بينات من الآيات
التمثيلية التاريخية :
[85] و تتكرر مشاهدة في التاريخ حتى ليكاد المرء يتصور أنها جميعا مشهد واحد لا يتغير سوى الممثلين فيه ، و أن كانت هناك اختلافات فانما هي في المظاهر الخارجية للأحداث ، فكل الجرائم و الانحرافات التي يبتلى بها المجتمع تنشأ من عدم التسليم لله و عدم اتباع مناهجه كاملا ، و الشرك به عن طريق طاعة غيره من الطواغيت و الأصنام الحجرية أو البشرية ، أو التشبث بالقشور و الأسماء التي لا يوجد وراءها شيء ، لذلك تجد رسالات السماء تؤكد أولا و قبل كل شيء على الوصية بعبادة الله ، ففي القصص السابقة بدأ كل نبي حديثه مع قومه بهذه الكلمة : إعبدوا الله .
[ و إلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ]ماذا تعني عبادة الله ؟
عبادة الله لا تعني مجرد التسليم النفسي له ، بل و يجب التعبير عن صدق هذا التسليم عمليا في صورة الكفر بالطاغوت و التمرد ضد النظام السلطوي الذي يتخذ من القوة أداة للسيطرة و القهر ، و بالتالي الثورة ضد كل حكم لا شرعي .
إن أنبياء الله ( عليهم السلام ) كانوا يهدفون تغيير النظام السياسي في المجتمع ،من نظام شركي قائم على أساس الحاكم و المحكوم ، إلى نظام توحيدي يقوم على أساس رفض الحاكميات جميعا سوى حاكمية الله الحي القيوم ، و لذلك تجد الآيات السابقة التي تحدثت عن رسالات الله أكدت قبل كل شيء ضرورة رفض الالهة التي تعبد من دون الله ، و الذي يعني : رفض الحاكميات البشرية و التسليم لحاكمية الله و عبادته سبحانه .
و رفض أي نظام سياسي باطل لا يعني الفوضوية بل إقامة كيان سياسي صحيح مكانه ، ذلك هو كيان التوحيد القائم على رسالة بينة ينتفع بها المجتمع ، يؤمنون بها و يخضعون لها .
[ قد جاءتكم بينة من ربكم ]
فعليكم باتباعها ، تلك البينة هي رسالة الله و رسوله المطاع باذنه .
و بعد تثبيت دعائم السلطة السياسية السليمة ، أمر شعيب قومه بتصحيح مسيرة الاقتصاد ، و إصلاحه من إقتصاد قائم على اساس الاستغلال و الاستثمار الى اقتصاد قائم على أساس الوفاء بالحقوق ، و إعطاء كل ذي حق حقه بالكامل .
[ فأوفوا الكيل و الميزان ولا تبخسوا الناس اشياءهم ]حين يكون المجتمع رشيدا من الناحية الاقتصادية فانه لا ينهب و لا يغش ، بل و لا يفحش في الربح أيضا أو يسعى كل طرف للحصول على المنفعة الأكبر ، و هذا هو التطلع الأرفع الذي يجب أن يهدفه المصلحون في حقل الاقتصاد . أن يرى كل طرف منفعة الآخرين بمثل ما يرىمنفعته فلا يبخس أحدا شيئا .
و بعد النظام الاقتصادي ، يأتي دور الاصلاح في مجمل سلوك البشرية تجاه الأشياء و الأشخاص ، ذلك الذي أكدت عليه رسالات السماء ، حيث أمرتبضرورة إيجاد علاقة الاصلاح بين الناس و الطبيعة ، و بين الناس بعضهم مع بعض ، فلا يكون هدف المجتمع الانتفاع بالحياة فقط بل يكون هدفه :
أولا : تفجير طاقات الطبيعة لمصلحة الانسانية ، و تنمية هذه الطاقات ، و تطويرها الى الافضل ، مثلا : زراعة الأرض ، و صناعة المعادن ، و تعبيد الطرق ، و بناء الجسور ، و عمارة المدن ، و المحافظة على البيئة بكل أبعادها ، كالمحافظة على نقاء الهواء و الطيور و أنواع الوحوش و الدواب ، و أنواع الأسماك ، و بالتالي كل ما يصلح الأرض لا ما يفسدها .
ثانيا : تنمية طاقات البشر و مواهبه ، و المجتمع الراشد يسعى من أجل دفع المستوى الخلقي لأبنائه و المستوى التعليمي ، و يربي المزيد من الكوادر المتقدمة في كافة الحقول ، إنه مجتمع يربي القادة و المفكرين و المخترعين و الأبطال ، و لا يكتفي بذلك بل و يسعىمن أجل تعميم الحضارة على كل المجتمعات القريبة فيما يخص أبناءه و مساعدتهم على التقدم و النمو ، لذلك قال ربنا على لسان شعيب :
[ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ]
وقد تكررت هذه الكلمة في الآيات السابقة أيضا ، و يتساءل المرء لماذا جاءت هذه الكلمة فــي صورة النهي ، أو لم يكن الأفضل أن يقول ربنا سبحانه : و أصلحوا في الأرض ؟
أتصور أن هذه القصص بالذات تعكس وضع الحضارات في ظروف شيخوختها ، و تنامـي نقــاط الضعف فيها ، و أفول نجمها حيث أن الحضارة تنشأ و تتنامى فيها نقاط القوة ، و لكن الغرور و الارهاب و الاستكبار كل ذلك يبدل نقاط القوة فيها الى نقاط ضعف حتى تقضي عليها ، ورسالات السماء تسعى من أجل إيقاف تدهور الحضارات و دمار العمران بتوعية الناس بأسباب قوتهم السابقة ،و عوامل الانقراض و منها بل و من أبرزها هي : الفساد بعد الاصلاح . أي تحول تلك العلاقة الانتاجية و العمرانية و الابداعية التي كانت حاكمة سابقا بين أبناء المجتمع بعضهم مع بعض أو مع الطبيعة الى علاقة استهلاك و استغلال و ترف .
إن حالة الاستهلاك القائمة اليوم في بلادنا الاسلامية ، و صفة الترف و التوسع في الحاجيات الكمالية ، و الرغبة عن الأعمال الانشائية مثل العمران و التصنيع إنها جميعا تشكل أخطر عوامل التخلف عندنا ، و يا ليتنا نتدبر في هذه القصص لنكشــف فيها سر تخلفنا ،و أسباب النهوض ببلادنا بعد الركود و التخلف .
[ ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ]
الهدم أصعب :
يزعم البعض ان الاسراف خير من الاقتصاد في المعيشة لانه يمتعك باللذائذ اكثر و بجهد أقل ، أو يزعم ان استغلال جهود الآخرين و استهلاك ما ينتجونه خير من الاجتهاد و الانتاج لانه تجاوز للتعب و الارهاق ، و اشباع للغرائز باقل قدر من العمل ، و بالتالي يزعم أكثر الناس أن الهدم خير وسيلة للدفاع ، و أفضل وسيلة لادارة الصراع بنجاح ، و لكن ما أبعد الحقيقة عن هذه المزاعم .
إنك حين تسرف في النعم فانك تهلك انسجة بدنك بقدر ما تستهلك من المواد ، و تفسد عاداتك و نفسيتك بقدر ما تفسد الطبيعة .
إنك حين تنتج فانك ترتفع الى مستوى الانتاج و تتكامل قدراتك و تنصقل مواهبك بذات النسبة و البلد الذي ينتج الفانتوم يختلف عن الذي يشتريها إختلاف الأم التي تنجب طفلا عن تلك التي تتبنى طفلا .
إن هذا البلد تتكامل قدراته و ترتفع الى مستوى انتاج الفانتوم ، إنه يصنع بدائللها و هكذا ، كذلك المزارع الذي يحرث الأرض و يسقي الحقل حتى يجني الثمرات ، ليس أبدا مثل ذلك الذي يلتهم الفاكهة دون أن يعرف قيمتها الحقيقية ، إن المزارع يتفاعل مع الثمار و يتكامل بها لانه ينتجها ، بينما الذي يأكل الفاكهة يستهلك بقدر ما يستهلك .
و من قال ان الهدم أفضل وسيلة للدفاع ، و خير أداة في الصراع ؟
إنك حين تقتل جنديا عدوا تزداد قوتكم بقدر جندي واحد ، أما حين تضيف جنديا الى جنودك من أعدائك فان باستطاعة هذا الجندي أن يستقطب إليك جنودا كثيرين .
و حين تهدم مصنعا للعدو تزعم بأن قدرتك الاقتصادية ازدادت بقدر مصنع واحد ، و لكن هل هو واقع أم خيال ؟ بينما لو أضفت مصنعا الى مصانعك فان هذا المصنع يكمل حلقات مصانعك و يرفع النقص الموجود فيها ، و بالتالي يعطيك قدرة على تنامي مصانعك .
و فرق بين أن تحرق مزرعة للعدو أو تنشئ مزرعة إن المزرعة التي تنشأها لا تضيف قوة إقتصادية الى إقتصاد بلدك فحسب ، بل و تزيدك قوة إنتاجية ، بمعنى ان الحبوب المنتجة من المزرعة تصلح ان تزرع في أرض اخرى ، و ان اليد العاملة في المزرعة تقدر على أن تزرع اخرى ، و النظام المشجع على إنشاء مزرعة ينشئ مزارع عديدة و هكذا ..
و هكذا يصبح البناء أفضل وسيلة لهدم كيان العدو ، و الاصلاح أفضل وسيلة لتصفية دعاة الفساد و دعائمه ، و صدق الله العلي العظيم حين يقول :
[ ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ]
مراحل الانحطاط :
يتـدرج المجتمع في الانحطاط عبر عدة مراحل ، ففي البداية تفسد السلطة السياسية ، ثم تفسد طريقة التعامل ، ثم أساليب الانتاج ، ثم فساد القيم و هو أخطر مراحل الفساد ، لذلك نجد شعيبا ( عليه السلام ) بدأ حديثه الناصح بالتحذير من الفساد السياسي و الاقتصادي، و من ثم الفساد الثقافي و القيمي .
فحذر من النهي عن المعروف و الصد عن سبيله ، و محاولة تضليل الناس عن سبيله الأقوم في الحياة ، و محاولة توجيههم الى السبل المنحرفة ، و أمرهم بتذكر الماضي حيث أنهم كانوا أقلاء فكثرهم الله بالسبل القويمة ، كما نصحهم بالاعتبار بما أصاب المفسدين السابقين، و أمر شعيب المؤمنين من قومه بالصبر حتى يحكم الله ، و تبين العاقبة .
[86] قد يفسد البشر عمليا ، بينما يبقى من الناحية النظرية مؤمنا بالقيم و معترفا بخطئه حين لا يعمل بها ، و يرجى لمثل هذا الشخص الفلاح بالتوبة ، و لكن إذا بقي على ضلالته العملية قد ينحدر شيئا فشيئا الى الكفر بتلك القيم رأسا ، أو لا أقل من تفسيرها تفسيرا خاطئا يتوافق مع سلوكه الباطل ، و هذا الشخص يصعب إصلاحه .
لأنه ليس فقط يعمل الأخطاء بعمد و إصرار ، بل و يدعو الناس اليها ، و قد يجر الآخرين الى إتباع منهجه ، و قوم شعيب بلغوا هذا الدرك الأسفل فنهاهم رسولهم ( عليه السلام ) عن ذلك و قال :
[ و لا تقعدوا بكل صراط توعدون ]
أي تهددون السالكين فيه من الذين يبتغون الوصول الى الله و الحق و العملالصالح .
[ و تصدون عن سبيل الله من آمن به ]
أي لا تسمحون للمؤمنين بالله أن يسلكوا السبيل الموصل اليه سبحانه .
[ و تبغونها عوجا ]
أي تحرفون نصوص الدين ، و تزعمون أن السبل الملتوية هي الطرق البالغة .
الثقافة التبريرية نسيج التخلف :
إن الأمم المتخلفة تصنع لنفسها نسيجا من الأفكار الباطلة ، و الثقافات التبريرية التي تكرس واقعها الفاسد ، و لكي تتجاوز الأمة هذه الثقافة التبريرية الكسولة عليها أن تصلح نظرتها الى الحياة ، و لا تزعم أن النعم الموجودة فيها مستمرة و ذاتية ، بل تتذكر ماضيها الحافـل بالمشاكل و العقبات ، و كيف تحدتها ، و بفضل أي نوع من القيم و الأفكار ، ثم تدرس حياة المجتمعات الأخرى التي فسدت خزائنها ، كيف و بسبب أي نوع من السلوك زالت تلك المجتمعات ؟ لذلك ذكر شعيب قومه بماضيهم و بماضي المجتمعات الزائلة و قال :
[ و اذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم و انظروا كيف كان عاقبة المفسدين ][87] و كانت نصيحة شعيب للكفار المناهضين لرسالته هي الكف عن مقاومتهم لنور الرسالة ، أما وصيته لأنصاره المؤمنين فهي الصبر و الاستقامة حتى يحكم الله بينهم وبين الكفار فقال :
[ وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به و طائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ] |