فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


هل أتاك حديث الغاشية ؟
بينات من الايات

[1] لولا الوحي ، ولولا آياته التي تطرق أبواب القلب طرقا عنيفا ، أنى كان لقلب الانسان الذي أشغلته هموم حياته و أحلامها ان يعي القيامة و اهوالها ؟ ان صفات ذلك اليوم تمــلأ القلب كله و تزيد .. و لكننا مشغولون عنها بالحاضر الذي تتراءى قضاياه كبيرة ، وهي بالقياس الى ذلك اليوم تافهة جدا .

[ هل أتاك حديث الغاشية ]

للاستفهام وقع كبير في النفس ، و السؤال هنا عن حديث هام يفرض نفسه و يأتيك سعيا لضخامته ، بينما الاحاديث التافهة تبحث عنها و قد لا تجد لها أثرا .. بلى . انه الحديث عن الغاشية ، حقيقة تغشى كل شيء . البر و البحر و الجبال و الأحياء .. تحيط بهــا القيامة ، و السموات وما فيها تنوء بها ، فأنى لهذا الانسان .. ماذا يغشانا من القيامة ؟


ادخانهـا كما قال ربنا : " يوم تأتي السماء بدخان مبين * يغشى الناس " ، أم نارها : " و تغشى و جوههم النار .. " ، أم زلزالها : " إذا زلزلت الأرض زلزاها * و أخرجت الأرض أثقالها .. " ، أم صيحتها ، أم قارعتها ، أم صاختها ،أم كل اهوالها ؟ بلـى . انها الغاشية التي لا تدع أحدا يهرب منها ، و انها الغاشية التي لا تترك جزءا من الانسان فارغا .

[2] و أبرز ما يغشاه ذلك اليوم الوجه الذي هو مظهر الانسان .

[ وجوه يومئذ خاشعة ]

يعلو وجوههم قتر و هوان ، و خشوع الخيبة و الذل ، لانهم لم يخشعوا في الدنيا خشوع الكرامة و العزة ، و لذلك نقرا في الدعاء : " اللهم إني أسألك خشوع الايمان قبل خشوع الذل في النار " (1) .

[3] ولانها تكاسلت في الدنيا ، و أهملت واجباتها ، و تهربت من المسؤوليات ، فانك تراها في ذلك اليوم في كدح و تعب .

[ عاملة ناصبة ]

قالوا : هذا في الدنيا ، إذ لا عمل في الاخرة ، و فسروا العمل بالداب في السير و النصب بالتعب ، و لكن من قال لا عمل في الآخرة و لا نصب ؟ بلى . و تحركهم في صحراء المحشــر وسـط ظلام دامس تسوقهم ملائكة العذاب ، و يشهد عليهم ملائكة الحساب .. انه عمل ناصب.

إنما عملهم ثمة بلا فائدة ترجى لهم ، و نصبهم بلا ربح و مكسب ، و لو انهم(1) مفاتيح الجنان / من ادعية السحر في شهر رمضان .


أجهدوا أنفسهـم في الدنيـا قليــلا لأعقبتهـم راحــة طويلة في العقبــى ، كما قال الامـام أمير المؤمنين - عليه السلام - في صفة المتقين : " صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة " .

وفي طائفة من النصوص المأثورة تفسير هذه الآية بأولئك الذين يعملون في الدنيا و ينصبون و لكن فـي طريق خاطىء فلا يكسبون من عملهم نقيرا ، لانهم يوالون الطواغيت ، و ينصبون لأئمة الهدى ، و تابعيهــم (1) ، و روي عن الامام امير المؤمنين - عليه السلام - انهؤلاء هــم أهـل حــروراء ، يعنـي الخوارج الذين ذكرهم رسول الله - صلى الله عليه و اله - فقـــال : " تحقـرون صلاتكم مع صلاتهم ، و صيامكم مع صيامهم ، و اعمالكم مع اعمالهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " (2) .

و هذا تــأويل حسن للآية ، بيد ان تفسيرها - فيما يبدو من السياق - أعم و أشمل .

روي عن ابن عباس انهم يكلفون ارتقاء جبل من حديد في جهنم ، فينصبون فيها أشد ما يكون من النصب ، بمعالجة السلاسل و الأغلال و الخوض في النار ، كما تخوض الإبل في الوحل ، و ارتقائهم في صعود من نار ، و هبوطهم في حدور منها (3) .

وفي بعض الروايات انهم يجدون في طرف جهنم بابا الى الجنة فما يألون جهدا للوصول اليه حتى إذا اقتربوا منه أغلق دونهم .


(1) راجع نور الثقلين / ج 5 ، ص 563 - 564 .

(2) القرطبي / ج 20 - ص 28 .

(3) القرطبي / ج 20 - ص 27 وفي المصدر : ارتقائها هبوطها و اظنها خطأ .


و أنى كان عملهم و نصبهم فانهم لو عملوا عشر معشار ذلك في الدنيا لكفاهم عملا و نصبا ، و رزقهم الله جنة و نعميا .

[4] ما عاقبة هذا الفريق الخاسر ؟ النار الحامية يذوقون حرها مباشرة و من دون وقاية . أليسوا قد فجروا في الدنيا و لم يتقوا نار جهنم فيها ؟

[ تصلى نارا حامية ]

صلى بالنار : لزمها و احترق بها ، و الحامية : حارة ( شديدة الحر ) .

و لعل كل هذه الصفات ذكرت لكي لا تحتمل النار التأويل ، فيقول البعض ان النار لا تحرق ! أوليست بحارة ! او بينها و بين الانسان حجاب ! كلا .. لا مفر منها و من لهبها أبدا .

[5] شدة الحر و تواصل الاحتراق بالنار يجعل أهلها من عطش شديد فيطلبون الماء فلا يعطونه ألف عام و بعده يعرضون على عين آنية .

[ تسقى من عين انية ]

قد بلغت من الحرارة أناها و منتهاها ، و قيل : ان جهنم أوقدت عليها منذ ان خلقت . هكذا يدفعون اليها وردا شرابا و ساءت شرابا و ساءت مرتفقا .

[6] وإذا طلبوا طعاما قدم لهم شيء أمر من الصبر يسمى بالضريع .

[ ليس لهم طعام إلا من ضريع ]

طعام يتضرع أكله من شدة خشونته و مرارته و نتنه . انه حسبما روي عن رسول الله - صلى الله عليه واله - : " شيء يكون في النار يشبه الشوك ، أشد مرارةمن الصبر ، و أنتن من الجيفة ، و أحر من النار سماه الله ضريعا " (1) .

فهل هو نبتة نارية كالزقوم ، ام هو عرق اهل النار و ما يخرج من فروج الزواني كالغسلين ، أم هو شيء آخر ، وإذا كانت نبتة فكيف لا تحترق بالنار ، و اذا كان عرقا كيف لا يتبخر ؟

ان العالم الآخر يختلف عن عالمنا ، و انما تتشابه الألفاظ لكي ندرك ما يمكن ان ندرك من ذلك العالم ، وإلا فان كل شيء هناك مختلف عما لدينا ، فالنار غير نارنا ، و جلود أهلها غير جلودهم هنا ، و العقارب و الحيات و شجرة الزقوم ليست كأمثالها في الدنيا التيتحترق في لمحة بصر لو تعرضت لنيران جهنم ، كلا .. انها جميعا خلقت لذلك العالم و بمقاييسه , كما ان الزمن هناك غير الزمن هنا .. وإذا فسرنا كلمة من كلمات القران التي توضح الآخرة فليس الا تفسيرا قريبا من واقعها ، و ليس تفسيرا دقيقا .

وهكذا الضريع ، و هو في الدنيا - كما قالوا - : نبت ذو شوك لاصق بالأرض ، تسميه قريش الشبرق اذا كان رطبا ، فاذا يبس فهو الضريع ، لا تقربه دابة ولا بهيمة ولا ترعاه ، و هو سم قاتل ، وهو أخبث الطعام و أشنعه ، و أنشدوا لبعضهم :

رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى و عاد ضريعا بان منه النحائص (2)[7] و هذا الطعام نوع من العذاب لانه ليس فيه أية منفعة من الطعام ، فهو لا يعوض خلاياهم المفقودة ، و لا يطفىء لهيب الجوع .


(1) القرطبي / ج 20 - 30 .

(2) ذلك صفة إبل هزيل سيء المرعى - راجع المصدر / ص 30 .


[ لا يسمن ولا يغني من جوع ]

ولو انهم اجتنبوا السحت في الدنيا لاتقوا الضريع في الآخرة .

[8] وفي الجهة الأخرى تجد أهل الجنة كأفضل ما يكونون ..

[ وجوه يومئذ ناعمة ]

منعمة قد أشرقت وجوههم بآثار النعمة حتى تجلت نضارتها لكل عين . أوليست النعمة إذا بلغت كمالها ظهرت في الوجه ؟

[9] و يظهر من وجوههم رضاهم القلبي بما عملوا في الدنيا ، لانهم وجدوا عاقبة أمرهم الحسنى .

[ لسعيها راضية ]

[10] أوتدري أين هم ساكنون ؟ هناك في الأعالــي حيث يتفيئون ظلال الأشجار .

[ في جنة عالية ]

ان الجنة في المقام العالي ، بينما النار في الدركات السفلى .

[11] و اذا اطمأنت النفس بالرضا ، و الجسد بالفواكه ، و الظلال الوارفة ، و المقام السامي فان الانسان بحاجة الى الأمن الذي يجده هؤلاء في أتم صوره ، فلا اعتداء ولا بغي و لا ظلم و لا غش و لا احتيال ، بل و لا كلمة نابية تنال مقدساتهم ( مثل كلمات الشرك التي آذتهم في الدنيا ) أو تنال اشخاصهم ( مثل الفحش و السب و الغيبة و التهمة و ما أشبه ) و لا حتى كلمات عبثية ( كالتي يتناولها البطالونفيتلفون أوقاتهم بلا فائدة ) كلا .. إنهم في سلام شامل .

[ لا تسمع فيها لاغية ]

اي لا تسمع فيها كلمة لغو .

كذلك كانوا في الدنيا ، اذا مروا باللغوا مروا كراما ، كانوا لا يتعرضون لاحد بكلمة بذيئة ، و يتحملون اذى الناس كاظمين عافين محسنين ، فجزاهم الله بحياة زاخرة بالسلام و الرضا .

بلى . المؤمنون يصنعون لانفسهم و ضمن بيئتهم الخاصة و في حدود امكانات الدنيا صورة مصغرة للجنة ، يتنعمون فيها قبل ان ينتقلوا الى جنة الخلد الأبدية .

[12] اما شرابهم فانه من عين تتدفق بين جناتهم الخضراء .

[ فيها عين جارية ]

ما أروع منظر العين المتدفقة التي تجري على الأرض أو فوقها بلا أخدود - كما قالوا - فيها ألوان الشراب من عسل مصفى ، الى لبن سائغ ، الى شراب طهور ، و ماء مزاجه من تسنيم .. أذلك خير أم العين الآنية !

ان وعي هذه النعم في الدنيا يسمو بالمٌؤمن الى عدم الاستسلام لإغراء شراب الدنيا الحرام ، والترفع عن ملذاتها المحدودة ، انتظارا لما هو أشهى و أطيب مذاقا و أعظم .

[13] أعظم لذات البشر مجالس المؤانسة مع خلان الصفا بتبادل المحبة و الود و الكلمات الساميـة و المعارف الجديدة ، و يبدو ان السياق يحدثنا عن جانب من هذه المجالس ، فبالاضافة الى الشراب الذي يدار بينهم يصور لنا السرر المرفوعة التييتقابلون فيها .

[ فيها سرر مرفوعة ]

[14] لقد أغناهم تعب الدنيا و الكدح فيها عن التعب هناك ، فاشتغلوا بمجالس الأنس عن النصب الذي يشتغل به اهل النار ، فتراهم يتنازعون كؤوس الشراب الطهور الموضوعة امامهم بلا عناء و لا نصب .

[ و أكواب موضوعة ]

مليئة بالشراب الطهور .

[15] و هم يتكٌؤون على وسائد لطيفة .

[ و نمارق مصفوفة ]

قالوا : النمرق اي الوسادة ، و انشدوا :

كهول و شبان حسان و جوههم على سرر مصفوفة و نمارق[16] و في كل جهة تجد البسط التي لا خمل لها كالسجاد ، أنى شُئتها وجدتها و أخذتها لبساطك .

[ و زرابي مبثوثة ]

قالوا : إنها الطنافس التي لها خمل رقيق .

[17] ليس بين الانسان و بين فهم الحقائق إلا حجاب الغفلة ، فاذا ما كشف عنه هذا الحجاب إذا به يجدها ظاهرة أمامه .. و القران يساعده على ذلك . ألا ترىكيف يرغبه في النظر الى تلك الحقائق المألوفة حوله و التي يغفل عادة عن غيبها و دلالاتها البعيدة ، فيقول :

[ أفلا ينظرون الى الإبل كيف خلقت ]

فاذا نظروا تماوجت بحار المعرفة أمام أنظارهم . حقا : ان هذه الإبل التي اندمجت بحياتهم حتى جعلت حياتهم و اياها نسيجا واحدا ، و ابتدعوا لها ألف اسم يصفون فيه كل مراحل وجودها و اغلب صفاتها و حالاتها ، و ربما لم يبتدعوا للانسان مثل هذا العدد من الأسماء.. هذه الإبل التي يمتطون ظهرها ، و يشربون لبنها ، و يأكلون لحمها ، و يتداوون ببولها ، و يصنعون من أشعارها و أوبارها بيوتا خفيفة و ثيابا و زينة . افلا ينظرون اليها ليعرفوا كيف خلقت لتكمل حياتهم خصوصا في تلك الصحاري القاحلة ؟

انها من اصعب الحيوانات مراسا و قدرة على تحمل المشاق . انها تحمل اثقالا عظيمة ، و تخوض غمار البراري القفر ، و تصبر اياما عديدة ربما بلغت اسبوعا او عشرة أيام بلا زاد و لا شراب , و تتحدى الأعاصير الرملية بما خلق فيها من قدرة و من أهداب لمقاومتها !


إن أرجلها المفلطحة تستطيع ان تطفو على الرمال الرخوة حتى سميت بسفينة الصحراء .

ثم تراها تقتات الأشواك الحادة ، و تختزنها لحين اجترارها في الوقت المناسب ، كما تختزن الماء لفترات طويلة . من الذي خلقها بهذه الطريقة العجيبة ؟

و مع ضخامة جثتها ، و عظم قدرتها ، تراها خاضعة للانسان الضعيف أليفة وديعة ، حتى حكيت قصة الفارة التي سحبت حبل بعير ، فتبعها ظنا منه انهاصاحبه .

و اذا قارنت الابل بما يشابهها من الحيوانات كالفيل و وحيد القرن لرأيت الإبل أعظم منفعة و أقل مؤنة فان الفيل مثلا لا يؤكل لحمه ، و لايشرب لبنه .

و ننقل هنا بعضا ممـا قاله الدكتور احمد زكي في كتابه : ( في سبيل موسوعة علمية ) حين تحدث عن الجمل :

( و من تصاميم الخلق مواءمة بين حيوان و بيئته ان حمل الجمل على ظهره سناما ، هــو من عضل و شحم ، و هو يزداد لحما و شحما على الغذاء عندما يكثر و يطيب ، حتى إذا خرج الجمل الى سفر و عزه الغذاء و كاد ينذره الجوع بالفناء وجد الجسم فيما حمل من شحم في سنامه غذاء يطول به العيش أياما .

ومن زاد الصحراء الماء ، و لعله اول زاد ، و في جسم الجمل من الاحتياط ما يحفظ به عليه الماء ، من ذلك انه لا يعرف او لا يكاد ، و من ذلك ان أنفه متصل بفمه ، و الفم يحبس ما يخرج مع هواء التنفس من ماء .. و قد يبلغ ما يشربه به الجمل ستين لترا من الماء !
افليس بمعدته خزائن ثلاث ؟

و يضيف : و ما كان لغير الجمل من الحيوانات ان يقطع الصحاري ، و تهيأ الجمل لذلك بخفه ، فهو لا يغرز في الرمل ، و تغرز الحوافر في حمر و خيل .

و تهيأ الجمل بقوائمه الطويلة القوية ، فيه صلبة صلدة تحمل جسدا ضخما فوقه سنام . و أعان ارتفاع قوائم الجمل على تخطي ما يعترضه في الصحراء من ارض قليلة الإستواء .

و عينا الجمل عليهما رموش ثقيلة ، و هي لمنع الرمال ان تدخل الى عينيه عندمايغمضها ، و أذنا الجمل كثيرة الشعر ، و لعل هذا لمنع دخول الرمل فيهما ، و انف الجمل انما هو شقان ضيقان ، يسهل أغلاقهما عند الحاجة ، و الجمل يغلقهما حبسا للرمل ان يدخلهما .. كل شيء في خلق الجمل يهدف الى الرمل يتوقاه ، من الخف الى الرأس ) .

فسبحان الله الذي خلق الإبل ، و تبا لمن نظر اليها و لم يعتبر .

[18] حين نقرأ آيات الذكر يخيل الينا انها ترسم لوحة فنية ، فاذا ذكرت الإبل تذكر بعدها السماء ثم الجبال فالأرض حتى تكتمل الصورة ، بلى . هكذا كتاب ربنا يصف الحقائق الواقعية كما هي و يجعلنا نعتبر بها .

[ و الى السماء كيف رفعت ]

عندما ينبلج الفجر من الأفق ، و ينتشر الضياء فوق الروابي ، و تسرع أسراب الطيور بالتحليق بحثا عن رزقها ، و تستيقظ الطبيعة لتسبح ربها ، هنالك انظر الى السماء كيف جعلها الله سقفا محفوظا ، و زرقة وادعة ، و روعة و جمالا .

و عند المغيب حينما تتماوج الألوان الزاهية فوق قطعة سحاب تسمرت في الأفق شطر المغرب ، انها تذهب حقا بالألباب ، و ينتبه الانسان يومئذ الى هذا البناء العظيم فوقه كيف بناه الله و رفعه بلا عمد نراه .

وفي الليل عندما يسير زورق فضي في بحر من الظلام ، و تنتثر على امتداد البصر النجوم الثواقب ، لا تكل العين من جمالها وروعتها .. هنالك يقول الانسان : سبحانه الله .

أما إذا جلس المرء وراء جهاز تلسكوب لينظر من خلاله الى الأجرام السابحة فيالفضاء الرحيب ، و استمع الى عالم فلكي يشرح له المسافات الضوئية بينها والى دقة نظامها فلا يملك إلا ان يسجد لله القدوس و يكفر بالأنداد من دونه .

[19] و تنساب العين من السماء الى الجبال ليجد الكتل الصخرية الهائلة قد نصبت في مراكزها لتقي الارض شر الهزات و العواصف ، و لتكون خزائن المياه ، و المعادن ، و يتساءل : ما هده الدقة المتناهية في وضع هذه الصخور في مواضعها لو تقذمت عنها او تأخرت سببت مشاكل عظيمة !

و لو فكرت كيف تكونت الجبال لازددت عجبا .

[ و الى الجبال كيف نصبت ]

[20] و نظرة الى الأرض و طريقة انبساطها و تذليلها و كيف مهدها الله للانسان بفعل الأمطار الغزيرة التي غسلت اطراف الجبال و سوت الأرض لتكون صالحة للسكنى و الزراعة .

[ و الى الأرض كيف سطحت ]

و هذه الكلمات تذكرنا بضرورة البحث عن الكيفية ، و ميزات و خصائص كل الموجودات حولنا ، و ايضا البحث عن العوامل المؤثرة فيها : كيف و بأية عوامل ملموسة كانت السماء و كانت الجبال و كانت الارض بهذه الكيفية ، و هكذا يحرضنا كتاب ربنا على البحث و التنقيب سواء على صعيد العلماء و الخبراء ام على مستوى كل فرد فرد منا علينا جميعا ان نتفكر و نعقل و لا نكون غافلين عما يجري حولنا .. ان ذلك هو السبيل الى معرفة الخالق اكثر فاكثر ، و معرفة الخالق هي اصل كل خير و فلاح .


[21] الأدلة مبثوثة في أرجاء الخليقة ، و عقل الانسان يكفيه حجة ، و يأتي النبي - صلى الله عليه و آله - و من يتبع نهجه ليقوم بدور المذكر . انه ليس مكلفا عنهم ولا مكرها لهم ، و لا يتحمل مسؤولية افكارهم ، و انما هم المسؤولون .

[ فذكر إنما أنت مذكر ]

فما على الرسول إلا البلاغ المبين ، حتى معرفة الله لا تتم إلا بعقل الانسان الذي يستثيره النبي بتذكرته .

[22] وليس الرسول عليهم بجبار ، انما يذكر بالقرآن من يخاف وعيد .

[ لست عليهم بمصيطر ]

السيطرة هي التسلط و معناها الجبر و الإكراه .

[23] بلى . الكفار الذي يقاومون الرسالة ، انهم يتعرضون لسخط الله و عذاب عباده المؤمنين ، لانهم يسيؤون التصرف في الحرية الممنوحة لهم .

[ إلا من تولى و كفر ]

و قد اختلف المفسرون في معنى الآية ، و لكن يبدو ان سائر آيات القرآن تفسر هذه الآية حيث أن من تولى عن الحق و كفر به ، و مخالف الرسول و ناصبه العداء ، يجاهد حتى يعود الى رشده ، و هذا ما نقرؤه بتفصيل في آيات الجهاد وفي سورة الممتحنة بالذات .

وقد روي عن الامام علي - عليه السلام - أنه جيء إليه برجل إرتد فاستتابه ثلاثة أيام فلم يعاود الاسلام فضرب عنقه ، و قرأ : " إلا من تولى و كفر " (1)(1) القرطبي / ج 20 - ص 37 .


[24] اولئك الكفار المنابذون العداء للرسالة يجاهدهم المسلمون فيعدبهم الله في الدنيا بأيديهم ثم يعذبهم في الآخرة العذاب الاكبر .

[ فيعذبه الله العذاب الأكبر ]

[25] و في نهاية السورة يذكرنا ربنا بالمصير اليه ، و كيف لا يستطيع ان يهرب أحد من مسؤولية أعماله .

[ ان إلينا إيابهم ]

أي عودتهم .

[26] [ ثم إن علينا حسابهم ]

يحاسبهم جميعا كما رزقهم في الدنيا على كثرتهم ، فطوبى لمن حاسب نفسه هنا قبل ان يحاسب هناك ، و تاب الى الله من ذنوبه قبل ان يجازى بها . جاء في الحديث المأثور عن الامام الرضا - عليه السلام - : " إذا كان يوم القيامة أوقف المؤمن بين يديه فيكون هوالذي يلي حسابه ، فيعرض عليه عمله ، فينظر في صحيفته فأول ما يرى سيئاته فيتغير لذلك لونه ، و ترتعد فرائضه ، و تفزع نفسه ، ثم يرى حسناته فتقر عينه ، و تسر نفسه ، و تفرح روحه ، ثم ينظر الى ما اعطاه الله من الثواب فيشتد فرحه ، ثم يقول الله لملائكة : هلموابالصحف التي فيها الأعمال التي لم يعملوها ، قال : فيقرؤونها فيقولون : و عزتك انك لتعلم انا لم نعمل منها شيئا ، فيقول : صدقتم لكنكم نويتموها فكتبناها لكم ، ثم يثابون عليها " (1) .

أفليس هذا هو المصير الأفضل ، فلماذا الغفلة ؟


(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 570 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس