و ما ادراك ما العقبة
بينات من الايات [1] لكي نعي مدى خطورة قضية نقيسها بأخرى عبر القسم ، و حينما يأتي القسم في كلام الله ، يضاف الى ذلك بعدان آخران : أولا : يعكس عظمة ما يقسم به بذات النسبة التي يعكس أهمية ما يقسم عليه ، ثانيا : يكشف عن علاقة خفية او ظاهرة بين الأمرين ، و في فاتحة سورة البلد نجد التلويح بالقسم بالبلد و بالوالد و الولد ، لبيان المشاق التي يواجهها الانسان ، فما هي العلاقة بينهما ؟ انها تتمثل في ان أعظم ما يكابده البشر يتصل بالارض و الاولاد .
[ لا اقسم بهذا البلد ]
قلنا : ان القسم يهدف إلقاء ظلال من العظمة على الموضوع ، و سوف يحقق هذا الهدف نفيه او اثباته ، و قد يكون نفي القسم يوحي بأهمية ما يحلف به مما يبالغ في العظمة ، و لذلك قال المفسرون : ان لا هنا زائدة ، و بعضهم قال : انها تشبه كلمةكلا ، تنفي أفكار الجاهليين .
و البلد - حسب اقوال المفسرين - : مكة ، و شرف مكة واضح .
[2] ولكن مكة ليست بأشرف من رسول الله ، بل شرف كل ارض بمن يسكنها من عباد الله الصالحين ، و لذلك جاء في الحديث : " المؤمن أعظم حرمة من الكعبة " (1) و يفسر ذلــك حديث آخــر : ان رسول الله - صلى الله عليه و آله - نظر الى الكعبة فقال : "مرحبا بالبيت ما أعظمك ! و أعظم حرمتك على الله ! و الله للمؤمن أعظم حرمة منك ، لان الله حرم منك واحدة ، و من المؤمن ثلاث : ماله ، و دمه ، و ان يظن به ظن السوء " (2) أوليست الكعبة أول بيت وضع للناس ، فالهدف اذا هو الانسان الذي سخرت له الارض و مافيها ، و اي انسان أشرف من محمد بن عبد الله صلى الله عليه و آله .
[ و أنت حل بهذا البلد ]
اي أنت تسكن هذا البلد و تحل فيه ، و قال بعضهم معنى الآية : لا أقسم بالبلد الذي يستحل النبي فيه . و قد روي ذلك مأثورا عن الامام الصادق عليه السلام حيث قال : " و كان أهل الجاهلية يعظمون الحرم ، و لا يقسمون به ، و [ لا ] يستحلون حرمة الله فيه ،و لا يعرضون لمن كان فيه ، و لا يخرجون منه دابة ، فقال الله تبارك و تعالى " لا أقسم بهذا البلد * و أنت حل بهذا البلد . * و والد وما ولد " قال : يعظمون البلد ان يحلفوا به ، و يستحلون فيه حرمة رسول الله " (3) .
و على هذا يكون شرف المكان بتوفر حالة من الحرية و الامن لمن يسكنه .
(1) (2) موسوعة بحار الانوار / ج 67 - ص 71 .
(3) تفسير البصائر ج 55 - ص 533 نقلا عن الكافي .
[3] ثم يقسم بالقرآن بوالد وما ولد ، فيقول :
[ و والد وما ولد ]
فمن هما ؟ يبدو ان كل والد يكابد حتى ينمو ولده و يشب ، كما يكابد كل ولد حتى يكتمل و يصبح والدا ، و القسم على هذا مطلق يشمل كل انسان .
و قال بعضهم بـل المراد آدم - عليه السلام - و ذريته ، أو ابراهيم - عليه السلام - و نجله اسماعيل ، أو كل ذريته الصالحين .
[4] ايهما أيسر عليك إذا حملت ما يزن خمسة كيلوات و أنت تزعم انه عشرة ، او كنــت تزعم انه ثلاثة ؟! كذلك حينما تواجه الحياة و انت ترى انها كما التسلق على جبل أشم ، فانك تتغلب بسهولة ، بعكس ما لو زعمت انها مجرد رحلة سياحية .
و القران الكريم يريدنا ان نعرف حقيقة الحياة ، و نسموا الى مستواها ، لانه أفضل لديننا و دنيانا من ان نتهرب منها بحثا عن الراحة ، القران يريدك قوي الظهر حتى لا يثقل عليك أي حمل ، و لا يريدك تبحث دائما عن الحمل الخفيف وقد لا تجده .. أولم تقرأ قول الله سبحانه : " يا أيها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه " . بلى . و كل حياة الانسان كدح ، إلا انه قد يغفل عنه فيهرب الى ما هو أشد كدحا ، او يستسهله و يتغلب على صعابه حتى لا يعود يعترف بأية صعوبة .
[ لقد خلقنا الانسان في كبد ]
و أنى لك الفرار من أمر خلقت فيه و هو داخل كيانك بل هو أصل وجودك شئت أم أبيت ؟!
قالوا : الكبد الشدة و النصب .
الوجود ذاته سلسلة انتصارات ضد العدم ، أوليس الوجـود نورا يجعل الشيء واقعا ! تصور ان النور ذرات متلاحقة متصلة ، فاذا توقفت فليس ثمة سوى ظلام .
و الحياة بدورها سلسلة صراعات ضد الموت ، انها هي الاخرى نور متجدد ، و هي نتيجة ملايين من العوامل المتزامنة لو فقد بعضها انعدمت .
كما ان حياة كل واحد منا صراع مع الطبيعة ، أوتعرف كم مليار جرثومة هجمت عليك خلال رحلة حياتك بهدف القضاء عليك ، و كم مرة تعرضت او تتعرض لخطر الموت فنجوت منها بإذن الله ، و حتى على مستوى الظاهر تجد الانسان في كبد ، يصارع من أجل البقاء في ظلمات الرحم، و يواجه أكبر التحديات عند الولادة ، حتى اعتبروا ساعتها كساعتي الموت و النشور أشد مما يمر به البشر ، و في الطفولة المبكرة يعاني من الجوع و العطش و الألم و يتحدى الأخطار ، أوليس تشكل نسبة الوفيات عند الاطفال الأعلى في البلاد النامية و نسبة عالية في غيرها ؟!
راقب طفلا يتعلم المشي وانظر كم يقدم و كم يسقط ، و راقبه عند تعلم اللغة كم يعاني من صعوبة ، و راقبه عندما يسعى لاقناع والديه برغبة ملحة كم يبكي و كم يجهد نفسه . كل ذلك جانب من معاناة الطفل . اما معاناة الكبار فانها لا تنتهي لان الانسان خلق شاعرا طموحا ، و الشعور يفرز الألم ، و الطموح سبيل المعاناة ، و هذا هو الذي يميزه عن سائر الاحياء ، و من هنا روي عن الامام الحسن - عليه السلام - انه قال : " لا أعلم خليقة يكابد من الأمر ما يكابد الانسان ، يكابد مضايق الدنيا و شدائد الاخرة " (1) .
[5] و في هذه المكابدة يستوي المؤمن و الكافر ، و الغني و الفقير ، و الكبير ، و الصغير ، و كل من سمي انسان . قد لا تحس أنت بمعاناة رفيقك لأنك لست في(1) المصدر / ص 535 .
قلبه ، فتزعم ان غيرك أفضل منك ، و لكن أوليسوا هم ايضا بشرا أمثالك . بلى . إذا تعالوا نرضى بواقعنا ، و نتحمل المسؤولية ، و لا يقول الواحد : الان انا صغير ، لو كبرت لارتحت مما اعانيه ، لان الكبار أفضل ، او يقول : انا الان اعزب لو تزوجت او ان سبب متاعبيفقري فلو أغناني الله بلغت الراحة ، او ان سبب مشاكلي ان اولادي صغار فلو كبروا تخلصت من همومهم ، و لكنه ما ان ينتقل من حال الى حال ، او من مرحلة لآخرى حتى تهجم عليه مشاكل جديدة ، كل مشكلة أكبر من أختها . لا تعيش إذا في الأمنيات الحلوة ، في أحلام اليقضة، لا تقل لا يعاقبني الله ، و لماذا ؟ هل أنت إلا بشر .
[ أيحسب ان لن يقدر عليه أحد ]
قالوا معناه : ايظن ان آدم ان لن يعاقبه الله عز وجل ؟ انه ينظر الى ما أوتي من نعم الله فيصيبــه الغرور و لا يفكر ان ما لا يملكه أكثر مما يملكه ، يقول : لا أحد يقدر علي ، و هو يعيش في وسط المشاكل و كبد التحديات .
[6] أوتدري كيف يكبر الانسان ؟ حينما يحمل قضية كبيرة ، و نسبة أدائه لقضيته يكون تساميه ، وهكذا حمل الله عباده الصالحين المزيد من المسؤوليات ، و ابتلاهم بأشد البلاء ، حتى جاء في الحديث المعروف : " البلاء للأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل " بيد ان بعـض الناس كلما حمل رسالة او قضية او مسؤولية صغرت نفسه في عينيه ، و قال : كيف اؤدي هذا العمل ؟ و حاول الفرار منها . حقا عند هذه النقطة يفترق العظماء عن غيرهم ، انهم لا يجدون أحدا أحق منهم بعمل الخير او تحمل المسؤولية ، بل تجد بعضهم يبحثعنها بحثا حثيثا .
و لعل الاية هذه تعالج هذه الحالة الشاذة في نفس الانسان ، حيث تراه إذا أعطى قليلا كبر في عينيه ، و قال : انه مال كثير ، و لا يقول انه قدمه لحياته ، بل يراهمغرما و يقول : انني أهلكته .
[ يقول أهلكت مالا لبدا ]
أي مالا كثيرا مجتمعا ولعله يكون كاذبا في ذلك ، فلم ينفق إلا قليلا ، و عظم عمله في عينه ، بخلاف المؤمن الذي لا يخرج أبدا عن حد التقصير في جنب الله ، و لذلك فهو يتطلع أبدا الى عمل أكبر و أفضل .
[7] ثــم انه يزعم : انه متروك لشأنه كالبهيمة السائحة ، و انه لا أحد يراقبه . كلا .. ان الله يراقبه وهو أقرب اليه من حبل الوريد .
[ أيحسب ان لم يره أحد ]
[8] ان الذين يتهربون من مسؤولياتهم يفرغون حياتهم من محتواها ، من لبها ، من هدفها . فلماذا إذا جعل انسانا ، و أوتي الأحاسيس المختلفة : عينا يبصر بها فيعرف الحق و الباطل ، و لسانا ينطق به ، و شفتين ليطبقها على لسانه ان هم بكلام خاطىء .
[ ألم نجعل له عينين ]
للبصر و البصيرة معا .
[9] و جعل الله للانسان اللسان الذي ميزه عن سائر الأحياء بالنطق .
[ و لسانا و شفتين ]
[10] و أعظم النعم انه منحه الحرية فهداه الى ما هو طريق الحق و ما هو طريق الباطل .
[ و هديناه النجدين ]
و أصل النجد الأرض المرتفعة ، و روي عن النبي - صلى الله عليه و اله - انه قال : " أيها الناس ! هما نجدان : نجد الخير و نجد الشر " (1) و لعل تسمية الطريقين بالنجدين بسبب أنهما طريقان ، واضحان ، متميزان ، ظاهرة معالمهما ، و معروف روادهما .
[11] كل ما في الانسان يعكس المسؤولية التي حمل اياها ، فقد ألهم الفجور و التقوى ، و اودع في داخله نوازع الشر و حوافز الخير ، و سخرت له الأشياء لكي يستخدمها في واحد من السبيلين ، و السؤال : كيف ينبغي ان يتصرف حتى يحقق المسؤولية التي هي الهدف من خلقه؟ عليه ان يقتحم ، و ما لم يفعل ذلك يبقى وراء جدار التخلف .
[ فلا أقتحم العقبة ]
هل تسلقت الجبال ، و هل صادفك طريق وعر ضيق بين الصخور المتراكمة ، و من تحتك الوادي العميق ، الحالة النفسية التي يعيشها المتسلق الشجاع هي الحالة المطلوبة في تحدي الصعاب في الحياة و تحمل المسؤوليات ، قمة في الوعي و مضاء في العزم و شجاعة في الاقدام . أية وسوسة او تردد او ارتجاج للقدم ، او أية غفلة و تساهل تكفي سببا للسقوط في الهاوية السحيقة !
و قالوا عن الاقتحام : الدخول بسرعة و ضغط و شدة ، و العقبة : الطريق الصعب الوعر الذي فيه صعود .
[12 - 13] وأي شيء العقبة ؟ انها تجاوز شح النفس ، و مصارعة هواها بالكرم و الايثار .
(1) تفسير نور الثقلين / ج 5 - ص 581 .
[ وما أدراك ما العقبة فك رقبة ]
قالوا عن فك الرقبة : انه أشمل من عتق رقبة ، لان العتق هو تحرير الرق بصورة كاملة ، بينما فك رقبة يكون ذلك بالمشاركة مع الآخرين ، و أوردوا في ذلك حديثا مأثورا عن رسول الله - صلى الله عليه و اله - يقول الحديث المرفوع عن البراء بن عازب : جاء اعرابي للنبي ، فقال : يا رسول الله ! علمني عملا يدخلني الجنة ، فقــال : " ان كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة . اعتق النسمة و فك الرقبة " فقال : أوليسا واحدا ، قال : " لا . عتق الرقبة ان تنفرد بعتقها ، و فك الرقبة ان تعين في ثمنها ، و الفيءعلى ذي الرحم الظالم ، فان لم يكن ذلك فأطعم الجائع ، واسق الضمآن ، و أمر بالمعروف ، و انه عن المنكر ، فان لم تطق ذلك فكف لسانك الا من خير " (1) .
[14] [ أو إطعام في يوم ذي مسغبة ]
ان الاطعام جيد وعند المجاعة حيث يحضر النفوس الشح ، و ينتشر الإستئثار ، و يصبح الناس في هلع شديد ، يكون الإطعام أعظم ثوابا ، لانه يعتبر تجاوزا لحالة الشح ، و اقتحاما لعقبة حب الذات .
[15] و الإطعام قد يكون بهدف الحصول على مكسب مادي او رياء و سمعة ، و يتبين ذلك عادة عند انتخاب موضعه ، فمن الناس من لا يعطي الفقير درهما ولكنه ينفق على الموائد الباذخة ألوف الدنانير . من هنا حدد الله كل الانفاق و قال :
[ يتيما ذا مقربة ]
فأولى الناس بالإهتمام بالأيتام أقرباؤهم ، و اليتيم ، حلقة ضعيفة في المجتمع ،(1) الميزان ج 30 - ص 295 .
لضعفه و قلة احترام الناس له ، و لذلك تتوالى النصوص القرآنية التي تشجع على الاهتمام به .
[16] و المورد الضروري الآخر للانفاق هو المسكين القريب .
[ أو مسكينا ذا متربة ]
الذي الصقه الفقر بالتراب .
[17] و يبدو ان فك الرقبة و الاطعام مثلان لاقتحام العقبة ، و ان الكلمة تشمل كل اقتحام لعقبة الهوى ، و مجاهدة لتيار الشهوات ، و ان أعظم ما ابتلي به الانسان عقبة التسليم للحق و لمن يمثله من البشر كالرسول و خلفائه عبر العصور ، فمن والى الرسول وائمة الهدى من خلفائه فقد اقتحمها ، وإلا هوى في النار ، لذلك عبر القرآن عن هذه الطاعة بكلمة " ثم " و قال :
[ ثم كان من الذين ءامنوا ]
فان المسافة بين فك رقبة و الاطعام ، و بين الايمان التام بكل ما أنزل الله و اتباع رسول الله مسافة شاسعة ، و ان البشر لا يزال يعمل الخيرات و يقاوم شهوات نفسه حتى يعرج الى مستوى التسليم لله و الايمان برسالاته ، و اتباع الرسول و خلفائه المعصومين .
و الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد ، و أعظم منه التواصي به ، فانه قمة التسليم للحق و الرضا بالمكاره التي في طريقه ، و أعظم من الصبر الرحمة ، فقد تعبر على اذى الناس و أنت تدعوهم الى الخير و لكن يمتلأ قلبك بغضا لهم ، بينما المؤمن حقا هو الذي يرحم الناس جميعا وحتى أعدائه تسعهم رحمته ، و أعظم من كل ذلك التواصيبالمرحمة . و اشاعة ثقافة الصبر و الرحمة في المجتمع .
[ و تواصوا بالصبر و تواصوا بالمرحمة ]
[18] هؤلاء هم اصحاب الجنة الذين يحظون بالعاقبة الحسنى .
[ أولئك اصحاب الميمنة ]
و هكذا جعل الله شرطا لدخول الجنة يتمثل في اقتحام العقبة ، و من لم يحقق هذا الشرط الأساسي فان أمانيه في الجنة تدهب عبثا ، و قد قال الامام أمير المؤمنين عليه السلام : " هيهات لا يخدع الله عن جنته " .
و جاء في حديث مأثور : " حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات " .
[19] اما الكفار الذي سقطوا في فخ الهوى ، و لم يتساموا الى مستوى التحدي فانهم يتهاوون في النار و ساءت مصيرا .
[ و الذين كفروا بآياتنا هم اصحاب المشئمة ]
ولا يقبل إنفاقهم ، لان الايمان شرط مسبق لقبول أي عمل صالح ، و العرب كانت تتشاؤم من الشمال وذلك سمتها المشأمة .
[20] و كما سجنـوا أنفسهم في زنزانة الذات ، و صدوها عن رحاب الحق الواسعة ، فانهم يعذبون بنار مطبقة عليهم ، مغلقة دونهم .
[ عليهم نار مؤصدة ]
نعوذ بالله من هذه العاقبة السوأى .
|