إن الانسان لربه لكنود
بينات من الآيات [1] لكي نفقــه كرامة المجاهدين على الله ، و عظمة دور خيلهم العاديات في سبيله ، يقسم القرآن بها ، لانها تحمل نور الاسلام الى الآفاق ، و تحمل صفوة عباد الله الذين نذروا أنفسهم في سبيل نشر دعوته .
[ والعاديات ضبحا ]
يبدو أن العدو في الاصل تجاوز الحد ، و يسمى العدو عدوا لأنه يتجاوز الحد في معاملته ، و منه العدوان لأنه تجاوز للحق ، و السرعة القصوى في المشي تسمى عدوا لأنها ايضا تجاوز للحد .
و هكذا قالوا في الخيل سميت العاديات لاشتقاقها من العدو ، و هو تباعد الأرجل في سرعة المشي ، و أنشدوا لصفية بنت عبد المطلب :
فـــلا و العاديــــات غــداة جمــــع بأيديهـــــا اذا سطـــــع الغبـــــاراما الضبح ، فقالوا : انه التنفس بقوة ، و قيل : انه حمحمة الخيل ، و الأقرب عندي : تغير الحال أو تغير اللون ، و يقال : انضبح لونه إذا تغير ، و لعله لذلك يسمى الرماد ضبحا لأنه يتغير لونه من أصله ، وإنما تسمى الخيل ضابحة إذا تغير من العدو حالها مما ظهر على لونها و تنفسها و حمحمة صوتها ، وقد استخدمت الكلمة في الثعلب ، و قيل في الآية : ان الخيل كانت تكعم ( و الكعم شيء يوضع في فم البعير ) لئلا تصهل فيعلم العدو بهم ، فكانت تتنفس في هذه الحالة بقوة و أنشدوا :
و الخيـــل تعلــم حيــن تضبــح فــي حيــاض الموت ضبحــا[2] كانت الخيل تعدو بسرعة ، و لكن من دون صهيل ، و كانت الحركة في الليل - فيما يبدو - حيث تتطاير الشرر من حوافرها التي تحتك بالحصى ، مما يظهر أن الارض كانت وعرة ، فجاء السياق يقسم بها و هي تنساب بين الصخور في رحم الظلام .
[ فالموريات قدحا ]
و الإيراء : الاشعال ، و القدح : ضرب الحجارة ببعضها طلبا للنار .
[3] و تقترب خيل المجاهدين العادية من ارض العدو ، و تنتظر إنبلاج الفجر فتفاجىء العدو بغارتها الخاطفة .
[ فالمغيرات صبحا ]
و هكذا كانت الغارات الناجحة ، فإذا أرادوا العدو ساروا الى أرضه ليلا ، و انتظروا الصباح للبدء بالهجوم ، حيث لا تزال العيون نائمة ، و الأعصاب مخدرة .
[4] و عند الهجوم المباغت تثير الخيل بحوافرها الغبار ، و كلما ازداد الغبار كشف عن شدة المعركة .
[ فأثرن به نقعا ]
و لعل النقع : الغبار الغليظ الذي يشمل الارض ، ذلك لان أصل النقع - كما قيل - الغور في الماء او غور الماء - و لهذا يسمى الماء الراكد بالنقيع ، لانه يغور في الارض أو يغور فيه الغاطس ، قالوا : لذلك سمي الغبار نقيعا فكأنه يغور فيه الانسان .
و تساءلوا عن ضمير " به " أين مرجعه ، فقال البعض : انه يعود الى العدو المفهوم من العاديات ، و قال آخر : بل يعود الى المكان الذي تقع فيه المعركة ، و المفهوم من السياق ، و أظن انه يعود الى قوله " ضبحا " لأنه الأقرب ، وإذا نسب الىالزمان شيء كان أبلغ في معنى الشدة ، كما نقول يوم نحس أو يوم سعيد ، أي كله سعادة أو نحوسة .
بلى . قد أثارت الخيول نقعا جعل الصباح مغبرا .
[5] الغارة القاهرة هي التي تقع مفاجئة ، و صباحا ، و تبلغ أهدافها بسرعة خاطفة ، و هكذا كانت تلك الغارة التي اخترقت قلب العدو .
[ فوسطن به جمعا ]
يقال : وسطت القوم أي صرت في وسطهم ، و الجمع بمعنى : تجمع العدو ، وهو كناية عن قلب جيشهم ، و مركز قوتهم ، و ضمير " به " يعود الى العدو أو الى المكان أو الصباح حسبما سبق في الآية الماضية .
كان ذلك التأويل الأقرب الى ظاهر الآيات ، و هناك تأويل آخر ذكره طائفة من المفسرين ، حيث قالوا : تعني الآيات خيل الحجيج أو ابلهم ، حيث يفيضون الى عرفات ثم مزدلفة فمنى و يكون معنى الإيراء اشعال النيران لطعامهم ، و معنى الجمع : مزدلفة ، أما معنى المغيرات صبحا - حسب التفسير - فهي الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من منى الى جمع ، و السنة إلا تدفع حتى تصبح .
و يبدو ان تأويل الآيات في الحج و مناسكه و مشاعره لا يتنافى مع تأويلها في الجهاد ، أليس الحج جهاد المستضعفين ؟ و يشبه مناسكهم و حركتهم ، و هكذا نجد الرواية التالية المأثورة عن الامام أمير المؤمنين - عليه السلام - تجمع بين التأويلين ، تدبر قليلا فيها :
روي سعيد بن جبير عن ابن عباس انه قال : بينما أنا في الحجر جالس ، اذ أتاني رجل فسأل عن " العاديات ضبحا " فقلت له : الخيل حين تغزو في سبيل الله ، ثم تأوي الى الليل ، فيضعون طعامهم ، و يورون نارهم ، فانفتل عني و ذهب الى علي بن أبي طالب عليه السلام - و هو تحت سقاية زمزم - فسأله عن " العاديات ضبحا " فقال : " سألت عنها أحدا قبلي " قال " نعم ، سألت عنها ابن عباس ، فقال : الخيل حين تغزو في سبيل الله ، قال : " فاذهب فادعه لي " فلما وقف على رأسه قال : " أتفتي الناس بما لا علم لك به ، و الله إن كانت لأول غزوة في الاسلام بدر ، وما كان معنا إلا فرسان : فرس للزبير ، و فرس للمقداد بن الأسود ، فكيف يكون العاديات الخيل ؟ بل العاديات ضبحا الإبل من عرفة الى المزدلفة ، ومن مزدلفة الى منى " قال ابن عباس: فرغبت عن قولي و رجعت الى الذي قاله علي (1) .
و يؤيد الجمع بين التأويلين ما جاء في سبب نزول السورة : أنه كان في سرية(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 656 ، و نجد روايات مشابهة في سائر التفاسير . راجع تفسير القرطبي / ج 20 - ص 155 .
قادها الامام علي - عليه السلام - حيث أخبر جبرئيل - عليه السلام - النبي - صلى الله عليه وآله - : ان أهل وادي اليابس قد اجتمعوا في اثني عشر ألف فارس ، و تعاقدوا و تواثقوا ان لا يتخلف رجل عن رجل . و لا يخذل أحد أحدا حتى يقتلوا محمدا و عليا ، فبعث رسول الله اليهم بسرية يقودها أبو بكر في أربعة آلاف رجل ، فلما رأى بأسهم و بعد ديارهم لم يحاربهم ، فأرسل رسول الله عمرا بالمهمة ، فعاد هو الآخر لذات السبب ، فلما بعث اليهم عليا مشى اليهم من غير الجادة ، و أعنف في السير ، فما أحاط بأرضهم ، أغار عليهم صباحا وهم غافلون ، فلما يعلموا حتى وطأتهم الخيل ، و أقبل بالأسارى و الأموال الى رسول الله فنزلت السورة (1) .
[6] قسما بكل ذلك الايثار العظيم الذي يتجلى في معارك المجاهدين ، قسما بتلك القمم السامقة التي بلغوها بايمانهم و يقين قلوبهم : ان الانسان قد طبع علــى كفــران النعمة ، و لن يتسامى الى أفق الإيثار من دون جهاد نفسه و تزكيتها .
[ إن الانسان لربه لكنود ]
كلما ذكرت كلمة ( الانسان ) اريد بها - فيما يبدو - طبيعة الانسان الأولية قبل التزكية و التعليم ، و قد ذكروا تفسيرات شتى للفظة " لكنود " أبرزها : الكفور ، العاصي ، البخيل ، السيء الملكة ، و قال بعضهم : هو الذي يكفر باليسير ولا يشكر الكثير، و قيل : انه الجاحد للحق ، و أنشدوا :
كنود لنعمــاء الرجــال و مـن يكــن كنــودا لنعمــاء الرجــال يبعــدو يبدو أن الصفات السيئة يتسع بعضها ، مما يجعل المعنى الاصلي للكلمة الدالة على واحدة منها ضائعا فيختلف فيه الناس ، و قد تكون الكلمة موضوعة كشخصية(1) المصدر / ص 652 بتصرف و اختصار ، وراجع ايضا موسوعة بحار الانوار / ج 21 - ص 66 ، و كذلك مجمع البيان / ج 10 - ص 528 .
متصفة بها جميعا ، كما سبق في معنى كلمة " عتل " وإذا قلنا بأن لكلمة ( كنود ) معنى واحدا ، فليكن البخيل الذي يحس دائما بأن حقه أعظم مما أوتي فلا يشكر نعم الله عليه بالانفاق ، و من هنا جاء في الحديث المأثور عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - :
" الكنود هو الذي يأكل وحده ، و يمنع رفده ، و يضرب عبده " (1) .
و قال الشاعر :
دع البخلاء ان شمخوا و صدوا و ذكرى بخل غانية كنودو هكذا يكون معنى " لربه " لفضل ربه و نعمه .
[7] و الكفران و الجحود و البخل و سائر الصفات السيئة التي تجمعها كلمة كنود حقائق يعترف الانسان بوجودها في نفسه ، فعليه مسؤولية تخليص نفسه منها ، ولا يمكنه التملص عن المسؤولية بأنه كان جاهلا :
[ و إنه على ذلك لشهيد ]
أولم يقل ربنا سبحانه في آية أخرى : " بل الانسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره " (2) و قال بعضهم معنى الآية : أن الله على ذلك لشهيد وهو بصير ، لان السياق يحدث عن الانسان فالأولى عودة الضمير اليه .
[8] ولكن لماذا لم يتخلص من كند نفسه ؟ لأنه شديد الحب للخير ، ومن شدة حبه له تراه يبخل به و لا يشكر ربه عليه بانفاقه .
(1) القرطبي / ج 20 - ص 160 .
(2) القيامة / 14 - 15 .
[ وإنه لحب الخير لشديد ]
و حب الخير بذاته فضيلة ، و لكنه يصبح رذيلة إذا اشتد في الانسان ، و طغى على حبه لله و للرسالة ، و فضله الانسان على الآخرة التي هي الخير حقا .
ولكن أي خير هذا الذي يهدده الموت في أية لحظة ، قال الشاعر :
أرى الموت يعتام الكرام و يصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد[9] و لا يتخلص الانسان من حب الدنيا إلا بذكر الآخرة فمن اشتاق الى الجنة سلا عن شهوات الدنيا ، و من اشفق من النار هانت عليه مصيبات الحياة .
[ أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور ]
أي أثير و قلب ، من قولهم : بعثرت المتاع أي جعلت أسفله أعلاه ، و يبدو أن ذلك إشارة الى البعث و النشور ، حيث تثار القبور لاستخراج ما فيها .
[10] هنالك يحشر الناس للحساب ، و تشهد عليها جوارحهم ، و تظهر ما في جوانحهم ، من نكد و حب للدنيا .
[ و حصل ما في الصدور ]
حيث تبلو يومئذ السرائر ، و تسقط الأقنعة ، و يعرف الانسان مدى خسارته للفرصة اذ لم يزك نفسه .
[11] هنالك يعلم الناس يقينا ان الله محيط بهم ، ذلك لأنهم يرون كيف يجازيهم بأفعالهم ، بل و يسأل عن سرائرهم ، و ما اضمروا فيها من خير أو شر ، فيغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء .
[ إن ربهم بهم يومئذ لخبير ]
و يفعل بهم ما يشاء بحكمة ، فلذلك اليوم فليستعد الانسان و ليزك نفسه ، و ينمي فيها الفضائل ، و من أبرزها الجهاد في سبيل الله . وفقنا الله له .
|