فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


إنه لقول فصل وما هو بالهزل
بينات من الايات

[1] أرأيت النجم الذي يطرق بنوره الثاقب في عرض السماء ! أرأيته كيف يدفع الله به شر إبليس و جنوده عن السماء و اهلها و الارض و سكانها ! إنه مثل واحد لحفظ الله ، فقسما به و بالسماء التي يحفظها : ان الله هو الحفيظ ، ولولاه لما استطاع الانسان ان يعيش لحظة ولا غيره من الاحياء .

[ و السماء و الطارق ]

قالــوا : الطرق يعني الدق ، وانما سمي السبيل طريقا لان الانسان يدق عليه برجله ، و زائر الليل سمي طارقا لانه بحاجة االى دق الابواب لتفتح ، ولعل كل قادم تسميه العرب طارقا لانه هو الآخر يدق الأبواب باعتباره غريبا عن المنطقة .

و القسم بالسماء وما يطرق فيها من النجوم الثاقبة يستثير عقل الانسان ، و يستقطب اهتمامه ، و ينفض عن قلبه غبار الغفلة و السبات .. و بالذات حينيكون القسم بالسماء البعيدة عن متناول أيدينا وعن مرامي فكرنا ، و بالطارق الذي يخشاه الانسان ، فليس كل طارق يطرق بخير .

وقد قال الشاعر :

يا راقد الليل مسرورا بأوله ان الحوادث قد يطرقن أسحارالا تفرحن بليل طاب أولــــه فــرب آخــر ليــل أجــج النـاراوحين يرتفع الانسان الى افق التفكير و التدبر في آيات الله في السماء و الارض يقترب من معرفة الحقائق الكبرى، بينما الذي يعيش في زنزانة مشاكله اليومية ، و هواجس نفسه و وساوس قلبه، فانه يحرم التفكر في الآفـاق ، و يحرم بالتالي بلوغ الحقائق .

ولعل هذا من اهداف القسم في القران : الارتفاع بالانسان الى آفاق الحقائق بعيدا عما يحيط بفكره من قضايا خاصة لا تنفك تستقطب اهتماماته .

و القران منهج تفكير قبل أن يكون دائرة للمعارف ، ولذلك فهو لا يهدف مجرد تعليم الانسان ، بل جعله قادرا على التعلم بذاته، فهو يفتح مغاليق الفكر بمفاتيح الذكر ، و يبصر الانسان الحقائق برفر الغشاوات عن قلبه ، و يخرق الحجب التي تستر بصيرته عن رؤية الحقائق باستثارة العقل و نفض غبار الغفلة عن الفؤاد .

و سورة الطارق تتجلى بين السور القصار بهذه الميزة . انها كما النجم الثاقب بنوره الوضيء تطرق أبواب القلب حتى تفتحه امام شلال النور المنبعث من الوحي .

[2] ماهــو الطارق ؟ دع فكرك يجوب في آفاق الخليقة لعله يكتشف ما هو الطارق .

[ و ما أدراك ما الطارق ]


هذه الكلمة تستثير عقل الانسان ، كما تبين له أهمية القضية . و قال بعض المفسرين : كلمــا ذكرت هذه الجملة في القرآن عرف موضوعها ، مثـل قولــه سبحانــه : ( وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر ) ، بينما اذا استخدمت جملة ( وما يدريك ) فانالموضوع يبقى مجهولا في النص .

[3] ما هو الطارق اذا ؟ انه النجم العالي الذي يثقب ضوؤه الباهر جدار الظلام .

[ النجم الثاقب ]

قالوا : الثاقب المضيء ، ومنه شهاب ثاقب ، و العرب تقول : اثقب نارك أي أضئها ، و الثقوب ما تشعل به النار من دقاق العيدان .

و اختلفوا في تأويل هذه الكلمة .. والذي يبدو لي أن الطارق هي الأقدار التي تتواصل في الليل و النهار بخيرها و شرها ، ولذلك نستعيذ بالله من طارق السوء حسب النص المأثور عن النبي - صلى الله عليه واله - : ( أعوذ بك من شر طوارق الليل و النهار إلا طارقايطرق بخير يا رحمن ) (1) .

وفي الدعاء : " بك أستجير يا ذا العفو و الرضوان من الظلم و العدوان ، ومن غير الـــزمان ، و تواتر الأحزان ، و طوارق الحدثان ، ومن إنقضاء المدة قبل التأهب و العدة " (2) .

و حسب هــذا الرأي فإن النجم الثاقب هو بيان لهذا الطارق الذي يشبه النجم الثاقب ، كما قال سبحانه : " إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب " (3) .


(1) القرطبي/ ج 20 - ص 3

(2) مفاتيح الجنان / دعاء يوم الاحد

(3) الصافات/ 10


و يكون القسم - إذا - بتلك الشهب التي يحفظ الله بها السماء من الشياطين الذين يسترقون السمع ، و يكون السياق متناسبا مع الحديث عن حفظه سبحانه لأهل الارض .

و قيل : ان كل نجم يسمى طارقا باعتباره يطلع بالليل ، و عليه فان القسم بكل نجوم السماء او النجوم اللامعة ، و قال البعض: بل النجم هنا هو زحل ، وقد روي ذلك عن الامام الصادق - عليه السلام - (1) ، وقال بعضهم : بل هو الثريا ، وقال الآخر: بل هو الزهرة .


وقد تتسع العبارات لكل تلك التطبيقات ، ذلك لأن آية نتلوها في سورة الملك يظهر منها أن مصابيح السماء هي رجوم الشياطين أو مراكـــزهم لرجمهــم ، قال ربنا سبحانه : " ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح و جعلناها رجوما للشياطين " (2) .

فمن المحتمل ان تكون النجوم هي ذات الشهب الطارقة أو أنها مصادر للشهب. يبقى أن نقول: ان المراد من النجم يمكن أن يكون جنس النجم فيشمل سائر الانجم وليس واحدا منها .

[4] حينمـا ينظـــر الانسان الى متانة بناء السماء ، و كيف جعلها الله سقفا محفوظا ، و زرع في أرجائها مراجم للقوء الشيطانية التي تسعى لافساد النظام فيها ، يطمئن الى تلك اليد العظيمة التي تمسك السماوات و الأرض أن تزولا ، و يعرف أنه في كنف رب عظيم ، يحفظه من طوارق السوء .

[ ان كل نفس لما عليها حافظ ]


(1) راجع نور الثقلين / ج 5 - ص 549

(2) الملك / 5


عشرات الألوف من الحفظة يحرسونك من الأخطار المحدقة بك ، فى يصيبك إلا ما تستحق أو ما تقتضيه حكمة الرب .

انظر الى نظام حماية الجسد تتركب من اجهزة عديدة :

ألف : فجهاز التكيف مع المحيط المتشكل من العين و الأذن و الذوق و سائر الأحاسيس ، و أبرز ما فيه شبكة الأعصاب العجيبة .

باء : و جهاز الدفاع امام الأخطار و أبرزها الرجل و اليد .

جيم : و جهاز الحماية من الجراثيم ، وفي طليعتها امتناع الجسد من استقبال مالا يناسبه من الطعام والشراب ، كما إذا كانا عفنين أو مرين .

دال : و جهاز المناعة الذاتية ضد الجراثيم ، التي لولاها لغزت الفيروسات و الميكروبات أرجاء الجسد بسهولة . أرأيت الذي يفقد هذه المناعة و يبتلى بمرض الإيدز ، كيف يموت بأبسط ميكروب لأن جسده لا يقاومه .

هاء : و العواطف و الشهوات التي تدفع الانسان دفعا قويا نحو المحافظة على الجسد .

واو : و العقل الذي يقود الجسد في خضم صراعه المرير ضد الطبيعة و ضد ساُئر الأخطار .

و عشرات الأجهزة المحيطة بالجسم التي لو أردنا شرحها لملأت أسفارا كبيرة .

و مثل نظام حماية الجسد عشرات الأنظمة الأخرى المبثوثة في الطبيعة تحمي الانسان من التلاشي ، مما نعرف بعضها و نجهل الكثير ، كلها شاهدة على ان اللهسبحانه هو الحفيظ الذي أحاط الانسان بحمايته ، قال سبحانه : " له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله " (1) وفي هذه الآية جاء الحديث المأثور عن الامام الباقر - عليه السلام - قــال : " يقول : بأمر الله من أن يقع في ركي " بئر " ، او يقع عليه حائط ، او يصيبه شيء ، حتى إذا جاء القدر خلوا بينه و بينه ، يدفعونه الى المقادير ، و هما ملكان يحفظانه بالليل ، و ملكان بالنهار يتعاقبانه " (2) و بالذات المؤمنين وكل بهم ملائكة يحفظونهم ، فقد روي عن النبي - صلى الله عليهواله - أنه قال : " وكل بالمؤمن مائة و ستون ملكا يذبون عنه ما لم يقدر عليه ، من ذلك البصر سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب ، ولو وكل العبد الى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين " (3) .

و يظهر من هذا الحديث : أن الملائكة يذبون الشياطين عن المؤمن لكي لا يؤثروا عليه ماديا و معنويا ، و يقوم الحفظة بحفظ أعمال العباد وما تبدء منهم ، من نية و كلمة و فعلة ، قال الله سبحانه : "و إن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون بما تفعلون" (4) .

و هكذا لا يصيب الانسان مصيبة او أذى الا بأذن الله ، إذ لولا ذلك لمنعت عنه الحفظة ، وقد قال ربنا سبحانه : " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم " .

[5] ولكي يتأكد الانسان من الحفظة فليفكر في نشأته : كيف كان نطفة ( في صلب أبيه ثم رحم أمه ) مهانة ضعيفة . من الذي حفظها في مسيرتها الصعبة ؟ أوتدري كم هي الانظمة الدقيقة التي تحيط بالنطفة وهي تتقلب من طور الى طور في رحم الأم ؟ وهل كان من الممكن لك وأنت نطفة أن تحفظ نفسك من


(1) الرعد / 11

(2) نور الثقلين / ج 2 - ص 487

(3) تفسير البصائر / ج 54 - ص 354

(4) الانفطار / 10 - 12


الأخطار ؟

[ فلينظر الانسان مم خلق ]

إن هذا النظر يفتح أمام الانسان آفاقا من المعرفة ، لأنه يهتدي بذلك الى حقيقة نفسه و مدى ارتكاسها في العبودية و الحاجة فيخرج من ظلمة الغرور و الكبر و التعالي الى نور الواقعية و التواضع ، كما انه ( بالنظر الى بدء نشأته ) يعرف مستقبله . اوليس الانسانيعود كما بدأ ؟

[6] من الصعب علينا تصور العدم حيث أنشأنا الباري لا من شيء كان ولا مثال احتذاه ، ولكن افلا نقدر على تصور المسافة بين النطفة و بين الانسان المتكامل ؟ إذا لنعرف أن المسافة بين النشأة الأولى حينما خلقنا الله من تراب و حتى جعلنا في صورة نطفة أبعد و أعظم . أما المسافة بين العدم و الوجود فإنها لا تقاس بأية مسافة اخرى ، لأن تصور العدم من قبلنا يشبه المستحيل .

دعنا إذا ننظر الى حيث كنا قطرات من ماء دافق ، و نتساءل : كيف كنا ، والان كيف صرنا ؟ افليس الذي حولنا من تلك الحالة الى حيث نحن بقادر على ان يعيدنا بعد الموت ؟ بلى . إنه على كل شيء قدير .

[ خلق من ماء دافق ]

ينبعث من الصلب الى الرحم ليستقر في مقام أمين حيث ينشؤه خلقا آخر .

ولعل كلمة " من " هنا تشير الى أن هذه القطرة المتواضعة ليست كلها منشأ خلق البشر بل شيء منها ، بلى . فإن خلية واحدة بين ملايين الخلايا هي منشأ خلقة هذا العالم الكبير الذي يختصر في بناء الانسان فإنها حين تستقر في الرحم تبدأ بامتصاص الغذاء لتنشطر الى خلايا ثم تتكون كل خلية في زاوية ليصنع الله منهاجزء من وجود الانسان بدقة و لطف حتى تكتمل نشأته .

و يجدر بنا ان نستمع هنا الى تذكرة ايمانية على لسان الامام الصادق - عليه السلام - في حديثه المفصل الى تلميذه المفضل بن عمر حيث يقول :

" نبتدئ يا مفضل بذكر خلق الانسان فاعتبر به ، فأول ذلك ما يدبر به الجنين في الرحم ، وهو محجوب في ظلمات ثلاث : ظلمة البطن ، و ظلمة الرحم ، و ظلمة المشيمة ، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ، ولا دفع أذى ، ولا إستجلاب منفعة ، ولا دفع مضرة ، فانه يجري اليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات ، فلا يزال ذلك غذاؤه حتى اذا كمل خلقه ، و استحكم بدنه ، و قوي أديمه على مباشرة الهواء ، و بصره على ملاقات الضياء ، هاج الطلق بامه فأزعجه أشد ازعاج و أعنفه حتى يولد ، و إذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم أمه الى ثدييها ، فانقلب الطعم و اللون الى ضرب آخر من الغذاء ، وهو أشد موافقة للمولود من الدم ، فيوافيه في وقت حاجته اليه ، فحين يولد قد تلمظ و حرك شفتيه طلبا للرضاع ، فهو يجد ثدي أمه كالأدواتين المعلقتين لحاجته اليه ، فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن ، رقيق الأمعاء ، لين الأعضاء ، حتى اذا تحرك و احتاج الى غذاء فيه صلابة ليشتد و يقوي بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان و الأضراس ليمضغ به الطعام فيلين عليه ، و يسهل له اساغته ، فلا يزال كذلك حتى يدرك ، فاذا ادرك وكان ذكرا طلع الشعر في وجهه ، فكان ذلك علامة الذكر و عز الرجل الذي يخرج به من حد الصبا و شبه النساء ، وإن كانت أئثى يبقى وجهها نقيا من الشعر ، لتبقى لها البهجة والنضارة التي تحرك الرجال لما فيه دوام النسل و بقاؤه .

اعتبر يا مفضل فيما يدبر به الانسان في هذه الأحوال المختلفة ، هل ترى يمكن أن يكون بالإهمال ؟ أفرأيت لو لم يجر إليه ذلك الدم وهو في الرحم ألم يكن سيذويو يجف كما يجف النبات اذا فقد الماء ؟ ولو لم يزعجه المخاض عند استحكامه ألم يكن سيبقى في الرحم كالموؤود في الأرض ؟ ولو لم يوافقه اللبن مع ولادته ألم يكن سيموت جوعا ، او يغتذي بغذاء لا يلاُئمه ولا يصلح عليه بدنه ؟ ولو لم تطلع عليه الأسنان في وقتها ألم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام و إساغته ، أو يقيمه على الرضاع فلا يشد بدنه ولا يصلح لعمل ؟ ثم كان تشتغل امه بنفسه عن تربية غيره من الاولاد ، ولو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته ألم يكن سيقى في هيأة الصبيان و النساء فلا ترى له جلالة ولا وقارا ؟! " (1) .


[7] وهذه النطفة المتدفقة من صلب الذكر تلتقي على ميعاد بأخرى من ترائب الأنثى لتلقحها .

[ يخرج من بين الصلب و الترائب ]

قالوا : الترائب نواحي الصدر ، واحدتها تريبة ، وهو مأخوذ من تذليل حركتها كالتراب . أما الصلب فهو عظم الظهر و مخه .

و السٌؤال : ماذا يعني أن يكون الانسان هو بين الصلب و الترائب ؟ يجيب عن ذلك بعضهم بالقول :

إن صلب الانسان هو عموده الفقري ، و ترائبه هي عظام صدره ، و يكاد معناه يقتصر على الجدار الصدري الأسفل ، و يضيف : في الاسبوع السادس و السابع من حياة الجنين في الرحم ينشأ ما يسمى ( جسم و ولف وقناته ) على كل جانب من جانبي العمود الفقري ، ومن جزء من هذا تنشأ الكلي و الجهاز البولي ، ومن جزء آخر تنشأ الخصية في الرجل و المبيض في المرأة ، فكل من الخصية و المبيض في بدء تكوينهما يجاور الكلي ، و يقع بين الصلب والتراُئب أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريبا(1) موسوعة بحار الانوار / ج 3 - ص 62 .


و مقابل أسفل الضلوع ، و يضيف : وكل من الخصية و المبيض بعد كل نموه يأخذ في الهبــوط الى مكانه المعروف ، فتهبط الخصية حتى تأخذ مكانهـا في الصفن ( وعاء الخصية ) و يهبط المبيض ، حتى يأخذ مكانه في الحوض بجوار بوق الرحم (1) .

[8] الحقائق الكبرى تنزلق من قلب البشر لما فيها من ثقل و فخامة ، و لذلك يحتاج الانسان الى العروج اليها عبر سلم الحقائق الجزئية التي هي مفرداتها و تجلياتها ، كما أن أشعة الشمس هي ظلال لعينها . إنما يسمو الفؤاد الى مستوى الحقائق الكبرى إذا اتخذ سلمااليها ، اما لو تركز فيها النظر و تسمرت عليها القدم فانها ستكون عقبة دون الصعود و حجابا دون الرؤية ، وهذه هي مشكلة البشر الرئيسية انه يتوقف عند الحقائق الجزئية . أفلا نرى اثار قدرة الرب في كل خلية و ذرة ، مع كل لحظة من لحظات الحياة ؟ بلى . ولكن لماذاالقلب لا يزال مرتابا في الآخرة ، ولا يزال محجوبا عن وعيها ؟ و حتى المؤمن بها بصورة مبدئية تراه يتعامل معها بشك ، لانه لا يسمو بعقله و وعيه عبر الحقائق التي تتجلى فيها قدرة الرب سبحانه ، وهكذا لا يستطيع طرد وسوسة الشيطان من قلبه . كيف يعيد الله الانسانبعد أن أضحى ترابا ؟ تعالوا نفترض : ان الخلية الحية التي خلق الانسان بها تبقى كذلك دون ان تفنى ، وانما تتلاشى الخلايا الاضافية التي اجتمعت حولها في الرحم بعد اللقاح ، و ان الله يحفظ تلك الخلية في وعاء القبر أو في أي وعاء آخر ، كما حفظها في صلب الرجل من قبل ، ثم انه سبحانه يهيء الارض لنموها من جديد كما نمت في رحم الام . او نجد في ذلك غرابة ؟ كلا .. ونحن نعرف أن الخلية الحية يمكن أن تعيـــش في ظروف مختلفة و بصور شتى ، و بعض الخلايا تعيش في ظروف صعبة جدا ، فلماذا نستغرب مثلا ان تكون تلك الخلية الرئيسية من أمثالها ؟

هذه الفكرة التي قلنا آنفا انها نظرية نجدها تكفينا لحل اللغز التالي : كيف(1) تفسير البصائر / ج 54 - ص 367.


يعيد الله الانسان بعد الموت ؟ و أقول : ( تكفينا ) لان قيمة النظرية حل اللغز ، ولعل نظريات أخرى تكون موجودة ، ولكن وجود نظرية واحدة تغني عن غيرها لنفي حالة التشكيك في الحقيقة .

على ان هذه ليست مجرد نظرية ، وانما وردت عليها رواية مأثورة عن الامام الصادق - عليه السلام - ، انه سئل عن الميت يبلى جسده ؟ قال : " نعم . حتى لا يبقى لحم ولا عظم إلا طينته التي خلق منها ، فانها لا تبلى ، تبقى مستديرة في القبر حتى يخلق منها كماخلق أول مرة " (1) .

وهكذا قال ربنا بعد ان ذكرنا بالنشأة الأولى أنه قادر على رجعه .

[ إنه على رجعه لقادر ]

[9] ولكن عودة الانسان ليست في دورة طبيعية كما يعود النبات في فصل الربيع ! كلا .. إنها عودة مقصودة كما ان خلقه في الدنيا جاء بحكمة بالغة . فما هو الهدف من عودته ؟ إظهار حقيقته .

[ يوم تبلى السرائر ]

الدنيا دار ابتلاء واختبار ، و من طبيعة الدنيا انها خليطة فيها الخير و الشر ، ولا يميز خيرها عن شرها بسهولة ، بينما الآخرة دار جزاء ، وكل شيء فيها ظاهر ، و يعطي الله الانسان من قوة الإحساس ما يستوعب الكثير مما لم يقدر عليه في الدنيا ، بصره يومئذ حديد ، و يذوق نار جهنم على انه لا يستطيع ان يذوق جزء من مليون جزء منها في الدنيا ، و يتنعم بنعم الجنة التي لا يمكنه ان يتنعم بجزء يسير منها في الدنيا .


(1) تفسير البصائر / ج 54 - ص 355 .


و في الأحاديث المأثورة عن السرائر : انها أعمال العباد ، فقد روي عن معاذ بن جبل انه قال : سألت رسول الله : ما هذه السرائر التي إبتلى الله بها العباد في الآخرة ؟ فقال : " سراُئركم هي أعمالكم من الصلاة و الصيام و الزكاة و الوضوء و الغسل من الجنابة و كل مفروض ، لان الأعمال كلها سرائر خفية ، فان شاء الرجل قال : صليت ، ولم يصل ، وان شاء قال : توضأت ولم يتوضأ ، فذلك قوله : " يوم تبلى السرائر" (1) .

[10] في ذلك اليوم الرهيب يقف الانسان عاريا من اي ستر ، بعيدا عن اي عذر ، لا يمكنه التبرير و النفاق و لا الكذب و الدجل . و اني له ذلك وقد اجتمعت عليه الشهود مما حوله و مما فيه ، و قلبه مفضوح على كفه نياته ، و عقائده كلها مكشوفة ؟ ! فأين المهرب ؟


قد يزعم البعض انه يقدر على منع بعض الشر عن نفسه ، كلا .. فهو اضعف من ذلك . انه منح في الدنيا القوة لكي تجرب إرادته ، و يمتحن ايمانه ، اما ذلك اليوم فهو مستسلم ذليل . وقد يزعم البعض انه يستعين بحزبه و عشيرته و والديه و أسرته ، كلا .. انهم يومئذ مشغولون بأنفسهم . وهب انهم أرادوا نصره فهل يقدرون ؟ هيهات .

[ فماله من قوة ولا ناصر ]

و اليوم قبل ذلك اليوم دعنا نجأر الى ربنا لعله يغفر لنا الذنوب التي اجترحناها قبل الفضيحة الكبرى أمام الملأ العظيم وقبل العذاب الشديد .

[11] و عذاب الآخرة ليس العذاب الوحيد لمن انحرف عن مسيرة الحق ، ففي(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 552 .


الدنيا عذاب أخف منه ، ولكنه في مقاييسنا عذاب شديد . إنه الهزيمة النكراء التي تلحق الكفار و المنافقين .. ذلك لأنهم شذوا عن سنن الله في السماء و الارض ، و كفروا بالحق الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وآله .

فقسما بالسماء و بالارض : ان الوحي حق ، و النذير حق ، و ليس بالهزل .

[ و السماء ذات الرجع ]

قالوا : الرجع يعني المطر ، و استشهدوا بقول الشاعر :

أبيض كالرجع رسوب إذا ما ثاخ في محتفل يختلي

وقال بعضهم : بل الرجع الشمس و القمر و النجوم يرجعن في السماء ، تطلع في ناحية و تغيب في الأخرى .

و قيل : بل الملائكة يرجعون بأعمال العباد .

و يبدو لي ان الأنسب الى السياق هو رجوع الأفلاك الى مراكزها بتناسب و نظم ، دون أي تغييـــر في مسارها ، مما يدل على رجوع الانسان الى أمر الله في يوم شاء أم أبى .

[12] و قسما بالارض التي تتصدع .

[ و الارض ذات الصدع ]

قالوا : تصدع بالنبات ، كما قال ربنا سبحانه : " ثم شققنا الارض شقا " .

و يبــدو لي ان الارض قـد جعلها الله ذلولا بحيث تستقبل المطر ، و تخرج النبات ، و تمكن الفلاح من حرثها ، و البناء من حفرها ، و طالب الكنز من استثارتها .. و كلذلك يدل على حكمة الله البالغة من خلقها .

[13 - 14] كما الطبيعة تجليات لسنن الله ، و مظاهر أسمائه الحسنى ، كذلك الوحي تجل لآياته ، و بيان لسننه ، و مظهر لأسماُئه .

[ انه لقول فصل * وما هو بالهزل ]

يفصل بين الصواب و الخطأ و الحق و الباطل ، كما ان يوم القيامة يوم الفصل .

وقد روي عن الامام أمير المؤمنين - عليه السلام - عن النبي - صلى الله عليه واله - أنه قال : " سمعت رسول الله يقول : كتاب فيه خبر ما قبلكم ، و حكم ما بعدكم ، هو الفصل ، ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله " (1) .

وقد جاءت هذه الكلمة في هذا السياق لكي لا يلجأ الانسان من هول ما يسمعه الى التكذيب ، و يقول في نفسه : لعل هذا الوعيد نوع من التخويف المبالغ فيه .

كلا .. فليس في القرآن كلمة كاذبة او مبالغة ، ولا حرف ولا إيفاء حرف . انه كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه .

و هكذا يسد السياق كل منافذ الفرار النفسي من مواجهة الحقيقة الكبرى التي تنتظر الجميع ( حقيقة الجزاء ) فلا إخفاء و لا تبرير ولا محاورات الإستنصار بالآخرين او التهرب من الحقيقة بتكذيبها .

[15] ولا يقتصر الكفـار على تكذيب رسالات الله للتهرب من الحقائق التي(1) القرطبي / ج 20 - ص 11 .


تذكر بها ، و انما يحاربونها بشتى ألوان الحرب حتى يصنعوا حجابا نفسيا و اجتماعيا بينهم و بينها فلا يتأثروا بها أبدا .

[ انهم يكيدون كيدا ]

و الكيد هــو : التلطف لبلوغ الهدف بأساليب مختلفة ، و يستخدم في الشر و الخير ، و ان كانت الكلمة توحي بالشر . و الكلمة المرادفة لها في أدبنا اليوم : الخطة ، و يبدو ان مجمل مساعي الكفار و من هم في خط النفاق و الفسق تتجه نحو تغيير مسار الحق ، و إخفائه بالباطل الذي يبتدعونه ، و الصد عنه بالمكر و الكيد . انه الخط الاستراتيجي للكفر .

ومن خصائص الكيد التوسل ببعض الخطط الخفية التي لا تبلغ الهدف إلا عبر مراحل عديدة ، و قد يضع الكفار خطة خمسية او عشرية او حتى بعيدة المدى لعلها تبلغ هدفها بلا عقبات ، لانها في زعمهم خطة محكمة سرية و متواصلة الحلقات .

بيد ان خططهم لا تهدف الرسول كشخص ، ولا المؤمنين كطائفة ، بل تهدف الرسالة التي يدعون اليها ، و غريمهم في ذلك لن يكون المؤمنون او الرسول و حسب بل رب العزة جبار السماوات و الارض سبحانه تعالى .

[16] و إذا كان الكفار يسعون لبلوغ هدفهم عبر خطط متناهية في الدقة بزعمهم فان كيد الله متين . كيف يكيد الله لهم ؟ انه سبحانه يهيء اسباب تدميرهم على حين غفلة منهم . أرأيت كيف يدبر الشرطة مثلا خطة للايقاع بالمجرمين ( مما قد تصوره الأفلام البوليسية ) ،و يخطط المجرمون لجريمتهم باتقان و يخطط الشرطة ، و المجرمون لا يعرفون شيئا عن خطط الشرطة ، بينما رجال الشرطة يعرفون ما يجري هناك ؟ !


وفي ساعة الصفر حينما تبلغ خطط الكفار مرحلة التنفيذ ، و يكادون يسطون بالنبي و المؤمنين ، تكون أسباب تدميرهم قد تهيأت ايضا ، و تتجلى ساعتئذ قدرة الله . إنها تأخذهم أخذا وبيلا .

[ و اكيد كيدا ]

[17] بيد ان هذه الخطة و تلك و كل خطة تأخذ عامل الزمان في الحسبان ، و لذلك فان من يكيد كيدا لا يمكنه ان يلغي الزمان ، و ينبغي ان يعرف المؤمنون ذلك , ولا يستعجلوا في تنفيذ خطط الرسالة ، ولا يقلقوا من تأخير النصر ، لان هناك مهلة معينة لابد ان تنتهيقبل أخذ الكفار .

[ فمهل الكافرين ]

مهلة بعد مهلة ، و فترة بعد فترة ، فلعل تغييرا يطرأ على تنفيذ الخطة ، و لكنها بالتالي لن تكون مهلة طويلة .

[ امهلهم رويدا ]

مهلة قليلة و لطيفة و بلا صخب او ضوضاء ، و لكن لماذا يمهل الله الكفار ؟

اولا : لأنهم ايضا بشر مخلوقون ، و ان الله سبحانه يريد امتحانهم كما يمتحن بهم ، و لعلهم يرجعون .

ثانيا : لان للصراع بين الحق و الباطل فوائد شتى في بلورة رؤية المؤمنين ، و تزكية قلوبهم ، و تمحيص نفوسهم ، و تطهير صفوفهم ، من المنافقين .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس