فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


ولسوف يعطيك ربك فترضى
بينات من الآيات

[1] لماذا لا يجوز للناس ان يحلفوا بخلق الله ، بينما يحلف الله يمينا بما خلق ، و جاء في حديث مستفيض ما يلي :

عن الامام الباقر عليه السلام : " ان لله عز وجل ان يقسم من خلقه بما شاء ، و ليس لخلقه ان يقسموا إلا به " (1) .

وفي هذا المعنى جاءت روايات كثيرة اخرى .

الجواب : اننا حيث نحلف بشيء نعطيه قيمة ذاتية يخشى ان تتحول الى حالة من التقديس المنافية لصفاء التوحيد و نقائه ، و بينما ربنا حين يقسم بشيء فانه يعطيه قيمة ، و يجعلنا نلتفت الى أهمية كذلك في فاتحة هذه السورة القسم بالضحى حيث ارتفاع النهار ، و ميعادالانسان مع الكد و النشاط .


(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 588 .


[ و الضحى ]

[2] وما يلبث النهار ينقضي ، و خلايا جسد الانسان تتلف ، و اعصابه تتعب ، و يحتاج الى راحة و سبات فيأتي الليل بظلامه الشامل ، و سكونه الوديع .

[ و الليل إذا سجى ]

قالوا : سجى : يعني سكن ، و ليلة ساجية : أي ساكنة ، و البحر إذا سجى : أي سكن و أنشدوا :

فما ذنبنا ان جاش بحر ابن عمكم و بحرك ساج لا يواري الدعامصا[3] و كما جسد الانسان بحاجة الى سبات الليل ، فان روحه عطشى الى الوحي ، أوليس للنفوس إقبال و إدبار ، و كما ان الليل لا يدل على نهاية النور ، كذلك تأخر الوحي لا يعكس انتهاءه ، بل كان الوحي ينتزل حسب الحاجة ، و لم يهبط جملة واحدة ليكون أثبت لأفئدةالنبي و المؤمنين ، و قال سبحانه : " وقال الذين كفروا لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا " (1) .

هكذا تأخر الوحي قليلا عن الرسول - صلى الله عليه وآله - ليعرف الجميع انه ليس بشعر منه ، و لا باكتتاب لصحف الأولين ، و لا بابداع من ذاته ، و انما هو الوحي الذي يتنزل بأمر الله متى شاء و كيفما شاء ، و لكي تنتشر أراجيف قريش و تتراكم كما انتشرت حبال سحرة فرعون فخيل الى الناس بانها سحر عظيم ، هنالك أمر الله موسى - عليه السلام - بان يلقي عصاه تلتف ما أفكوا . فكانت أشد وطأة ، و أبعد أثرا ، كذلك الوحي حينما عاد الى هضاب مكة كما الضحى يأتي بعد ليل ساج فتتلاشى ظلام الاشاعات من ارجاء البيت الحرام ، و تتبدد شكوك ضعاف المسلمين ، و يبدأ نهار الرسالة نشيطا مندفعا .


(1) الفرقان / 32 .


[ ما ودعك ربك و ما قلى ]

أي ما ودعك الوداع الأخير ، و لا أبغضك - حتى ولو بصورة مؤقتة - وقد اختلفت احاديث الرواة عن سبب تأخر الوحي و يمكن الجمع بينهما ، و نحن نذكر فيما يلي طائفة منها لما فيها من فوائد هامة ، بالإضافة الى أنها توضح جانبا من حياة الرسول ، و تساهم بقدر مافي فهم القرآن :

روي عن الامام الباقر - عليه السلام - في تفسير السورة " ان جبرئيل - عليه السلام - أبطأ على رسول الله ، و انه كانت أول سورة نزلت " إقرأ باسم ربك الذي خلق " ثم أبطأ عليه ، فقالت خديجة - رضي الله عنها - : لعل ربك قد تركك فلا يرسل اليك ،فأنزل الله تبارك و تعالى : " ما ودعك ربك و ما قلى " (1) .

وفي حديث آخر : ان المسلمين قالوا لرسول الله : ما ينزل عليك الوحي يا رسول الله ؟! فقال " و كيف ينزل علي الوحي وأنتم لا تنقون براجمكم (2) و لا تقلمون اظافركم " و لما نزلت السورة قال النبي لجبرئيل : " ما جئت حتى اشتقت اليك " فقالجبرئيل : " و انا كنت أشد اليك شوقا ، و لكني عبد مأمور ، و ما نتنزل إلا بأمر ربك " (3) .

و روي عن ابن عباس : انه احتبس عنه الوحي خمسة عشر يوما ، فقال المشركون : ان محمدا ودعه ربه و قلاه ، و لو كان أمره من الله لتابع عليه كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء (4) فنزلت السورة .


(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 564 .

(2) اي العقد التي تكون في ظهر الاصابع .

(3) مجمع البيان / ج 10 - ص 504 .

(4) القرطبي / ج 20 - ص 92 .


و هـذه الأسباب متداخلة ، فقد يكون سبب تأخير الوحي الظاهر أكثر من سبب واحد ، و أنى كان فقد امتحن المؤمنون ، و زاد شوق الرسول الى الوحي ، كما ذهبت إشاعات المشركين أدراج الرياح ، و عرف الناس ان كلامهم باطل ، و أمرهم فرط .

[4] و كما يتفجر ضحى الشمس بعد ليل ساج ، و كما يتنزل الوحي بعد انقطاع و انتظار كذلك الآخرة التي تتأخر زمنيا عن الأولى خير و أبقى ، وعلى المؤمن ألا يستعجل النتائج فقد يكون في تأخيرها مصلحة كبرى .

[ و للآخرة خير لك من الأولى ]

قيل : ان له في الآخرة ألف ألف قصر من االلؤلؤ ترابها من المسك ، وفي كل قصر ما ينبغي له من الأزواج و الخدم ، و ما يشتهي ، على أتم الوصف (1) .

و قال بعضهم : الآخرة تعني المستقبل ، و فيها بشارة للنبي بأنه سيفتح له فتحا مبينا .

[5] و يبدو لي ان أعظم ما بشر به النبي لقاء جهاده في الله ، و عنائه الشديد الذي فـــاق عناء الأنبياء جميعا كانت الشفاعة ، ذلك ان قلبه الكبير كان ينبض بحب الانسان ، و هدفه الأسمى كان انقاذ البشرية من إصر الشرك و الجهل و أغلال العبودية و التخلف و الفقر و المرض ، و حتى في يوم القيامة حيث كان يقول جميع الناس و الأنبياء معهم : نفسي نفسي ، ترى رسول الله - صلى الله عليه وآله - يدعو ربه بالشفاعة و يقول : أمتي أمتي ، وفي أشد لحظات حياته عندما نزلت به سكرات الموت كان يقول لقابض روحه : شدد علي و خفف عنأمتي . ان هذا القلب الكبير لا يملؤه إلا حب الله و حب عباده ، و لا يرضيه سوى انقاذ عباد الله في الدنيا من(1) مجمع البيان / ج 10 - ص 505 .


الضلال بالدعوة و الجهاد ، وفي الآخرة من النار بالشفاعة ، و لذلك جاءت الآية التالية تفسيرا للآية السابقة :

[ و لسوف يعطيك ربك فترضى ]

وماذا يرضي الرسول غير الشفاعة في أمته ؟ من هنا جاءت الرواية المأثورة عن الامام علي - عليه السلام - حيث قال : " قال : رسول الله - صلى الله عليه و آله - : يشفعني الله في أمتي حتى يقول الله سبحانه لي : رضيت يا محمد ! فأقول يا رب رضيت " (1).

و روي عنه - عليه السلام - انه قال لأهل القرآن : " انكم تقولون ان أرجى آية في كتاب الله تعالى : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على انفسهم لا تقطنوا من رحمة الله " قالوا : إنا نقول ذلك ، قال : " و لكنا - أهل البيت - نقول : ان أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى : " و لسوف يعطيك ربك فترضى " (2) .

و في حديث آخر : " إنها الشفاعة ليعطينها في أهل لا اله إلا الله حتى يقول : رب رضيت " (3) .

و قد اتعب رسول الله نفسه ، و حمل ذوي قرباه على أصعب المحامل من أجل الله ، و لبلوغ درجة الوسيلة ( التي أظنها هي الشفاعة بذاتها ) جاء في حديث مأثور عن الامام الصادق - عليه السلام - " انه دخل يوما على فاطمة - عليها السلام - و عليها كساء من ثلة الإبل ، و هي تطحن بيدها ، و ترضع ولدها ، فدمعت عينا رسول الله لما أبصرها ، فقال : يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة ، فقد أنزل(1) القرطبي / ج 20 - ص 95 .

(2) المصدر .

(3) المصدر / ص 96 و نص هذان الحديثان واحد عن علي (ع) في نور الثقلين .


الله علي " و لسوف يعطيك ربك فترضى " و قال الصادق - عليه السلام - : " رضا جدي ان لا يبقى في النار موحد " (1) .

[6] لقد ترعرع رسول الله يتيما ، فقد والده وهو لا يزال في بطن أمه ثم فقد والدته فــي الطفولـة المبكرة ، و ذاق - كبشر - كلما يعانيه يتيم الأبوين من حرمان عاطفي ، فجعله الله ينبوع الحب و الحنان .

[ ألم يجدك يتيما فأوى ]

كان رسول الله بطلعته البهية ، و جذابيته الأخاذة ، و بما حباه الله من بركة تفيض على من حوله مأوى القلوب التي تهوي التقرب اليه و تتنافس على خدمته ، ألم تسمع قصة عبد المطلب - جده العظيم - كيف كان يشرف شخصيا على راحته ، و من بعده عمه أبو طالب - سيد بني هاشم - يستميت في الدفاع عنه ، و يفضله على أولاده في الخدمة .

سبحان الله ! كيف يتجلى بآياته للخلق ، فيجعل يتيم الأبوين أعظم شخصية عبر التاريخ ، الذي أحبه أهل الأرض و أهل السماء ، فلم يحبوا أحدا مثله .

وقد أثار البعض السؤال التالي : لأية حكمة جعل الله خاتم أنبيائه يتيم الأبوين ؟ تجيب الرواية التالية على ذلك : يقول الامام الصادق - عليه السلام - : " لئلا يكون لمخلوق عليه حق " (2) .

و هناك تفسير آخر لليتيم نجده في بعض النصوص سنذكره ضمن تفسير الآيات التالية إنشاء الله .


(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 595 .

(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 595 .


[7] [ و وجدك ضآلا فهدى ]

لقد قدر الله للنبي - صلى الله عليه وآله - ان يكون خاتم النبيين قبل ولادته ، بل كان نورا يحدق بعرش الله ، و قد قال - صلى الله عليه وآله - : " كنت نبيا و آدم بين الماء و الطين " .. بل كان مثلا للنور الذي خلقه الله في البدء ثم خلق الخلق به. جاء في حديث شريف : " أول ما خلق الله نوري " (1) .

و قد قلبته يد الرحمة الإلهية في أصلاب شامخة ، و أرحام مطهرة ، حتى قال ربنا تعالى : " و تقلبك في الساجدين " .

و عند ولادته من أبوين كريمين - عبد الله سلام الله عليه ، و آمنة بنت وهب سلام الله عليها - أظهر الله آيات عظيمة في العالم ، إيذانا بولادته فسقطت شرفة من ايوان كسرى ، و غاضت بحيرة ساوة ، و فاضت بحيرة سماوة ، و انطفأت نار المجوس بعد مئات السنين من اشتعالها .

و قرن الله به منذ ولادته ملكا يسلك به طريق المكارم ، قال الإمام أمير المؤمنين - عليه السلام - :

و لقد قرن الله به من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ، و محاسن أخلاق العالم ، ليله و نهاره " (2) .

و هكذا أدبه الله فأحسن تأديبه كما قال - صلى الله عليه وآله - عن نفسه .

إلا ان ذلك كله لا يعني ان القران من وحي نفسه , بل انه كان غافلا عن القرآن من قبل ان يقضي اليه وحيه ، لذلك قال سبحانه : " ان كنت من قبله لمن(1) موسوعة بحار الانوار / ج 1 - ص 97 .

(2) نهج البلاغة / خ 192 - ص 300 .


الغافلين " (1) و قال : " و ما كنت تتلو من قبله من كتاب و لا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون " (2) و قال : " و كذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا " (3) .


و بهذا المفهوم كان الرسول ضالا عن الشريعة الجديدة ، و ليس ضالا عن أية شريعة ، وعن الهدى الجديد لا عن أي هدى . هكذا قال بعض المفسرين .

بينما نجد تفسيرا آخر ينسجم مع مقام الرسول : انه كان ضالة العالمين ، يبحثون عنه ، فهدى الله اليه الناس ، و هذا تفسير اهل البيت عليهم السلام ، و هو ان لم يكن تفسير ظاهر القرآن فلا ريب انه تفسير بطن من بطونه ، أوليس للقرآن سبعة أبطن ؟

هكذا روي عن الامام الرضا - عليه السلام - في قوله : " ألم يجدك يتيما فآوى " قال : " فردا لا مثيل لك في المخلوقين ، فآوى الناس اليك " و وجدك ضالا " أي ضالا في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم اليك " و وجدك عائلا " تعول أقواما بالعلم فأغناهم الله بك " (4) .

و هناك تفسيرات أخرى للآية تعكس اهتمام المؤمنين بمقام الرسول - صلى الله عليه وآله - و عدم نسبة الضلالة اليه كأن يكون الضلال بمعنى الضياع عن الطريق في طفولته ، او عندما سافر الى الشام للتجارة ، ولكن التفسيرين الأولين أولى .

[8] و كان الرسول يعيش في قبيلة بني هاشم ، التي كانت تتميز بالسؤدد ، و الخلق الرفيع ، و تعتبر المرجع الديني في مكة المكرمة ، و لكنها لم تكن ذا مال كبير ،(1) يوسف / 3 .

(2) العنكبوت / 48 .

(3) الشورى / 52 .

(4) نور الثقلين / ج 5 - ص 595 .


و بالذات أبو طالب الذي أصبح شيخ بني هاشم بعد عبد المطلب بالرغم من فقره حتى قيل : ما ساد فقير إلا أبو طالب ، و من المعروف تاريخيا انه - عليه السلام - قبل بتكفل أولاده من قبل إخوته لضيق ذات يده .

و لكن الله من على الرسول بالسعة ، حيث آمنت به واحدة من أثرى قريش وهي خديجــة بنت خويلد التي تزوجها الرسول - صلى الله عليه و اله - فأصبح غنيا بفضل الله .

[ و وجدك عآئلا فأغنى ]

و قد مضى تفسير آخر للآية : ان الرسول كان يعيل الناس ، فأغناهم الله بعلم الرسول و هداه .

[9] لقد نهض النبي من أرض الحرمان ، فكان نصير المحرومين، وقد أوصاه الرب بمداراة اليتيم ، و نهاه عن قهره ، و تجاوز حقه .

[ فأما اليتيم فلا تقهر ]

ان احساس اليتيم بالنقص يكفيه قهرا ، ولابد ان يقوم المجتمع بتعويض هذا النقص بالعطف عليه ، لكــي لا يتكرس هذا النقــص في نفســه ، فيصـاب بعقدة الضعة ، و يحــاول ان ينتقـم عندما يكبر من المجتمع ، و يتعالــى علـى أقرانــه ، و يستكبر في الأرض و .. و..


ولعل التعبير بعدم القهر يشمل أمرين : الأول : دفع حقوق اليتيم اليه ، الثاني : عدم أخذ الحق من عنده بالقهر و التسلط .

و قد راعى القرآن الجانب النفسي لليتيم مع انه بحاجة عادة الى معونة ماديةايضا ، أوتدري لماذا ؟ أولا : لان كل الأيتام يحتاجون الى عطف معنوي ، بينما قد لا يحتاج بعضهم الى عون مادي ، ثانيا : لان النهي عن قهرهم يتضمن النهي عن استضعافهم المادي ايضا .

و قد وردت نصوص كثيرة في فضيلة الاهتمام بالايتام و النهي عن ظلمهم ، فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - " من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر به على يده نور يوم القيامة " (1) .

و قال : " أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنة ، إذا اتقى الله عز وجل " و أشار بالسبابة الوسطى (2) .

و روي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - " ان اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن ، يقول الله تعالى لملائكته : يا ملائكتي من ذا الذي أبكى هذا اليتيم الذي غيبت أباه في التراب ؟ فيقول الملائكة : ربنا أنت أعلم ، فيقول الله تعالى لملائكته : ياملائكتي ! أشهدوا ان من أسكته و أرضاه أن أرضيه يوم القيامة " (3) .

[10] و كما اليتيم الفقير السائل ، أوصى الاسلام به خيرا ، فقال ربنا سبحانه :

[ وأما السآئل فلا تنهر ]

و من عاش و رأى الحرمان ، و لدغته لسعات الجوع كان أحرى باحترام مشاعر السائل كانسان ، و سواء وفق لمساعدته أو لا فان عليه ان يتجنب نهره و زجره و اغلاظ القول له ، فان في ذلك افساد لنفسه ، حيث يشرع في التعالي على الناس و الإستكبار في الأرض ، و عبادة الدنيا و زينتها ، كما ان في ذلك إفساد نفسية


(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 597 .

(2) المصدر .

(3) القرطبي / 20 - ص 101 .


السائــل ، وزرعها بعقدة الضعة ، فربما دار دولاب الزمن و استغنى السائل و افتقر المسؤل ! كما ان في ذلك إفساد للمجتمع بتكريس الطبقية فيه .

وقد وصى الاسلام بالسائل كثيرا ألا ينهر ، فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه واله - : " ردوا السائل ببذل يسير ، أو رد جميل ، فانه يأتيكم من ليس من الانس و لا من الجن ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم الله " (1) .

و نهى الاسلام من السؤال ، و اعتبره ذلا ، ولكنه نهى ايضا عن رد من يسأل ، جاء في حديث مأثور عن الامام الباقر - عليه السلام - انه قال : " لو يعلم السائل ما في المسألة ما سأل أحد أحد ، ولو يعلم المعطي ما في العطية ما رد أحد أحدا " (2) .

[11] الرزق طعام الجسد ، و شكره طعام الروح ، و من فقد الشكر أحس بجوع دائم ، أوليس أعظم الغنى غنى النفس ؟

اولئك الذين يستشعرون الفقر النفسي يشبهون تماما المصابون بمرض الآفكل ، تسري في عروقهم قشعريرة باردة ولو تحت عشرين دثارا .

و العطف على اليتيم ، ورد السائل بالانفاق او بالكلام الطيب مظهران للشكر ، إلا ان لشكر نعم الله مظاهر شتى أمر الاسلام بها جميعا عبر كلمة حكيمة جامعة ، فقال :

[ و أما بنعمة ربك فحدث ]

و الحديث عن النعمة يشمل ثلاثة أبعاد :


(1) المصدر .

(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 598 .


أولا : الاعتراف به ، و بيانه أمام الملأ لكي لا يحسبه الناس فقيرا وهو مستغن بفضل الله ، فقد روي عن الامام الصادق - عليه السلام - في تفسير الآية : " فحدث بما أعطاك الله ، و فضلك ، ورزقك ، و أحسن اليك ، و هداك " (1) .

ثانيا : ان يرى أثر نعمته على حياته ، فلا يبخل على نفسه مما رزقه الله ، مما يخالف حالة الترهب الذي نهى عنه الاسلام فقد جاء في الحديث المأثور عن الامام أمير المؤمنين - عليه السلام - حين اشتكى اليه الربيع بن زياد أخاه عاصم بن زياد ، و قال : انه لبس العباءة ، و ترك الملأ ، و انه قد غم أهله و أحزن و لده بذلك ، فقال أمير المؤمنين - عليه السلام - : " علي بعاصم بن زياد " فجيء به فلما رآه عبس في وجهه و قال له " : " أما استحيت من أهلك ، اما رحمت ولدك ؟ أترى الله أحل لك الطيبات ، و هو يكره أخذك منها ! أنت أهون على الله من ذلك ، أوليس الله يقول : " و الأرض وضعهـــا للأنـام * فيها فاكهة و النخل ذات الأكمام " أوليس يقول : " مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان " الى قوله : " يخرج منهم اللؤلؤ و المرجان" فبالله لابتذال نعم الله بالفعل أحب اليه من ابتذالها بالمقال ، فقد قال عز وجل : " و أما بنعمة ربك فحدث " فقال عاصم : يا أمير المؤمنين ! فعلى ما اقتصرت في مطعمك على الجشوبة ، و في ملبسك على الخشونة ؟ فقال : " و يحك ! ان الله عز وجل فرض على أئمة العدل ان يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يبيغ بالفقير فقره " فالقى عاصم بن زياد العباء و لبس الملاء (2) .

و ينبغي ان يأخذ الانسان من زينة الحياة الدنيا بقدر حاجته ، فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - انه قال : " ان الله جميل يحب الجمال ، و يحب ان يرى أثر نعمته على عبده " (3) .


(1) المصدر .

(2) المصدر / ص 601 .

(3) القرطبي / ج 20 - ص 102 .


ثالثا : شكر من أنعم عليه من أرباب النعم ، و الانفاق على الآخرين ، فقد جاء في الحديث المأثور عن النبي - صلــى الله عليه و آله - : " من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، و من لم يشكر الناس لم يشكر الله ، و المتحدث بالنعم شكر ، و تركه كفر ، و الجماعة رحمة ، و الفرقة عذاب " (1) .

و بقى ذكر رسول الله - صلى الله عليه وآله - خالدا رغم انف المعاندين له ، فقد روي عن معاوية أنه سمع المؤذن يقول : أشهد ان لا إله إلا الله و ان محمدا رسوله الله ، فلم يملك إهابة ، و اندفع يقول :

" لله أبوك يا ابن عبد الله ، لقد كانت عالي الهمة ، ما رضيت لنفسك إلا ان يقرن اسمك باسم رب العالمين " (2) .

و روي مطرف بن المغيرة قال : وفدت مع ابي على معاوية ، فكان أبي يتحدث عنده ثم ينصرف إلي ، وهو يذكر معاوية و عقله ، و يعجب بما يرى منه ، و أقبل ذات ليلة ، وهو غضبان فامسك عن العشاء ، فانتظرته ساعة ، و قد ظننت انه لشيء حدث فينا أو في عملنا ، فقلت له: مالي اراك مغتما منذ الليلة ؟ قال : يا بني ! جئتك من اخبث الناس ، قال : ما ذاك ؟

قال : خلوت بمعاوية فقلت له : إنك قد بلغت مناك يا أمير المؤمنين ! فلو أظهرت عدلا و بسطت خيرا ، فانك قد كبرت ، ولو نظرت الى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه .

فثار معاوية و اندفع يقول :


(1) المصدر .

(2) حياة الامام الحسين / باقر شريف القرشي / ج 2 - ص 151 .


" هيهات !! هيهات ملك أخوتيم فعدل ، و فعل ما فعل ، فوالله ما عدا ان هلك ذكره ، إلا ان يقول قائل : ابو بكر ، ثم ملك أخو عدي فاجتهد و شمر عشر سنين ، فوالله ما عدا ان هلك ذكره ، إلا ان يقول قائل : عمر ، ثم ملك أخونا عثمان ، فملك رجل لم يكن أحد فيمثل نسبه فعمل به ما عمل فوالله ما عدا ان هلك ذكره ، و ان أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات : أشهد ان محمدا رسوله الله ، فأي عمل يبقى بعد هذا ، لا أم لك إلا دفنا دفنا .. " (1) .


(1) شرح نهج البلاغة لابن الحديد المعتزلي / ج 2 - ص 297 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس