فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


فليعبدوا رب هذا البيت
بينات من الآيات

[1] هل هما سورتان أم سورة واحدة تفصل بينهما البسملة ، أم البسملة هي الأخرى محذوفـــة ؟ كمــا نقل عــن مصحف أبي ، فيه أقوال مختلفات ، أقربها أنهما - كما في عامة المصاحف - سورتان متقاربتان المحتوى ، وإن جاز - حسب بعض النصوص - الجمع بينهما في الفريضة، فقد روي عن الامام الصادق - عليه السلام - أنه قال : " لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلا الضحى و ألم نشرح ، و ألم تر كيف و لإيلاف قريش " (1) .

ذلك ان ما فعله الله بأصحاب الفيل كان مثلا واضحا لكرامة البيت الحرام عند الله سبحانه ، وأنه قد استجاب فيه لدعوة مجدد بنائه إبراهيم الخليل - عليه السلام - فجعله بيتا آمنا ، و رزق أهله من الثمرات ، وكل ذلك وفر شروط المدنية عنده ، حيث بنت قبيلة قريش حضارتها و إيلافها ، و كانت تمهيدا لحضارة


(1) مجمع البيان / ج 10 - ص 544 .


الاسلام المجيدة ، فقال ربنا سبحانه تعليقا على قصة أصحاب الفيل :

[ لإيلاف قريش ]

قالوا معناه : فعلنا ذلك بأصحاب الفيل لكي يألفوا مكة ، و تتوفر لهم شروط الرحلة الى الشام و اليمن .

و قال البعض : بل الحديث في هذه السورة مستقل مستأنف ، و أن كــان مكمــلا - محتوى و معنى - لما بينه القرآن في السورة السابقة ، و معناه : ان الله وفر الأمن لقريش حتى تتسنى لهم رحلة الشتاء و الصيف .

و هكذا فسروا الإيلاف : بايجاب الألف ، وهو الاجتماع المقرون . بالإلتئام ، و نظيـره الايناس ، و نقل عن الأزهري أنه يشبه الإجارة و الخفارة ، يقال : ألف يؤلف : اذا أجار الخمائل بالخفارة (1) حيث أن الله وفر لقريش فرصة التجارة ، بما كانت لهم من علاقاتحسنة مع سائر العرب ، و بما كانت لهم من هيبة في نفوس التاس باعتبارهم في جوار بيت الله .

و أنى كان أصل معنى الايلاف فان اللفظ يشير الى معنى المدنية و الحضارة ، لأن كلمة المدنية مشتقة من المدينة ، و الإيلاف بدوره يوحي بالتواجد في مكان واحد ، أما الحضارة فهي مشتقة من حضور الناس عند بعضهم ، بينما الإيلاف يدل على الحضور و التآلف ، و معروفأن التآلف أهم من مجرد الحضور ، و قد جعله الله سبحانه نعمة كبرى حين قال سبحانه : " و ألف بين قلوبهم لو انفقت ما في الارض جميعا ما ألف بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم " (2) .


(1) القرطبي / ج 20 - ص 204 .

(2) الانفال / 63 .


و قريش كانت القبيلة العربية التي ظهرت فيها بوادر المدنية باستقرارها في منطقة استراتيجية ، و أمنها ، و اشتغالها بالتجارة التي هي اكثر من مجرد علاقات اقتصادية ، لأنها توفر ايضا فرصة التواصل الثقافي .

و لا ريب ان كل هذه الفرص لم تتوفر لقريش إلا بفضل ما بقيت لديهم من آثار الوحي ، ومن تراث الحنفية الإبراهيمية ، وحسب النصوص الشرعية : كان النبي - صلى الله عليه وآله - من سلالة طاهرة موحدة ، لم تدنسها الجاهلية بشركها و فسوقها .

و كلمة قريش : جاءت من القرش بمعنى المال ، باعتبارهم كانوا تجارا ، و التقريش بمعنى الاكتساب ، و قيل : بل جذر الكلمة من الاجتماع ، حيث يقال تقرشوا : أي اجتمعوا ، و انما سموا بذلك حينما جمع قصي بن كلاب سائر قريش في الحرم و أنشدوا بعضهم :

أبونا قصي كان يدعى تجمعا به جمــع اللــه القبائــل مـن فهــرو يقال : ان الكلمة مأخوذة من سمك القرش ، لانه الأعظم بين أحياء البحر ، و قريش كانت الأعظم بين أحياء العرب .

و أنى كان الاسم و مصدره فان القبائل التي كانت تنتمي الى النضر بن كنانة بن خزيمة كانت تسمى بهذا الاسم .

و قد ذكر بعضهم قصة تعكس بداية اهتمام هذه القبيلة بأمر التجارة في عهد عمرو بن عبد مناف (1) وهي تدل على ان ذلك كان بسبب مجاعة اصابتهم ، كما ان تلك المجاعة دعتهم الى تنظيم علاقاتهم الاجتماعية بصورة أفضل ، حتى قال(1) القرطبي / ج 20 ، ص 204 - 205 .


شاعرهم في صفة التواسي بينهم :

و الخالطــون فقيــرهم بغنيهـــم حتــى يصيــر فقيــرهـم كالكـافـــي[2] [ إيلافهم رحلة الشتاء و الصيف ]

أي ألفوا هذه الرحلة بفعل الله و فضله ، و كانوا يرحلون في الشتاء الى اليمن لانها بلاد دافئة ، بينما يتجهون صيفا الى الشام لمناخها المعتدل .

و قال بعضهم : بل كانوا يشتون بمكة ، و يصيفون بالطائف و أنشدوا :

تشتـــي بمكـــة نعمـــة و مصيفهــــا بالطــائـــفو سواءا كانت التشتي و الاصطياف بهذه الارض او تلك او بهدف التجارة او المتعة ، فان ذلك يعكس مستوى رفيعا من المدنية و الغنى ، أليس الانسان كلما تحضر أكثر كلما بحث عن وسائل الراحة ، حتى ولو اقتضى الأمر الارتحال من بلد لآخر ؟

[3] ما الذي جعلهم في أمن و غنى ، أليس جوارهم لبيت الله ؟ فلماذا الشرك به و التمرد على رسالاته ؟ ! وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ ! واي انتكاسة كبيرة في فطرة الانسان تلك التي تجعل جزاء الإحسان كفرا و عصيانا ؟!

[ فليعبدوا رب هذا البيت ]

فلأجل شكر نعمة إيلاف الله رحلة الشتاء و الصيف لقريش عليهم ان يعبدوا رب هذا البيت ، الذي كان محور إيلافهم و وحدتهم و حضارتهم ، و كما تفاعل المجتمع مع محور تقدمه و حضارته ، ومع أسباب رفاهه و غناه كلما كان ذلك سببالدوام نعم الله عليه و زيادتها و تناميها .

[4] بسبب الإيلاف الذي كان بدوره نابعا من جوار البيت الحرام ، وفر الله لقريش أهم نعمتين : الغنى و الأمن بالرغم من تواجدهم في بلاد قاحلة ، لا زرع فيها ولا ضرع ، بلاد قاسية دعت أهلها المعدودين الى الصراع مــــن أجل البقاء ، فكانوا في حروب لا تنتهي ،شعارهم الخوف ، و دثارهم السيف . في هذه البيئة القاسية الفقيرة الخطيرة وفر الله لقريش الطعام و الأمن . ألا يدعوهم ذلك الى الشكر و الطاعة ؟

[ الذي أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف ]

ان قريشا نسبت ان كل ذلك كان بفضل آثار الرسالة الإبراهيمية التي تجلت في دعاء مجدد بناء الكعبة المشرفة ، الذي جار الى الله قائلا : " قال ابراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا و اجنبني و بني أن نعبد الاصنام " (1) .

لكنهم أخطؤوا في تفسير هذه الظاهرة الفريدة في محيط الجزيرة العربية الذي كانت القبيلة في دوامة من الحروب الدامية ، و الأزمات الاقتصادية الخانقة ، و كان خطأ قريش في تفسير ذلك حائلا إذ جعلهم يواجهون رسالة الاسلام ، مما أزال سيادتهم على الجزيرة ، و سلبمنهم شرف سدانتهم للحرم ، و فتح الله مكة لنبيه الكريم محمد - صلى الله عليه وآله - و جعلهم الطلقاء بعد ان كانوا سادة العرب !

و يبدو ان هذه السورة الكريمة وفرت فرصة ذهبية لقريش لكي تصحح نظرتها الى نفسها ، حتى لا تفتخر بما تملك من متعة و غنى ، و لا تتخذها وسيلة للطغيان و العصيان ، و نشر الفساد في الارض ، و الاستكبار على الناس . و لكن قريشا لم(1) ابراهيم / 35 .


تنتفع بذلك لا في عهد هبوط الآية ولا بعدئذ ، حيث انها كادت لرسول الله ، و حاربت رسالته ، فلما نصره الله عليهم دخلوا في الاسلام و قلوبهم مليئة بأحقاد الجاهلية ، ثم انضووا تحت راية الحزب الأموي الحاقد على الاسلام ، و انتقموا من آل الرسول ، و قال شاعرهم يزيد بن معاوية بعد قتله للامام الحسين عليه السلام :

لعبـــت هــاشــم بالملــك فـــلا خبــر جـــاء و لا وحـــــي نـــــــزللست مــن خنــدف ان لم انتقــم مــن بنــي هاشــم ما كــان فعــلو هكذا أذلهم الله و جعلهم عبرة لكل معتبر .

و اليوم إذا استمرت العرب تفتخر بثرواتها و بأمجادها بعيدة عن رسالات الله فان مصيرها لن يكون أفضل من عاقبة قريش و حزبه الأموي ، أما إذا اعتزو بالاسلام فان الله يرفع شأنهم ، و يعيدهم الى شرفهم الأسمى ، و مجدهم التليد .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس