و العصر إن الانسان لفي خسر
بينات من الآيات [1] يزعم الانسان انه كلما طال عمره كبر و زاد ، بينما الحقيقة عكس ذلك تماما ، فكلما مضى من عمره شطر اقترب منه أجله ، و تناقص رأسمال حياته ، و نقص ما تبقى منه ، فزيادة المرء - إذا - في دنياه نقصان ، و هو كبائع الثلج في يوم قائض يفقد رأسماله كل لحظة.
هكذا يحلف القرآن بالعصر و يقول :
[ و العصر ]
قال ابن عباس : أنه قسم بالدهر ، و يبدو لي : ان أقرب العصور هو عصر أنت فيه ، و أشرفها عصر الرسالة حيث انبعث النبي به ، و عصر العدالة حين يقوم الحجة القائم به .
و قال بعضهم : انما سمي الزمن بالعصر لانه يعتصر الانسان كما يعصر المرء غسيله ، و ان القسم بالدهر انما كان بلحاظ عصره للانسان ، و أنى كان فان الحلف به يتناسب و الموضوع التالي : أي خسارة الانسان لعمره ، أوليس الزمن هو سبب الخسارة ؟
[2] لو عرف الانسان كيف تتبدل خلايا جسده ، و كيف يستهلك كل يوم الآف الخلايا من مخه ، دون ان يستعيض عنها شيئا ، و كيف تتسارع ما حوله من أشياء في سبيل الفناء ، حتى البيت الذي يسكنه يستهلك بسرعة لا يتصورها .
لو عرف الانسان ان عمره بالقياس الى عمر الارض التي يعيش اليوم عليها ثم ينام في رحمها يكاد لا يكون شيئا مذكورا . انه أقصر من نسيم يهب عليه في يوم قائـض ، و أسرع من سحابة في يوم عاصف ، بل انه كالبرق الخاطف او كخيال عابر .
لو عرف ان كل لحظة من عمره مسؤولية كبيرة ، فاما هي خطوة الى الجنة أو سقطة في النار .
لو عرف ذلك كله لأصلح نفسه . ولما ضيع نفسه . ولما ضيع من عمره شيئا . لانه في خسارة لولا الايمان .
[ إن الانسان لفى خسر ]
يحيط به الخسر كما تحيط بالانسان الدار . و أية خسارة أعظم من ان يفقد كل يوم جزءا من عمره و جزء من رأسماله ، و التالي جزء من ذاته . أليست ذاته ممتدة على أيام حياته ، فاذا مضى يوم فقد انقضى بعض ذاته .
يقول الامام علي عليه السلام :
" من كانت مطيته الليل و النهار يسار به و ان كان واقفا " (1) .
و لذلك يقول الشاعر :
و لــن يلبث العصــران يــوم و ليلة إذا طلبــا ان يدركــا ما تيممــا[3] حينما يعي المؤمن هذه الحقيقة يبادر بالعمل الصالح حتى يستوعب كل لحظة و كل لمحة و كل سعرة حياتية من حياته بما يحول الخسار فلاحا و أملا ، فان أتعبه الكفاح من أجل العيش استراح الى الصلاة ليتزود منها الحيوية ، وإذا أرهق عضلاته الجهد البدني اشغل لسانه بالشكر ، و قلبه بالفكر ، و نفسه بالحب و الشوق الى لقاء ربه ، و قد ترى أعضاءه غارقة في جهد بدني يفلح الارض ، أو يسعى على مناكبها طلبا للرزق ، أو يسخر ما فيها لتوفير العيش و في ذات الوقت تجد قلبه في ذكر الله ، و التدبر في آياته ، و لسانه يلهج بحب الله .
أنه متعدد الأبعاد ، واسع النشاط ، عريض الطموح ، سامي الهمة ؛ لأنه قد وعى حقيقة الزمن ، و تزود بسلاح تحديه عبر العمل الصالح .
[ إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات ]
و لكن تيار الزمن ، و شهوات النفس ، و عادات المجتمع يضغط عليهم باتجاه الغفلة و الكسل ، فكيف يعالج المؤمنون هذه الظاهرة ؟ انما بتكوين بيئة رشيدة تحيط بهم ؟ و لا تدعهم يخلدون الى الراحة و الكسل . أوتدري كيف ؟ بتطبيق التواصي .
[ و تواصوا بالحق و تواصوا بالصبر ]
ان الكبير يوصي الصغير ، و الصغير بدوره يوصي الكبير ، و العالم يوصي الجاهل ،(1) نهج البلاغة / ك 31 - ص 400 .
و الجاهل ايضا يوصي العالم .. و هذا المبدء يتسع لفريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، كما يتسع لواجب الدعوة الى الله ، و تبليغ رسالاته ، و إرشاد الجاهل .. و يتسع للمزيد .
ذلك ان التواصي : و مضة روح ، و إشراقة أمل ، و عتاب لطيف . إنه يصنع جوا ايمانيا يساعدك على ممارسة واجباتك . أنه يوجه حس التوافق الاجتماعي في الإتجاه الصحيح .
و التواصي يكون بالحق و بالصبر ، فما هما ؟
ان معرفة الحق بحاجة الى مساعدة الصالحين فهم يرشدونك اليه ، و يرفعون الغموض الذي يسببه دعايات الضالين . وإذا تناقضت المذاهب ، و اختلفت الآراء ، و تشابهت عليك الأفكار هناك لابد من إرشاد العلماء الصالحين و المؤمنين الواعين و تواصيهم بالحق .
فإذا عرفت الحق ، كان الوقوف الى جانبه و الدفاع عنه و الاستقامة عليه بحاجة الــى صبر عظيم ، يتواصى به المؤمنون حتى لا ينهار بعضهم أمام شدائد الزمن .
|