بينات من الآيات
و تنسون ما تشركون :
[40] جاء رجل الى الامام الصادق عليه السلام . يقول : يابن رسول الله دلني على ربي . فقال الامام : يا هذا هل ركبت البحر ؟ قال : نعم ، و هل انكســـرت بك السفينة ؟ قـال : نعم قال : هل تعلق قلبك بشيء حيث لا سفينة تنجيك و لا سباحة تغنيك ؟ قال : نعم ، فقال له الامام : ذلك هو الله .
فـــي الحالات العادية ، تتراكم ظلمات الغفلة و التكبر و الجهل حول فطرة البشر ، اما حين يجد الجد ، و يواجه الخطر الحقيقي ، آنئذ تنحسر الظلمات من حول القلب ، و يتوسل الانسان بربه ( الحق ) دون غفلة أو تكبر أو جهل .
[ قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ]عذاب الله المتمثل في الشدائد ، و الساعة المتمثلة في الخطر .
ان كل واحد منا يمر بمثل هذه اللحظات الصعبة التي يكتشف فيها ربه ، و لكن بعضنا فقط يبقى يتذكر تلك اللحظات بعدئذ .
[41] نعم هناك يدعو الانسان ربه ، و يستجيب الله دعاءه ، حينما تقتضيالحكمة ذلك .
[ بل إياه تدعون ]
يعني تدعون الله فقط دون غيره من الشركاء .
[ فيكشف ما تدعون اليه ]
حين تدعون الله و تتوسلون اليه لبلوغ الهدف .
[ أن شاء ]
الله حسب حكمته ينقذكم ، مما يدل على ان الله لا يحتم عليه الدعاء ، و لا يؤثر فيه ، بل برحمته و حسب حكمته يفعل ما يشاء .
[ و تنسون ما تشركون ]
ما تشركون به من أهواء ، و قوى مادية شريرة ، فالانسان يعبد أهواءه ، يعبد شهوة الراحة في ذاته ، شهوة النزوه ، و الجنس و الخلود ، ثم يزعم أن قوى الطاغوت توفر له هذه الشهوات ، فيعبد تلك القوى و يصنع لها رموزا مثل الاصنام و ما أشبه ، و ربما لذلك عبر القرآن الحكيم هنا بكلمة ( ما ) للدلالة على ان ما تشركون به الله هو من الأشياء التي لا تعقل ! و هي تعود بالتالي الى شهوات الانسان ، تلك الشهوات انما يخضع لها البشر ، و يخضع لمن يملكها لأنها - في زعمه - تنفعه ، و تحافظ على وجوده و كيانه ، و تحقق تطلعاته، فأذا جد الجد عرف أن كل تلك الشهوات لا تنفعه شيئا ، و انما خالق البشر و مقدر أموره و مدبر شؤونه هو الذي يكشف ضره ، فينسى كل تلك الشهوات و يتوب الى الله سبحانه .
حكمة الشدائد :
من الشدائد البسيطة و حتى الآلام ، التي تصيب البشر هي توعيته بحقائق الأمور بدءا من الشدائد البسيطة و حتى الآلام و إلى أن يصل إلى العذاب فالساعة ، فمثلا الحكمة من الأحساس بالجوع هو التفتيش عن مصدر الغذاء ، و التحرك إليه ، و من خلال الأحساس و التفتيش و التحرك تنفتح أمامك أبواب المعرفة ، و لو لم يكن البشر يحس بالجوع إذا لما كان يعرف جزء كبيرا من الحياة و لم يكن يعرف الزراعة و الري و الصيد .. الخ ، و كلما كان حصول البشر على الغذاء أسهل كلما كانت معرفته بالحياة أقل ، و الألم يجعلك تحس بالحياة بشكل أعمقمن ذي قبل إنك لا تعرف أساسا موقع كبدك أو كليتك أو حتى قلبك إلا بعد أن يتألم هذا العضو أو ذاك ، و عندئذ تتحسس ليس فقط بوجود العضو ، و إنما بأهميته أيضا ، و تتشبث به أكثر .
أن المريض أشد تعلقا بالحياة ، و أرهف أحساسا بأهميتها من غيره ، و الشدائد في الحياة تكشف نقاط ضعف الانسان . سواء الفرد أو الامة ، مثلا . الهزيمة تكشف عيوب الامة اكثر مما يكشفه ألف كتاب وكتاب .
و لذلك يذكرنا القرآن هنا ، بأن الهدف من اصابة الانسان بالمشاكل ، هو نفس الهدف من بعث الرسالات و الرسل ، ان الهدف من الرسالة هي توعية الانسان بحقيقة العبودية المطلقة التي يعيشها ، و التي هي في الواقع مفتاح صلاح الانسان و قدرته و رفضه الخضوع للجبت والطاغوت ، و كذلك الهدف من الشدائد .
[ و لقد أرسلنا الى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأسآء ]بالشدائد الآتية من ظلم الناس لبعضهم .
[ و الضرآء ]
بالشدائد التي مصدرها غضب الطبيعة . إنما أخذهم الله بذلك بعد بعث الرسل ،و ربما بسبب عدم انتفاعهم بالرسالات .
أما الهدف فقد كان :
[ لعلهم يتضرعون ]
[43] و بالرغم مما أخذهم الله به من العذاب فأن أولئك الذين قست قلوبهم ، و لم تستوعب دروس التجربة المرة ، عادوا بعد النكبة الى سابق أعمالهم و عاداتهم السيئة .
[ فلو لا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ]
اي لماذا لم تلن قلوبهم ، و لم تعد الى حالتها العادية ، حيث تتأثر بالتجارب بعيدا عن نزوة الغرور ، و ظلام التكبر .
[ و لكن قست قلوبهم ]
و لم تتفاعل مع الحياة ، و انغلقت على مفاهيم ثابتة جامدة و صخرية ، و السبب قد يكون هو التمحور حول الذات ، و عدم الالتفات الى الحق ، و حين تكون النقطة المركزية في حياة الانسان هي ذاته ، تصبح حياته بعيدة عن التطور ذلك لأن كل عمل يقوم به الشخص يصبح حسنا لا بشيء ، و انما لأنه هو الذي عمله ، و حتى لو عمل هذا الشخص عملا من دون وعي ، فأنه سوف يقدسه لأنه صدر منه ، و نسب الى ذاته ، و هذا هو الذي يجعلك تحتفظ بالعادات السيئة ، فاذا بك متعصب لها لانها من صنع ذاتك .
[ و زين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ]
و لكن على البشر أن يعرف : أن الاعمال السيئة ليست جزءا من ذاته ، و لاتصبح كــذلك حتى و لو صدرت هذه الاعمال منه ، لان الانسان قد خلق في أحسن تقويم ، و انما الاعمال السيئة هي من عمل الشيطان و من وحيه ، و مما يزينه للانسان .
اشراط العذاب :
[44] لقد أتم الله حجته على هذه الفئة ، أرسل اليهم رسالة و رسولا ، و اخذهم بالبأساء و الضراء ليكون ذلك رسالة واقعية وعملية لهم ، و لكنهم لم ينتفعوا بواحدة من الحجتين .. و ها هي ساعة العذاب ، فكيف يعذبهم الله ؟
إن الله يمهد للانتقام بفتح أبواب الرزق عليهم من كل صوب ، ثم حين يصلون الى مرحلة الاشباع التام ، و لا تبقى في قلوبهم ذرة من ايمان يأتيهم العذاب فجأة .
[ فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ]مما تصوروا انه خير لهم ، ولم يكن خيرا ، بل هو شر عظيم ، ففتح الله عليهم أبواب الطعام ، و الجنس و الشهرة ، لانهم لم يتقيدوا بشيء اسمه دين أو ضمير أو نظام ، بل أخذوا يتمتعون بما في الحياة من دون قيد أو شرط . أسرفوا في كل ما هو لذيذ . طيبا كان أو خبيثا ، وأسرفوا في الجنس مشروعا كان أو شذوذا ، و أسرفوا في التظاهر بالصلاح أو الفساد ، و لكن الى متى تبقى موارد الطعام و الجنس و الشهرة ، و كم هي قدرة البشر على استيعابها ؟! بالطبع أن هناك حدودا تنفذ عندها موارد الطبيعة ، و تنهك قدرة البشر على استيعابها، و هي التي نسميها مرحلة الاشباع ، و التي تنعكس على النفس في حالة ( الفرح ) أي الشعور بالكمال و الغنى و الاشباع ، و عندها يكون السقوط المفاجئ .
[ حتى اذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فاذا هم مبلسون ]و يكون السقوط المفاجئ نتيجة تراكمات الاسراف الدائم ، و لكن لحظةالسقوط لا يشعر بها المغرور الفرح الا بعدئذ . لذلك عبر القرآن عن حالتهم : بأنهم كانوا آنئذ مبلسين ، و كانوا في ظلام دامس .
أن مثل الامة مثل الشاب الذي يسرف في - الطعام و الشراب و الجنس و البطش و الفساد - و يستمر لفترة من الوقت حتى يشعر بأن كل لذائذ الدنيا في متناول يده ، و هو لا يدري أن أنواعا من المرض قد احاطت بجسده ، و أن سحبا داكنة من حقد المظلومين ، و أنصار الحقتقترب منه ، و في لحظة سوداء ، و ربما و هو جالس على مائدة الشراب ، و لذائذ الطعام ، و الى جانبه فتيات الحب ، و غلمان الشذوذ ، و هو في غمرة من الفرح و الاشباع ، فاذا بالشرطة تداهم بيته ، و اذا به يشعر بأنواع الألم و هو في غياهب السجون ، و إذا به في موقعلعنة الناس جميعا ، وأخيرا يسلم الى حبل المشنقة غير مأسوف عليه .
كذلك الامة التي تنفلت من قيود الدين و الاخلاق ، و تعمل بالظلم و البطش و تسرف في كل شيء ، انها تشعر بالغرور و الكبرياء ، و لكن في لحظة واحدة يهجم عليها عدوها فيهزمها شر هزيمة ويذيقها الأمرين .
[45] و حيــــن تنتهي هذه الجولة ينحسر غبار المعركة عن أمة سادت ثم بادت ، و لم يبق منها سوى الذكر السيء .
[ فقطع دابر القوم الذين ظلموا و الحمد لله رب العالمين ]و هذا الحمد ، هو حمد الناس حين يشعرون بأن كابوسا عظيما ارتفع عنهم ، و هو حمد الناس حين يعرفون أن رحمة الله هي التي أنقذتهم من هذا الكابوس بفضله العظيم .
و لولا رحمة الله الذي أجرى هذه السنة الحكيمة إذا لبقيت الجماهير ترزح تحت نير الطغاة .
|