فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى
بينات من الآيات

[1] لم تكن المرة الأولى للوحي و لكنها كانت الأخيرة ، و كانت العظمى حيث جلجل الوحي في جبال مكة ، و هبط الأمين جبرئيل ، و حمل معه نورا يتألق سناه عبر الزمن .

كان النبي محمد - صلى الله عليه وآله - يقلب وجهه في السماء ينتظر ساعة الانطلاق الكبير ، كان يعلم انه رسول الله و لكن متى يتنزل عليه الوحي ليأمره بان يصدع بالحق ؟ هذا الذي كان يبحث عنه بشوق كبير .

كانت الكعبة تستصرخه لينقذها من الصخور الصماء التي نصبت من حولها و عبدت من دون الله جهارا ، و كانت تستنجد به لانها حولت من بيت الله الذي وضعه للناس جميعا ، الى عاصمة مستكبري قريش ، يفرضون بإسمها على الجزيرة سيادتهم الظالمة .


و كانت الانسانية المعذبة في أرجاء الجزيرة تنتظره بفارغ الصبر ، فهنا البنات يقتلن بغير ذنب ، و هناك يقتلون الاولاد ايضا ، و الحقوق تنتهك ، و الزنا يتفشى ، و الفقر و المسكنة و التخلف اصبحت سمة المجتمع أنى يممت شطرك .

و اما الثقافة فقد أصبحت في خدمة الطغاة و المترفين ، على انها كانت ركاما من الأساطير و الخرافات ، و وسيلة لإثارة النعرات العشائرية ، و العصبيات التافهة ، و المفاخر الكاذبة ، و أداة لتكريس الأحقاد و الضغائن ، و العلاقات الاقتصادية أصبحت مجموعة أغلالو قيود على نشاط الانسان ، على انها كانت قائمة على اساس الظلم و القهر و الطبقية المقيتة .

و كانت الاوضاع خارج الجزيرة ليست بأحسن أبدا ، حيث جرف التحريف و النفاق اتباع موسى و عيسى - عليهما السلام - الى أبعد حدود الضلال .

و كانت الثقافة ربانية الى هذا الانسان الغارق في أوحال الجهل و التخلف ، و بعث الله أعظم ملائكته الروح القدس ليؤدب مصطفاه من خلقه ، المختار محمد ، و بعث جبرئيل الأمين ليقلي في روعه الوحي .

واليك بعض ما جاء عن امير المؤمنين ( ع ) في نهج البلاغة :

" و أشهــد ان محمدا عبده و رسوله ، أرسله بالدين المشهور ، و العلم المأثور ، و الكتاب المسطور ، و النور الساطع ، و الضياء اللامع ، و الأمر الصادع . إزاحة للشبهات ، و احتجاجا بالبينات ، و تحذيرا بالآيات ، و تخويفا بالمثلات و الناس في فتن انجذمفيها حبل الدين و تزعزعت سواري اليقين ، و اختلف النجر ، و تشتت الأمر ، و ضاق المخرج ، و عمي المصدر ، فالهدى خامل ، و العمى شامل . عصى الرحمن ، و نصر الشيطان ، و خذل الايمان فانهارت دعائمه ، و تنكرت معالمه ، و درست سبله ، و عفت شركه ، أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه ، و وردوا مناهله .


بهم سارت أعلامه و قام لواؤه . في فتن داستهم بأخفافها ، و وطئتهم بأظلافها . و قامت علــى سنابكها .. فهم فيها تائهون حائرون ، جاهلون مفتونون . فـي خير دار و شر جيران . نومهم سهود , وكحلهم دموع . بأرض عالمها ملجم ، و جاهلها مكرم " . (1)و قال : " ان الله بعث محمدا - صلى الله عليه وآله - نذيرا للعالمين ، و أمينا على التنزيل ، وأنتم معشر العرب على شر دين ، و في شر دار ، منيخون بين حجارة خشن ، و حيات صم . تشربون الكدر ، و تأكلون الجشب ، و تسفكون دماءكم ، و تقطعون أرحامكم . الاصنام فيكم منصوبة ، و الأثام بكم معصوبة " (2) .

و قال : " أرسله على حين فترة من الرسل ، و طول هجعة من الأمم ، و اعتزام من الفتن ، و انتشار من الأمور ، و تلظ من الحروب . و الدنيا كاسفة النور ، ظاهرة الغرور . على حين اصفرار من ورقها ، و اياس من ثمرها ، و اغوار من مائها . قد درست منار الهدى ،و ظهرت أعلام الردى ، فهي متجهمة لأهلها . عابسة في وجه طالبها . ثمرها الفتنة ، و طعامها الجيفة ، و شعارها الخوف ، و دثارها السيف " (3) .

و قال (ع) عن بعثة النبي (ص) : " بعثه و الناس ضلال في حيرة ، و خابطون في فتنة . قد استهوتهم الأهواء , و استزلتهم الكبرياء ، و استخفتهم الجاهلية الجهلاء . حيارى في زالزال من الأمر ، و بلاء من الجهل . فبالغ - صلى الله عليه وآله - في النصيحة ،و مضى على الطريقة ، و دعا الى الحكمة و الموعظة الحسنة " (4) .

لم يشك محمد - صلى الله عليه وآله - ان هذا وحي يوحى إليه ، لأن الله(1) نهج البلاغة / خ 2 - ص 46 .

(2) المصدر / خ 26 ص - 68 .

(3) المصدر / خ 89 ص - 121 .

(4) المصدر / خ 95 ص - 140 .


لا يختار من رسله من يشك في وحيه ، لم يشك ابراهيم - عليه السلام - ان رؤياه حق فبادر ليقتل ابنه ، و لم يشك موسى - عليه السلام - ان الذي يكلمه عند الشجرة هو الله ، فاخذ يناديه بكل جوارحه ، ولم تشك مريم ان الله قد رزقها غلاما زكيا ، كما لم يشك عيسى بن مريم - عليهما السلام - انه عبد الله و رسوله الله الى بني إسرائيل ، فهل من المعقول ان يشك خاتم النبيين في ذلك وهو أشرفهم و أعظمهم ؟!

نور الشمس دليلها ، و نـــور العلم دليله ، و اطمئنان اليقين هو ذاته شاهد صدق عليه ، و الوحي أشد وضوحا من الشمس ، و أبهى ضياءا من العلم ، و أكبر سكينة و اطمئنان من اليقين .

أوليس الوحي من الله و الله شاهد عليه ، فكيف يرتاب رسول الله فيه ، أوليس الله بقادر على ان يري رسوله ما يجعله على يقين من أمره ، أو يبعث الى الناس من لا يزال يشك في الوحي حاشا الله !!

و اني لا يمكنني ان أصدق بتلك الروايات التي تنقل حول الرسول ، و انه قال لخديجة بعد ان نزل عليه الوحي : ما لي يا خديجة ! و أخبرها الخبر ، و قال : خشيت على نفسي ، فقالت له كلا .. أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا ، انك لتصل الرحم ، و تصدق الحديث ، و تحمل الكل و تقري الضيف ، و تعين على نوائب الدهر .

بلى . لا استطيع ان أفهم هذا النوع من النصوص التي تخالف ظاهر القرآن ، و تكون ذريعة للمستشرقين للنيل من رسول الاسلام ، وأعتقد ان الرسول كان ينتظر الوحي بفارغ الصبر ، فلما نزل عليه جبرئيل عرفه الله بصدقه ، فلما نودي :

[ إقرأ باسم ربك الذي خلق ]

قرأ : باسم الله الرحمن الرحيم ، و كانت تلك بداية الرسالة بالرغم من ان فاتحةالكتاب هي سورة الحمد ، إلا أنها كانت فاتحة الكتاب حسب ما قدر الله له ان يكون في صورته النهائية ، بينما كانت الآيات الخمس الأوائل في سورة العلق فاتحة التنزيل . ومن المعروف ان هناك فرقا بين ما أنزل في ليلة القدر حين انزل الكتاب كله و بين ما نزل منجما خلال ثلاث و عشرين عاما من دعوة الرسول صلى الله عليه وآله .

من هنا جاء في الحديث : عن الامام الصادق - عليه السلام - : " أول ما نزل على رسول الله " بسم الله الرحمن الرحيم إقرأ باسم ربك " و آخره إذا جاء نصر الله و الفتح " (1) .

و السؤال : ما هي دلالات هذه الكلمة الأولى من الوحي ؟

لعل الوحي كان يفتتح على البشرية عهد القراءة باعتبارها ظاهرة ملازمة للانسان بعد عهد النبي - صلى الله عليه وآله - و فعلا و بالرغم من وجود ظاهرة الكتابة منذ مئات السنين قبل الاسلام الا انها انتشرت بالاسلام بصورة مطردة حتى اصبحت اليوم سمة الانسان الظاهرة .

و القراءة أشد وضوحا من الاستماع ، لانها تفرض التفاعل بين الانسان و النص الذي يتلى عليه أكثر من مجرد الإستماع إليه ، و ربما سمي لذلك كتاب ربنا بالقرآن .

ولكن القراءة ليست مطلوبة بصفة عامة انما التي تكون باسم الله ، لماذا ؟ لان اسم الله يحدد الهدف من القراءة . لا يكون من أجل التعالي على الناس ، و خدمة الطغاة و تضليل السذج من الناس ، بل تكون من أجل تزكية النفس ، و خدمة الناس و هدايتهم .


(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 609 .


و حين يكون العلم - و وسيلته القراءة - باسم الله ترى الملوك صافين على أبواب العلماء ، و الناس ملتفون حولهم ، و هم يقودونهم في معاركهم ضد المترفين و المستكبرين .

[2] لقد خلق الله الانسان من علقة ، من دم جامد يعلق ، و من قبل خلقه من ماء مهين ، ثم أكرمه حتى فضله على كثير مما خلق تفضيلا . أية نقلة عظيمة كانت بين حالته كعلقة و دم ، و بينه كانسان يمشي سويا على قدميه ؟ ان من يعرف قليلا عن خلقة الانسان و ما أودعالله في جسده و روحه من آيات عظمته لابد ان ينبهر بتلك النقلة العظيمة أليس كذلك ؟ و لكن نقلة عظيمة أخرى تنتظره الان ، هذه المرة لابد ان تتم هذه النقلة بعزيمة من عنده و رحمة من ربه . هي النقلة الحضارية بين انسان أمي و آخر يقــرأ باسم ربه ، و لعله لذلك جاءت الآية تذكرنا بأصل خلقه الانسان .

[ خلق الانسان من علق ]

ومن شك في قدرته على ان يسمو الى درجات عالية فلينظر الى نعمة الله كيف خلقه من علقة ، انه قادر على ان يبعثه خلقا آخر بالعلم و الهدى .

[3] تعال نفكر في أبعاد القراءة : كيف علم الله الانسان الكتابة فأخذ ينقل تجاربه من جيل لآخر ، و من أمة لأخرى ، و تراكمت التجارب حتى أضحت اليوم سيلا متدفقا لا تكاد قنواتها العلمية على سعتها تقدر على استيعابها . أرأيت لو لم يعلم الانسان الكتابة هل كـان إلا مثل فصيل من القردة او من الانعام . سبحان الله ! انك ترانا لازلنـا نكفر بنعمة الله ، بل كلما زادت نعم الله على البشر ازدادوا كفرا بها طغيانا ، فمن أجل ألا يصبح العلم سببا للطغيان ، و اداة للظلم و الفساد يذكرنا الرب بانه أنى تقدم البشر في آفاق العلم فعليه ان يشكر ربه ، و يعترف بان الله هو


الأكرم ، لانه علم بالقلم ، و لم يكن الانسان شيئا لو لم يعلمه ربه .

[ إقرأ و ربك الاكرم ]

كما نقول : كل واحمد الله ، او اصبر و ربك الكريم ، او اعط و الله يخلف على المنفقين ، كذلك - فيما يبدو لي - ذكرتنا الآية بان الله هو الأكرم ، فأي صفة حميدة هي منه ، فهو الجواد الذي أعطى الانسان موهبة القلم ، وهو الأعلى الذي لا يتسامى أحد في مدارج العلم و الكمال إلا به .

[4] و من آيات كرمه و حمده انه علم الانسان بسبب القلم فلم يكن القلم سوى وسيلة ، أرأيت لو قررت ان تعلم الجدار هل يتعلم شيئا ؟ أوليس لانه ليس بذي أهل للتعلم ؟ كذلك كلما تقدم الانسان في حقول العلم لا بد ان يزداد لربه تواضعا ، و لا يصبح كفراعنة المال يطغون في الارض و يسعون فيها فسادا .

[ الذي علم بالقلم ]

[5] [ علم الانسان ما لم يعلم ]

و هكذا جاءت النصوص تترى في ضرورة التواضع و الزهد عند العلماء :

فقد جاء في حديث مأثور عن الامام الصادق - عليه السلام - : " تواضعوا لمن تعلمونه العلم ، و تواضعوا لمن طلبتم منه العلم ، و لا تكونوا علماء جبارين ، فيذهب باطلكم بحقكم " (1) .

عن البرقي مرفوعا الى أمير المؤمنين - عليه السلام - قال : " قال عيسى بن مريم - عليه السلام - : يا معشر الحواريين ! لي اليكم حاجة اقضوها لي ، قالوا :


(1) اصول الكافي / ج 1 - ص 36 .


قضيت حاجتك يا روح الله ! فقام فغسل أقدامهم ، فقالوا : كنا نحن أحق بهذا يا روح الله ! فقال : إن أحق الناس بالخدمة العالم ، انما تواضعت هكذا لكيما تتواضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم ، ثم قال عيسى - عليه السلام - بالتواضع تعمر الحكمة لا بالتكبر ، و كذلكفي السهل ينبت الزرع لا في الجبل " (1) .

[6] و مشكلة الانسان انه لا يستوعب نعم الله ، فيطغى بها و يهلك نفسه بذلك و قد يهلك الآخرين معه . أرأيت لو أعطيت قنبلة نووية لمن لا يعرف كيف يتصرف بها فطغى بها ، او يكون في ذلك خير أم شر مستطير ؟

[ كلا ]

ان الانسان ليس بطبعه في مستوى استيعاب هذه الحقيقة و هي ان العلم من عند الله و عليه ألا يطغى به ، او ان المال من عنده سبحانه ، و عليه ان يتصرف فيه كما يريده الله .

[ ان الانسان ليطغى ]

[7] متى يطغى ؟ عندما يحس أنه أصبح غنيا .

[ أن رءاه استغنى ]

أي رأى نفسه قد استغنى ، و في أدب العرب لا يرجع ضميرين متصلين الى مصدر واحد ، فــلا يقال : ضربه ، نضرتني ، بل يقولون : ضرب نفسه و نظرات نفسي ، إلا افعال القلوب التي تتعدى الى مفعولين مثل حسب ، فيقولون : ( حسبتني ) و قال الله تعالى : " أرأيتك " و رأى هنا ليس بمعنى النظر بالعين إذ ان


(1) المصدر / ص 37 .


ذلك من أفعال الجوارح ، بل بمعنى النظر بالقلب .

و سيـاق الآية يهدينا الى ان خطأ علميا ينشأ عن الانسان فيزعم انه قد استغنى ، و يتسع ذلك لاحتمالين :

الأول : ان يرى نفسه مستغنيا بما أوتي من علم فينطبق على علماء السوء كما قال سبحانه : " و لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا و يحبون ان يحمدوا بما لم يفعلـــوا " (1) و ينسجم ذلك ايضا مع قوله سبحانه : " أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى " إذ ان هذا من شأن علماء السوء و انصاف المثقفين ، الذين يتصدون لأمور الدين ، و يأمرون و ينهون بما تشاء أهواؤهم ، و يشير الى هذا التأويل الحديث المأثور عن الامام علي - عليه السلام - انه خرج في يوم عيد ، فرأى أناسا يصلون فقال : " يا أيها الناس !
قد شهدنا نبي الله في مثل هذا اليوم فلم يكن أحد يصلي قبل العيد او قال النبي " فقال رجل : يا أمير المؤمنين ! الا تنهـــي ان يصلوا قبل خروج الامام ؟ فقال : " لا أريد ان أنهى عبدا إذا صلى ، و لكنا نحدثهم بما شهدنا من النبي أو كما قال " (2).

و هكذا لا ينبغي لعلماء الدين ان يفرطوا في الأمر ، و التي فيما لا يتصل بالبدع الظاهرة في الأمة ، فقد ينهون أحدا عن عمل صالح و هم لا يشعرون ، كما يفعل بعض المتصدين للشؤون الدينية اليوم ، يستغلون ثقة الناس فيهم ، و في نهيهم عن التعاون مع المؤمنين اوعن دعم المؤسسات الخيرية لانها ليست تحت سيطرتهم ، او لانهم يخالفون الخط الذي ينتهجه اصحاب تلك المؤسسات .

الثاني : ان يظن انه مستغن بما أوتي من فضل الله ، فيزعم ان المال هو كل شيء(1) ال عمران / 188 .

(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 610 .


في حياته ، فلا يأبه بنواقصه و نقاط ضعفه من الناحية الدينية او العلمية او الخلقية او الاجتماعية ، انما يختصر نفسه في زاوية المال حتى تفسد علاقاته مع أهله و ذوي قرباه ، و يتعامل معهم بروح استبكارية . لماذا ؟ لانه يملك بعض المال . كلا .. ان الثروة واحدةمن فرص الحياة ، فلماذا تضيع سائر أبعاد حياتك لها ، أرأيت لو كنت غنيا لا تأكل أو لا تنام او لا تمارس الجنس . بلى . بلى تفعل كل ذلك لانها فرص حياتك أليس كذلك ؟ فلماذا تسجن نفسك في زنزانة الطغيان ، و تفصلها عن إخوانك و أسرتك و سائر البشر ، و تضيع عن نفسك التمتع بلذة العلم ، و جمال الادب ، و جلال الاخلاق ، و حتى تحرمها من كمالات الدين .

وقد أولت الآية في أبي جهل الذي طغى بماله ، و حاول ان ينهى رسول الله عن صلاته ، و معروف ان أبا جهل واحد من اولئك المترفين ، و ان في كل عصر طاغية يسير على خطاه ، فكم هجمت شرطة الانظمة الفاسدة على مواقع الصلاة ، و كم ذبحوا أبنائها المؤمنين ، و لطخواأروقة الجوامع بدماء الصالحين الزاكية !!

[8] ان تملك مالا او تحوز علما او شرفا حسن ، بل انك خلقت لتعمر الارض ، و تسخر ما فيها لمصلحتك ، ثم تتكامل روحيا عبرها ، و لكن ان تستغني بما تملك و تفرح ، و تنسى نصيبك من الآخرة ، انها نكسة في وجودك ، لانه يحرمك عن خيرات أعدت لك .

و السؤال : كيف يتخلص الانسان من الإحساس بالاستغناء ، أوليس قلب البشر ضيق ، و صدره حرج ، أوليس قد خلق هلوعا : يطير فرحا إذا أمتلك دينارا ، و يمتلئ غيضا إذا فقده !

انما يعيد توازنه إذا تصور الآخرة وما أعد فيها من نعيم لا يقاس بما في الدنيا ، وما أعد فيها من عذاب عظيم ، فآنئذ تتضاءل في عينه الدنيا و ما فيها ، و لذلكأمرنا الاسلام بزيارة المقابر عند هجمة المشاكل ، فمن تصور الموت و أهواله خفت عنه لسعة المشاكل ، أولم يقل الشاعر العربي : و الحرج يسكنه الذي هو آلم .

من هنا ذكرنا الرب هنا بالرجوع الى الله لانه العلاج الأمثل لطغيان النفس .

[ ان الى ربك الرجعى ]

[9] و عاد السياق الى بعض ممارسات الطغاة .

[ أرأيت الذي ينهى ]

تفكر في ذلك فان على الانسان ان يعود الى فطرته ليحكمها في شؤون الناس .

[10] أرأيت كيف يقطع سبيل الخير ، و يصد العبد عن التقرب الى الرب .

[ عبدا إذا صلى ]

ان الصلاة و التعبد و الإبتهال الى الله أبسط حقوق الانسان ، انه كالتنفس ، كالطعام ، كالسكن كيف يتجرأ البعض سلبه من البشر ، حقا .. انها جريمة كبرى . و هي تكشف عن مدى الظلال الذي يبلغه الانسان حينما يستغنى فيطغى .

[11] قد يبرر الذي ينهى العبد عن صلاة ربه فعلته الشنيعة بان هذه الصلاة باطلة بسبب أو آخر ، و لكنه لا يفكر فيما لو كانت صحيحة ، و كان العبد على الهدى فاي جريمة كبرى يكون قد ارتكب .

[ أرأيت إن كان على الهدى ]

[12] كيف و بأي مقياس ترى نفسك - يا من تنهى عباد الله عن صلاتهم - أفضل منهم ، فلعل هذا الذي تنهاه عن صلاته امامك و قائدك ، لانه يتأمركبالتقوى . و أنت تنهاه عن الصلاة ؟!

[ أو أمر بالتقوى ]

[13] بينما يكون من ينهاه مكذبا بالرسالة ، كافرا بها .

[ أرأيت إن كذب و تولى ]

ماهي تكون عاقبته ؟ أليست النار يصليها مذموما مدحورا .

[14] كيف يجعل نفسه مقياسا للحق و الله سبحانه يراه و يحيط علما به و بما يتعلم و بما يخطر بباله من نية سوء ؟ انه قد يخدم الناس و يبرر لهم عمله بانه انما نهي عن الصلاة لانها تضر الناس ، او لانها غير متكاملة او ما أشبه ، الا انه لا يستطيع ان يخفي عن ربه نيته السيئة .

[ ألم يعلم بأن الله يرى ]

[15] و تتواصل آيات الذكر تقرع هولاء الذين يفترون على الله كذبا ، و يستكبرون فـي الارض بغير الحق بان الله سبحانه سيأخذهم بشدة و عنف من نواصيهم .

[ كلا ]

ليس كما يزعم بان الله لا يراه . انه سبحانه يراه ، و يحصي عليه ذنوبه ، فيأخذه ان لم يتب أخذا شديدا .

[ لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ]

قالوا : إذا قبضت على شيء و جذبته جذبا شديدا يسمى سفعا ، و يقال : سفعبناصية فرسه ، و أنشدوا :

قوم إذا كثر الصياح رأيتهم من بين ملجم مهره أو سافعولعل اختيار الناصية لانها واجهة الانسان و أعز ما فيه .

حينمــا تدخل قوة الغيب في معادلة صراع الانسان مع نظيره تتغير المعادلة كليا ، افليس في ذلك ظلم ؟ كلا .. لان الله سبحانه لا يفعل ذلك عبثا ، انما بعد إنذار من عنده و تحد من قبل الفرد .

[ ناصية كاذبة خاطئة ]

كذبت بالحق ، و افترت على الله و أخطأت بالعمد في اختيار طريقه ، و تنسجم هذه الأوصاف مع علماء السوء الذين يصدون عن سبيل الله باسم الدين .

[17] انهم يزعمون ان الأنداد ينفعونهم شيئا فــــي ذلــك اليوم الرهيب كما في الدنيا ... و يتهربون - بهذا الزعم الساذج - من شدة وقع الإنذار . كلا .. دعهم يجمعون كل من يحضر ناديهم ، و لينظروا كيف يدعو الله زبانية العذاب !

[ فليدع ناديه ]

يبدو لي ان استخدام كلمة النادي التي هي اسم لمحل الاجتماع - مكان أهل النادي - للاشارة الى كل أهل النادي ، كما قال سبحانه : " و أسأل القرية " اي كل من في القرية .

[18] [ سندع الزبانية ]

قالوا : العرب تسمى الشرطة بالزبانية ، المأخوذة من كلمة زبن ، بمعنى الدفع ،و أنشدوا :

مطاعيم في القصوى مطاعين في الوغى زبانية غلب عظام حلومهاوفي نزول الآية ورد عن ابن عباس قال : لما أتى أبو جهل رسول الله انتهره رسول الله ، فقال ابو جهل : اتنتهرني يا محمد ! فوالله علمت ما بها أحد أكثر ناديا مني ، فانزل الله سبحانه : فليدع ناديه (1) .

و قد روي عن ابن عباس ايضا انها نزلت في أبي جهل حينما صفع ابن مسعود عندما تلا على قريش سورة الرحمن ، فعاد ابن مسعود الى النبي باكيا ، فنزل جبرئيل يبشر الرسول - صلى الله عليه وآله - بالفتح ، و كان من أمر ابن مسعود انه مر في يوم بدر على أبي جهل ينازعالموت فجلس على صدره ليحز رأسه ، فقال له : لقد جلست مجلسا عاليا ، فنهره ابن مسعود قائلا : الاسلام يعلو و لا يعلى عليه ، فلما قطع رأسه أخذ يجره على الارض من ناصيته ، و هكذا تحققت بشارة جبرئيل ، و تؤولت الآية في الدنيا قبل الآخرة .

[19] وفي ختام السورة ينهى القرآن من طاعة أولئك الطغاة الذين استغنوا بما لديهم من مال او معرفة ، لان طاعتهم عصيان لله ، و قد يكون شركا ظاهرا او خفيا ، و هو - بذلك - يحرم الانسان من التقرب الى الله سبحانه .

[ كلا لا تطعه و اسجد و اقترب ]

و حين يكفر الانسان بطغاة المال و أدعياء العلم بالرغم مما لهم من أغراء و تضليل و إرهاب ، يستعيد استقلاله الذي هو جوهر انسانيته ، و يستعد نفسيا للسجود ، و من خلال السجود للتقرب الى الله .


(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 610 .


و الآية تهدينا : الى ان السجود معراج البشر الى الله ، فاذا سجدت اقتربت الى الله ، بلى . أليس ذات الانسان فقر و عجز و ذلة ، أوليس يتحسس البشر هذه الحقيقة عند السجود ، عندما يضع ناصيته فوق التراب تذللا ؟ و اذا عرف الانسان حقيقة نفسه رفع حجاب الكبر الذي يفصله عن معرفة ربه ، و استشعر بفيض نوره يغمر فؤاده ، من هنا جاء في الأثر المروي عن النبي - صلى الله عليه وآله - " أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجدا " (1) .

و روي عن الامام الرضا - عليه السلام - : " اقرب ما يكون العبد من الله وهو ساجد ، و ذلك قوله : عز وجل : " و اسجد و اقترب " (2) .

و قد اوجب فقهاء الاسلام السجدة عند تلاوة هذه الآية ، و اعتبروا سجدة سورة العلق من العزائم الأربع التي يفرض فيها السجود ، و الثلاثة الأخرى : " الم السجدة " و " فصلت " و " النجم " .

و هكذا روي عن الامام أميــر المؤمنين عليه السلام انه قال : " عزائم السجود أربع : " الم " و " حم تنزيل من الرحمن الرحيم " و " النجم " و " إقرأ باسم ربك " .

اما ذكر السجدة فقد روي ان الامام الصادق عليه السلام يقول في سجدة العزائم : " لا إله إلا الله حقا حقا ، لا إله إلا ايمانا و تصديقا ، لا إله إلا الله عبودية و رقا ، سجدت لك يا رب ! تعبدا و رقا ، لا مستنكفا و لا مستكبرا بل أنا عبد ذليل خائف مستجير ، ثم يرفع رأسه و يكبر " (3) .


(1) المصدر / ص 612 .

(2) المصدر / ص 611 .

(3) المصدر .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس