بينات من الآيات
التكامل الاجتماعي :
[160] و كانت بنو إسرائيل أمة منقسمة في إثنتي عشرة قبيلة ، كل قبيلة أو سبط أمة تتبع قيادة معينة ..
[ و قطعناهم إثنتي عشرة أسباطا أمما ]
و يبدو لي إن هذه الفرق المختلفة لم تبلغ مستوى تلك الامة التي تحدثت عنها الآية السابقة ، التي كانت تهدي بالحق و به تعدل ، بل كانت لا تزال في عهد التقسيمات الطبيعية حيث كانت القبائل تتبع رئاستها ، و الله سبحانه الذي خلق الطبيعة قدر لها سننها و هدى الناس اليها ، بالوحي والعقل كما خلق الاسرة ، و جعل لها سنة التحابب و التعاون .
وهدى الناس بالوحي و العقل إلى أهمية الاسرة في بناء كيان المجتمع ، كذلك خلق القبيلة و شد بعضها الى البعض بحبال المحبة ، و الوحدة الثقافية ، و وحدة الهدف و المصير ، و هدى الناس الى أهمية إيجاد الترابط البناء بين أعضاء القبيلة في إطارالتقوى ، و التعاون على البر و الاحسان .
و لكن هذه السنن الطبيعية لا تعني ان قمة الكمال هي في التعرف عليها ، و الاهتداء الى كيفية الاستفادة منها ، بل قد يكون التكامل في تغيير الطبيعة و تكييفها حسب القيم العليا للحياة ، مثل تحويل الحياة القبلية الى حياة أمية تستلهم من قيمة التقوى في بناءعلاقاتها الاجتماعية ، كما كانت الامة الاسلامية الاولى ، و كما تكون التجمعات الرسالية المكتملة ، حيث يرتفع الفرد فيها على علاقاته الأسرية و القبلية ، و يبني أساس علاقاته على الاخوة المبدئية ، و يكون التجمع هو أبوه و أخوه و رابطته الأولى ، و يرى نفسه ابنا للتجمع قبل أن يكون إبنا لوالديه ، و منتميا الى حزب الله قبل أن يكون منتميا الى قبيلة كذا أو عنصر كذا .
و من هنا بدأ الله حديثه عن الأمة الواحدة في بني إسرائيل في الدرس السابق ثم تحدث عن الأمم المتنافسة ، و بين أن رسالة موسى ( عليه السلام ) كانت تهتم أيضا بتلك القبائل و الأسباط ، و تستخدم تلك العلاقات الطبيعية في تنظيم المجتمع ، لذلك فجر الله لموسىإثنتي عشرة عينا ، لكل قبيلة مشربا معينا .
[ و أوحينا الى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم ]ثم بين الله النعم التي أسبغها لأولئك الناس الذين لم يذوبوا أنفسهم بالكامل في بوتقة الايمان ، و قال تعالى :
[ و ظللنا عليهم الغمام و أنزلنا عليهم المن و السلوى ]المن هو قسم من الحلوى ، و السلوى هو الطير المشوي .
[ كلوا من طيبات ما رزقناكم و ما ظلمونا و لكن كانوا أنفسهم يظلمون ]لماذا لم يعد الغمام يظللهم ، و المن و السلوى لا ينزلان عليهم ؟
لأنهم ظلموا أنفسهم كما سبق في آيات سورة البقرة ، حيث أنهم ملوا حياة البداوة و دعوا ربهم بالعودة الى المدن .
نقاط الضعف الحضارية في المدينة :
[161] و بعد أن هبطوا القرية التي هيأها الله لهم فسدت أخلاقهم ، فبدل أن يشكروا الله على النعم التي وفرها لهم ، و بدل أن يستغفروه سبحانه بخضوع و قنوت حتى يتكاملوا عن طريق التعرف على نقاط ضعفهم و أسباب تخلفهم ، و بدل أن يتخذوا الاحسان أداة لتنمية علاقاتهم الاجتماعية و تزكية نفوسهم ، بدل كل ذلك مما أمرهم به الله غيروا و كفروا بأنعم الله ، و استكثروا من اللذات و لم ينتبهوا لنواقصهم .
[ و إذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية و كلوا منها حيث شئتم و قولوا حطة ]أي اللهم حط ذنوبنا و اغفر لنا .
[ و ادخلوا الباب سجدا ]
خاضعين لله حتى لا يستبد بكم طغيان النعم و غرور القوة .
[ نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين ]
حيث ان المدينة تصبح آنئذ سببا لتطوركم و رقيكم ، ذلك لان عوامل الضعف في المدينة هي العوامل التالية التي نهى ربنا عنها :
أولا : القيود الاضافية التي لا فائدة منها و التي تحدد انتفاع البشر بنعم الله ، من العادات الجاهلية ، و الآداب الزائدة ، و سائر القيود و قد نهى ربنا عنها بقوله : ( و كلوامنها حيث شئتم ) فأمرهم بعدم التقيد بالأغلال الجاهلية التي ما أنزل الله بها من سلطان ، و قد أوضح القرآن ذلك في آيات أخرى سبقت أو تأتي في سائر السور .
ثانيا : الغرور ، و الطغيان ، و الشعور بالاستغناء ، حيث يخشى على المتحضرين من هذه الصفة الرذيلة ، و قد أمر الله بالاستغفار تحصنا من الغرور و الاعتزاز بالأثم ، و الاعتقاد ببلوغ مرحلة الاكتمال التام .
ثالثا : التجبر و الطغيان على خلق الله بسبب الغنى و العزة ، و الاتحاد الموجود في المدينة ، و أمر الله سبحانه بني إسرائيل بالسجود لله عند دخول المدينة ، لكي يعرفوا أن غناهم و عزتهم و وحدتهم كل ذلك انما هي من الله سبحانه لا من عند أنفسهم حتى يتجبرواعلى الآخرين .
رابعا : البخل و الشح عن العطاء مما يسبب التفاخر و المنافسة الحادة ، فأمر الله في نهاية الآية بالاحسان ، و بين أنه سوف يسبب زيادة النعم حتى يتجاوز بنو إسرائيل في قريتهم هذه الصفة المهلكة ، و قال سبحانه : ( سنزيد المحسنين ) .
من هنا نعرف أن المدينة مفيدة و ضارة ، مفيدة إذا استطاع المجتمع تجاوز سلبياتها الأربعة ، و إلا فهي ضارة و تحرق خيرات البشر .
[162] أما بنو إسرائيل فقد هزهم دخول القرية لان أكثرهم لم يتقيدوا بتعاليم ربهم سبحانه ..
[ فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون ]و انتهت حياتهم المدنية الى العذاب بسبب ذلك الظلم الذاتي .
ظلم الذات :
[163] و كمثل على ذلك الظلم الذي انتهى الى العذاب بين الله لنا قصة السبت ، حيث أمرهم بألا يصيدوا يوم السبت تنظيما لحياتهم الاجتماعية ، و راحة لهم و تفرغا للعبادة ، و لكن الطمع دفع بهم الى تجاوز حد الله في السبت إذ كانت الحيتان تأتيهم ظاهرة في يوم السبت .
[ و اسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ]و ربما المراد بكلمة حيتانهم هو ان هذه الحيتان كانت لهم بالتالي ، فان لم يصيدوها في يوم السبت وفروها ليوم الاحد ، و لكنهم لم يكونوا يفقهون تشريع هذه الظاهرة .
[ و يوم لا يسبتون لا تأتيهم ]
يبدو أن المراد أنها في غير السبت لم تكن ظاهرة ، و كان ذلك إمتحانا لهم و إبتلاءا من قبل الله حتى يعرفوا مدى ضعفهم .
[ كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ]
اذا فسق الانسان فسقا خفيا و بطريقة منافقة فان ربنا سبحانه يمتحنه امتحانا صعبا و ظاهرا ، حتى لا يقدر على مقاومة الاغراء بسبب فسقه الخفي الذي أضعف ارادته و خور عزيمته ، فيضطر إلى إظهار واقعه ، و هذا معنى الابتلاء حيث أنه يظهر الواقع الخفي .
و في القصص التاريخية بيان لطبيعة نفاق أصحاب هذه التوبة ، حيث أنهم كماجاء في تلك القصص يلقون الشباك في يوم السبت ثم يستخرجون السمك في يوم الأحد ، أو أنهم كانوا قد صنعوا أحواضا على البحر يدخلها السمك يوم السبت ثم لا يستطيع أن يخرج منها فيصيدونها يوم الأحد .
مواقف المجتمع تجاه الجريمة :
[164] و انقسم أهل هذه القرية الساحلية الى ثلاث فرق ، بعضهم المجرمون ، و بعضهم الساكتون على الجريمة ، و بعضهم الناهون عنها ، و ينقل الله سبحانه حوارا بين الساكتين و الناهين .
[ و إذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ]أي ما لكم تعظون المجرمين الذين لا فائدة من وعظكم إياهم ، بل سوف يهلكهم الله أو يعذبهم .
[ قالوا معذرة الى ربكم ]
لان النهي عن المنكر واجب شرعي حتى و لو كان بهدف تسجيل الحضور ، و بيان انحراف المنحرف ، و لو من أجل الأجيال القادمة ، و الله لا يعذر البشر بمجرد الاعتقاد بأن النهي عن المنكر لا ينفع .
[ و لعلهم يتقون ]
و هناك أمل بان يتقي جماعة منهم ربهم فيكفي ذلك ثوابا .
[165] و ذكر الله هؤلاء المجرمين بالمناهج التي يجب إتباعها ، و حذرهم من تجاوز الحدود و ذلك عن طريق الناهين عن المنكر من قومهم ، و لكنهم نسوا ما ذكروابه فأنجى الله الناهين ، و أخذ الباقين بالعذاب .
[ فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء و أخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ]و كان بين المهلكين الساكتين عن المنكر .
[166] و كان العذاب الشديد هو أن الله سبحانه قال لهم كونوا قردة خاسئين .
[ فلما عتوا عن ما نهوا عنه ]
و تكبروا عليه .
[ قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ]
|