فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


تحرم ما أحل الله لك
ات من الآيات

[1] قالوا : ان رسول الله كان في بيت حفصة في يومها ، و عادت و كانت مارية القبطية تخدمه ، فذهبت حفصة في حاجة لها ، فتناول رسول الله - صلى الله عليه وآله - ماريـة فعلمــت حفصة بذلك فغضبت و أقبلت على رسول الله - صلى الله عليه وآله - فقالت : يا رسول الله هذا في يومي ، و في داري ، و على فراشي ؟!! فاستحى رسول الله - صلى الله عليه وآله - منها فقال : " كفى فقد حرمت مارية على نفسي ، و لا أطأها بعد هــذا أبـدا " (1) ، و على رواية الامام الصادق - عليه السلام - انه قال : " والله ما أقربها " (2) ، و تكشف لنا هذه الحادثة التي ذكرها الرواة عن جانب من حيـاة الرسول مع زوجاتــه ببيـان حقائــق ثــلاث :

الاولى : ما عليه الرسول - صلى الله عليه وآله - من عظيم الاخلاق ، اذ(1) تفسير القمي / ج 2 عند الاية .

(2) المصدر .


كان يتنازل عن حقوقه الشخصية شريطة الا تتعارض من الناحية الشرعية مع حقوق الآخرين ، مع ما في ذلك من الحرمان و المشقة ليعيش الاخرون في راحة ، فهو بأبي و نفسي كما وصف امير المؤمنين - عليه السلام - : " نفسه منه في عناء ، و الناس منه في راحة ، اتعب نفسه لآخرته ، و اراح الناس من نفسه " (1) ، و ذلك مما يليق بمقام النبوة ؟

الثانية : ان بعض زوجات النبي - و بالذات المعنيتين بمطلع سورة التحريم - كن يمارسن ضغوطا عليه لاغراض لا مبرر لها ، بل تتعارض الاستجابة لها عمليا مع احكام الدين فتصير الحلال حراما .

الثالثة : و هكذا كان الرسول وحده الاسوة للمؤمنين ، اما من حوله فليسوا موضع تأسي الا بمقدار تجسيدهم للحق في حياتهم و اقتدائهم بشخص الرسول ، و هكذا بالنسبة الى كل رسول و كل قائد رسالي انه وحده المقياس اما من حوله فقد يكونون أبعد الناس عن مثاله و منهجه ، اليس ابن نوح كان من الهالكين ؟ اوليست زوجة نوح و زوجة لوط دخلتا النار مع الداخلين ؟ و هكذا ينبغي ان ندرس التاريخ في ضوء هذه الآية من جديد .

اما كيف تدخل الوحي في حادث التحريم و عالجه ؟ فهذا ما يجيب عنه السياق حيث يؤكد على ان تحريم النبي لما قد حرمه على نفسه ( مقاربة مارية ، او لعق العسل ، او مقاربة كل نسائه ) مما هو حلال في الاصل لم يكن تشريعا الهيا تنزل به الوحي ليكون حكما جاريا انماهو مبادرة شخصية في حدود الحقوق الشرعية اختارها النبي لنفسه ، لحكمة بالغة تمثلت في ابتغاء مرضاة الازواج ، و لهذا جاء الخطاب بقوله تعالى :


(1) نهج / خ 193 - ص 306 .


[ يا أيها النبي ]

و ربما لم يخاطبه الجليل بصفته رسولا يبلغ احكام الله و رسالته بل بصفته نبيا لكي لا يعد ايلاؤه جزء من الرسالة .

[ لم تحرم ما احل الله لك ]

ان التحريم هنا بمعنى الامتناع و ليس بمعنى التشريع ، قال الله تعالى في شأن موسى - عليه السلام - : " و حرمنا عليه المراضع من قبل " (1) ، و لو كان الرسول بتحريمه مشرعا لجاء التعبير ( لا تحرم ) بالنهي ، لانه لا مشرع الا الله و لا يجوز لاحد مهما كان ان يشرع من دونه .

فعن زرارة عن ابي جعفر - عليه السلام - قال : سألته عن رجل قال لامرأته : انت علي حرام ، فقال لي " لو كان لي عليه سلطان لاوجعت رأسه و قلت له : الله احلها لك فما حرمها عليك ؟ انه لم يزد على ان كذب فزعم ان ما احل الله له حرام ، و لا يدخل عليه طلاقولا كفارة " (2) و لم يحرم مشرعا الرسول ، انما امتنع عن مقاربة مارية القبطية لغاية هي ارضاء زوجاته اللاتي اثارتهن الغيرة .

[ تبتغي مرضات ازواجك ]

و في الآية تحذير للرسول و لكل قائد ان لا يتأثر باحد ولو كان اقرب الناس اليه ، لان الضغوط التي يوجهها المقربون للقيادة ليس بالضرورة اتية من دوافع داخلية و ان كانت تتلبس بهذا الثوب ، انما تنتقل عادة الى بيت القائد من ابعد نقطة ، و لكن عبر حلقات متواصلة حتى تبلغ القائد ، و بالخصوص في هذا العصر الذي(1) القصص / 12 .

(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 368 نقلا عن الكافي .


تستهدف الدوائر الاستكبارية فيه محاربته و القضاء على الدين ، فليس من شك ان اجهزة المخابرات و شبكات الاحزاب الفاسدة كالشيوعية و الصهيونية و فروعها المبثوثة في أوساط الأمة كلها تسعى للتاثير على القيادات الدينية عبر وسائط عديدة ، و انها قد تؤثر حتى في مواقف بعض القيادات و ارائها و فتاويها ، فكيف ينبغي ان يتعامل القائد مع مجاميع الضغط هذه فينفي تأثيراتها السلبية ؟ ان للقائد صفتين : انسانية و قيادية ، و عليه ان يحافظ على توازن حكيم ، ففي الوقت الذي يتعامل مع زوجته و اولاده و ذوي قرباه بصفته الانسانية وبكامل عواطفه و احاسيسه عليه الا يسمح لذوي النفوذ ان يؤثروا عليه من خلالها على مركزه القيادي ، و هذا ما يشير اليه القرآن في آية التحريم .

[ و الله غفور رحيم ]

و ينبغي للقائد ان يتحلى بهاتين الصفتين ايضا ، ففي الوقت الذي لا يتأثر بضغوط الزوجات لا ينال اذاهن من حلمه وسعة صدره بل يغفر لهن و يرحمهن تخلقا بصفات الله و طمعا في غفرانه و رحمته .

[2] و من مظاهر غفرانه و رحمته عز وجل ان جعل للمؤمنين مخرجا يتحللون به من اليمين و آثاره المادية و المعنوية بالكفارة ، و لو كان الله يجعل تحريم الانسان على نفسه تشريعا لوقع الكثير من الناس في العسر و لتفككت الكثير من الاسر ، حيث تدعوهم الضغوط و حالات الغضب الى التحريم باليمين في احيان كثيرة .

[ قد فرض الله لكم تحلة ايمانكم ]

قال الامام ابو جعفر - عليه السلام - : " انما حرم عليه الجارية مارية و حلف ان لا يقربها ، فانما جعل عليه الكفارة في الحلف و لم يجعل عليه في لتحريم " (1) ، و هذا واضح في الآية " تحلة ايمانكم " ، فلو قال احد فلانة علي حرام دون يمين فلا هي تحرم عليه و لا تجب عليه الكفارة بخرقه لكلامه و قراره ، بل لا يكون ايلاء الا باليمين و لمدة اربعة اشهر ، فعن ابي جعفر (ع) قال : " لا يكون ايلاء حتى يحلف على اكثر من اربعة اشهر " (2) اي بهذين الشرطين ، و الذي يظهر من النصوص ان ما كانمن رسول الله تحريم بيمين و ليس ايلاء ، لان مارية جارية لا ايلاء فيها ، فعن ابي نصر عن الامام الرضا (ع) قال : سألته عن الرجل يولي من امته ، فقال : " لا . كيف يولي و ليس لها طلاق " (3) الا ان يكون النبي - صلى الله عليه وآله - كما قال بعض المفسرين قد حلف بان لا يقارب ازواجه جميعا بعد تحذير الله له من تحريم ما احل له ابتغاء مرضاتهم ، و الله اعلم .

و لكي يتحلل الرجل من الايمان بالايلاء او مجردة فرض الله كفارة كمخرج و كعقوبة حتـــى لا يعــود لها مرة اخرى ، و هي في صالحه ، و هذا يدل عليه قوله سبحانه " لكم " بالرغم من ان البعض يراها كلفة و غرامة لله عليه ، فهي تزكي النفس ، و توقف الغضب عند حده . و كفارة نقض اليمين واجبة فرضها الله ، الا ان العود الى ما كان قد حرمه بها ليس متعلقا بادائها ، فلا تتكرر الكفارة بتكرار العود قبل ادائها كما هو في الظهار ، انما تجب مرة واحدة لكل يمين ، و مقدارها اطعام عشرة مساكين ، فعن ابي حمزة الثمالي قال : سـألت ابا عبد الله - عليه السلام - عمن قال : و الله ثم لم يف ، فقال : " كفارته إطعام عشرة مساكين " (4) .

و يأتي هذا الفرض من موقع الولاية الالهية على المؤمنين .


(1) المصدر .

(2) الوسائل / ج 15 - ص 538 .

(3) المصدر / ص 539 .

(4) المصدر / ص 571 .


[ و الله مولاكم ]

فالذي يفرضه هو الواجب ، و لا يجوز للمؤمنين ان يأخذوا تشريعاتهم من مصدر سواه ، لانه حيث يشرع اهل لذلك ، لاحاطته علما بكل شيء ، و لانه لا يضع حكما الا لحكمة بالغة .

[ وهو العليم الحكيم ]

و ايمان الانسان بهاتين الصفتين لله يبعث فيه روح التسليم و الرضى بكل ما يفرضه عليه حيث يشعر بفطرته و عقله انه يتلقى تشريعاته من لدن عليم حكيم ، بل ان ذلك يجعله لا يؤمن الا بما يتنزل من عنده ، اما ما يضعه البشر من النظم و الاحكام فانها لا تدعوا الىالاطمئنان بها ، لان واضعها محدود العلم و الحكمة .

[3] و يكشف لنا الوحي بعد الكلام عن حادث التحريم الذي جاء نتيجة ضغوط بعض ازواج النبي عن صورة اخرى سلبية من تعاملهن معه - صلى الله عليه وآله - حيث يفشين اسراره الى الاخرين . الامر الذي ينطوي على خيانتين : خيانة له كزوج فالزوجة المخلصة يجب ان تكون مستودع سر زوجها و لا يليق بها اشاعته لاحد مهما كان قرابته و مكانته ، و خيانة له كنبي و قائد للامة .

[ و اذ أسر النبي الى بعض أزواجه حديثا ]

قيل انه تحريم مارية على نفسه ، و قيل انه تحدث عن التيارات السياسية و الاجتماعية التي كانت في الامة ، و عن مستقبل السلطة السياسية فيها ، وهو الاقرب و الأهم ، لان تحريم مارية لم يكن في الخفاء ، و لا يحتاج الكلام عن افشاء هكذا حديث الى التأكيد على مظاهرة الله و الملائكة و صالح المؤمنين للنبي . و في مجمع البيان قال العلامة الطبرسي ( رض ) : و لما حرم مارية القبطية اخبر حفصة انهيملك من بعده ابو بكر و عمر (1) .

[ فلما نبأت به ]

قيل ان كلا من حفصة و عائشة اخبرتا ابواهما بالامر ، اما بسبب العلاقات العاطفية المتينة بين البنت و ابيها ، او لحب التظاهر بالحضوة عند الرسول ، و هذان من اوسع الابواب التي تخرج منها اسرار الانسان الى الآخرين . و اذا كان الانباء باسرار النبي يتم بعيدا عـن سمعه و نظره فانه لن يكون بعيدا عن رقابة الله الذي اخبر رسوله بالأمر .

[ و أظهره الله عليه ]

اي كشف له ان هذه الزوجة لم تصن سره .

[ عرف بعضه و أعرض عن بعض ]

مما يفصح عن معدن الرسول - صلى الله عليه وآله - حيث الاخلاق و الحكمة ، فهو لم يعاتبها على كل شيء بل اظهر جانبا من امرها و كانه يجهل الجوانب الاخرى ، و لعل ما اعرض عن ذكره كان يتسبب لو ذكره في حرج عظيم لها ، و اثار سلبية لا تحمد عقباها ، و ذلك غايةفي الحكمة لكل زوج في اسرته ، و لكل قائد تجاه امته .

[ فلما نبأها به قالت من انبأك هذا ]

و لعلها حينئذ كانت مرتابة في ان من اطلعته على السر هو الذي اخبر النبي - صلى الله عليه وآله - و غاب عن بالها و ايمانها انه متصل بالوحي و مؤيد من عند(1) مجمع البيان / ج 10 عند الاية .


الله سبحانه ، فاجابها - صلى الله عليه وآله - :

[ قال نبأني العليم الخبير ]

الذي يحيط بكل شيء . و موقف الرسول - صلى الله عليه وآله - تجاه زوجته التي اذاعت سره ينبغي ان يدرسه كل زوج قائد ، و يتخذه منهجا في امثال تلك المواقف و ظروفها .

[4] و يؤكد القرآن ان ما حدث من اثنتين من نسائه كان زيغا عن الحق و ميلا الى الباطل ، و انه بالتالي يحتاج الى الاصلاح و التوبة .

[ ان تتوبا الى الله فقد صغت قلوبكما ]

اي انكما تحتاجان الى غسل دون الانحراف ، و اصلاح الخطأ بالتوبة الى الله و الاعتذار من الرسول - صلى الله عليه وآله - لان قلوبكما قد صغت اي مالت ، و اصغى سمعه لفلان اي مال به الى كلامه . و تأكيد الله على انحراف القلب يبين ان ما حدث لم يكن خطأ عابرا، انما هو انحراف له جذور تمتد الى اعماق القلب ، بلى . ان كشف اسرار النبي ليس الا علامة على انحراف داخلي في الجذور ، و هكذا الكثير من مواقف و سلوكيات الانسان الخاطئة . انها مرة تكون سطحية و اخرى جذرية .

و يحذر الله الاثنتين من انهما لو رفضتا التوبة و تماديا في التظاهر ضد الرسول - صلى الله عليه وآله - فان العاقبة ستكون للخط الرسالي السليم لانه مدعوم بقوة لا تقهر .

[ وإن تظاهرا عليه فان الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين ]أي خيرتهم و افضلهم ، و افضل كل المؤمنين هو الامام علي - عليه السلام - الذي نصر الرسول في كل معاركه و حروبه العسكرية و السياسية و غيرهما ، و لذلك جاءت بعض النصوص بهذا التأويل ، قال الامام الصادق - عليه السلام - " صالح المؤمنين هو علي بن ابي طالب عليه السلام " (1) .

[ و الملائكة بعد ذلك ظهير ]

قال ابن عباس : سألت عمر بن الخطاب عن اللتان تظاهرتا على رسول الله - صلى الله عليه وآله - ؟ فقال : حفصة و عائشة . اورده البخاري في الصحيح (2) .

[5] و يحذر الله زوجات الرسول من السلوك السلبي تجاهه بان مصلحة رسالته فوق كل شيء ، و هو مستعد لتطليقهن لو عارضن الرسالة دون ان يجعل قيادته و قراراته عرضة للتأثر بالضغوط و تبعا لاهواء الزوجات و ميولهن . ثم انه لو فعل ذلك فلن تتعطل مسيرته بل ستستمر ،و سيجد بين الناس و عند الله من هو خير من زوجاته .

[ عسى ربه ان طلقكن ان يبدله أزواجا خيرا منكن ]

من الجهة المعنوية و المادية . و قد وجه القرآن الحديث من المثنى الى الجميع لكي يكون ما حدث عبرة للجميع ، فلا تحدثهن انفسهن بالسير على خطى الاثنتين . اما الصفات المعنوية التي ينبغي ان تكون في شريكة حياة الانسان المؤمن فهي التالية :

[ مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ]


(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 370 .

(2) مجمع البيان / ج 10 عند الاية .


من السياحة و هي الجهاد لقول رسول الله - صلى الله عليه وآله - : " سياحة أمتي الجهاد " ، و الهجرة صورة من السياحة بهذا المفهوم ، و الصفات الانفة صفات متدرجة فالايمان فوق التسليم ، و القنوت فوق الايمان ، و هكذا .. و هذه الصفات هي الاهم ، وتأتي في الدرجة الثانية الصفات المادية الظاهرة :

[ ثيبات و ابكارا ]

[6] و بعد ان بين القرآن من الممكن للرسول - صلى الله عليه وآله - ان يجد في المجتمع زوجات خيرا من زوجاته لو طلقهن ملوحا لهن بالطلاق لو لم يتبن الى الله ، أمر المؤمنين بتحمل المسؤولية الرسالية في اطار الاسرة ، اذ يجب السعي الحثيث لانقاذ نفسه و سائراسرته من نار جهنم ، و هذه اعظم مسؤولية للمؤمن تجاه اهله .

[ يا ايها الذين ءامنوا قوا أنفسكم و أهليكم نارا ]و انها لآية عظيمة ترسم للانسان المؤمن خطوط مسؤوليته لتخرجه من اطار الفردية الى التطلعات الانسانية و الدينية الواسعة ، حيث التفكير في نجاة الاخرين و فلاحهم كجزء من المسؤولية في الحياة . و على هذا أكد ائمة الهدى في تفسيرهم لهذه الآية الكريمة ، قالسليمان بن خالد : قلت للامام الصادق - عليه السلام - ان لي اهل بيت و هم يسمعون مني افادعوهم الى هذا الامر ؟ فقال : " نعم . ان الله عز وجل يقول في كتابه : " الآية " (1) ، و عن ابي بصير قال : سألت ابا عبد الله - عليه السلام - عن قول الله " الآية " ، قلت : هذه نفسي اقيها فكيف اقي أهلي ؟ قال " تأمرهم بما أمرهم الله به ، و تنهاهم عما نهاهم الله عنه ، فان اطاعوك كنت قد(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 372 نقلا عن اصول الكافي .


و قيتهم ، و ان عصوك كنت قد قضيت ما عليك " (1) ، و هذه الرواية تؤكد بأن الدعوة لله مسؤولية مفروضة على المؤمن في اوساط الأسرة ( الزوجة و الاولاد ) ، و انه يجب عليه ان يكون رسولا لربه فيها يدعوهم الى الحق و ينهاهم عن الباطل .

و لا يسقط المسؤولية عدم استجابتهم للدعوة ، فقد سئل الامام الصادق - عليه السلام - عن الآية فقيل : كيف نقيهن ؟ قال : " تأمروهن و تنهونهن " ، قيل له : انا نأمرهن و ننهاهن فلا يقبلن ؟ قال : " إذا أمرتموهن و نهيتموهن فقد قضيتم ما عليكم" (2) ، و لعل الوقاية من النار تمر من خلال اجتناب السيئات و تركيز الصفات المشار اليها في الآية اللاحقة في النفس و الاهل . و اي نار تلك التي يدعونا الله للوقاية منها ؟

اولا : انها تشتعل باحتراق الناس و الحجارة .

[ و قودها الناس و الحجارة ]

فليس الناس هناك يحترقون بالنار بل يتحولون نيرانا ، لان كل شيء في جهنم ذو طبيعة نارية ، فهل يتم الاحتراق بتفاعلات ذرية في الجسم لذلك لا يتحولون رمادا بسرعة ، بل يبدل الله جلودهم كلما نضجت ليذوقوا عذاب الهون ، ام بطريقة اخرى ؟ لا نعلم ، انما يكفيناان نتصور ذلك المنظر الرهيب فنخشى و نتقي .

و قالوا عن الحجارة انها حجارة الكبريت ، و لكن يمكن ان يكون عموم الحجارة و يكون احتراقها بتفاعلات ذرية .

ثانيا :


(1) المصدر .

(2) المصدر / ص 373 .


[ عليها ملائكة غلاظ شداد ]

فهم قساة التعامل مع اهل النار ، فلا ترى في شخصيتهم البشاشة و اللطف ، كما انهم اقوياء فتعذيبهم و اخذهم لا يكون الا بالشدة .

[ لا يعصون الله ما أمرهم ]

من قبل في تعذيب اهل النار .

[ و يفعلون ما يؤمرون ]

في كل زمان و على كل حال ، فلا يتصور الانسان انه قادر على اقامة علاقات خاصة معهم تثنيهم عن أمر الله تجاهه ، فانهم عباد مأمورون لله و ليسوا شركاء ، و طاعتهم له عز وجل ليس فيها ثغرة يهرب عبرها المعذب من عذاب الله . و اذا كان ثمة طريق لاتقاء غلظتهم وشدتهم و عذاب النار فهو الألتجاء الى سيدهم و التحبب اليه بالايمان و الطاعة ، و لا يتم ذلك الا في الدنيا ، فلماذا يضع البعض حجبا بينه و بين ربه باتباع الفلسفات البشرية الشركية كعبادة الاصنام و الملائكة ؟ !

[7] هنا في الدنيا عندما يواجه الانسان حقيقة رهيبة او مسؤولية ثقيلة يحاول ان يتهرب منها بالخداع الذاتي ، فتراه يلتمس الاعذار و التبريرات ، و يتحصن وراء الاوهام و الظنون ، كلا .. انها لا تفيده هنالك في الاخرة شيئا .

[ يا ايها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون ]ومادام جزاء الاخرة هو ذات عمل الانسان في الدنيا فلا معنى للعذر اذا ، و كيف يتخلص الانسان مما هو جزء ذاته ؟ و في الاية ايحاء بان عدم استعداد الكفار للاخرة و لقاء الله نتيجة طبيعية لكفرهم بها .


[8] و ينبغي ان تكون هذه التذكرة باعثا نحو المبادرة الى التوبة في الدنيا قبل فوات الاوان ، توبة صادقة كاروع ما تكون التوبة ، فان ذلك وحده الاعتذار الذي يقبله الله .

[ يا ايها الذين ءامنوا توبوا الى الله توبة نصوحا ]بالندم على ما فات ، و العزم على ترك الذنب ، و اصلاح اثاره السلبية نفسية و اجتماعية و اقتصادية و .. ، و الاجتهاد في الصالحات ، هكذا سال احمد بن هلال الامام الهادي - عليه السلام - عن التوبة النصوح ماهي ؟ فكتب عليه السلام : " ان يكون الباطن كالظاهر و افضل من ذلك " (1) ، و قال الامام الصادق - عليه السلام - : " هو صوم يوم الاربعاء و الخميس و الجمعة " (2) ، لان العمل الصالح جزء من التوبة ، و قال الامام ابو الحسن - عليه السلام - : " يتوب العبد من الذنب ثم لا يعود فيه "(3) ، و قال رسول الله - صلى الله عليه وآله - عن التوبة النصوح : " ان يتوب التائب ثم لا يرجع في ذنب كما لا يعود اللبن الى الضرع " (4) .

و هذه التوبة هي التي يقبلها الله فيعفو عن سيئات الانسان بها و يدخله جنات النعيم يوم القيامة .

[ عسى ربكم ان يكفر عنكم سيئاتكم ]

حقا : ان التائب عن صدق يرجى له ان تتحول ذنوبه من عقدة سيئة تعيق(1) المصدر / ص 373 .

(2) المصدر .

(3) المصدر / ص 374 .

(4) عن مجمع البيان / ج 1 - ص 318 و القرطبي / ج 18 - ص 197 .


مسيرته نحو التكامل الى دافع قوي نحو الخير و الفضيلة ، كما ان الله سبحانه يمحو من ديوانه السيئات فلا يطلع عليها احدا حتى اقرب المقربين اليه ، قال معاوية بن وهب : سمعت ابا عبد الله - عليه السلام - ( الامام الصادق ) يقول : " اذا تاب العبد توبة نصوحا احبه الله فستر عليه في الدنيا و الاخرة " ، فقلت : كيف يستر عليه ؟ قال : " ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب ، و يوحي الى جوارحه : اكتمي عليه ذنوبه ، و يوحي الى بقاع الارض : اكتمي ما كان يعمل عليك من الذنوب ، فيلقى الله حيث يلقاه و ليس شيءيشهد عليه بشيء من الذنوب " (1) ، فلا يبقى سبب يدخل به النار ، و فوق هذا كله يدخله الى رضوانه و نعيمه في الجنان .

[ و يدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار ]

و تأكيد الله على الجنات يزرع في الانسان المؤمن ارادة التحدي للشهوات و لزخارف الدنيا الزائلة حيث يتطلع الى النعيم الاعظم كما ونوعا في الاخرة .

[ يوم لا يخزي الله النبي و الذين ءامنوا معه ]

بالعذاب و المذلة بين الناس ، و لعل في الاية اشارة الى ان الله يمضي شفاعة الرسول - صلى الله عليه واله - و المؤمنين معه من ائمة الهدى و الصالحين .

[ نورهم يسعى بين ايديهم و بايمانهم ]

التي كدحت في سبيل الله ، اما عن النور فالاظهر فيما قيل ثلاثة اراء لا تناقض بينها ، احدها : انه العمل الصالح و الايمان يظهر في صورة نور يوم القيامة ، و الثاني : انه القرآن الذي مشى على هداه المؤمنون فهو يقودهم الى الجنة كما قادهم في الدنيا الى الصواب و السعادة ، و الثالث : انه ائمة الهدى و القادة الصالحون الذين(1) المصدر .


اتبعوهم في الدنيا ، فهم يقودونهم الى الجنان كما قادوهم الى الحق و العمل الصالح في دار الدنيا ، قال الامام ابو عبد الله (ع) : " ائمة المؤمنين نورهم يسعى بين ايديهم و بايمانهم حتى ينزلوا منازلهم " (1) .

و عندما نبحث عن الاسباب التي نجى بها المؤمنون من الخزي يوم القيامة ، و سعى لاجلها نورهم بين ايديهم ، نجد من أهمها طموحهم الكبير للكمال ، و توكلهم على ربهم ، و دعاؤهم اليه ان يغفر لهم .. هكذا يدعون ربهم :

[ يقولون ربنا أتمم لنا نورنا و اغفر لنا ]

و من تمام النور كمال الوعي و اصابة الحق في كل جوانب الحياة و ابعادها المختلفة ، و هناك علاقة بين دعاء المؤمنين بتمام النور و غفران الذنوب فان الخطايا في الحقيقة ظلمات معنوية تتمثل يوم القيامة ، الظلم ظلمات ، و الغش ظلمات و هكذا الكذب و الاسراف و.. ، فهم من جهة يسألون ربهم تمام النور ، و من جهة اخرى يطمحون الى النجاة من ظلمات الذنوب و الخطايا . و دون هاتين الغايتين تقف التحديات الصعبة التي تحتاج الى عزم الارادة ، و استقامة الايمان ، اللذان يستمدهما المؤمنون من ذي القوة المطلقة بالدعاء و التوكل ، اذ يعلمون ان بلوغ الغايات السامية ( تمام النور ، و الغفران ) يحتاج الى توفيق الله و ان تجانب سعيهم قدرته ، و هذا ما تشير اليه الخاتمة :

[ انك على كل شيء قدير ]

و كلمة اخيرة : ان الله سبحانه بعد الامر بالتوبة النصوح و الدعوة اليها لم يقل جزما : " يكفر عنكم سيئاتكم .. " انما اضاف " عسى " التي تفيد الترجي ..


(1) المصدر / ص 375 .


فالنتيجة المترتبة قد تكون و قد لا تكون حسب المفهوم الظاهر للكلمة ، و ذلك لكي لا يتسرب الى افئدة المؤمنين الغرور و العجب فيكون الاعتماد منهم على التمنيات بغفران الله بدل السعي و العمل .

[9] و بعد ان امر الله بوقاية النفس و الاهل من النار ، و التوبة النصوح اليه عز وجل ، و بالتالي السعي للكمال ، امر النبي - صلى الله عليه واله - بجهاد الكفار و المنافقين كضرورة لتهيئة الظروف و الاسباب من اجل الوقاية و التوبة و الكمال ، و ذلك ان كثيرا من اسباب الانحراف و النقص التي يتعرض لها المؤمنون تاتي نتيجة تحرك الكفار من الخارج و المنافقين من الداخل ضد الحق و اتباعه ، فلا بد اذن من مواجهة بؤرة الفساد هذه و القضاء عليها بالجهاد لتكون الظروف ملائمة لبناء المجتمع النموذجي ( المتقي ، و التائب ،و التام ) . لذلك جاء الامر للنبي - صلى الله عليه وآله - بمواجهة الكفار و المنافقين .

[ يا أيها النبي جاهد الكفار و المنافقين و اغلظ عليهم ]أي جهادا لا هوادة فيه ، باعتبار القائد الرسالي ليس مسؤولا عن أسرته و حسب بل هو في المجتمع كالاب مسؤول ان يقي نفسه و يقيه من النار و الضلال ، فلا بد ان يعمد الى اجتثاث بؤر الانحراف عنه و مما حوله مهما كان ذلك الكافر او هذا المنافق بعيدا او قريبا .


[ و مأواهم جهنم و بئس المصير ]

ففي الدنيا يلقون جزاءهم بمجاهدة المؤمنين لهم ، و في الاخرة الجزاء الاوفى حيث الخلود في اسوء ما يصير اليه مخلوق من عاقبة .

[10] و بمناسبة الحديث عن زوجات الرسول الذي يحدد لنا سياق هذه السورة الموقف السليم منهن تأتي الآيات الثلاث الاخيرة لتؤكد على حقيقة هامة يجب الالتفات اليها في تقييم الناس ، و هي ان قيمة كل انسان باعماله و مواقفه هو صالحة او فاسدة ، بغض النظر عمن حوله و من ينتمي اليه . اذن لا يصح ان نفسر التاريخ و القران و المواقف تفسيرا تبريريا توفيقيا عند الحديث عن اخطاء اقرباء الانبياء نسبا او صحابة او زواجا لان ذلك يجعلنا في غموض ، فقد يكون اقرب الناس الى نبي من الانبياء مثلا للكفار كزوجتي نوح و لوط - عليهماالسلام - ، بينما يصبح اقرب الناس الى بؤر الانحراف امثال فرعون و البيئات الفاسدة مثلا للمؤمنين كآسية بنت مزاحم و مريم ابنة عمران ، دون ان يكون في ذلك اساءة الى الانبياء و الصالحين و لا احسان الى المنحرفين الذين ينتمي اليهم كلا المثلين .

[ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح و امرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا ]لان الشفيع الحقيقي للانسان عمله الصالح لا القرابات و لو كانت من الانبياء و الاولياء ، و اعمالهما كانت سيئة لما انطوت عليه من خيانة لزوجيهما باذاعة السر و التظاهر لجبهة الكفر (1) و خيانة للرسالة و القيم التي جاءا بهما ، فما نفعتهما القرابات و ما بقي لهما شيء يتميزان به عن الناس ، فالقرابة وحدها ليست ذات قيمة عند الله انما العمل ، بل ان انتماء الانسان الى اي شخص او أية جبهة لا يقاس بالحسابات المادية كالمسافة و النسب انما بنوع العمل ، و انتماء هاتين الزوجتين كان الى جبهة الكفار في الدنيا و اهلالنار في الاخرة لتجانس الاعمال لذلك لم يغني عنهما نوح و لوط شيئا .


(1) في المجمع ج 10 قال ابن عباس : كانت امراة نوح كافرة تقول للناس انه مجنون ، و اذا آمن بنوح احد اخبرت الجبابرة من قوم نوح به ، و كانت امراة لوط تدل على اضيافه .


[ و قيل ادخلا النار مع الداخلين ]

و قد اعتبر الله هاتين المراتين مثلا للذين كفروا لانهما كان يفترض ان تكونا قمة في الايمان حيث كانت تحت عبدين صالحين من الانبياء ، الا انهما اختارتا الكفر بدل الايمان رغم الظروف المساعدة ، و هذا المثل يهدينا الى ان سعي المؤمنين لوقاية اهليهم من النار ليس بالضرورة ان يؤدي الى نتيجة ايجابية ، و انه من الخطا تقييم احد كالانبياء من خلال زوجاتهم و من حولهم ، انما التقييم السليم يكون عبر اعمالهم و رسالتهم .

و لنا في الاية وقفة عند كلمة الخيانة فهي - كما اعتقد - خيانة بالمقياس الرسالي اي خيانة لحركة الرسول و مبادئه ، و ليس كما قد يتقول البعض لما فيه من عقد جنسية او لاعتماده على الاسرائيليات بانها خيانة جنسية ، كلا .. انها خيانة في رسالة النبي بدليلين:

الاول : بدلالة السياق ، فقد وقع الحديث عن الخيانة في سياق الحديث عن افشاء السر من قبل زوجات النبي ، و حينما تكلم عن زوجتي نوح و لوط ضربهما مثلا للجبهة المضادة للحق " الذين كفروا " ، ولو كانت الخيانة جنسية لضربهم مثلا للذين فسدوا او مثلاللزناة .

الثاني : لان تفسير الخيانة هنا بالخيانة الزوجية ليس يمس زوجات الانبياء و حسب بل يمس الانبياء انفسهم و يصور بيوتهم محلا للفاحشة و الدعارة ، حاشا الانبياء - عليهم السلام - (1) .

[11 - 12] و يضرب الله مثلا معاكسا للذين امنوا ، احدهما من بيت فرعون(1) و هذا ما سعى اليه الكاتب الضال سلمان رشدي في احد فصول كتابه : ( الايات الشيطانية ) .


الطاغية ، و الاخر من بيئة بني اسرائيل المنحرفة مريم بنت عمران .

[ و ضرب الله مثلا للذين ءامنوا امرأت فرعون ]

التي آمنت بنبي الله ، و تحدت اغراءات السلطة و ضغوط الطاغية زوجها في سبيل الله ، رغم تظافر العوامل المادية التي يعتبرها البعض من الحتميات ، حيث كان فرعون زوجها و كانت في ذات الوقت من رعاياه . كانت تنتمي الى بني اسرائيل الطبقة المستضعفة و المعدمة بينما كان فرعون قائد المستكبرين و المترفين ، و كانت مصالحها المادية مؤمنة عند فرعون ، فما الذي جعلها تتحداه و تواجه جبروته و سلطانه ؟ ! انه الايمان الذي جعلها تتحدى كل الظروف لتكون مثلا رفيعا يقتدي به المؤمنون عبر التاريخ ، و جبلا لا تتأثر بإغراء و لابارهاب او تضليل .

[ اذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ]

و هنا اشارتان لطيفتان نستوحيهما من الآية :

الاولــى : ان اعظم سبب للانحراف كانت تواجهه اسية هو غرور السلطان و الملك ، فلقد كانت زوجة لاعظم الملوك الذين عرفهم تاريخ البشرية ، الا انها انتصرت على قمة تحدي الدنيا للانسان بالرغبة في نعيم الاخرة الذي يتصاغر امامه كل نعيم ، و لقد جاء في الاخبارانها كانت ترى قصورها في الجنة و هي موتدة تصب عليها الوان التعذيب .

الثانية : ان هذه المراة الشريفة لم يحالفها الحظ في الزوج الذي ترغب اليه امثالها من المؤمنات فطلبت من الله ان تصير الى نعم بيت الزوجية ، و كان طلب البيت بمثابة طلب من فيه ، و ماذا يطيب من البيت للمراة من دون زوج كريم ؟ و اذا كان دعاؤها بهذا المعنىفلماذا لم يصرح به في القران ؟ لعل ذلك لان الاداب الاجتماعية عند العرب ( و ربما عند غيرهم ايضا ) ما كانت تستسيغ للمراة العفيفة أن تطلب زوجا .

و مما يؤكد هذه الفكرة الروايات التي بينت انها تصبح زوجة لرسول الله - صلى الله عليه واله - في الجنة ، فقد اثر عن رسول الله - صلى الله عليه واله - انه دخل على خديجة - عليها السلام - و هي في مرض الموت فقال لها : " بالرغم منا ما نرى يا خديجة ، فاذا قدمت على ضرائرك ( اي اللاتي هن ازواج الرسول كما خديجة ) فاقرئيهن الســلام " ، فقالت : من هن يا رسول الله ؟ فقال : " مريم بنت عمران ، و كلثم اخت موسى ، و آسية امرأة فرعون " ، و توحي بهذه الحقيقة ايضا بقية الآية :

[ و نجني من فرعون و عمله ]

فكانت ترفض البقاء في ظله ، و يهدينا قوله سبحانه : " و عمله " الى فكرة هامة هي ان الانسـان المؤمن قد ينجو بالهجرة او بسقوط النظام الفاسد من اذى الظالمين المباشر ، لكنه قد لا ينجو من اعمالهم ، فاذا به يصبح ظالما مثلهم و يعمل الفواحش و يقعفي الفساد ، لذلك ينبغي الدعاء للنجاة من الظلمة و من الظلم .

[ و نجني من القوم الظالمين ]

اما المثل الثاني للمؤمنين فهي مريم ابنة عمران - عليها السلام - فانها رغم انحراف بني اسرائيل بعد موسى و شياع الفاحشة بينهم تحدت الانحراف فحافظت على عفتها و طهارتها .

[ و مريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها ]

و لا ريب ان الارحام المحصنة و الفروج العفيفة و الحجور الطيبة الطاهرة ستكون منطلق الاجيال الصالحة ، و موضع تجلي روح الله .

[ فنفخنا فيه من روحنا ]

و برزت عظمة مريم - عليها السلام - في تصديقها بكلمات الله و كتبه ، و لعل كلمات الله هي انبياؤه كعيسى بن مريم ، لان الانبياء لسانه في خلقه و ينطقون بوحيه و كلماته ، او هـي البصائر الالهية البارزة التي من الصعب التصديق بها ، اما الكتب فهي الرسالات .
و لقد جعلت مريم نفسها مصداقا للحق الذي جاء به الانبياء و انطوت عليه كتب الله .

[ و صدقت بكلمات ربها و كتبه و كانت من القانتين ]

و القانتون هم المثابرون بالدعاء الى الله المسلمون له مما يؤكد روحانيتها و تبتلها الدائم . و نستوحي من الاية تاكيد للروايات التي قالت بانها تكون من زوجات رسولنا الاكرم - صلى الله عليه وآله - في الآخرة حيث وعده الله فيما وعده بالزوجات القانتات التيهي منهن .

و قد يكون معاني التصديق بكلمات الله و قنوتها انها بلغت مرحلة العصمة ، حيث ان الانسان بين امرين : بين الاستجابة لنداء الباطل و كلماته ، او التصديق بالحق و اتباع ندائه و مناديه ، و اذا كان الانسان جادا في اتباع الحق تمايز في داخله نداء الشيطان المنبعث من شهواته و وساوس نفسه الامارة بالسوء و همزات شيطانه الرجيم تمايز عن نداء الرحمن المنبعث من عقله و وجدان نفسه اللوامة و الهامات ربه عبر ملائكته الكرام .

و هذا أحد وسائل الوحي الذي هو نقر في القلب ، و الذي من امثلته ما الهمت أم موسى - عليها السلام - ان تلقي بولدها في اليم .

و هذه الايات الثلاث تهدينا الى حقيقة رئيسية هي ان الانسان قادر على الاستقلال بارادته و قراره و عمله مهما كانت الظروف مساعدة او معاكسة لما يختاره لنفسه ، فالكفر و الايمان يبدآن من داخل الانسان و ليس من الظروف و العوامل المحيطة ، و بالتالي يمكن القول ان هذه الآيات بما ضربته من الامثال تنسف الفلسفات الضالة القائمة على اساس الايمان بالحتميات اقتصادية او اجتماعية او وراثية او .. او .. فيما يتصل بقرار الايمان و الكفر في حياة الانسان ، فهذه اسية بنت مزاحم و مريم ابنة عمران تحديتا الظروف و الضغوط و امنتا بالله ، بينما كفرت زوجة نوح و لوط رغم العوامل الايجابية و المساعدة على الايمان ، و اذا كانت هذه البصيرة صادقة في المراة فان صدقها بالنسبة الى الرجل اوضح و اجلى اليست المراة ضعيفة امام الرجل ؟


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس