فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات


بين النعمة و الجريمة :

[10] من نعم الله على الانسان تمكينه في الارض ، و تذليل الارض و تسخيرها له ، و جعل الله فيها معايش البشر ، و ما به تستمر حياتهم .

[ و لقد مكناكم في الارض و جعلنا لكم فيها معايش ]

بيد ان البشر لا يفكر في اسباب النعم و عواملها ، لذلك لا يشكر عادة من انعــــم بها عليه .

[ قليلا ما تشكرون ]

[11] من اين تنشأ عادة الجريمة ؟

في قصة آدم و ابليس توضيح لهذا السؤال ، لقد خلق الله البشر وصور خلقه جوهرا و صورة و هيئة ، و ربما المراد من الصورة هي ما أودع الله عند الانسان من صفات و اخلاق ، و من غرائز و فطرة ، و بالتالي العقل والارادة كما قال سبحانه :

[ ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ] ( الحجر / 29 )وقال سبحانه :

[ و لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ] ( التين / 130 )وقال :


[ فأحسن صوركم ] ( غافر / 64 )

و بعدئذ أمر الله الملائكة بالسجود لآدم ، و ربما كان السجود رمزا لكرامة العلم و الارادة عند البشر ، و رمزا لتسخير الحيلة له بفضل العلم و الارادة ، بيد أن الهدف من بيان قصة إبليس هنا ، يختلف عن هدف ذلك في سورة البقرة ، حيث كان الهدف هناك - حسب الظاهر - هو : بيان تسخير الحياة للانسان بفضل العلم ، أما الهدف منها هنا فهو : بيان واقعة الخطيئة كيف ؟ و لماذا وقعت ؟

[ و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الا إبليس لم يكن من الساجدين ]لماذا عصى إبليس ؟

و لقد جاء في الاحاديث أن التعبير القرآني الذي استخدم ضمير الجمع هنا دليل على واقعة الذر ، حيث خلق الله البشر جميعا بصورة ( ذر ) في صلب آدم ، و لذلك جاءت كلمة ( ثم ) للدلالة على الترتيب .

[12] و لكن ما هي الصفة التي كانت في ابليس ، فمنعته عن السجود بعد ما جاء الأمر الصريح ؟

[ قال ما منعك ألا تسجد اذ أمرتك ]

استخدم القرآن التعبير بكلمة ( ألا ) بدل ( أن ) ربما للاشارة الى ان صفة المنع لم تكن آنية أو محدودة بهذا العمل ، بل كانت مرتبطة بالطاعة على العموم ، أي ما منعك عن الطاعة ألا تسجد .

[ قال أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين ]


لقد كان جواب إبليس واضحا ، لقد كان سبب عصيانه العنصرية ، و الزعم بأن عنصره أفضل من عنصر آدم ، و عموما هناك مقياسان للانسان ، اما مقياس الذات ، و اما مقياس العمل الصالح ، فاذا كان مقياس الشخص هو ذاته ، فانه سوف لا يقف عند حد فـــي جريمته ، لانه لا يرىشيئا أقدس من ذاته أو أعلى من نفسه ، و من هنا فان جذر كل المشاكل البشرية ، هو : تقوقع الانسان في ذاته ، و اعتقاده بأن ذاته هي المقياس ، و ما الاقليمية ، و القومية ، و العشائرية ، و كل الحواجز الذاتية ما هي سوى آثار لهذه العنصرية المقيتة .

[13] و لكن مقياس الحق هو : مقياس العمل الصالح ، لا فرق بين عامله من يكون ؟ و من اي عنصر ؟ لذلك أخرج الله ابليس من جنته .

[ قال فاهبط منها ]

اي مــن السماء أو من الجنة ، و تدل كلمة الهبوط على الهبوط من مكان أعلى ، و من الطبيعي ان يكون هبوط إبليس ليس ماديا فحسب ، بل و معنويا ايضا ، و لذلك عاد القرآن و استخدم كلمة الاخراج أيضا .

[ فما يكون لك ان تتكبر فيها فاخرج انك من الصاغرين ]و هكذا كانت الخطيئة الاولى بسبب الاعتماد على العنصر ، و الذي تجسد في صورة التكبر عن الحق ، و من ثم كان الجزاء الهوان .


من حقائق الجزاء :

[14] و على الانسان ان يعرف حقيقة هامة جدا هي : أن الجزاء لا يكون دائما بعد العمل مباشرة ، بل على العكس حيث يتأخر الجزاء عن العمل ، و هذا إبليس قد طلب المهلة من ربنا فأعطاه أياها .


[ قال أنظرني الى يوم يبعثون ]

[15] [ قال انك من المنظرين ]

و أهمية فهم هذه الحقيقة تأتي من أن البشر بسبب محدودية الرؤية ، و ضيق الافق يزعم أنه لا يجازى على أعماله بمجرد تأخر الجزاء ، بل حتى حين يأتيه الجزاء ينسى أنه جاءه نتيجة عمله ، و لذلك لا يرتدع بالعقاب و لا يندفع الى الثواب ، و انما يستفيد من الجزاءالذين يعدمون المسافة الزمنية بين العمل و الجزاء ، و يتصورون أنفسهم منذ لحظة القيام بالعمل و كأنهم في لحظة الجزاء ، فالزارع الذي يتصور وقت الحصاد ، و الطالب الذي يتخيل قاعة الامتحانات ، و الجندي الذي تتراقص في مخيلته لحظات الانتصار ، و المؤمن الذي يظنأنه ملاق ربه يكون عملهم أتقن و أبقى ، بينما المجرم الذي ينسى قاعة المحكمة ، و الفاجر الذي يكفر بالآخرة ، و الفاسق الذي يتناسى الموت يكون أجرء على الله ، و أوغل في الخطيئة .

[16] و الهالك يسحب من حوله الى الهلاك ، كما الناجي يريد لمن حوله النجاة مثله ، و إبليس حين أمره الله بالسجود تكبر فأخرجه ، و هكذا اضمر حقدا مركزا ضد ابناء آدم الذي بسببه طرد من السماء .

[ قال فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم ]

انه يقعد لنا ، اي يرصدنا و يمكر بنا ، و مكره يتجسد في محاولة سلب نعمة الاستقامة منا .

[17] و يسعى إبليس بكل وسيلة ممكنة لكي يضللنا .

[ ثم لآتينهم من بين أيديهم و من خلفهم و عن أيمانهم وعن شمائلهم ]قد تكون هذه الجهات رمزا لاحاطة الشيطان بأبناء آدم من كل مكان ، حتى يتحسس البشر بمدى الخطر الذي يهدده ، فلا يكون في الحياة مهملا ، فارغ البال ، ضعيف العزيمة ، بل يكون جديا ذا فعالية كبيرة .

وقد تكون رمزا لأساليب الشيطان ، حيث يخدع البشر بالمستقبل القادم من بين يديــه حينا ، حيث يمنيه غرورا ، و يزين له اشياء يعده بها ، و قد يضله بتصوير الماضي بطريقة تدفعه الى الاعمال السيئة ، أو بسيرة الآباء ، أو بفلسفة التاريخ أو .. بمن حوله من الناس ، بأولاده و زملائه ، أو باعدائه و المنافسين له .

المهـم : ان يعرف البشر أنه لو لم يتصل بالله سبحانه ، ويستعد استعدادا كاملا ، لأحاط به مكر الشيطان وارداه و أهلكه ، فلا يصبح شاكرا لأنعم الله و جميل فضله .

[ ولا تجد أكثرهم شاكرين ]

و هذا في الواقع أسلوب خبيث يستخدمه إبليس ، حيث يربط النعم بنفسه ، أو بالأولياء من دون الله ، و الذين هم أدوات له و ليس بالله سبحانه .

[18] و الله أعطى البشر العلم و الارادة ، و حذره من الشيطان ، و بذلك كلفه مسؤولية الدفاع عن نفسه ، ضد هجمات إبليس .

[ قال اخرج منها مذؤما مدحورا ]

أي أنه بعيد معنويا و ماديا حيث أنه يذم و يطرد .

[ لمن تبعك منهم لاملأن جهنم منكم أجمعين ]

أي بالتأكيد ان من يتبعك من البشر سيكون مكانه جهنم مع إبليس .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس