إن ربك لبالمرصاد
بينات من الآيات [1] الأدب الأصيل البديع يكثف حول القارىء الظلال و الايقاعات و الايحاءات و المعاريض حتى تجد نفسك في سواء الحقيقة من حيث تدري او لا تدري ، و في ذروة الآداب البديعة نجد آيات الذكر كأنها بساط سليمان تحملنا الى آفاق الحقيقة ، و تجعلنا نشاهدها و نلامسهاو نعيشها و نمتزج بها ، و يعجز القلم عن متابعة لطائف هذا الأدب الأسمى لان في اختيار الكلمات و طريقة تركيبها و جرس الفاظها و تماوج معانيها و آفاق بصائرها تيار من المؤثرات التي لم يبلغ الانسان مستوى إحصائها و معرفتها .. هل يمكن لريشة رسام ان تنقل على القرطاس كل مشاعره من مراقبة الغروب في الأفق ، وهل هو يستوعب كل جمال الأفق لحظة غياب الشمس ؟ كذلك المفسرون لا يستطيعون وصف كل احاسيسهم عن لحظات معايشتهم لآيات الذكر . إنها حقا فوق قدرة القلم .. من هنا يعجزون عن ملاحقة معارفهم التي يستوعبونها من القران فكيف يشرح كل معارف القران و هذا ايضا سر
اختلافهم الواسع في العديد من الكلمات و الآيات القرآنية ، و فاتحة سورة الفجر منها حيث اختلفت آراؤهم الى أكثر من ثلاثين قولا في بعض كلماتها (1) .
إذا كيف نفسر هذه الآيات ، و كيف نستفيد من تفاسير الآخرين لها ؟
إنما باتباع منهج التدبر المباشر ، فانت بدورك تقرأ القرآن و عليك ان تنفتح امام تيار المعرفة و موجات الابداع و بصائر الوحي في آياته . افتح منافذ قلبك و شغاف فؤادك و اعرج بنفسك الى مستوى القران ... أولم تسمع ان الله سبحانه قد تجلى في كتابه لعباده و لكنهم لا يبصرون ؟
بلى . كلمات المفسرين إشارات مفيدة على الطريق ، و لكنها ليست بديلا عن سعيك بنفسك في ذلك الطريق .
و إذا طويت درب المعرفة بنفسك فان العلم الذي تكتسبه ينور قلبك ، و يصبح جزء من نفسك ، فيرتفع مستواك ، و انك لا تنساه باذن الله .
و نعود الى كلمات القسم الأولى في السورة ، و نتساءل - مع من تساءل من المفسرين - : ما الفجر ، و ما الليالي العشر ، و ما هو الشفع ، و ما الوتر ؟
لان الكلمات قسم ، و القسم يهدف استثارة القلب و طرق أبوابه المغلقة ، فان إجمالها قد يكون مطلوبا ، لانه يزيد حالة التهويل و التفخيم .
و لكن بين التفاسير العديدة يبدو إثنان منها أقرب : الأول : عموم المعنى حتى يشمل أغلب المصاديق التي ذكرت في التفاسير ، فالفجر هو الفجر سواء كان فجر يوم العيد العاشر من ذي الحجة او فجر اول يوم من أيام محرم حيث الساعات(1) نقل العلامة الطباطبائي ان في تفسير الشفع و الوتر (36) قولا / راجع الميزان ج 20 - ص 297 .
الأولى من السنة الهجرية او فجر الرسالة او فجر الثورة الحسينية في ارض كربلاء او أي فجر آخر ينبلج به نهار يوم جديد او حياة جديدة او مسيرة جديدة .. و هكذا الليالي العشر تتسع لعشر ليال من كل شهر ، و كذلك الشفع و الوتر فانهما يتسعان لكل ما شفع او وتر .
الثاني : تفسير الكلمات بأيام الحج من ذي الحجة الحرام ، فالفجر يكون فجر الأول من أيامه او فجر العيد ، بينما الليالي العشر هي العشرة الأولى من هذا الشهر الذي يشهد أعظم مسيرة دينية في السنة ، و اما الشفع و الوتر فهما يوم عرفة ( باعتباره التاسع و التسعة وتر ) و يوم العيد ( باعتباره العاشر و العشرة شفع ) ، اما الليل الذي يسري فهو ليلة الافاضة من عرفات الى المشعر فمنى .
[ و الفجر ]
قسما بلحظة انبلاج النور من الأفق حيث ينتظره الجميع بعد ان أخذوا قسطا كافيا من السبات و الراحة .
قسما بلحظة انطلاقة المسيرة الرسالية التي فجرت رحم الظلام الجاهلي فوق روابي مكة في غار حراء مع جلجة الوحي إقرأ إقرأ يا محمد إقرأ باسم ربك الذي خلق .
قسما بلحظة انبعاث الدم من اوداج السبط الشهيد بكربلاء ليبعث ثورة الحق ضد ظلام الجاهلية المقنعة ، و تنطلق المسيرة من جديد .
قسما بكل لحظات الانبلاج و الانطلاق في مسيرة البشر بعد تراكم ظلمات الظلم و الجهل و القمع و التضليل .
و قسما بفجر العدالة الشاملة مع ظهور شمس المجدد الأعظم لرسالة الاسلامالامام المهدي المنتظر ( عجل الله تعالى فرجه الذي وعد الله ان يظهر به دينه الحق على الدين كله ولو كره المشركون ) .
قسمـا بكل تلك اللحظات الحاسمة : ان الحق منتصر ، و ان الله للظالمين بالمرصاد .
[2] بعد عشرة ليال من الجهد المكثف ، و العمل الدؤوب ، بعد تحمل وعثاء السفر و السعي الى مكة من كل فج عميق ، بعد الإحرام و الكف عن الشهوات بعد التطواف و السعي و الوقوف بعرفة ثم بالمزدلفة ، بعد كل الإجهاد يأتي فجر العيد المبارك ليمســح باصابـع من نورالرحمة و البركات على رؤوس الحجيج و يمنحهم جائزتهم الكبرى .
و بالرغم من ان الليالي العشر سبقت الفجر ، إلا ان الفجر هو الهدف منها و لذلك سبقها بالبيان ، لنعلم ان عاقبة العسر يسر ، وان ليالي الجهاد و الصبر و الاستقامة على ظلم الطغاة ستنتهي بفجر النصر المبين فاذن الله ، كما تنتهي ليالي الحج بفجر العيد .
[ و ليال عشر ]
قالوا : ان " ليال " جاءت بلا ألف ولام للدلالة على التعظيم ، بلى . و ليلة الجهد و التعب طويلة كما ليلة الترقب و الاتنظار ، و ليالي المؤمنين مزيجة أبدا بالجهد المكثف و الانتظار معا فما أطولها .
و قال بعضهم : ان هذه الليالي إشارة الى العشرة الأخيرة من شهر رمضان لما فيها من عظمة .
[3] قسما بالشفع و الوتر ، بيوم العيد و من قبله يوم عرفة ، و بما هو من العباداتشفع كركعات الصلاة الثنائية و الرباعية ، و بما هي منفردة كالوتيرة و صلاة المغرب .
قسما بكل زوجين ، و بكل شيء منفرد ، فليذهب خيالك أنى شاء فانه لن يجد سوى زوج او فرد فقسما بكل ذلك : ان ربك لبالمرصاد .
[ و الشفع و الوتر ]
[4] هل وفقت للحج او تذكرت الإفاضة حيث ينهمر سيل الحجيج من عرفات عبر شعاب الوديان و فوق أكتاف الروابي نحو مزدلفة مهللين مكبرين ، و قد تجردوا عن سماتهم المميزة ، حاسري الرؤوس ، معتمري ثياب الإحرام البسيطة ، و أمامهم هدف واحد يبتغونه وهو مرضاة ربهم ؟
انها حقا مسيرة التوحيد ، مسيرة الوحدة ، مسيرة التقوى , مسيرة الرحمة .. في تلك الساعة لو كنت قادرا على تجريد نفسك من مؤثرات المسيرة و النظر اليها من الخارج لرأيت عجبا ، رأيت و كان الارض و السماء تسيران ، و ان الليل بذاتها تسير معكم .
[ و اليل إذا يسر ]
قسما بتلك الليلة المشهودة : ان مسيرة الحق منتصرة لان الله من الطغاة بالمرصاد .
قالوا : ان المراد من " يسر " انه يسري فيه ، كما يقال ليل نائم و نهار صائم ، و انشدوالقد لمتنا يا أم غيلان في السرى و نمت و ما ليل المطي بنائمو لم يقولوا لماذا ننسب - بعض الأحيان - الحدث الى الزمن ؟ و أظن ان ذلك يتم عندما يستوعب الحدث الزمان كله ، فالليل النائم هي التي لا ترى فيها ساهرا ، و كذلك النهار الصائم لا تجد الناس فيه إلا صائمين ، كما قال الله تعالى : " أيام نحسات " لانه لم يكن في تلك الأيام غير النحوسة .
و هكذا اذا استوعب الحدث المكان سمي به ، كما قال الله : " و اسأل القرية " ، اي كل أهلها .
كذلك الليل هنا كانت تسري ، لان السرى استوعبتها .
[5] ألا يكفي كل ذلك قسما لمن يملك مسكة من عقل .
[ هل في ذلك قسم لذي حجر ]
قالوا : معناه لذي لب و عقل ، و أنشدوا :
و كيف يرجى أن تتوب وإنما يرجى من الفتيان من كان ذا حجرو قالوا : أصل الكلمة من المنع اذ العقل يمنع الانسان التردي في الضلال ، و حتى كلمة العقل مأخودة من ذات المعنى اي المنع و الكف فهي من العقال .
و يبدو لي ان الحجر أقل قدر من العقل ، و ان المعنى - على هذا - هل في هذا القسم كفاية لمن يملك عقلا أنى كان قليلا ؟ و الله العالم .
[6] إذا كنت ممن يكتفي بالقسم و يكتشف الحقائق بعقله بعد ان يذكر بها فقد جاءك ما يكفي من القسم .
إلا ان البعض لا يعي الحقائق إلا بالمزيد من الشواهد ، و بالذات العبر التاريخيةالتي تهز الضمير هزا ، و حتى ذوي العقول اذا استمعوا الى تلك العبر ازدادوا يقينا ، و هكــذا ساق القـرآن طائفة من تلك العبر و أجملها لانه كان قد فصلها في مواضع اخرى و قال :
[ ألم تر كيف فعل ربك بعاد ]
إنها حقائق مشهودة ترى بالعين المجردة ، و كلما كانت الحقيقة واضحة استخدم مثل هذا التعبير " ألم تر " .
[7] من هم عاد ؟ انهم عاد الأولى من قبيلة إرم او الذين سكنوا قرية إرم فبنوا القصور العالية .
[ إرم ذات العماد ]
قال بعضهم : إرم جد عاد ، و قال آخر : اليه يجتمع نسب قبيلة ثمود ايضا ، و قال ثالث : ان معنى إرم القديمة ، و أصلها من الرميم حيث ان هناك عادين الأولى و هي القديمة التي قال عنها ربنا : " و انه أهلك عادا الأولى " (1) ، و قال بعضهم : ان الكلمة ليست اسم اشخاص بل منطقة كان يسكنها قوم عاد ، و لا يتنافى ان يكون الاسم مشتركا بين القبيلة و أرضهم حيث كانت العادة تقضي تسمية الارض باسم أهلها ... فتكون كلمة ذات صفة لارم تلك المدينة التي سكنتها عاد ، و كلمة العماد بمعنى الأبنية المرتفعة المرفوعــةعلــى العمد ، و لذلك قالت العرب : فلان طويل العماد اذا كان منزله معلما لزائره .
[8] تلك القبيلة الشديدة التي راجت حولها الاساطير ، و تلك المدينة ذات العمد التي لم يكن لها مثيل في بلاد العالم ذلك اليوم .. الم تر كيف دمرت عليهم ؟
(1) النجم / 50 .
[ التي لم يخلق مثلها في البلاد ]
و انما يبني الانسان المدن لصيانة نفسه من أهوال محتملة من اعتداء مفاجىء او سيل منهمر او زلازل و انهيارات ارضية او ما اشبه ، و الذي يدفعه الى ذلك كله تهربه من الموت و من عاقبة اعماله ، و لكن تلك الجهود تنفعه مالم يأت قدره ، فاذا جاء القدر فأين المفر ؟
ان المدينة و بالذات اذا كانت بمستوى مدن عاد العظيمة علامة بارزة لحضارة الانسان حتــى سميت الحضارة بالمدينة ، لانها رمز تعاون بناء بين مجاميع كبيرة من الناس ، و سيادة نوع متقدم من القوانين عليهم ، كما انها تأتي نتيجة تراكم تجارب و جهود عظيمة يتوارثها اهلها جيلا بعد جيل ... و لكنها عرضة للدمار الشامل اذا تسلط عليها المترفون ، و وجهوها عكس مسيرة الخير و الفضيلة ، و اتخذوها وسيلة للبطش بالآخرين ، كما فعلت عاد فدمرها الله شر تدمير ، فأين الأحقاف التي كانت مساكنهم بين اليمن و حضرموت ، و اين قبورهمو اثارهم ؟
[9] كذلك ثمود الذين سكنوا شمالي الجزيرة العربية بين المدينة و الشام ، فشيدوا لأنفسهــم القصور التي اقتطعوها من الجبال المحيطة و حفروها ايضا ملاجىء و مخازن لهم .. ان مصيرهم كان ايضا الدمار .
[ و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد ]
جابوا : اي قطعوا ، و يقال : يجوب البلاد اي يقطعها ، و الوادي : المسير بين الجبال .
[10] و كانت عاد و ثمود و قصة إبادتهم معروفة عند العرب في الجزيرة ، لأنهما كانتا في طرفي الجزيرة ، اما آل فرعون فقد كانت قصتهم مشهورة عند الأمم ، لأنهاكانت ذات صبغة عالمية ، و قد سمعتها العرب من اهل الكتاب الذين اتصلوا بهم ، و قد فصلها القران تفصيلا في مواقع كثيرة ، و اجملها هنا بكلمات فقال :
[ و فرعون ذي الأوتاد ]
قالـوا : أوتاده أركان سلطته من جنود و عساكر و أموال و أساليب قهر و سلطان ، و قال بعضهم : بل كان يعذب الناس بالأوتاد حيث يشدهم بها الى ان يموتوا ، و هكذا فعل بآسية : زوجته و ماشطة ابنته ، و قال بعضهم : بل الاهرامات التي تشبه الوتد في الارض .. و أنى كان فقد زعم ان تلك الأوتاد تنقذه من مصيره .
[11] و يبدو ان المراد بفرعون هم آل فرعون ، او هو و أوتاده الذين أيدوه ، فلذلك قال عنهم ربنا سبحانه :
[ الذين طغوا في البلاد ]
ذلك ان للانسان قدرة محدودة لتحمل ضغوط التملك ، فمن الناس من تبطره نعمة تافهة ، و منهم من إذا امتلك الدنيا يظل قادرا على التصرف بحكمة و رشد ، و إنما يرتفع الى مستوى ضبط النعم و عدم الوقوع في أسرها و الاسترسال مع رياحها اذا كان مؤمنا بالله و باليوم الآخر . و آل فرعــون أبطرتهم النعمة ، فلما رأوا النيل يجري في بلادهم بالخيرات ، و قد دانت لهم الشعوب المستضعفة من حولهم ، وقد عرفوا بعض العلوم الجديدة في فن العمارة و الزراعة و تحنيط الأموات وما اشبه فاستكبروا في الأرض و طغوا .
[12] و هكذا ركبوا مطية الطغيان الجامحة ، و أسكتوا الأصوات المعارضة ، و تسلحوا بمنطق القوة ، و اتبعوا نهج الدجل و التضليل ، و اصبحت السلطة مركزا لكل فاسد مفسد ، منافق متملق ، قوال كذاب ، محب لنفسه ، معقد من الناس ،و بدأوا رحلة النهاية إذ أخذت السلطة تنشر الفساد في الأرض بدل الصلاح ، و الظلم بدل العدالة .
[ فاكثروا فيها الفساد ]
[13] حتى اذا طفح بهم كيل الفساد ، و جاءهم النذير فهموا به ليقتلوه هنالك نزل عليهم العذاب الشديد .
[ فصب عليهم ربك سوط عذاب ]
جاء العذاب كما السيل المنهمر يصب عليهم من عل انصبابا فأين المفر ؟ و كان كلذع السوط و سرعته ، يسوطهم فيخالط لحمهم و دمهم .
قالوا : العرب كانت تسمي العذاب الشديد سوطا ، و قيل : بل أصل معنى السوط خلط الشيء بالشيء ، و لان العذاب الشديد يخالط اللحم و الدم يسمى بالسوط .
و قال السيد قطب في هذه الاية : هو تعبير يوحي بلذع العذاب حين يذكر السوط ، و بفيضه و غمره حين يذكر الصب ، حيث يجتمع الألم اللاذع و الغمرة الطاغية على الطغاة الذين طغوا في البلاد (1) .
و هكذا جاءت نهاية عاد و ثمود و آل فرعون واحدة لان أعمالهم كانت متشابهة بالرغم من اختلاف بلادهم و عصورهم و سائر تفاصيل حياتهم و الجرائم التي ارتكبوها .
[14] قسما بأيام المسيرة الكبرى ، بفجر العيد و ليالي الإحرام و يوم العيد و يوم(1) في ظلال القران / 890 ص 572 .
عرفة و بليلة الإفاضة ، و على هدى تلك العبر التاريخية : ان الله يقف للطغاة و المجرمين بالمرصاد .
[ ان ربك لبالمرصاد ]
الجيش المعادي يسير بين شعاب الوادي بكل غرور ، و قوات الدفاع قد اتخذت مواقعهـــا خلف صخـور السفوح و فوق مرتفعات الجبل ، و في مثل لمح البصر تقع الواقعة ، و يتبخر غرور الجيش و يتلاشى .
كذلك أعداء الله يأخذهم في ساعة غرورهم و غفلتهم لان ربك بالمرصاد .. و هم عنه غافلون ، و من سطواته آمنون .
تلك هي ذروة السورة فيما يبدو ، و محور آياتها ، و خلاصة دروسها ، فمن وعى هذه الحقيقة ، و خشي سطوات الله ، ولم يأمن مكره ؟ ومن اتقى اخذه الشديد في ساعات الغفلة ، و كلما هم بمعصية او فكر في ظلم أحد فكر في نفسه : أوليس الله يراقبني و هـو بالمرصاد ؟ منإذا هم بظلم أحد تذكر القهار العظيم الذي يأخذ الظالمين بشدة ، وإذا تمادى في الظلم ولم ينزل به العذاب تذكر ان ذلك قد يكون كيدا متينا له حتى يؤخذ بشدة .
جاء في الدعاء المأثور عن الامام السجاد - عليه السلام - :
" اللهم صل على محمد و آل محمد و لا أظلمن و أنت مطيق للدفع عني ، و لا أظلمن و أنت القادر على القبض مني " (1) .
وقال الشاعر :
(1) مفاتيح الجنان / دعاء مكارم الاخلاق .
تنام عيناك و المظلوم منتبه يدعو عليك و عين الله لم تنمو أما المظلوم و المستضعف و الثائر المقهور فانهم جميعا يزدادون أملا و استقامة و تحديا عندما يعرفون ان الله من الظالمين بالمرصاد ، فلا ينهزمون نفسيا ولا يستسلمون .
[15] لكي يتسامى الانسان عن حتميات المادة و مؤثراتها الضاغطة ، و لكي يبقى مالكا للدنيا متصرفا فيها لا مملوكا لها مسترسلا معها ، و بالتالي لكي لا تطغيه الثروة و السلطة و تجره الى الترف و الفساد ، يبصرنا الذكر بحكمة المال و القدرة المتمثلة في اختيارإرادة الانسان و تجربة معدنه و مدى صبره على إغرائها و انسيابه مع جاذبيتها .
و ليست الثروة دليل كرامة الانسان عند الله و اجتبائه من لدنه ، فلا يستبد به الغرور فيزعم انه على حق ، ثم يتسافل فيزعم انه بذاته الحق ، ثم يبلغ به السفه و الطغيان الى الزعم بانه الرب الأعلى !
كلا .. الثروة مادة اختبار ، و على الانسان ان يتخلص من إغرائها بانفاقها و التقيد بالحدود الشرعية في جمعها .
[ فأما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه و نعمه فيقول ربي أكرمن ]بلى . الثروة بذاتها نعمة و كرامة و لكنها في ذات الوقت ابتلاء و اختبار ، و هذا هو الخط الفاصل و الدقيق في ذات الوقت بين البصيرة الإلهية و التصور البشري ، فليست الثروة رجسا ، و ليست كرامة دائما ، بل هي حقيقة بلا هوية بلا صبغة ، و انما تكتسب هويتها وصبغتها من طريقة تصرف الانسان فيها .
[16] كما ان الفقر ليس بذاته نقمة ، و انما النقمة الاستسلام له ، و الاعتقاد بانه دليل مهانة عند الله .
[ و أما إذا ابتلاه فقدر عليه رزقه ]
و كانت حكمة ضيق الرزق ابتلاءه ، تراه فقد ثقته بنفسه ، و زعم انه رجل مهان منبوذ ، و ان واقعه لا يتغير .
[ فيقول ربي أهانن ]
كلا .. الفقر ليس إهانة ، بل هو اختبار ، و رب فقير ذي طمرين لا يؤبه به عند الناس لو أقسم على الله لأبره .
أليست الثروة قد تكون على طرق غير مشروعة ، بل عادة تكون كذلك ؟
أوليس الفقر قد يكون لاسباب خارجة عن ارادة الانسان كأن يولد الانسان في بلد فقير و من ابوين معدمين ؟ فكيف تكون الثروة مقياسا للكرامة الإلهية ، و تتحول بذاتها الى قيمة مقدسة ، و يصبح الفقر معيارا للهوان عند الله ، اداة لتذليل الانسان و تصغيره ؟
[17] كيف يتخلص الانسان من جواذب المادة و أثقالها ؟ باكرام الضعفاء و الانفاق عليهم ، و عدم انتهاب اموال المحرومين .
اولئك الذين جعلوا المادة قيمة تراهم ممسوخين عن الفطرة السليمة ، فلا تجدهم يكرمــون اليتيم الذي يستثيــر الرحمة و العطف عند البشر السوي ، أنى كان دينه و مستواه .
[ كلا ]
ليس كما تزعمون ان الغنى دليل كرامة الفرد عند الله ، و ان الفقر دليل هوانه ، انما هما ابتلاء و فتنة .
[بل لا تكرمون اليتيم ]
وهذا عاقبة المجتمع المادي المرتكس في اوحال المادة و عبادة الثروة و اكرام الغني لغناه .. فهل هذه العاقبة تنسجم مع العاطفة الانسانية ، و هل يقبلها و جدان بشر أنى كان ؟ كلا .. ان بني آدم مفطورون على العطف على الضعيف ، و بالذات الطفل الذي يفيض براءة وطيبا ، و اذا كان الطفل يتيما لا يملك قوة ذاتية يدفع عن نفسه الاخطار و الاطماع ، و لا حاميا يقيه الشرور ، و لم يحظ بالقدر الكافي من العطف الأبوي - انه يذيب القلب حنانا - فما اقسى قلب من يهينه و يجافيه ؟
كــل ذي وجدان يحكم بان المجتمع الذي يقسوا على اليتيم مجتمع ممسوخ منكوس ، و ان قيمه باطلة و نظامه فاسد .
و ذلك مقياس سليم و فطري يبينه القران في المعرفة ، حيث انه يدلنا على عاقبة النظام لمعرفة صلاحه او فساده ، فاننا لا نستطيع ان نحكم على نظام اجتماعي بادعاءاته او شعاراته ، و لكن نحكم عليه بعاقبته ، فان وافقت و جداننا الانساني و انتهى الى حماية الضعيفو إكرام اليتيم و الانفاق على المحتاج و ما اشبه نعرف صلاحه .
و هكذا بالنسبة الى كل شيء لا تدرس بدايته بل راقب نهايته و عاقبته ، حتى تعرف طبيعته .
[18] في المجتمع الجاهلي حيث يصبح المال قيمة يعيش المعدمون الذين أسكنتهم الفاقة في عناء كبير ، اذ لا يشجع الناس بعضهم للإعتناء بهم .
[ ولا تحاضون على طعام المسكين ]
من هو المسكين ؟ انه بشر مثلي و مثلك أقعدته عوامل قاهرة عن اكتساب رزقه ، ألا ترحمه ؟ تصور لو كنت - لا سمح الله - مثله كيف كنت تتوقع من الناس ؟ اليس من الممكن ان تصبح انت او واحدا ممن تحبهم مسكينا ، فهل ترضى ان يطوي ليله جائعا ، و يعيش الناس من حولهالتخمة ؟ و هل يرضى بذلك انسان ذو ضمير ؟
ان اقل ما نقدمه للمسكين الطعام .. انه حق البهائم و النباتات فكيف بمن هو نظير لنا في الخلق ؟!
و قد ذكر الرب انهم لا يأمرون بعضهم باطعام المسكين لبيان انتكاس المجتمع عن قيم الانسانية ، فربما منع الواحد بخله عن اطعام المسكين و لكنه مستعد لأمر غيره بذلك ، بل نرى البخيل عادة يتمنى لو ان غيره تكفل عنه باطعام المحتاج ، اما إذا تردى المجتمع الى عدم حض بعضهم على إطعام المسكين فقد هبط الى أسفل السافلين . و هذه هي نهاية اعتبار الغنى كرامة إلهية و الفقر ذلا و هوانا .
[19] و الأسوء من ذلك أكلهم التراث ، و التهام أموال اليتامى جميعا ، حتى إذا كبروا لم يجدوا أمامهم إلا الحرمان و الحسرة .
[ و تأكلون التراث أكلا لما ]
قالوا : " لما " يعني جمعا ، و منه قولهم : لم الله شعثه اي جمع ما تفرق من اموره ، و لعل هذه الكلمة تشير الى الإسراع في أكل التراث لئلا يكبر أهله فيطالبون به ، كما قال سبحانه : " و لا تأكلوها اسرافا و بدارا ان يكبروا " (1) .
(1) النساء / 6 .
[20] و هكذا ينحدر الذي يزعم ان الثروة هي اقصى كرامة عند الله الى درك عبادة المال ، و الانسياق مع مصادره و من يملكه من المترفين .
[ و تحبون المال حبا جما ]
أي حبا كثيرا ، و منه : جم الماء في الحوض إذا اجتمع و كثر ، و أنشدوا :
ان تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألمـــاهذه هي ملامح المجتمع الذي يقدس المال . انه لا يكرم اليتيم الذي يستدر عطف كل بشر ، و لا يأبه بمسكين ، و يسترسل مع المال .
[21] إذا تجب مواجهة هذه القيمة الشاذة التي تحسب الكرامة في الثروة ، و الهوان في الفقر ، و لكن أنى يستطيع الانسان التسامي من ارض خلق منها و عجنت طينته بحبها و حب شهواتها و زينتها ! بلى . إذا آمن بالله ، و تطلع الى لقائه ، و عرف ان الحياة حقا هي حياة الاخرة .. آنئذ تعزف نفسه عن الدنيا ، و يقدم من جهده و ماله لبناء مقره النهائي في الآخرة .
من أجل هذا يصور لنا السياق مدى الحسرة التي تشمل الناس الذين لم يعمروا حياتهم الآخرة ، و أذهبوا طيباتهم في الدنيا تلك اللحظات الزائلة التي سرعان ما تبخرت و لم تخلف لهم سوى الندم و الحسرات في يوم الزلزال الكبير .
[ كلا ]
ليست الدنيا نهاية المطاف ، و ليست الثروة قيمة عند الله ، و ليست تصوراتهم عن أنفسهم صحيحة .. و متى يتجلى لهم ذلك ؟ إنما عند قيام الساعة .
[ إذا دكت الأرض دكا دكا ]
فاذا بالأبنية التي هي نتيجة تراكمات جهد الملايين تنهار بفعل الزلزال الرهيب الذي يدك الأرض فيسويها و يدعها قاعا صفصفا .
قالوا : أي زلزلت الارض فكسر بعضها بعضا و تكسرت الأشياء على ظهرها ، و قال بعضهم : بل دكت جبالها و أنشازها حتى استوت .
و أنى كان فان الارض تنبسط كالأديم لا ترى فيها عوجا و لا أمتا ، و لا حفرة و لا ارتفاعا . فهل تبقى يومئذ قيمة لعقار او ركاز او ذهب و فضة ؟ !
[22] هنالك يتجلى الرب بعظمته للعالمين ، فلا أحد يقدر على الهرب من سطوته او الشك في قهره و قدرته ، حيث ترى الملك صافين ينتظرون أوامره .
[ و جآء ربك و الملك صفا صفا ]
أي آية عظيمة من آيات الله تتجلى تلك التي عبر القرآن عنها : " و جاء ربك " ؟ لست أدري ، و لكنه يوم عظيم لا يمكننا و نحن نعيش حدود الدنيا الضيقة ان نتحسس آفاق عظمته .
[23] إلا أن من معاني شهود الله حضور تلك القيم التي أمر بها ، و تلاشي قيم الزيف و الضلال التي امتحن الناس بها في الدنيا .. لذلك فأول ما يؤتى بجهنم سجن المجرمين الرهيب .
[ وجيء يومئذ بجهنم ]
أين جهنم اليوم ، و كيف يؤتي بها ذلك اليوم ؟ هل هي كرة ملتهبة عظيمةكالشمس و أعظم منها ، حتى ان الشمس حين تقع فيها تصيح من شدة حرها ، ام ماذا ؟ لا نعرف ، و لكن جــاء في رواية مأثورة عن أبي جعفر ( الباقر ) - عليه السلام - انه قال : " لما نزلت هده الآية : " وجيء يومئذ بجهنم " سئل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه و اله - ، فقال : بذلك اخبرني الروح الأمين ان الله لا إله غيره إذا برز الخلائق و جمع الأولين و الآخرين أتـــي بجهنم يقاد بألف زمام يقودها مائة ألف ملك من الغلاظ الشداد ، لها هدة و غضب و زفير و شهيق ، و انها لتزفر الزفرة فلولا ان الله اخرهم للحساب لأهلكت الجميع ، ثم يخرج منها عنق فيحيط بالخلائق البر منهم و الفاجر فما خلق الله عبدا من عباد الله ملكا و لا نبيا إلا ينادي : رب نفسي نفسي ، و انت يا نبي الله تنادي : امتي امتي ، ثم يوضع عليها الصراط أدق من حد السيف ، عليها ثلاث قناطر فاما واحدةفعليها الامانة و الرحم ، و ثانيها فعليها الصلاة ، و اما الثالثة فعليها رب العالمين لا اله غيره ، فيكلفون الممر عليهم فيحبسهم الرحم و الأمانة فان نجوا منها حبستهم الصلاة ، فان نجوا منها كان المنتهى الى رب العالمين ، و هو قوله : " ان ربك لبالمرصاد" ، و الناس على الصراط فمتعلق بيد ، و تزول قدم ، و يستمسك بقدم ، و الملائكة حولها ينادون : يا حليم اعف و اصفح وعد بفضلك و سلم سلم ، و الناس يتهافتون في النار كالفراش فيها ، فاذا نجا ناج برحمة الله مر بها فقال : الحمد لله و بنعمته تتم الصالحات و تزكوا الحسنات ، و الحمد لله الذي نجاني منك بعد أياس بمنه و فضله ان ربنا لغفور شكور " (1) .
و فــي حـديث آخـر إضافة رهيبة حيث يقول الرسول - صلى الله عليه و اله - : " جاء جبرئيل فأقرآني " وجيء يومئذ بجهنم " فقلت " : يجاء بها ؟ قال : يجيء بها سبعون الف يقودونها بسبعين الف زمام ، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت(1) بحار الانوار / 860 ص 193 .
اهل الجمع !! " (1)
[ يومئذ يتذكر الانسان و أنى له الذكرى ]
لا تنفعه الذكرى بعد فوات أوانها .
[24] ماذا يتذكر ؟ يتذكر طيباته التي بددها فيما زالت ، يتذكر شبابه الذي أبلاه في شرة السهو و التباعد عن الرب ، يتذكر أمواله التي جمعها من غير حل ، و انفقها في غير رضا الرب ، يتذكر أوقاته التي أفناها في اللهو و الغفلة و الاشتغال بالتوافه ، و كل ساعةمنها كان يستطيع ان يحصل بها على ملك كبير في الآخرة !
[ يقول يا ليتني قدمت لحياتي ]
انها تلك الحياة حق الحياة ، الحياة الخالدة التي لا تزول .
[25] هنالك العذاب الإلهي الذي يتجلى به الرب ، و الوثاق الإلهي الذي يتجلى به غضبه .
[ فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ]
لا أحد يعذب كالله ، لانه الأعظم الأكبر الذي لا يقاس اي شيء منه بأي شيء من خلقه . و ان الانسان ليهرب من عذاب الدنيا و لا يعرف ان عذاب الله في الآخرة لا يقاس ببعض الأذى في الدنيا .
جاء في دعاء أمير المؤمنين علي - عليه السلام - : " و أنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا و عقوباتها و ما يجري فيها من المكاره على أهلها ، على ان ذلك(1) تفسير نور الثقلين / ج 5 - ص 576 .
بلاء و مكروه قليل مكثه ، يسير بقاؤه ، قصير مدته ، فكيف احتمالي لبلاء الآخرة و جليل وقوع المكاره فيها ؟ ! وهو بلاء تطول مدته ، و يدوم مقامه ، و لا يخفف عن أهله ، لانه لا يكون الا عن غضبك و انتقامك و سخطك ، و هذا ما لا تقوم له السماوات و الارض ، يا سيديفكيف بي و أنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين ؟! " (1)[26] كما لا شيء يشبه سجن الله و وثاقه .
[ و لا يوثق وثاقه أحد ]
أي لا يشد احد وثاقا بذات الشدة التي يشد الله وثاق الكفار .
[27] أهذا خير ام مصير المؤمنين الذين قدموا لحياتهم فعمروا آخرتهم ، فاطمأنت نفوسهم بسكينة الايمان ، و تساموا فوق مؤثرات المادة ، فربما ملكوها و لكنها لم تمتلكهم أبدا ، فعاشوا أحرارا ، و ماتوا سعداء ، إذا استقبلهم ملك الموت فبترحاب ، و نودوا في أولساعة من حياتهم الأبدية بالبشرى .
[ يا أيتها النفس المطمئنة ]
يعيش المؤمن بين الخوف و الرجاء ، فان دعاه الى الخوف إحساسه بالتفريط في جنب الله ، فقد دعاه الى الرجاء يقينه بعظيم عفو الله و واسع رحمته . كل خوفه من العاقبة السوئى ، و من ألا يتقبل الله حسناته ، و لا يتجاوز عن سيئاته ، و من ان يتبين في ساعة الرحيلان حساباته كانت خاطئة ، و انه ليس كما كان يرجو من اصحاب الجنة . أولم تسمع مناجاة الامام السجاد علي بن الحسين - عليه السلام - : " ليت شعري أللشقاء ولدتني أمي أم للعناء ربتني ، فليتها لم تلدني و لم(1) مفاتيح الجنان / دعاء كميل .
تربني ، و ليتني علمت أمن أهل السعادة جعلتني و بقربك و جوارك خصصتني فتقر بذلك عيني و تطمئن له نفسي " (1)[28] فاذا جاءه النداء الإلهي عند وفاته : " يا أيتها النفس المطمئنة " استراح ، و شملته البشرى ، و عمه الفرح .. هنالك يستطيب الموت لانه عودة العبد الكريم الى الرب الرحيم الذي يستضيفه بالقول :
[ ارجعي الى ربك راضية مرضية ]
لقد اطمأنت انفسهم الى بارئها ، و توكلوا على الله ، و سلموا لقدره و قضائه ، و لم يبطرهم الغنى ، و ما اعتبروه صك الغفران ، ولم يهزمهم الفقر ، وما اعتبروه لعنة إلهية .. لذلك فان الله يرضيهم بنعيم الأبد ، و ينبؤهم بأنهم مرضيون ، و ما أحلى ساعة اللقاءبحبيبهم و أنيسهم ، وما أروع كلمات الود المتبادلة ، جاء في الحديث القدسي عن الله عز وجل انه قال في حق الزاهدين و أهل الخير و أهل الآخرة : " فو عزتي و جلالي لاحيينهم حياة طيبة اذا فارقت أرواحهم أجسادهم ، لا أسلط عليهم ملك الموت ، و لا يلي قبض روحهـــم غيري ، و لأفتحن لروحهم ابواب السماء كلها ، و لأرفعن الحجب كلها دوني ، و لآمرن الجنان فلتزينن ، و الحور فلتزفن ، و الملائكة فلتصلين ، و الأشجار فلتثمرن ، و ثمار الجنة فلتدلين ، و لآمرن ريحا من الرياح التي تحت العرش فلتحملن جبالا من الكافور و المسكالاذفر فلتصيرن وقودا من غير النار فلتدخلن به ولا يكون بيني و بين روحه ستر فأقول له عند قبض روحه : مرحبا و أهلا بقدومك علي ، إصعد بالكرامة و البشرى ، و الرحمة و الرضوان ، و جنات لهم فيها نعيم مقيم ، خالدين فيها أبدا ، ان الله عنده أجر عظيم ، فلو رأيتالملائكة كيف يأخذ بها واحد و يعطيها الآخر ! " (2)(1) مفاتيح الجنان / مناجاة الخائفين .
(2) كلمة الله / المؤلف السيد حسن الشيرازي ص 369 .
و جاء في نفس الحديث : " وإذا كان العبد في حالة الموت يقوم على رأسه ملائكة بيد كل ملك كأس من ماء الكوثر و كأس من الخمر ، يسقون روحه حتى تذهب سكرته و مرارته ، و يبشرونه بالبشارة العظمى ، و يقولون له ؟ : طبت و طاب مثواك ، انك تقدم على العزيز الحكيم ، الحبيب القريب ، فتطير الروح من أيدي الملائكة فتصعد الى الله تعالى في أسرع ( من ) طرفة عين ، و لا يبقى حجاب و لا ستر بينها و بين الله تعالى ، و الله عز و جل اليها مشتاق ، و تجلس على عين عند العرش ، ثم يقال لها : كيف تركت الدنيا ؟ فتقول : الهي وعزتك و جلالك لا علم لي بالدنيا ، انا منذ خلقتني خائفة منك ، فيقول الله تعالى : صدقت يا عبدي ، كنت بجسدك في الدنيا و روحك معي ، فانت بعيني ، سرك و علانيتك ، سل اعطك ، و تمن علي فأكرمك ، هذه جنتي فتجنح فيها ، و هذا جـــواري فأسكنه ، فتقول الروح : الهي عرفتني نفسك فاستغنيت بها عن جميع خلقك ، و عزتك و جلالك لو كان رضاك في ان أقطع إربا إربا ، و أقتل سبعين قتلة بأشد ما يقتل بـه الناس لكان رضاك احب إلي ، إلهي كيف أعجب بنفسي و أنا ذليل إن لم تكرمني ، و أنا مغلوب إن لم تنصرني ، و أنا ضعيف إن لم تقوني ، وأنا ميت إن لم تحيني بذكرك ، و لولا سترك لافتضحت أول مرة عصيتك ، الهي كيف لا أرضيك و قد أكملت عقلي حتى عرفتك ، و عرفت الحق من الباطل ، و الأمر من النهي ، و العلم من الجهل ، و النور من الظلمة ، فقال الله عز و جل : و عزتي و جلالي لا أحجب بيني و بينك في وقت من الاوقات ، كذلك أفعل بأحبائي " (1) .
[29] ثم يدخل الله روح المؤمن بعد قبضها برضاه في حزبه المفلحين في عباده الصالحين حيث المؤانسة و الصفاء .
(1) المصدر / 375 .
[ فادخلي في عبادي ]
أي انتظمي في سلكهم .
[30] و تستقبله دار ضيافة الله و منزل كرامته الجنة التي من دخلها لم يخرج منها أبدا .
[ وادخلي جنتي ]
جعلنا الله من أهل جنته انه سميع الدعاء .
|