يسراه من خلف ، و عموما فانه يصبح معروفا عند الناس بسوء العاقبة .
[ و اما من اوتى كتابه وراء ظهره ]
و تتلاحق لعنات الملائكة و الناس عليه ، و يشدد عليه في الحساب ، و لا تقبل حسناته ، و لا تغفر سيئاته ، و اهم من كل ذلك تسقط عنه الاستار التي تزمل بها في الدنيا حتى لا يعرف على حقيقته ، و يعلن للناس اسراره و خبايا نفسه الخبيثة .
[ 11] اليس من الافضل ان نسعى جميعا لاصلاح انفسنا اليوم و لا نستمر في خداع حتى لا نبتلى بتلك الفضيحة الكبرى ؟ !
ماذا يكون موقف هذا البئيس ؟ !
انه يصيح : و انفساه و اثبوراه ! ! ولكن هيهات حيث لا ينفعه الندم ، ولات حين مندم .
[ فسوف يدعوا ثبورا ]
و الثبور هو الهلاك ، و دعاؤه به اعترافه بالجريمة و استسلامه للهلاك ، و لو عرف(1) تفسير نور الثقلين / ج 5 / ص 538 .
الانسان هذه العاقبة و هو في الدنيا و اتقاها بصالح الاعمال لما ابتلي بهذا المصير الاسود .
[ 12] و لا تنفعه دعوته للهلاك و اعترافه بالثبور لانه سوف يدخل النار و يصلى حرارتها .
[ و يصلى سعيرا ]
نارا مستعرة متقدة ذات اوار و لهب .
[ 13] لماذا هذا المصير ؟ لانه كان في الدنيا مسرورا ، لاهيا عما يراد به ، مستهزء بالدعاة الى الله .
[ انه كان في اهله مسرورا ]
و السرور هو احساس الانسان بانه قد بلغ اهدافه . و الدنيا غاية علم الكافر ، و لذلك تراهم يفرحون بما اوتوا فيها ، و تغلق افاق طموحهم دون الحياة الاخرة ، فلا يقدمون لها شيئا .
[ 14] كيف يتجاوز المؤمنون ظاهر الدنيا الى غيب الاخرة ؟ انما بايمانهم بالنشور ، بينما غيرهم يظن انه لا يعود .
[ انه ظن ان لن يحور ]
اي يعود الى الاخرة للحساب . قالوا : الحور : الرجوع ، و قيل : كلمة فلم يحر جوابا : اي ما ارجع قولا ، و لا رد كلاما ، جاء في الدعاء : " نعوذ بالله من الحور بعد الكور " اي من العودة الى النقصان بعد الزيادة ، و سميت البكرة بـ " بالمحور " لانها
تدور حتى ترجع الى محلها .
[ 15] و كان ظنه باطلا . فانه ليس يحور فقط ، و انما ايضا يحاسب بهذه من لدن رب بصير بشأنه ، محيط علما بظاهر فعله و غيب نيته .
[ بلى ان ربه كان به بصيرا ]
و لان الانسان يبرر جرائمه و ضلاله عادة ؛ فان السبيل الوحيد لاصلاحه هو تحسسه برقابة الله عليه ، و انه بصير بخبايا قلبه انى برر او نافق .
[ 16] هل راقبت يوما الغروب : كيف تسقط الشمس في الافق ، و ينبسط عليه الشفق ، و يلملم الظلام شمل الطيور في اوكارها ، و الوحوش و الهوام في بيوتها و جحورها ، و الناس في مساكنهم ، و اذا بالقمر يطلع علينا بنور هادىء . انه مثل للاطوار التي يتحول عبرها الانسان منذ ان كان نطفة في صلب ابيه ، و الى ان يضمه التراب في رحمه . انه في رحلة متواصلة يركب فيها طبقا بعد طبق ، افلا نؤمن باننا لسنا مالكي انفسنا ، و ان من يملك امرنا انشأنا لحكمة ، فاين تلك الحكمة لو لم تكن في القرآن ؟ ! افلا نسجد لربنا حين نتلوا آياته ؟ ! حقا .. انها حكمة الخلق التي اشارت اليها الآية الكريمة " و ما خلقت الجن و الانس الا ليبعدون " (1) .
[ فلا أقسم بالشفق ]
لغروب الشمس هيبة في النفوس ، و جلال عظيم ، و ان منظر الشمس حين تغرب يثير فينا اكثر من احساس ؛ انه يرسم على الافق لوحة متحركة ، بارعة الجمال ، ذات الوان تبهر الالباب ، و لكنه لا يلبث ان يثير فينا الحزن على ينبوغ النور الذي بلعه المغيب و لو بصورة موقتة ، مما يجعلنا نتساءل : السنا نحن ايضا ننتظر الغروب عندما(1) الذاريات / 56 .
يحين اجلنا . و متى يأتي الاجل ؟ لا ندري .
و اخيرا يصل الانسان الى قناعة : لابد من الرضا بالواقع ؟ تعالوا نرجع الى بيوتنا .
و قال المفسرون عن الشفق : انه امتزاج ضوء النهار بظلام الليل ، و قيل : ان اصل الشفق الرقة ، و انما سمي المغيب بالشفق لانه ينتشر في الافق ضياء رقيقا .
و قالوا عن اللام في " فلا اقسم " : انها زائدة للتأكيد ، و قيل بل معناها تعظيم الشفق ان يقسم به ، او تعظيم الحقيقة حتى لا تحتاج الى قسم ، و قد سبق منا : ان اللام هنا تفيد تأكيد القسم .
[ 17] و بعد ان يلملم الشفق بقايا خيوط الضياء ، يسوق ظلام الليل الناس ليهجعوا ، و الاشياء لتنكمش ، ذلك ان الضوء يبسط الطبيعة ، بينما الظلام يجمعها .. ارايت اسراب الطيور عند الشفق كيف تعود الى اوكارها ، و قطعان الانعام تروح الى مرابضها ، و الناس ايضايعودون الى دورهم و مساكنهم ؛ انه منظر رائع حقا .
[ و الليل و ما وسق ]
قالوا : الوسق : الجمع ، و طعام موسوق اي مجموع .
[ 18] و يطلع القمر ، و يندفع الى كبد السماء ، و يتجلى بنوره الفضي كسفينة من فضة تسير في بحر من الظلام ، و يبعث من افق السماء بنوره الهادىء فوق الاجام و الروابي بما لا يزاحم نوم النائمين ، و في ذات الوقت يكون سراجا للسارين ليلا و انيسا للشعراء و الوالهين ، و آية مبصرة لمن يحيي الليل من المتهجدين .
[ و القمر اذا اتسق ]
قالوا : اتسق : مشتقة من الوسق ، بمعنى تجميع اطراف الشيء مما يوحي بكماله ، و قالوا : انه كناية عن القمر عندما يكتمل بدرا ، و يبدو لي انه اعم منه و المراد من اتساقه ارتفاعه في كبد السماء ، و بعيدا عن كدر الافق و الله العالم .
[ 19] ان الانسان ينتقل من حال الى حال .. تلك هي الحقيقة التي لابد ان يعيها الانسان بعمق ، و الا فانه يخشى عليه ان يضل سبيله .
[ لتركبن طبقا عن طبق ]
ما هو المراد من الطبق ؟ قالوا : الطبق في اللغة بمعنى الحال ، ثم ساقوا امثلة لذلك ، فذكروا ان الدواهي تسمى ام طبق ، و بنات طبق ، و استشهدوا بقول الشاعر :
الصبر احمد و الدنيا مفجعة من ذا الذي لم يذق من عيشه رنقااذا صفا لك من مسرورها طبق اهدى لك الدهر من مكروهها طبقاو يقول شاعر آخر :
اني امرؤ قد جلبت الدهر اشطره و ساقتني طبق منه الى طبقو لعل اصل معنى الطبق التطابق ، و انما سميت التحولات الاساسية و المنعطفات الحساسة من الزمن بالطبق ؛ لانهم تصوروا الزمان طبقات كما الارض طبقات او العمارة طوابق ، فسموا كل مرحلة طبقا ، كما سموا كل طبقة من الارض او طابق من البيت ، و لذلك قالوا : اتانيطبق من الناس او طبق من الجراد ، اي جماعة كانهم قسم من الناس ، و طبقة منهم ، و مشهور في ادبنا اليوم مصطلح الطبقات الاجتماعية ، و يسمى القرن من الزمان ايضا طبقا ، كما قال العباس في مدح النبي صلى الله عليه وآله .
تنقل من صلب الى رحم اذا مضى عالم بدا طبقو يقال لضريع الليل و طرف النهار طبق ، فيقولون مضى طبق من الليل او طبق من النهار .
و اذا فان ظاهر الآية يدل على ان الانسان يتدرج في طبقات الزمان ، و مراحله ، و تحولاته طبقا بعد طبق .
بلى . انه لا يملك التحولات الكبيرة التي تجري عليه . بالرغم من وجود هامش بسيط من الاختيار عنده ، فهو يولد في عصر لا يختاره ، و في مصر لم ينتخبه ، و من و الدين قدرا له دون دخل له فيهما ، و عشرات التقديرات الحتمية تصوغ حياته دون ان يكون له فيها صنع ،ثم يتحول من نطفة الى علقة الى مضغة الى خلق سوي ، يولد ليجتاز سبعة و ثلاثين مرحلة منذ الرضاعة حتى يكون هرما فيموت ، حسب الاسماء التي وضعتها العرب لمراحل حياة البشر .
و خلال هذه الفترة يتقلب عبر المرض و العافية ، و الفقر و الغنى ، و الخوف و الامنة ، و الجوع و الشبع ، و ترمي به حوادث الزمان من حزن الى سرور ، و من قلق الى سلام ، و من شدة الى رخاء و هكذا .. و قد تحمله الدواهي من ارض لارض ، و من قوم الى قوم ، و من دين الى دين .
ان كل هذه التحولات جزء من الكدح الذي كتب على الانسان في هذه الدنيا ، و لكنها لا تنتهي بالموت فما بعد الموت اعظم و ادهى .
و هكذا نقرأ في رواية مأثورة عن النبي - صلى الله عليه وآله - طائفة من هذه المراحل التي يمر بها الانسان . فقد روي عن جابر انه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله - يقول :
" ان ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله - عز وجل - ان الله لا إله غيره اذا اراد خلقه قال للملك : اكتب رزقه و اثره ، و اجله ، و اكتب شقيا او سعيدا ، ثم يرتفع ذلك الملك ، و يبعث الله ملكا اخر فيحفظه حتى يدرك ، ثم يبعث الله ملكين يكتبان حسناته و سيئاته ، فاذا جاءه الموت ارتفع ذانك الملكان ، ثم جاءه ملك الموت - عليه السلام - فيقبض روحه ، فاذا ادخل حضرته رد الروح في جسده ، ثم يرتفع ملك الموت ، ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه ، ثم يرتفعان ، فاذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات و ملك السيئات فانشطا كتابا معقودا في عنقه ، ثم حضرا معه : و احد سائق و الاخر شهيد ، ثم قال الله - عز وجل - : " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " قال رسول الله صلى الله عليه واله و سلم : " لتركبن طبقا عن طبق " قال : " حالا بعد حال " ثم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم : " ان قدامكم امرا عظيما فاستعينوا بالله العظيم " (1) .
و اذا تأملنا سياق سورة الانشقاق و تدبرنا آية الكدح فيها ، ولاحظنا هذه الرواية ايضا تبين لنا ان الجملة الاخيرة في هذه الرواية هي العبرة التي ينبغي ان نعيها من السورة ، ذلك ان عدو الانسان هو حالة اللهو اللعب التي تنزع اليها نفسه ، فتسول له العبثية والغفلة او الهروب من مواجهة الحقائق ؛ و انما ينساق البشر الى هذه الحالات بسبب غفلته عن نفسه و عما يراد بها ، و عن الاخطاء التي تنتظره . افلا يفكر هذا المسكين ان الظلام يلف الضياء ، و يتسق القمر في السماء بدل قرص الشمس ، و ان التحول سنة يخضع لها كل شيء، فهل يبقى بعيدا عنها ؟
و اذا لم نعتبر بالطبيعة حولنا افلا نعتبر بتأريخنا الحافل بالتطورات ، فهذه الامم كيف دار بها الزمن دورته و لعبت بها رياح التغيير طبقا عن طبق ، و حالا من بعد(1) القرطبي / ج 16 / ص 278 - 279 .
حال اننا ايضا سائرون في ذات الدرب ، و على هذا جاء في تاويل هذه الآية حديث مأثور عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - انه قال : " لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر ، و ذراعا بذراع لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ ! قال : " فمن ؟ " (1) .
و في حديث عن ابي جعفر - عليهما السلام - رواه ابي الجارود ، في قوله : " و لا يزال الذين كفروا تصيبهم قارعة " قال : " هي النقمة " او تحل قريبا من دارهم " فتحل بقوم غيرهم ، فيرون ذلك ، و يسمعون به ، و الذين حلت بهم عصاة كفار مثلهم ، و لا يتعظ بعضهم ببعض ، و لن يزالوا كذلك حتى يأتي وعد الله الذي وعد المؤمنين من النصر ، و يخزي الكافرين " (2) .
و هكذا ينبغي للانسان ان يعي آيات الطبيعة و عبر التاريخ ، ثم ينظر الى نفسه عبرهما حتى يعرف قدرها ، و لا يضيع فرصتها بالغفلة و اللهو و الانشغال بالتوافه .
[ 20 ] دخل ابن ابي العوجاء على الصادق ( ع ) فلم يتكلم مهابة منه ، فقال له الصادق - عليه السلام - : " يا ابن ابي العوجاء امصنوع انت ام غير مصنوع ؟ " قال : لست بمصنوع ، فقال له الصادق - عليه السلام - : " فلو كنت مصنوعا كيف كنت تكون؟ " فلم يحر جوابا ، و قام و خرج .
فعاد اليه في اليوم الثاني فجلس و هو ساكت لا ينطق ، فقال - عليه السلام - : " كأنك جئت تعيد بعض ما كنا فيه ؟ " فقال : اردت ذلك يا ابن رسول الله ، فقال ابو عبد الله الصادق - عليه السلام - : " ما اعجب هذا تنكر الله ، و تشهد اني ابن
(1) المصدر / ص 279 و ذكر في مجمع البيان حديث قريب منه ثم قال : وروي ذلك الصادق - عليه السلام - راجع مجمع البيان / ج 10 / ص 462 .
(2) موسوعة بحار الانوار / ج 6 / ص 55 .
رسول الله " فقال : العادة تحملني على ذلك ، فقال له العالم - عليه السلام - ( و العالم هو الامام الكاظم - عليه السلام - و الى اخر الرواية يسميه بالعالم . الظاهر انه الامام الصادق ( ع ) نفسه ) : " فما يمنعك من الكلام . " قال : اجلالا لك ،و مهابه ، ما ينطق لساني بين يديك ، فاني شاهدت العلماء ، و ناظرت المتكلمين ، فما تداخلني هيبة قط مثل ما تداخلني من هيبتك ، قال ( ع ) " يكون ذلك ، و لكن افتح عليك بسؤال " و اقبل عليه ، فقال له : " امصنوع انت او غير مصنوع " فقال عبدالكريم ابي العوجاء : بل انا غير مصنوع ، فقال له العالم - عليه السلام - : " فصف لي لو كنت مصنوعا كيف كنت تكون " فبقي عبد الكريم مليا لا يحير جوابا ، و ولع بخشبة كانت بين يديه و هو يقول : طويل ، عريض ، عميق ، قصير ، متحرك ، ساكن ، كل ذلك صفةخلقه ، فقال له العالم - عليه السلام - : " فان كنت لم تعلم صفة الصنعة غيرها فاجعل نفسك مصنوعا لما تجد في نفسك مما يحدث من هذه الامور " فقال له عبد الكريم : سألتني عن مسالة لم يسالني عنها احد قبلك ، و لا يسألني احد بعدك عن مثلها ، ... الى اناعترف اخيرا بان له صانعا ... و الحديث طويل اخذنا الشاهد منه .
و قد صاغ المتكلمون الحجة التالية من هذه الحقيقة فقالوا : العالم متغير ، و كل متغير حادث ، فالعالم حادث . حقا ان تطورات الخليقة من حولنا ، و تطورات حياتنا ، و تقلبنا حالا بعد حال ( طبقا عن طبق ) افضل سبيل لمعرفة الرب و حكمة خلقه لنا ، و لكن ليس كل الناس يسلكون هذا السبيل لان بعضهم تراه يكذب و يبني حياته على اساس التكذيب ، فلا تنفعه الحجج و لا المواعظ و العبر .
[ فما لهم لا يؤمنون ]
و تأتي هذه الآية في سياق بيان تلك الحقائق المفزعة لعلها تنفض من فوائد الانسان رواسب الغفلة و التهاون .
[ 21] حين يتصل قلب الانسان بشلال النور لا تملك جوارحه الا الاستجابة لمؤثرات الوحي ، فاي قلب واع لا يخضع لهذا الوحي الذي كاد يصدع الجبال الراسيات ، ام اية جبهة لا تخر ساجدة على التراب امام هذه الصعقات المتتالية التي تنبعث من ضمير القرآن .
[ و اذا قرىء القرآن لا يسجدون ]
قالوا : السجود هنا بمعنى التسليم و الخضوع للقرآن ، و قال بعضهم : انه السجود المعهود الذي ينبأ عن التسليم النفسي ، و قد اعتبر ائمة اهل البيت - عليهم السلام - السجود عند قراءة هذه مندوبا .
[ 22] انى كانت الحجج الالهية بالغة فان الجاحد يظل يعائد و يكذب ، لانه قد قرر سلفا عدم التصديق بها ، لذلك فان موقفه لا يعكس ضعف في الحجة بل انحرافا في نفسه .
[ بل الذين كفروا يكذبون ]
[ 23] و تكذيبهم الظاهر لا يعكس واقعهم و مدى تأثرهم بالحجة ، اذ انهم بالتالي بشر ، و تنفذ البراهين الواضحة في اعماقهم ، و لكنهم يخدعون انفسهم و يكذبون بها طلبا لحطام الدنيا ، و بحثا عن لذاتها ، و الله سبحانه عليهم بانفسهم ، و يحاسبهم على ما فيها ، وليس على مجرد ما يدعون من انهم لم يقتنعوا بالحجة .
[ و الله اعلم بما يوعون ]
و الوعي بمعنى الحفظ ، و يسمى الاناء : وعاء ، لانه يحفظ الطعام ، و قال المفسرون في معنى الآية : الله اعلم بما يضمرون .
[ 24] و على اساس ما يظهرون يحاسبهم الله ، لان الكافر يشهد قلبه على كذبه قبل اي شخص اخر .
[ فبشرهم بعذاب اليم ]
صدقوا بالحساب ام كذبوا .
[ 25] و انما يستثنى من هذا التعميم الذين امنوا و عملوا الصالحات ، فانهم وحدهم الذين يعطيهم الله اجرا ، داثما غير منقطع .
[ الا الذين آمنوا و عملوا الصالحات ]
قالوا في معنى الاستثناء انه منقطع اذ ان الكفار غير المؤمنين ، فلا معنى لاستثنائهم منهم ، و قال بعضهم : ان معنى " الا " هنا العطف ، و لعل الافضل ان يقال : بل الاستثناء متصل ، و لكن المستثنى منه محذوف بدليل ذات الاستثناء ، اي ان الانسان انىكان مبشر بعذاب اليم الا المؤمنون .
[ فلهم اجر غير ممنون ]
صحيح ان الاجر بقدر المشقة ، و لكن اجر الاخرة دائم ، فلو اتيت على آية ذكر فيها بيت الجنة فان هذا البيت ليس كبيوت الدنيا ، يتهدم بعد حين ، بل هو بيت دائم لا يزول ، و كذلك سائر أجر الاخرة . رزقنا الله ذلك بفضله .
قالوا : معنى كلمة " ممنون " انه بمعنى القطع ، و قد سأل نافع بن الازرق ابنعباس عن قوله : " لهم اجر غير ممنون " فقال : غير مقطوع : هل تعرف ذلك العرب ؟ قال : نعم . قد عرفه اخويشكر حين يقول :
فترى خلفهن من سرعة الرجز مع منينا كأنه أهبا .
و قال المبرد : المنين : الغبار ، لانها تقطعه وراءها (1) .
(1) القرطبي / ج 19 / ص 282 .
|