إذا زلزلت الأرض زلزالها
بينات من الآيات [1] ليست الحياة الأولى التي تملأ أعيننا و قلوبنا بخيرها و شرها ، بأنظمتها و أحداثها و ظواهرها سوى ظلال باهتة ، لذلك الحيوان العريض الواسع و الخالد ، وإنما جيىء بنا اليها لنستعد و لنتزود ، و ما الحياة الدنيا الا متاع الغرور .
و نحن في الدنيا نشهد أهوالا تفزعنا و تكاد تقتلع أفئدتنا ، و منها الزلازل العظيمة التي قد تبتلع في لحظات مدينة كبيرة بناها الانسان عبر قــرون متماديــة ، و إنها - على ذلك - ليست سوى زالزال محدود يضرب ناحية من الارض ، فكيف إذا كان شاملا للارض كلهــا؟! أي منظر رهيب ، أم أي فزع عظيم ، أم أي داهية كبرى يكون ذلك الزلزال !
[ إذا زلزلت الأرض زلزالها ]
و لعل ضمير " ها " العائد الى الارض يوحي بان الزلزال لا يخص منطقة ، و انهيكون كأشد ما يقع في الارض من زالزال .
[2] ماذا يحدث عندئذ ؟ هل تفور النواة المركزية للكرة الارضية بعوامل غير معروفة لدينا فتهتز القشرة الفوقية للارض هزات عنيفة و متتالية ، ثم تقذف فوقها المواد التي احتسبت فيها منذ ملايين السنين ؟ هكذا يبدو من الآيات التي تصرح بان الارض تلقي أثقالها .
[ و أخرجت الارض أثقالها ]
و هكذا قال ربنا سبحانه في آية اخرى : " و ألقت ما فيها و تخلت " (1) .
و قال بعضهم : الأثقال هي كنوز الارض و معادنها ، و قال آخرون بل هي الأموات التي تخرجهم الارض في النفخة الثانية ، فاذا هم قيام ينظرون .
و يبدو ان الكلمة تتسع لكل هذه التطبيقات ، على ان إخراج المواد الكامنة في مركز الارض أقرب الى ما نعرفه من سبب الزلزال ، أليس سببه الغازات الارضية المحتبسة في النواة المركزية . ألا ترى ان بعض الزلازل يكون مــن البراكين التي تخرج المواد الذائبة ؟ و يؤيد ذلك ما جاء في حديث :
" تقيىء الارض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب و الفضة " (2) .
[3] و يبقى الانسان حائرا مدهوشا ! ماذا حدث للارض حتى تزلزت ، و أخرجت ما في أحشائها ، و لماذا وما هي الغاية ؟
[ و قال الانسان ما لها ]
(1) الانشقاق / 4 .
(2) القرطبي / ج 20 - ص 147 .
قال بعضهم : هذا هو الكافر الذي جحد بالآخرة ، فتساءل مع بروز أشراطها عنها و قال : ماذا حدث ؟ و لكن يبدو ان تلك الحوادث المروعة تحمل كل انسان على التساؤل .
[4] ولن يطول التعجب لان الارض تشرع بالإجابة ، مما يشهد بتحول عظيم في عالم الطبيعة ، لا يختص بمظاهرها فقط وإنما يجري على طبائعها ، فكيف تتحدث الارض ، و كيف يلتقط سمع الانسان حديثها ، لولا تغيير كبير يحصل فيها .
[ يومئذ تحدث أخبارها ]
و أول خبر تنطق به الارض و بحوادثها أو بلسانها : ان الساعة قد قامت ، وأن الدنيا قد أدبرت ، و لعل الخبر الثاني لها بيان حكمة الفزع الأكبر الذي يجري على ظهرها ، أما أهم الأخبار فهي شهادتها على أفعال الناس فوق ظهرها ، فقد جاء في حديث مــأثــور عــن رسول الله - صلى الله عليه وآله - انه قرأ هذه السورة فقال : " أتــدرون ما أخبارها ؟ " .
قالوا : الله و رسوله اعلم ، قال : " فان أخبارها ان تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها ، تقول عمل يوم كذا كذا و كذا " قال : " هذه أخبارها " (1) .
وفي حديث آخر : روي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - : " حافظوا على الوضوء و خير أعمالكم الصلاة ، فتحفظوا من الارض فإنها أمكم ، وليس فيها أحد يعمل خيرا او شرا إلا وهي مخبرة به " (2) .
[5] و لعل الارض تحدث الناس بأخبار أخرى ايضا ، اما كيف تتحدث ، هل(1) المصدر / 148 .
(2) تفسير نمونه نقلا عن مجمع البيان / ج 10 ص 526 .
بكلام يخلق فيها ، أم بما ينعكس عليها من آثار أعمال الانسان فتظهر يومئذ كما الشريط الصوتي أو المصور ، أم بان الله يؤتي الانسان ما يلتقط به إشارات الارض ؟ المهم انها تتحدث بإيحاء الله لها .
[ بأن ربك أوحى لها ]
[6] يبدو ان الارض التي انعكست عليها أقوال الناس و أفعالهم منذ أن عاشوا عليها تبدأ بإعادة تمثيلها لهم كما الشريط المصور الذي تنعكس عليه صور الحوادث ، ثم يعرض علينا لنراها من جديد ، و لذلك قال ربنا سبحانه :
[ يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم ]
اننا نعرف كيف تنعكس ذبذبات الصوت على الشريط الكاسيت ، و لكن لا نعرف كيف تنعكس ايضا على ذرات التراب التي تحيط بنا ، و لعل الانسان يتقدم علميا حتى يبلغ هذا السر في يوم ما ، انما علينا الآن ان نبقى حذرين من كل شيء محيط بنا ، فانه يسجل أفعالنا التي تحفظ الى يوم القيامة لنراها ، فأي يوم رهيب ذلك اليوم ، حيث يرى الانسان ما عمله خلال حياته محضرا . ان الانسان قد يرتكب جريمة أو يقترف إثما ، فيلاحقه ضميره بالتأنيب ، فيحاول جهده تناسي الأمر حتى لا يصاب بوخز الضمير فيما بينه و بين نفسه ، فكيف إذا جيء بهعلى رؤوس الأشهاد ، و صورت له أفعاله ! أي خزي يلحق المجرمين في ذلك اليوم ، أم أي عار عظيم ؟ !
قالوا : صدور الناس : نشورهم من قبورهم ، و حركتهم باتجاه محكمة الرب ، و قيل : انه مستوحى من صدور الإبل من الماء ، أما الأشتات فانه يعني متفرقين ، و أعظم ما يفرقهم الايمان و الكفر ، فمن آمن اتخذ سبيلا مختلفا عن الكفار ، كما قالربنا سبحانه : " يومئذ يتفرقون .. " والآية التالية تشهد بهذا المعنى .
و قال بعضهم : بل معنى الأشتات : انهم يصدرون من مقابرهم وهي مبثوثة في أنحاء مختلفة من الارض ، كما انهم مختلفون في المذاهب و النحل ، و يبعث كل أمة منهم بإمامهم .
[7] وليست الاعمال الكبيرة وحدها التي تتجسد ذلك اليوم ، بل حتى أصغر ما يتصوره الانسان من عمل ، من وسوسة الصدر ، حتى لمحة بصر ، و نصف كلمة ، و نفضة من حركة كلها مسجلة .
[ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ]
قالوا : عن الذرة انها النملة او ما يلصق باليد من تراب إذا وضعها على الارض ، فكل حبة ذرة ، او ما يرى في شعاع إذا دخــل من كوة صغيرة ، و نقل نص مأثور يقول : " الذرة لا زنة لها " (1) .
و اليوم حيث عرف البشر الذرة و عرف انها اصغر مما كان يتصوره الأقدمون ، فأاي حساب دقيق ينتظرنا يومئذ ، فما لنا نغفل عما يراد بنا .
[8] وإذا كانت كل ذرة من خير تؤثر في مصيرنا ، فعلينا ان نزداد منها أنى استطعنا ، وإذا كانت كل ذرة من شر نحاسب عليها ، فعلينا ان نتحذر منها .
[ و من يعمل مثقال ذرة شرا يره ]
و لذلك جاء في الحديث المأثور عن الرسول - صلى الله عليه وآله - : " ما من أحد يوم القيامة إلا و يلوم نفسه ، فإن كان محسنا ، فيقول : لم لا ازددت إحسانا ،(1) القرطبي / ج 20 - ص 150 .
و ان كان غير ذلك يقول : لم لا نزعت عن المعاصي " (1) .
بلى . و الانسان يزداد حسرة يوم القيامة إذا رأى من أعماله الصالحة مثقال ذرة قد عمله لغير الله كما الكفار و المنافقون ، هكذا نقرأ في نــص مأثــــور عن الامام الباقر - عليه السلام - في تفسير قوله : " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " قال : " ان كان من أهل النار و قد كان عمل في الدنيا مثقال ذرة خيرا يره يوم القيامة حسرة أنه كان عمله لغير الله " و من يعمل مثقال ذرة شرا يره " يقول : " ان كان من أهل الجنة رأى ذلك الشر يوم القيامة ثم غفر له " (2) .
و جاء في حديث آخر عن الامام الصادق - عليه السلام - قال : " قال رسول الله - صلى الله عليه وآله - : ان العبد ليحبس عن ذنب من ذنوبه مائة عام ، و إنه لينظر الى أزواجه في الجنة يتنعمن " (3) .
حقا .. اذا وعى الانسان هذه الآية من القرآن كفته وعظا و زكاة و طهرا ، لأنه سوف يقيس من أفكاره و أقواله و أعماله كل صغيرة و كبيرة ، و من ضبط صغائره هانت عليه الكبائر ، أوليست الكبائر تبدأ بسلسلة من الصغائر ، أرأيت الذي يزني لا يرتكب الفاحشة إلا بعد ان يوسوس له الشيطان بفكرة الزنا ، فإذا لم يردع نفسه عنها ، فتش عن زانية و سعى اليها ، ثم نظر اليها ، ثم تحدث معها ثم لامس و زنى . إنها خطوات متدرجة ، كل واحدة أنكى من سابقتها ، و هي صغائر تنتهي الى كبيرة ، أو تصبح بمجموعها كبيرة . أليس كذلك ؟
من هنا رأى ابن مسعود هذه الآية أحكم آية في القرآن و روى المطلب بن خطب أن إعرابيا سمع النبي - صلى الله عليه وآله - يقرؤها ، فقال : يا رسول الله !
(1) المصدر / ص 150 .
(2) نور الثقلين / ج 5 ص 651 .
(3) المصدر .
امثقال ذرة ؟ قال : " نعم " فقال الإعرابي : واسوأتاه مرارا ، ثم قام وهو يقولها فقال النبي - صلى الله عليه وآله - " لقد دخل قلب الإعرابي الايمان " (1) .
و روي أن رجلا جاء الى النبي - صلى الله عليه وآله - فقال : علمني مما علمك الله ، فدفعه الى رجل يعلمه ، فعلمه : " إذا زلزلت - حتى إذا بلغ - فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * و من يعمل مثقال ذرة شرا يره " قال : حسبي ، فأخبر النبي - صلى الله عليه وآله - : فقال : " دعوه فإنه قد فقه " (2) .
(1) القرطبي / ج 20 - ص 153 .
(2) المصدر .
|