فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


إنا أعطيناك الكوثر
بينات من الآيات

[1] لقد حبى الله و رسوله الكوثر ، ذلك الخير العظيم الذي جعله رحمه مهداة الى العالمين ، و وسيلة بركات الله على المؤمنين .

[ إنا أعطيناك الكوثر ]

قالوا : ان الكوثر مشتق من الكثير ، على صيغة فوعل ، كما لفظة النوفل المشتقة من النفل ، و الجوهر المشتقة من الجهر ، و هكذا عبرت العرب عن كل شيء كثير من الكمية ، عظيم في النوعية بالكوثر .

قالوا في تأويل كلمة الكوثر أقوالا شتى يجمعها القول : بان الله قد حبى نبيه خيرا كثيرا يتسع لكل حقول الخير ، ولكل أبعاد حياته ، من الرسالة المباركة ، الى الذرية الطاهرة ، الى الامة الشاهدة ، الى الذكر الحسن ، الى الشفاعة عند الله ، والىالحوض الذي يستقبل ضيوف الرحمن قبل دخولهم الجنة .

بيد ان أعظم تأويلات الكوثر هو الكتاب و العترة ، لأنهما الثقلان اللذان خلفهما الرسول من بعده لامته ، و أمرهم بالتمسك بهما ، و أضاف : " إنهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض " .

و هكذا يكون حوض الكوثر في الجنة او على مداخلها تجسيدا للكوثر في الدنيا المتمثل بالكتاب و العترة .

و يتناسب هذا التفسير مع سياق السورة حيث تنعت شانىء الرسول بأنه الأبتر ، و مفهومه ان الرسول تمتد عترته و ذريته من بعده ، بعكس العاص بن وائل السهمي الذي قيل ان السورة نزلت بعد ان قال عن الرسول أنه أبتر .

و هكذا جاء في سبب نزول السورة : ان رسول الله - صلى الله عليه وآله - دخل من باب الصفا ، و خرج من باب المروة فاستقبله العاص بن وائل السهمي ، فرجع العاص الى قريش ، فقالت له قريش : من استقبلك يا أبا عمرو آنفا ؟ قال ذلك الأبتر ، يريد به النبي - صلى الله عليه وآله - حتى أنزل الله هذه السورة (1) .

و نجد في النصوص التي تفسر هذه الكلمة إشارة الى أهل بيت النبي ، و كيف يذاد عن حوض الكوثر من ظلمهم من بعده .

فقد أخرج ابن مردويه عن أنس قال : دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : قد أعطيت الكوثر " فقلت : يا رسول الله ! ما الكوثر ؟ قال : " نهر في الجنة عرضه و طوله ما بين المشرق و المغرب ، لا يشرب منه أحد فيظمأ ، ولا يتوضأ منه أحد فينشعث أبدا ، لا يشرب منه من أخفر


(1) الدر المنشور / ج 6 - ص 401 .


ذمتي ، ولا من قتل أهل بيتي " (1)

و من هنا ذكر الفخر الرازي هذا القول و أيده ببعض الشواهد . فقال : القول الثالث : الكوثر أولاده ، لان هذه السورة إنما نزلت على من عابه - عليه السلام - بعدم الأولاد ، فالمعنى : انه يعطيه نسلا يبقون على مر الزمان ، فانظر كم قتل من أهل البيت ثم العالمممتلىء منهم ، ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به ، ثم أنظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر و الصادق و الكاظم و الرضا - عليهم السلام - و النفس الزكية و أمثالهم (2) .

و يبقى سؤال : هل الكوثر في القيامة حوض كبير في مدخل الجنة أم نهر كريم في عرصاتها ؟

لعل الكوثر نهر يفيض خيره الى مداخل الجنة و يصب في حوض عظيم .

دعنا - في خاتمة الحديث عن الكوثر - نذكر بعض الأحاديث في صفة ذلك النهر و الحوض .

جاء في حديث مسند الى ابن عباس انه قال : لما نزل على رسول الله : " إنا أعطيناك الكوثر " قال له علي بن أبي طالب : " ماهو الكوثر يا رسول الله ؟ "" قال نهر أكرمني الله به " قال علي : " ان هذا النهر شريف فانعته لنا يا رسول الله ؟ " قال : " نعم يا علي ؟ الكوثر نهر يجري تحت العرش ، ماؤه أشد بياضا من اللبن و أحلى من العسل ، و ألين من الزبد ، حصاه الزبرجد و الياقوت و المرجان ، حشيشه الزعفران ، ترابه المسك الاذفر ، قواعده تحت عرش الله(1) المصدر / ص 402 .

(2) التفسير الكبير / ج 32 - ص 124 .


عز وجل " ثم ضرب رسول الله على جنب أمير المؤمنين و قال : " يا علي ! هذا النهر لي و لك و لمحبيك من بعدي " (1) .

و اورد مسلم في صحيحه عن أنس انه قال : بينا رسول الله ذات يوم بين أظهرنا إذا أغفـى أغفاة ، ثم رفع رأسه مبستما ، فقلت : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : " أنزلت علي آنفا سورة " فقرأ سورة الكوثر ، ثم قال : " أتدرون ما الكوثر ؟ " قلنا : الله و رسوله أعلم ، قال : " فانه نهر وعدنيه ربي ، عليه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يـــوم القيامة ، آنيته عدد نجوم السماء ، فيختلج القرن منهم فأقول : يا رب ! أمتي ، فيقال : انك لا تدري ما احدثوا بعدك " (2) .

[2] لا يبلغ العبد كمال الانتفاع بنعم ربه إلا بمعرفة الله . و التقرب اليه زلفـــى . أرأيت الذي أسبغ الله عليه نعمة الأمن و العافية و الغنى ، و لكنه يجحد ربه كيف يفسد تلك النعم بكفرانها ؟! فيستغل الأمن في إشاعة الفساد ، و العافية في اتباع الشهوات ،و الغنى في الطغيان ! كما يفسد النعم بالحرص و الطمع و القلق و القنوط و سوء الخلق .

و أعظم نعم الله على الانسان الرسالة لانها تهديه الى سبل السلام و تعينه في تسخير الحياة ، و ترشده الى العيش الافضل ، و لكن الرسالة بدورها لا يحتملها إلا من عرف الله ، و شكره عليها بالعمل و الاداء .

و الصلاة و الزكاة هما عمودا الرسالة الإلهية ، لان الصلاة توصل الانسان بنور ربه ، و الزكاة تطهر قلبه من الشح و الإستئثار و عبادة الدنيا .. و هكذا أمر الله بهما بعد بيان نعمة الكوثر ، فقال :


(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 683 .

(2) المصدر / ص 681 .


[ فصل لربك و انحر ]

فكلما ازداد الانسان يقينا بربه - عبر الصلاة و الزكاة - كلما ازداد هدى و فوزا و انتفاعا بنعم الله و بالذات بنعمة الكوثر ، التي هي كتاب الله و عترة رسول الله .

و أنى كانت الصلاة : صلاة العيد في اليوم العاشر من ذي الحجة ، او صلاة الصبــح في المزدلفة ، او كل صلاة فريضة ، فانها بالتالي الشكر المناسب لنعمة الكوثر .

و كذلك النحر سواء كان الأضحية في يوم العيد بمنى او أية أضحية و أي نسك ، فإنه يقوم بدوره في تطهير القلب .

وقد اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية كما في الآية السابقة على أقوال شتى ، يمكن جمعها في معنى عام واحد ، بيناه آنفا .

بيد ان هناك نصوصا تصرح بان النحر هنا رفع الأيدي باتجاه القبلة عند الصلاة .. اليك بعضها .

جاء عن الامام الصادق - عليه السلام - أنه سئل عن الآية : فقال بيده هكذا ، يعني استقبل بيده حذاء و جهة القبلة في افتتاح الصلاة (1) .

و أخرج البيهقي في سننه و غيره عن علي ابن أبي طالب - عليه السلام - قال : " لما نزلت هذه السورة على النبي - صلى الله عليه وآله - " إنا أعطيناك الكوثر " قال النبي لجبرئيل : ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي ؟ قال أنها ليست(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 683 .


بنحيرة ، و لكن يأمرك إذا تحرمت للصلاة ان ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع ، فانها صلاتنا و صلاة الملائكة الذين هم في السموات السبع ، و ان لكل شيء زينة و زينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة " (1) .

و اني لم أصل الى معنى جامع يستوعب هذا التفسير و التفسير السابق الذي ورد بعض النصوص تؤكده ايضا ، بلى . قد نقول : ان رفع اليد علامة الاستعداد للتضحية بالنفس كأن الانسان يشير الى نحره ، و انه يقدمه قربانا لربه ، بينما نحر البدن في منى هو المعنى الحقيقي للكلمة .

و أنى كان فقد روي عن سعيد بن جبير انه قال : كانت هذه الآية يوم الحديبية ، عندما صالح النبي قريشا ، أتاه جبرئيل فقال : انحر و ارجع (2) .

و جاء في حديث مأثور عن الامام الباقر - عليه السلام - ان معنى النحر الاستعداد في القيام قال : " النحر الاعتدال في القيام ، ان يقيم صلبه و نحره " (3) .

والى هذا ذهب طائفة من المفسرين حيث قالوا : " انحر " : بمعنى ابدأ النحر ، و لا يبدأ النحر إلا عند الاعتدال ، و قالوا ان منه التناحر بمعنى التقابل ، و لكن يبدو ان المعنى الأول ينسجم مع ظاهرة قرآنية : فلا يذكر الصلاة إلا مقرونة بالزكاة أو الانفاق .

[3] من إعجاز القرآن أنه بشر رسوله بالكوثر ، يوم كانت عصابات قريش تحاصره ، و تعذب أنصاره ، و تكاد تقضي عليه ، و اليوم أصبح دين الاسلام ظاهرا في(1) الدر المنشور / ج 6 - ص 403 .

(2) المصدر .

(3) نور الثقلين / ج 5 - ص 684 .


الارض ، و الرسول أعظم شخصية عبر العصور وفي كل الآفاق .. بينما انقطع نسل شانئيه ، و أصبحوا أحاديث و عبر ، كما قال ربنا سبحانه .

[ان شانئك هو الأبتر ]

لقد قطع ذكره إلا باللعنة و البراءة .

سواء كان هذا الشانىء هو العاص بن وائل أو أبو جهل او عقبة بن أبي معيط او غيرهم ، و سواء كانت مناسبة حديثهم عن الرسول بموت القاسم ابن رسول الله في مكة ، او إبراهيم ابنه في المدينة فإن الأمــر لا يختلف ، إذ ان ذلك الخط الجاهلي قد إنقطع و انبتر ، و بقي خط النبي يضيء عبر العصور .

و الشانىء : هو العدو الحاقد ، و الأبتر : من البتر بمعنى القطع ، و كانت العرب تسمي الذي لا ولد له بالأبتر ، و قيل : اتهم النبي بهذه الصفة لانه تركهم و انبتر عنهم و خالفهم ، و لكنهم هم الذين انبتروا و أصبحوا شذاذا .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس