بينات من الآيات
المصاعب امتحان و تربية :
[94] فـي هذه الآية نجد حكمة الصعوبات التي تعصر البشر و الهدف التربوي منها ، الذي لو عرفه الانسان وسعى اليه فليس فقط لا يتضرر منه ، و إنما يستفيد منها كثيرا يقول الله :
[ و ما أرسلنـا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء و الضرآء لعلهم يضرعون ]فالضراعة هي هدف البأساء و الضراء في الحياة ، و البأساء حسبما يبدو لي : كل سوء يصيب البشر بأيديهم كالحروب ، و الفقر الناشئ من وضع اجتماعي سيء ، و الظلم و الارهاب ، بينما الضراء هي : الخسارات التي تصيب البشر بالطبيعة كالامراض و الضغط و ما أشبه .
و الضراعة هي : العودة الى واقع الذات و ما فيه من نقص و عجز و انحراف ، بعيدا عن أي غرور أو إستكبار ، أو عزة بالاثم ، و الضراعة الى الله تعطينا الثقة بقدرتنا على تجاوز كل ذلك بعون الله .
و ربما تكون هذه الآية توضيحا لبداية انطلاقة المجتمعات و شروطها الواقعية ، و هي ظروف قاسية يمر بها المجتمع فيتحداها بالضراعة ، و هي وعي الذات و ما فيه من نواقص يجب تكميلها ، و امكانيات يجب تفجيرها .
[95] و بعد الضراعة و تكميل النواقص بالتوكل على الله ، و بالاعتماد على قيمه السامية ، تأتي مرحلة الرفاه حيث تتبدل الصعوبات الى يسر و سلامة ، و من بعدها تأتي مرحلة الرخاء حيث تفيض النعم عن الحاجة ، و هناك يفسد المجتمع بسبب الطغيان و الترف و البطش فيصيبه الدمار ، بيد أن الدمار لا يصيب المجتمعات شيئا فشيئا بل يصيبهم فجأة و من دون شعورهم به .
[ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا ]
أي حتى كثرت النعم و أصبحت عفوا و زيادة تترك .
[ و قالوا قد مس آباءنا الضرآء و السرآء فأخذناهم بغتة و هم لا يشعرون ]لا حتميات بل حقائق :
[96] إن هذه المسيرة الدورية في المجتمعات ليست ضرورة حتمية ، أو سنة إلهية ، بل حقائق تاريخية باستطاعة البشر تغييرها عن طريق الايمان و التقوى ، فان الايمان ضمانة ايديولوجية و ثقافية و اجتماعية لبقاء عوامل الحضارة ، و التقوى ضمانة تشريعية سياسية و اقتصادية و سلوكية لبقاء إطارات الحضارة .
[ و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض ]ربما تكون البركات هي كل ما يكمل حياة البشر و يطورها للافضل .
[ و لكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ]
إذ أن الظروف القاسية التي تصيب البشر تأتي بسبب تكذيبه للحقائق ، و اكتسابه للمنكرات من هنا نستطيع أن نستنبط فكرة جديدة في فلسفة التاريخ ، و فلسفة الحضارات بين الفكرتين المتطرفتين و هما :
الفكرة الأولى : التي تقول ان للحضارات دورة حياتية حتمية مثل مراحـــل الحياة للشخص ، من الطفولة الى الشباب الى الشيخوخة فالموت .
و الفكرة الثانية : التي تقول أن الحضارات انما هي نتيجة فكرة حضارية تنمو حولها و بها امكانيات المجتمع حتى تصبح حضارة .
و الفكرة الثالثة : التي يمكن استنباطها من هذه الآيات - لو صح التفسير الذي فسرناه بها - هي :
أن هناك سببين للحضارة ، سبب طبيعي هو تحدي الصعوبات الفاسدة من ظروف قاسية أو من صراعات اجتماعية ، إذ ينشا من هذا التحدي الضراعة فاصلاح النواقص فالرخاء و الرفاه ، و هذا السبب الطبيعي يتحرك وفق سنن طبيعية تقريبا كسائر القوانين الاجتماعية .
و السبب الثاني هو : الايمان بفكرة رسالية و الالتزام بمناهجها ( الايمان و التقوى ) و لهذا السبب سنته الذاتية ، بمعنى أن الحضارة تبقى مع الايمان و التقوى .
[97] و لان هلاك المجتمعات الفاسدة يكون فجائيا بعد تراكم السيئات ، و إحاطتها بالذين يكتسبونها ، فان علينا أن نترقب بأس ربنا في كل لحظة ، ليلا و نهارا ، في حالة النوم أو في حالة الغفلة !!
[ افامن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا و هم نائمون ][98] [ أوأمن أهل القرى ان يأتيهم بأسنا ضحى و هم يلعبون ][99] [ افامنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ]من هم الخاسرون ؟ الخاسرون هم الذين يحسبون ان تراكم المكاسب الظاهرية ، و بناء العمارات الشامخة ، و الشوارع المعبدة و المضاءة ، و المصانع الكبيرة ، و الملاعب الواسعة ، و الجيوش المسلحة بأحداث الأسلحة ، إن كل ذلك يكفي في بناء الحضارة و تحقيق طموحات البشر .. كلا ، ان ذلك ما كان ليتم لولا القيم السليمة ، و التطلعات المشروعة ، و المناهج الصائبة ، و لولا ذلك لحملت الحضارة نقيضها في ذاتها ، حيث يلتف عليهم العذاب من حيث لا يشعرون فيقضي عليهم ، ذلك هو مكر الله ، إن المدنية القائمة على الظلم أو الطغيان، و المجتمع القائم على الاستغلال و الطبقية ، و الثقافة القائمة على المصالح الذاتية كل ذلك مهدد بالزوال في كل لحظة و بصورة مفاجئة .
إذ أن المظلومين المتسغلين ، و المستضعفين المقهورين سوف ينتفضون بعد أن يطفح بهم كيل الغضب ، فلا يهابون الموت فيدمرون كل شيء في لحظة ، و الله سبحانه ينزل عليهم صاعقة من عذابه بعد أن تنتهي الفرصة الممنوحة لهم ، و الأجـل المحــدود لاختبارهم ، فيقضي عليهم ، انه مكر الله ولا يأمن مكره أحد .
ان المكر هو : الالتفاف حول شيء و أن يأتيه الأمر من حيث لا يحتسب الفرد ، و الذي لا يحسب لمكر الله حسابا يخسر ، لأنه يبني دون أن يملك ضمانة لاستمرار بنائه ، و هو أشبه بجيش لا يسد على نفسه الثغرات الخلفية ، و ينظر فقط من جهة واحدة ، حيث أن العدو يأتيه من الخلف فيقضي عليه ، إن على البشر أن يلاحظ
خلفيات الأمور ، و عوامل الهدم و الدمار ، و قيم التقدم و الاستمرار .
[100] لكـي يكون لديك بصيرة نافذة ، تعرف بها عوامل الدمار التي لا ترى ظاهرا ، عليك أن تعتبر من التاريخ ، و تدرس حال الأمم التي بادت و أورثك الله الأرض من بعدهم ، أولئك الذين أحاطت بهم ذنوبهم ، و أغلقت قلوبهم فلم تسمع الحقيقة ، و أنت أيضا مع مجتمعكيمكن أن يصيبكما الله بذنوبكما ، فتغلق قلوبكما و تندحر حضارتكما .
[ او لم يهد للذين يرثون الارض من بعد أهلها ]
أو لم يكن ذلك الاستخلاف و التوارث هداية كافية لهم ليعرفوا .
[ أن لو نشاء اصبناهم بذنوبهم ]
كما أصاب الله أولئك بها الذين من قبلهم ليكونوا هم الوارثين .
[ و نطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ]
آثار الذنوب :
إن الذنوب تعكس خطين من الآثار السلبية في حياة البشر .
الخط الأول : في الواقع الخارجي ، فالظلم و الارهاب و الجريمة كل ذلك يخلف الخراب و الغضب و التحدي في واقع الطبقية و المجتمع .
الخـط الثاني : في الانسان العامل بالذنب ، فالظلم يغشي القلب ، و يضعف الارادة ، و يقتل الوجدان ، و يحجب العقل ، و كذلك الارهاب و الجريمة ، والقرآن يشير الى أن هلاك الأمم كان يتم بسبب تراكم آثار الذنوب على كلا الخطين ، فمنجهة كان الله يصيبهم بذنوبهم و تراكمات آثار الخطين في الواقع الخارجي ، و من جهة ثانية كان الله يطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون بسبب تراكمات الآثار النفسية ، و لا يقدرون على الاستجابة لمغيـرات الحيـــاة أو الانتباه الى أجراس الخطر التي كانت تدق على مسامعهم ، بل حتى أنهم كانوا يكذبون بآيات العذاب و هي قادمة اليهم ، فمثلا كان بعض الهالكين من الأمم السابقة يرون سحابة العذاب فيزعمون أنها سحابة رحمة ممطرة ، فتمطر عليهم العذاب بدل الرحمة ، كذلك بعض الأنظمة اليوم تزعم أن الانتفاضات الجماهيرية انما هي من خارج أراضيها ، بينما هي من الفساد في ذات النظام .
[101] و من علائم طبع القلب و انغلاقه عن الاستجابة للمتغيرات ، أو فهم إشارات الخطر : أن الرسل كانوا يأتون إليهم بالبينات و الآيات الواضحة و لكنهم يكذبون بها ، حتى يدمر الله عليهم قريتهم .
[ تلك القرى نقص عليك من أنبائها و لقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ]إنهم كذبوا بالقيم اول ما انحرفوا ، فجاءت الرسل تنذرهم بالخطر من بعد أن تراكمت ذنوبهم و احاطت بهم فلم يعبأوا بذلك .
[ كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ]
حين يكفر المرء يؤثر الكفر في قلبه فينغلق دون التوجيه السليم ، ذلك لأن الكفر يأتي نتيجة الاستكبار عن الحق ، و الغرور بالذات ، و حين يستجيب المرء للكفر يزداد تكبرا و غـرورا ، و هكذا حتى تنسد منافذ قلبه جميعا ، حيث أن الاستكبار عدو الفهم السليم .
[102] و الله سبحانه حين أهلك الأمم السابقة لم يهلكهم إلا بعد أن توافرت فيهم أسباب الهلاك و منها : نقض العهد ، و الفسق ، أما نقض العهد فهو حالة نفسية تنعكس في تعامل الانسان مع القيم و التزامات البشر ، فالكذب و الغيبة ، و التهمة و إخلاف المواعيد ، و الغش و التدليس ، و النفاق كل ذلك من مظاهر نقض العهد ، حيث يتظاهر الفرد بشيء و يتعهد به ظاهرا و لكنه ينقضه ، وكذلك عدم الدفاع عن الوطن ، و عدم التعاون في مقاومة الظلم أو مواجهة مشكلات طبيعية .
أما الفسق فهو تجاوز الحد في السلوك الشخصي مثل : أكل الحرام ، و التهاون في الحقوق .
[ و ما وجدنا لاكثرهم من عهد و ان وجدنا اكثرهم لفاسقين ]3 + 396
الظلم بآيات الله و عاقبة المفسدين
|