إن سعيكم لشتى
بينات من الآيات [1] لا يحس الأعمى باختلاف الألوان و الأبعاد ، و لا يشعر من عطب ذوقه او شمه بتفاوت الأطعمة و الروائح ، كذلك الجاهل لا يعرف اختلاف الأشياء ، و كلما ازداد الانسـان علما ازداد معرفة بحدود الأشياء و اختلافها ، و ميزات كل واحد على الآخر ، مثلا : الخبيـربالأقمشة يميز بين نوع آخر ، اما الجاهل فلا يشعر لماذا تتفاوت قيمة أنواعها . اليس كذلك ؟
الحق و الباطل هما صبغتا الطبيعة ، لا يفرق بينهما إلا العالمون ، و ليست المشكلة في هذه القضية عقلية فقط اذ الهوى ايضا يخالف التمييز بين الحق و الباطل ، فهي إذا مشكلة نفسية ايضا ، و آيات القرآن تترى في تحذير الانسان من خلط الأمور ، فكما ان الليل غيرالنهار ، و الذكر غير الأنثى ، كذلك يختلف سعي الخير عن سعي الشر .
[ و الليل اذا يغشى ]
أي يغطي الطبيعة بظلامه و هدوئه .
[2] قسما بالليل اذ يحيط بالأشياء ، و بالنهار اذ يتجلى بنوره و نشاطه و دفئه .
[ و النهار إذا تجلى ]
[3] منذ نعومة أظفارها تحب الطفلة بتماثيل تزعم انها اولادها ، و منذ نعومة اظفاره يحب الطفل ما يزعم انه سلاحه ، ما الذي فرق بين مشاعرهما ؟ و تنمو الطفلة و تتميز عن الطفل أكثر فأكثر بيولوجيا و سيكلوجيا ، و كما يتميز الجنسان عند البشر كذلك في سائر الأحياء و النباتات ، فسبحان الذي خلق الزوجين ، يتكامل أحدهما بالآخر !
[ و ما خلق الذكر و الأنثى ]
[4] و كما اختلف الذكر عن الأنثى ، و الليل عن النهار ، كذلك يختلف سعي الانسان .
لــو نظرت الى خلية هل تستطيع ان تتنبأ بأنها سوف تتفتق عن مولود ذكر أم أنثى ؟ كلا .. و لكن الله يقدر لها ذلك حسبما يرى من حكمة بالغة ، كذلك حين تنظر الى فعلة يرتكبها شخص قد لا تعرف انها ستكون وسيلة لإنشاء حضارة او تدمير حضارة ولكن الله يعلم ذلـــكو يهدينـا اليه بفضله . هناك إنفاق في سبيل الله ينمي المال ، و يزكي القلب ، و ينشط الدورة المالية في المجتمع ، وهناك إنفاق يماثله في الظاهر ، و يناقضه في المحتوى ، يوقف مسيرة التكامل في المجتمع . هناك قتال في سبيل الله يكون بمثابة عملية جراحية ناجحة ،و آخر يكون في
سبيل الطاغوت ، يهدم المجتمع ، و يبيد الحضارة ، و الناس لا يرون إلا ظاهر القتال دون ان يعرفوا هدفه و وجهته و نفعه و ضره .. و لكن الله يهدينا الى ان هذا سعي حسن و ان ذاك سعي هدام .
[ ان سعيكم لشتى ]
[5] كل ابن أنثى يكدح في حياته ، و يسعى ، و يصارع الأقدار ، و لكن الذي يعطي ماله في سبيل الله ، و يتقي الحرام هو الذي ينتفع بعطائه .
[ فأما من أعطى و أتقى ]
انه يختلف عمن يعطي و يمن او يعطي مما سرقه من الناس ، او يختار افسد ما عنده للعطاء ، او يضعه في غير محله للمداحين و المتملقين من حوله ، او يهدف من عطائه رياء و سمعة و سيطرة على المستضعفين ؛ فان عمله لا يتقبل منه لان الله يقول : " انما يتقبـل الله من المتقين " بل يكون وبــالا عليه يوم القيامة ، و ضيقا و حرجا في الدنيا .
[6] ما الذي يجعل سعي الانسان و عطاءه زكيا نقيا مرضيا ؟ ايمانه بالله ، و تصديقه برسالاته و رسله .
[ و صدق بالحسنى ]
لان الايمان بالله يحدد وجهة الانسان ، فليس سواء من يسعى الى المسجد و من يسعى الى الملهى ! ثم هنالك من يريد المسجد و لا يعرف السبيل اليه ، فمن يحدد لنا سبل السلام ، و يضعنا على المحجة البيضاء حتى نصل الى حيث الخيرات ؟ الرسل . فمن كذب بهم ضل السبيل، و كان كمن يريد مكة و لكنه
يضل طريقه فيصل الى اليمن .
و سميت الرسالة بالحنسى لانها تهدينا الى أحسن السبل لأحسن الأهداف .
و قد جاء في الحديث المأثور عن رسول الله - صلى الله عليه واله - قال : " ما من يوم غربت شمس إلا بعث بجنبتها ملكان يناديان ، يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين : اللهم أعط منفقا خلفا ، و أعط ممسكا تلفا " (1) . و قد استوعب الكثير من أصحاب رسول الله هذا الدرس فتراهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، و ينفقون أموالهم بلا حساب ابتغاء وجه ربهم . هكذا أدبهم رسول الله - صلى الله عليه وآله - حتى تساموا على شح أنفسهم ، جاء في رواية مأثورة عن الامام الباقر - عليه السلام - : قال : " مر رسول الله برجل يغرس غرسا في حائط فوقف له و قال : ألا أدلك على غرس أثبت أصلا و أسرع أيناعا و أطيب ثمرا و أبقى ؟ قال : بلى . دلني يا رسول الله ؟ فقال : إذا أصبحت و أمسيت فقل ؟ سبحان الله ، و الحمد لله ، و لا اله الا الله ، و الله اكبر ؛ فان لك ان قلته بكلتسبيحة عشر شجرات في الجنة من انواع الفاكهة ، و هو من الباقيات الصالحات قال : فقال الرجل : فاني أشهدك يا رسول الله ! ان حائطي هذا صدقة مقبوضة على فقراء المسلمين أهل الصدقة " (2) .
[7] حينما تكون النية صالحة ، و القلب زكيا ، فان سبل الخير تحمل اصحابها الى حيث السعادة و الفلاح .
[ فسنيسره لليسرى ]
أي الحياة اليسرى ، و العاقبة الحسنى ، و السؤال : كيف ؟ الإلكترون الصغير(1) القرطبي ج 20 - ص 83 .
(3) نور الثقلين ج 2 - ص 591 .
المتناهي في الصغر داخل عالم ( الذرة ) يسير في سبيله المحدد له ، و هكذا المجرة المتناهية في الكبر تسبح في أفلاكها المحددة ، و كذلك ما بينهما لكل شيء سبيله ، فاذا عرفت سبل الأشياء ، و استطعت ان تضبط حياتك عليها فانها تسير لأهدافك ، و إلا فسوف تصطدم مع سبل الحياة و سنن الله فيها ، و لا تبلغ المنى .
[8 - 9] الحياة منظمة بأدق مما نتصور ، و أدق مما يعرفه كبار العلماء ، حتى قال احدهم و قد بهرته عظمة تنظيم العالم : العالم كتب بلغة رياضية . ان الجزء الواحد من مليون جزء من الثانية محسوب عند الله ، و ان المثقال من ذرة خفيفة موزون عند الله ، و ان اللمحة و الخطفة و النية محسوبة عند الله ، و لكن بعض الناس يزعمون بجهلهم انهم في غابة تسودها الفوضى ، فيكذبون بالحق ، و يبخلون ، و يستكبرون في الأرض ، و نهايتهم العسرى .
[ وأما من بخل و استغنى * و كذب بالحسنى ]
فلم ينفق ، و تشبث بما يملك ، و زعم ان المال يخلده ، و ينقذه من الهلكة ، و اضافة على ذلك كذب برسالة ربه .
[10] انه يجد طريقا سهلا الى المهالك ، كمن يسقط من عل لا يحتاج الى وعي و إرادة و عزم و إختيار . أرأيت الذي يقود سيارة سريعة في طريق جبلي لو غفل عن المقود هل يحتاج الى عزم إرادة لكي يرتطم بالصخور ، أو تهوي به في الوادي ؟ انه يتيسر لمصيره .
[ فسنيسره للعسرى ]
كما قال ربنا سبحانه : " و من أعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا " (1) .
(1) طه / 124 .
[11] من ضيق نفس البشر و محدودية أفقه انه يفرح بما أوتي حتى يستغني به عما لا يملك و يتملكه الغرور به ، و الاستغناء و الغرور يدفعانه الى الطغيان ، كما يقول ربنا سبحانه : " ان الانسان ليطغى ان رآه استغنى " (1) .
ومن فرط غرور المرء بماله يزعم ان ماله يصنع له المعجزات ، و انه يمنع عنه كل سوء ، و لكن هيهات .
[ وما يغني عنه ماله إذا تردى ]
أي سقط في الهاوية بفعل ذنوبه ! و قيل : معناه إذا مات .
و قد جــاء في حديث مأثور عن الامام الرضا - عليه السلام - في تفسير هذه الآية : " انها نزلت في أبي الدحداح ، قال : ان رجلا من الأنصار كان لرجل في حائطه نخلــة ، فكان يضربه ، فشكا ذلك الى رسول الله فدعاه ، فقال اعطني نخلتك بنخلة في الجنة ، فـأبى، فسمع ذلــك رجل من الأنصار يكنى ابا الدحداح ، فجاء الى صاحب النخلة فقال : بعني نخلتك بحائطي ، فباعه فجاء الى رسول الله ، فقال : يا رسول الله ! قد اشتريت نخلة فلان بحائطي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه واله - تلك بدلها نخلة في الجنة ، فأنزل الله تعالى على نبيه : " وما خلق الذكر و الأنثى ... " الآيات (2) .
[12] من المسؤول عن عملك أنت أم ربك ؟ كل منا يجيب بفطرته و بلا تردد انه هو الذي اختار نوع عمله ، فهو إذا مسؤول عنه ، و مجزي به ؛ انما يوفر الله سبحانه له فرص الهداية كاملة ، فمن اهتدى فلنفسه و من ضل فعليها ، و هكذا أتم السياق بيان مسؤولية الانسان عن افعاله ، و أن سعيه شتى ، فمن اختار العطاء
(1) العلق / 6 .
(2) نور الثقلين ج 5 - ص 589 .
و التصديق يسره الله الحسنى ، و من اختار البخل و التكذيب يسره الله للعسرى . أقول : أكمل هذه البصيرة ببيان : ان الهدى عليه ، و السعي علينا ، و لذلك فالانسان هو الذي يتحمل مسؤولية سعيه .
[ إن علينا للهدى ]
و قال سبحانه : " و على الله قصد السبيل " و قال " ان علينا بيانه " و على الانسان ان ينتظر هدى الله و بيانه . فاذا هداه بادر باتباع هداه و تنفيذ بيانه .
[13] و ان الرب الجبار هو المسيطر على شؤون الآخرة و الدنيا ، فاذا اتبع أحد هداه فبتوفيقه و تيسيره ، وإذا ضل و عصى ففي اطار قدرته ، فلا يعصي الله عن غلبة أو ضعف ، و لا يتهرب العصاة عن حدود مملكته .
[ و ان لنا للاخرة و الأولى ]
ان العصاة يتكلون على أنفسهم ، و يزعمون ان هامش الإختيار و الإمتلاك الذي أوتــوا يوفـر لهم إمكانية تحدي مالكهم و مليك السموات و الارض ، و لكنهم في ضلال بعيد ، فالله هو مالك الدنيا كما هو ملك الآخرة ، و لذلك فبيده أمرهم و جزاؤهم في الدارين جميعا .
[14] و لذلك فهو يعاقبهم في الدنيا بتسهيل سبيل العسر لهم ، و استدراجهم فيه بسوء اختيارهم له ، و يعاقبهم في الآخرة بنار تتقد و تبتلع الأشقياء .
[ فأنذرتكم نارا تلظى ]
انها نار ملتهبة ، تنظر كل الأشقياء ، و علينا الحذر منها ، لان الله قد أنذرنا جميعا ، فلا يقولن أحد : أنا بعيد لأني أملك مالا ، أو جاها ، أو انتمي- ظاهرا - الى دين الاسلام ، و أوالي الرسول و آل بيته . كلا .. انما يتقي النار من اتقى الله في الدنيا .
[15] اما الأشقى فانه يحترق بلهيبها ، و يصطلي بحرها لانه لم يصنع لنفسه من دونها سترا من الايمان و صالح الأعمال .
[ لا يصلها إلا الأشقى ]
[16] و علامة الأشقى الكفر بالرسالة ، و عصيان الشريعة .
[ الذي كذب و تولى ]
يبدو ان التكذيب حالة نفسية و عقلية ، بينما التوالي حالة عملية ، اي كذب بقلبه و لسانه ، و تولى بعمله و مواقفه .
[17] اما الذي اتقى الله - فقد اتقى نار غضبه . صلاته تقيه ، صومه يجنبه ، انفاقه يستره ، نيته الصالحة تحميه من تلك النار المتقدة .
[ و سيجنبها الأتقى ]
ولماذا لم يقل ربنا : التقي ، ربما لان التقي الذي لم يبلغ مستوى " الأتقى " كان قد ارتكب بعض الخطايا فاستحق به لهبا من النار بقدرها ان لم يغفرها الله له ، و قد قال ربنا سبحانه : " و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم و الله عليم حكيم " (1) .
وهكذا الذي شقي ببعض الموبقات قد يغفر الله له كما قال سبحانه : " ان الله لا يغفر ان يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشآء و من يشرك بالله فقد افترى(1) التوبة / 106 .
إثما عظيما " (1)
و الى ذلك تشير الرواية المأثورة عن الامام الباقر عليه السلام : " النيران بعضها دون بعض " (2) .
وهكذا يبين السياق حالتين متقابلتين تماما لتكونا - كما الليل يقابل النهار - مثلا لاختلاف السعي .
[18] ومن أبرز صفات : " الأتقى " التصدق بماله لكي يطهر قلبه من الشح و البخل و حب الدنيا .
[ الذي يؤتى ماله يتزكى ]
كل من يملك مالا ينفقه ، ولكن أكثرهم ينفقون أموالهم ، ثم تكون عليهم حسرة ، لانهم لا يبحثون عن الزكاة ، و نقاوة القلب بقدر ما يبحثون عن الذات و تكريس الأنانية ، إلا المتقـون الذين يعرفون ان حب الدنيا أصل كل انحراف فيطهرون بالزكاة قلوبهم من حبها .
[ وما لأحد عنده من نعمة تجزى ]
فلم ينفق ماله جزاءا على نعمة سبقت اليه من المنفق عليه ، و لم يطلب لإنفاقه جزاءا حتى ولو كان من نوع طلب الشكر ، أو محاولة اخضاع الفقير لسلطته ، و تكريس حالة الطبقية بهذا الإنفاق ، كإنفاق الكثير من المترفين و المسرفين .
[20] كلا .. انما ينفق لوجه الله ، و ابتغاء مرضاته ، وسعيا وراء الجنة التي(1) النساء / 48 .
(2) نور الثقلين ج 5 - ص 592 .
وعد الله المنفقين .
[ إلا ابتغآء وجه ربه الأعلى ]
و وجه الله رضاه وما أمر به ، ومما أمر به طاعة اوليائه .
[21] لأنه ابتغى رضوان الله فان الله يرضيه بفضله .
[ ولسوف يرضى ]
وهل هناك غاية أسمى من الرضا ؟ أليس الانسان دائم التطلع عريض الطموح ، فكيف يــرضى ؟ بلى . أنى كانت رغبات الانسان عظيمة فان الجنة أعظم ، و فضل الله أكبر .
و هذه السورة بمجملها و لا سيما خاتمتها تكرس في الانسان حس المسؤولية ، بيد ان بعض القدرية حاولوا تفسيرها بما يتناسب و نظرية الجبر التي تنتزع حس المسؤولية عن القلب ، فاذا كان كل شيء كتب بالقلم و حتى عمل الانسان فأين مسؤوليته ؟ و لماذا يحرضنا الله على العطاء و لا نملك من انفسنا شيئا ، و لماذا يحذرنا النار و لسنا الذين نقرر الدخول فيها أو إجتنابها ؟ هكذا جاء في صحيح مسلم عن أبي الاسود الدؤلي قال : قال لــي عمران بــن حصيـن : أرأيت ما يعمل الناس اليوم و يكدحون فيه أين قضي و مضى عليهــم من قدر سبق، او فيما يستقبلون مما آتاهم به نبيهم . و ثبتت الحجة عليهم ؟! فقلت : بل شيء قضي عليهم و مضى عليهم ، قال : فقال : أفلا يكون ظلما ؟ ففزعت من ذلك فزعا شديدا ، و قلت : كل شيء خلق الله و ملك يده ، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، فقال لي : يرحمك الله . إني لم أرد فيما سألتك إلا لأحرز عقلك .
و ان رجلين من مزينة أتيا رسول الله - صلى الله عليه و اله - فقالا : يارسول الله ! أرأيت ما يعمل الناس اليوم و يكدحون فيه . أشيء قضى عليهم و مضى ، من قدر قد سبق ، او فيما يستقبلون به مما آتاهــم به نبيهم و ثبتت الحجة عليهم ؟ فقال : " لا بل شيء قضي عليهم و مضى فيهم ، و تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل " و نفس و ماسواها فألهمها فجورها و تقواها " (1) .
و يبدو لي ان هناك خلطا فظيعا حدث عند البعض بين الايمان بالقضاء و القدر ، و بين الأخذ بنظرية الجبر اليهودية التي زعموا فيها : ان يد الله مغلولة ، و ان الله لا يقدر على تغيير شيء مما قدر سبحانه ، و ان العباد مكرهون على ما يفعلون ، و ان الله يجازيهمبغير صنع منهم في أفعالهم او مشيئته .
و منشأ هذا الخلط تطرف بعض المؤمنين ضد نظرية التفويض للقدرية التي زعمت ان الله ترك عباده لشأنهم ، دون ان يأمر او ينهي او يقدر شيئا .
و النظرية القاصدة هي الوسطى التي فاتت الكثير من المفسرين ، و هي التي تصرح بها آيات الله ، و التي هي لب الشريعة و خلاصة الرسالات الإلهية و هي : ان الله قضى و قدر ، و كان مما قضى حرية الانسان في حدود مشيئته ، و مسؤوليتهم عن أفعالهم ، و انه سبحانه هوالذي منح العبادة قدرة المشيئة ، كما أعطاهم سائر القدرات ليفتنهم فيها ، و بين لهم الخير و الشر و ألهمهم الفجور و التقوى .
و الرسول - صلى الله عليه و اله - بين ذلك ، و لكن الناس فسروا كلام الرسول بالخطأ كما فسروا القرآن كذلك ، فالرواية السابقة - مثلا - لا تخطأ القرآن في مدلولها ، اذ ان الرسول بين ان الله قد قضى عليهم ما ألهمهم من الفجور و التقوى ، فان فجروا فبإذنه ( لا بأمره و لا بفعله ) و ان اتقوا فبإذنه و بأمره ( لا بفعله ) .
(1) انظر القرطبي / ج 20 - ص 76 .
و كذلك النص التالي انما يدل على ان الله سبحانه لم يترك عباده سدى . وفي النص - كما نقرأه - تصريح بضرورة السعي و الكدح ، وإذا كان كل شيء قد تم فلم السعي ، و لماذا الكدح ؟
جاء في الصحيحين و الترمذي عن علي - عليه السلام - قال : " كنا في جنازة بالبقيع ، فأتى النبي - صلى اله عليه واله - فجلس و جلسنا معه ، و معه عود ينكت به في الأرض . فرفع رأسه الى السماء فقال : ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مدخلها " فقال القوم: يــا رسول الله ! أفلا نتكل على كتابنا ، فمن كان من أهل السعادة فانه يعمل للسعادة . و من كان من أهل الشقاء فانه يعمل للشقاء ؟ قال : اعملوا فكل ميسر . اما من كان من اهل السعادة فانه ييسر لعمل السعادة ، و اما من كان اهل الشقاء فانه ييسر لعمل الشقاء " ثم قرأ : " فأما من أعطى واتقى * و صدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * و اما من بخل و استغنى * و كذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى " (1) .
ماذا نفهم من هذا الحديث ؟ هل الجبر أم المسؤولية ؟ ان تلاوة الرسول للآية تدل علــى انــه - صلى الله عليه و اله - حرضنا للعطاء و البذل ، و لكنه ربط العاقبة بأمر الله ، بلى . لسنا نحن الذين نقرر السعادة و الشقاء ، وإنما الله سبحانه ولكن بأعمالنا و بما نختاره ، أولم يقل سبحانه : " كل نفس بما كسبت رهينة " (2) و قال : " ان سعيكم لشتى " فنسب السعي الى الانسان ، و الرسول رفض فكرة الجبر ، و الإتكال على الكتاب الذي لا يفيد فيه حسب زعمهم .
(1) القرطبي / ج 20 - ص 84 .
(2) المدثر / 38 .
|