بينات من الآيات [15] لم يكن الناس يعرفون في عصر نزول القرآن أبعاد نعمة الحياة على الارض كما يعرفون اليوم ، و ان الارض تختلف من جهات كثيرة عن سائر الكواكب الاخرى من حيث القوانين الطبيعية التي تحكمها ، فجاء القرآن ليفتح أفقهم على معرفة هامة و هي : ان الكوكب الذييعيش على وجهه كسائر الكواكب الأخرى يشبه كرة تدور في هذا الفضاء الرحب و لكنه يختلف عنها في كونه مهيأ من جميع الجوانب لحياته عليه . و كان حري بالانسان وهـو ينشد غزو الفضاء و ركوب الكواكب الأخرى ان ينطلق من هذه الآية الكريمة .
اما هدف القرآن من بيان هذه الميزة للارض التي نعيش فوقها فليس ان يضيف الى العلم معرفة و حسب ، بل هنالك هدف أبعد من ذلك .. و من دونه لا تكون معارف البشر ذات قيمة حقيقية ، ألا وهو تعريفه بربه ، فانه لو تفكر مليا لعرف ان توفير الارض لحياة البشر آية منآياته عز وجل . بلى . ربما يفكر البعض في ذلك و لكنك تجدهم يضلون باجابات لا رصيد لها من الصحة فاذا بهم يشركون بالله ، فاما القدماء فكانوا يتصورون ان الاصنام او الشياطين هي التي صنعت ذلك ، و اما المعاصرون فقالوا انها الصدفة !! ولكن القران يذكر الانسانبالحقيقة التي اركزت في فطرته ، و يجد اصداءها حينما يستنير عقله ، فينقذه من ضلالات الجهل و الشرك ، إذ يقول :
[ هو الذي جعل لكم الارض ذلولا ]
اي مذللة ميسرة لكم كالحصان المستراض او البقرة المستالفة ، حيث جعل نظامها و ما فيها لصالح الانسان طعما و شرابا و هواء و زينه و ما اشبه مما يحتاجه و ينفعه كالليل و النهار و الشمس و القمر .. الخ .
و تذليل الله للارض انعكاس لاسم " تبارك " حيث ان ذلك من بركته و رحمته .
[ فامشوا في مناكبها و كلوا من رزقه ]
و قوله تعالى : " فامشوا " ليس مجرد امر تشريعي يوجب السعي ، بل هو أمر تكويني ، إذ لو لم يقدر الله المشي لما كان أحد يستطيع المشي حتى في مناكب الارض . و المنكب مفرد مناكب وهو مجتمع رأس الكتف و العضد ، و ناحية كل شيء و جانبه ، يقال : سرنا في منكب من الارض او الجبل اي في ناحيته ، و المنكب من الارض الطريق (1) وكان القرآن حينما امر بالمشي في مناكب الارض شبهها(1) المنجد / مادة نكب .
بالانسان ، رأسها الجبال و مناكبها السفوح و السهول و ما دون القمم العالية الوعرة التي يصعب المشي فيها . و حينما نمشي فاننا ليس فقط نحصل على الرزق بل و نزداد معرفة ايضا . و هناك علاقة بين فعلي الأمر " امشوا " و " كلوا " ذلك ان رزقنالا يمكن ان يمشي الينا بل لابد ان نسعى اليه بانفسنا ، و هذه هي القاعدة السليمة التي يجب علينا ان نتبعها في الحياة لنمارس مسؤوليتنا فيها و نصل الى اللقمة الحلال و المرضية عند الله ، إذن فليس في الدين دعوة للخمول و الكسل و التطفل على الاخرين ، كما يصورهالبعض ، انما هو صورة لسنن الحياة الواقعية التي لا يمكن لاحد الوصول الى اهدافه و اغراضه إلا من خلالها ومن أهمها سنة السعي و الكدح .
ثـــم تنسف الآية الكريمة في خاتمتها كل القيم المادية التي تفسر الحياة تفسيرا شيئيا ، و تحصر مسؤولية الانسان في الوجود في مساحة ضيقة و تافهة ، فاذا بها تنزل به الى واد سحيـــق و طموحــات ضالة ، و كأنه يشبه الانعام خلق ليأكل ليعيش بلا هدف ! كلا .. ان الانسان له ان يتعلم من الحياة و الطبيعة من حوله درسا اساسيا ، فلينظر الى ما حوله هل يجد شيئا خلق بلا هدف ؟ فما هو هدفه ؟ دعه يبحث عن هدفه فانه سيجد هدفه أعظم من مجرد الأكل و الشرب و التلذذ ، كلا .. ان له تطلعا أسمى و طموحات اكبر .. مثلا يتطلع كل انسان لملك الارض و الخلود في الحياة هل يتحقق له ذلك في هذه الحياة ؟ كلا .. و هكذا يهتدي الانسان الى الايمان بالاخرة ، و بعبارة موجزة : سيواجه الحقيقة التي تطرحها الآية في خاتمتها :
[ و إليه النشور ]
و تنطوي هاتان الكلمتان على مجمل حقائق الايمان حيث الايمان بالاخرة ، و التسليم لله عز وجل نفسيا بالايمان و عمليا باتباع رسله و مناهجه . و عندما نتأمل في ترابط أجزاء الآية الكريمة ببعضها نكتشف حقيقة هامة و هي ان على الانسان ان يضع هدفه و يفكر في مستقبله الأبدي و هو يمارس الحياة بكل صورها ، أكلا و شربا و سعيا في طلب الرزق . و من ضرورة الأكل و الشرب الحياتية يجب عليه ان يتحسس حاجاته و هو يمضي الى مصيره ، و من ارتكاز الحصول على الرزق على السعي ( او بتعبير الآية المشي ) يجب ان يعرف بان وصوله الى غاياته في الاخرة هو الاخر يرتكز على السعي ، و ان خير الزاد في ذلك السفر الطويل لهو التقوى .
الأكل و الرزق في الآية أعم من ظاهرها ، فالأكل صورة من صور الاستهلاك ، و الرزق هو عموم ما يحتاج الانسان اليه ، و الآية بمجملها توحي بان الارض خلقت مذللة في بعض الجوانب و لكن الله يريد للانسان ان يذللها كلها بسعيه ، و بالرغم من انه لا يقدر على تذليلكل شيء فيها لتصبح الارض جنة الفردوس لانه يتنافى مع حكمة خلق الانسان فيها ألا وهي الابتلاء ، فإنه قادر على تطوير حياته الى الافضل أبدا .
[16 - 17] و كمــا ينبغــي للانسان ان ينتفع من تذليل الارض له و يتحسس اسم " تبارك " مــن هذه الرحمة الإلهية عليه ، كذلك يجب عليه ان يستشعر قدرة الله على كل شيء ، و انه لو شاء لسلب تلك البركة منه فاذا بتلك الارض المذللة تصبح كالفرس الجامحتمور مورا ، او يحدث تغييرا في النظام الكوني فاذا بالسماء التي تحميها تستحيل منطلقا لعذاب مصوب لا طاقة للارض و سكانها به . و تذكر هذه الحقيقة مهم لأمرين :
الأول : انها الى جانب تنعم الانسان ببركات الله و رحماته التي في الطبيعة تعطيه توازنا نفسيا و عقليا و عمليا يسوقه نحو المسيرة الصحيحة في الحياة ، فلا تبطر به النعم و تضلله عن أهدافه . فانه متى وصل الانسان الى اليقين بقدرة الله عليه سلم له أمره و اتصل به و خضع له ، و هذه من أعظم أبعاد الخشية منه تعالى .
الثاني : انها تجتث من نفس الانسان جذور الشرك ، لكي لا يأمن مكر الله ثم يعصيه اعتمادا على الشركاء المزعومين ( كالشياطين و الاصنام و الملائكة بانهم قادرون على مقاومة قدرة الله و منع مشيئته ) او استرسالا مع رحمته تعالى .
[ ءأمنتم من في السماء ان يخسف بكم الارض فاذا هي تمور ]اي تموج و تضطرب كما يمور البحر ، و ذلك باحداث انهيارات أرضية و زلازل ، او بتغيير النظام الارضي مرة واحدة مما يفقدها توازنها بصورة رهيبة ، وفي الآية إشارة الى ذلك بكلمة الخسف التي تعني التغيير و التبديل باتجاه سلبي .
[ أم أمنتم من في السمآء أن يرسل عليكم حاصبا ]
و في التساؤل بـ " أم " تلويح بالنهي عن ان يأمن أحد مكر الله لما فيه ذلك من دواعي المعصية و الاسترسال ، و الحاصب حجارة العذاب المتقدة نارا ، و قوله تعالى " من في السماء " في الايتين محمول على احد وجوه ثلاثة : فاما هو كناية عن تعاليه سبحانه ، و اما لان في السماء عرشه الذي تصدر منه أوامره عز وجل ، و اما يكون اشارة الى الملائكة التي تنفذ أمر الله و مشيئته في الحياة .
و نتساءل : ما هي العلاقة بين تحذير الله للناس من الكفر به و تهديده بتحطيم النظام الكوني لو كفروا ؟ و الجواب : لانه تعالى ( كما بين في الاية الثانية ) انما خلق الوجود الحي و الميت لاجل الانسان ، فاذا افسد البشر حكمة وجوده بطلت حكمة الوجود الذي حولهايضا .
و ما تحمله آيات الله من الانذار لا تستوعبه إلا قلوب المؤمنين فاذا هم يخشون ربهم بالغيب ، اما الكافرون و المشركون فهم في غفلة عنه لانهم محجوبون بالجهل و الشرك عنه ، و ذلك لانهم ماديون لا يرون إلا الأمور الظاهرة ، ذلك لان العقل هو الذي يهدي الانسانالى الباطـن من خلال الظاهر ، و الى الغيب عبر الشهود ، و هو معطل لديهم ، كما انهم لا يسمعون الموعظة من العقلاء ، هكذا تراهم يعترفون في الاخرة ، و اليهم يوجه القرآن هذا التحذير المبطن :
[ فستعلمون كيف نذير ]
حينما تخسف بهم الارض و يحل عليهم العذاب في الدنيا ، او في الاخرة حيث العذاب المقيم و الأليم ، هنالك يعرفون حقيقة النذير .
[18] و لكن القرآن لا يكتفي بالمستقبل الغائب دليلا على حقائقه بل و يستدل عليها بالشواهد الظاهرة ، لكي لا يبقى لبشر ما يبرر له الكفر و الزيغ ، و لتكون له الحجة البالغة ، فما هو الدليل على عذاب الله و قدرته على صنع ما يشاء ؟
لندرس التاريخ البشري فهو خير معلم للانسان ، حيث يهديه الى سنن الله و آيات معرفته ، و نحن حينما نتتبع حوادثه فسنجد الكثير من الامم و المجتمعات التي ذهبت ضحية كفرها و فسوقها عن أمر الله ، فذاقت ألوانا من العذاب لا يستوعبها فكر بشر لهولها و فظاعتها.
[ و لقد كذب الذين من قبلهم ]
فــــأين قرى لوط المؤتفكة ؟ و أين فرعون و قومه ؟ انك لن تجد غير اجابة واحدة : انهم دحروا و بادت حضاراتهم لانهم لم يخشوا ربهم و يتبعوا رسالاته و رسله .
[ فكيف كان نكير ]
فكيف كان العذاب المنكر الذي لم يكونوا يحتسبوه و الذي نزل بساحتهم من عند الله سبحانه ؟!!
و يحتمل هذا المقطع معنى آخر غير المنكر الفظيع إذا تصورنا القرآن يتساءل : كيف إذن تنكرون ، و الشواهد ظاهرة ، و الآيات قائمة ؟
[19] و يلفت القــــرآن الانظار و الافكار الى مشهد الطيور و هي تطير في الفضاء ، ليثير عقولنا نحو دراسة هذه الظاهرة التي تحكي تذليل الله السماء للطيور برحمته ، و تكشف عن مئات القوانين العلمية التي تفيد الانسان في حياته و حضارته . فلماذا لا يتساءل ماهي القوانين الفيزيائية التي يمكن في ضوئها الطيران ؟ و لماذا لا يبحث عن الاسبــاب و العوامل التي تجعل الطائر يسبح في الفضاء دون ان يقع على الارض ؟ و أهم من ذلك كله لماذا لا يحاول ان يتصل قلبه بروح هذا العالم ليراه آية واضحة من آيات ربه العظيم ؟
[ أولم يروا الى الطير فوقهم صافات و يقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن ]و الصف هو بسط الجناحين بينما القبض هو جمعهما الى الجسم ، و لعل في الآية اشارة بهاتين الكلمتين الى نوعين من الطيور : أحدهما صفه أكثر من قبضه ، و الآخر العكس ، والى أيهما نظر الانسان تجلت آيات رحمة الله ، و لكنها أظهر عند رؤية ما يصف منها ، و ربما لذلك تقدم ذكره على الذي يقبض .. و انما يكون طيران الطيور مظهر لرحمة الله لانه تعالى لو لم يذلل لها الفضاء بالنظام الذي يسمح لها بالطيران لما كانت تجد سبيلا الى ذلك فهو الذي يمسكها ، و لانها بالطيران تستطيع الهرب من الأخطار .
ولعل كلمة " فوقهم " في الآية تثير الانسان نحو التحدي فيسعى ليكون قادرا على الطيران ، و ما كان الانسان ليكتشف اسرار الطيران لو لم يكن يدرس هذه الظاهرة الكونية و يطلع على قوانينها فاذا به يصنع مختلف وسائل الطيران .
[ أنه بكل شيء بصير ]
فهو يعطي كل خلق من خلقه القدرات و الصفات ما يتناسب معه و مع دوره في الحياة ، حتى يكون كل شيء في نفسه و حسب هدفه كاملا قد منحه ربه كل ما يحتاج ، و ذلك يؤكد الحقيقة التي تعلنها الآية : " انه بكل شيء بصير " يتبصر حقيقته و دوره و الهدف من خلقه و تناسب هذا الخلق مع سائر خلقه سبحانه .
و نحن يجب ان نهتدي اليها حينما نشاهد طائرا يطير و قد جعل كل شيء مناسبا لحركته فـــي الفضاء : حجمه ، أجنحته ، تركيبة بدنه ، طعامه و شرابه ، و توالده و تكاثره ، هذا ما نعرفه و سائر البشر ، اما العلماء و المتخصصون الذين يدرسون حياة مخلوقات الله جامدةاو متحركة فهم كلما ازدادوا معرفة بها ازدادوا ايمانا بدقة صنعه عز وجل .
تعالوا نستمع الى الامام جعفر بن محمد الصادق - عليه السلام - يحدث رجلا من شيعته ( المفضل بن عمر ) عن الدقة في خلقة الطير و الحكمة في صنعه :
" تأمل يا مفضل الطائر و خلقته فانه حين قدر ان يكون طائرا في الجو خفف جسمه و ادمج خلقه ، فاقتصر به من القوائم الاربع على اثنتين ، و من الاصابع الخمس على اربع ، و من منفذين للزبل و البول على واحد يجمعهما ، ثم خلق ذا جؤجؤ محدد ليسهل عليه ان يخرقالهواء كيف ما أخذ فيه ، كما جعل السفينة بهذه الهيئة لتشق الماء و تنفذ فيه ، و جعل في جناحيه و ذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران ، و كسي كله الريش ليداخله الهواء فيقله ، و لما قدر ان يكون طمعه الحب و اللحم يبلعه بلعا بلا مضغ نقص من خلقه الاسنان، و خلق له منقار صلب جاس يتناول به طعمه فلا ينسجح من لقط الحب ، و لا يتقصف من نهش اللحم ، و لما عدم الاسنان و صار يزدرد الحب ( اي يبتلعه و يسرع الطيران ) صحيحا و اللحم غريضا أعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحنا يستغني به عن المضغ ؛ و اعتبر ذلكبان عجم العنب و غيره يخرج من اجواف الانس صحيحا ، و يطحن في اجواف الطير لا يرى له أثر ، ثم جعل مما يبيض بيضا ولا يلد ولادة لكيلا يثقل عن الطيران فانه لو كانت الفراخ في جوفه تمكث حتى تستحكم لاثقلته وعاقته عن النهوض و الطيران ، فجعل كل شيء من خلقه مشاكلاللأمر الذي قدر ان يكون عليه .. "
تأمل ريش الطير كيف هو ؟ فانك تراه منسوجا كنسج الثوب من سلوك دقاق قد ألف بعضه إلى كتأليف الخيط الى الخيط و الشعرة الى الشعرة ، ثم ترى ذلك النسج اذا مددته ينفتح قليلا و لا ينشق لتداخله الريح فيقل الطائر اذا طار ، و ترى في وسط الريشة عمودا غليظا متينا قد نسج عليه الذي هو مثل الشعر ليمسكه بصلابته ، و هو القصبة التي هو في وسط الريشة ، وهو مع ذلك اجوف ليخف على الطائر و لا يعوقه عن الطيران " (1) .
[20] و لا شك ان ذلك الجهل بواقع الحياة هو جهل بآيات الله سبحانه ، مما يدعو الانسـان الـى التكذيب بالحق و الكفر بربه ، و بالتالــي ان يشرك به الانداد المزعومين ، ظنا منه بانه قادر بواسطتهم على الفرار من سلطان الله القاهر و على التهرب من مسؤولية الحق ، الأمر الذي يجعله يعيش في الحياة من دون قيد او ضابط ، و لكن القرآن ينسف هذه الافكار و المزاعم من جذورها مبينا بانها ليست سوى نشوة من الغرور الجامح .
[ أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن ]
(1) بحار الانوار / توحيد المفضل / ج 3 - ص 103 .
و " من دون الرحمن " تتسع الى معنيين هما :
1 - الضد .. و عليه تنصرف الآية الى الشركاء الموهومين و القوى التي يغتر بها الكافرون كالمال و السلطة فانها كلها لا تنصرهم ضد الله ، و لو نصرتهم جدلا فهي لا تنفعهم شيئا .
2 - او تكون الآية منصرفة الى الشفعاء فانهم كذلك لا يمكن ان يشفعوا لاحد من دون أذن الله و رحمته ، فلماذا يجعل الانسان بينه وبين ربه حجبا و وسائط ، وهو قادر على الاتصال بمصدر الرحمة و النصر ؟!
ان الشفعاء الحقيقيين كالأنبياء و الأولياء ليسوا بدائل عن طاعة الله ، و عن الدعاء اليه مباشرة ، بل هم وسائل و سبل الى الرحمن سبحانه .
[ ان الكافرون إلا في غرور ]
و الغرور هو الوهم . اترى كم هو مغرور ذلك الغبي الذي يزعم انه قادر على مقاومة الانفجار النووي بيمينه ؟! بلى . قد يزخرف القول و يخادع نفسه و لكنه عند مواجهة الحقيقة يكتشف انه انما كان في غرور محيط ، و اننا نرى اليوم مدى الغرور الذي فيه قوى الاستكبار العالمي ، لما تملك من ترسانات الاسلحة ، و القدرة الاقتصادية ، و لكن أين هذا كله من قدرة الله المطلقة حتى يبارزونه عز وجل و يدعون انهم سوف ينتصرون على الحق ؟!
و عادة لا يكتشف الغرور الا بعد فوات الأوان عندما يصطدام الانسان بالحقيقة المرة حيث لا ينفعه شيئا .
و نتسائل : ألم يكن من الأنسب أن يذكر هنا أسماء العزة و القوة بدل اسم" الرحمن " حيث ان السياق سياق التحدي ، و لكننا عند التدبر نهتدي الى اشارة لطيفة في ذكر اسم " الرحمن " فكان القرآن يقول للانسان بان مصالحك الحقيقية تجدها عند صاحب الرحمة ، فلماذا تتخذ الشركاء من دونه ؟!
عندما تضيق مذاهب الحياة اين نلجأ . او ليس الى رحاب رحمة الله ؟ و حينما تتوالى المصائب و النكبات الى من نجأر . أوليس الى حصن الرحمن ؟
[21] و انه لثابت فطريا و عمليا لذوي العقول انهم انما ينتصرون على المشاكل و التحديات بفضل الله ، و لا يلمسون أثرا لقوى أخرى تنصرهم و يستعينون بها عند الشدائد سواه سبحانه ، و عندما تحبس السماء غيثها هل يقدر الشركاء المزعومون ان ينزلوه ؟ كلا .. ألاترى كيف يجار الانسان عندما يحبس رزقه الى ربه ، تبعه الى ذلك الفطرة ، و يحثه العقل ؟!
[ أمن هذا الذي يرزقكم أن أمسك رزقه ]
و يبدو ان الرزق هو ارضية الاكتساب ، فلولا ان الارض خصبة و المياه متوفرة هل يمكن للزارع ان يكتسب منها شيئا ؟ ! و لولا ان البلد يكون فيه معادن و منابع هل يمكن للصناعي ان يطور صناعته او يستخرج نفطا او ذهبا او حجرا كريما ؟!
و هكذا يتقلب البشر في رزق الله يكتسب منه معاشه فان انعدم الرزق لم يبق معاش ، و لكن بالرغم من وضوح هذه الحقيقة ترى الكفار يصرون على الكفر و الغرور .
[ بل لجوا في عتو و نفور ]
لج و لجاجة : عند في الخصومة ، و تمادي في العناد الى الفعل المزجور عنه ، و لج في الأمر : لازمه و أبى ان ينصرف عنه (1) اصرارا ، و العتو : الاستكبار الذي يجاوز الحد ، و القلب يقسو فلا يلين ، و الظالم يطغى و يتجبر (2) ، و النفور : يعني التباعد و نفرالظبي و غيره شرد و ابتعد ، و الانسان اعرض عن الشيء و صد (3) ، و في كلمة " نفور " تشبيه للكفار بالحمير و الدواب (4) اذ تمادوا في معاندة الحق مع وضوحه ، و اصروا على لزوم الباطل مع زهوقه ، و تجاوزوا الحد في الاستكبار ، و ركبوا التباعد عن الحقشرودا و إعراضا و صدودا .
[22 - 23] و كيف لنا ان نتصور مسيرة من كان في غرور و لجاجة من العتو و النفور عن الهدى و الحق ، ألا كمن يمشي مرسلا نظره الى الارض لا يرى أمامه ، او كمن على بصره غشاوة يتخبط و لا يهتدي سبيلا أفهل يستوي هو ومن يبصر أمامه و ينتفع بجميع حواسه وهو على صراط مستقيم ؟!
[ أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم ]و للكب معنيان - حسبما قالوا - : أحدهما الذي ينظر الى الارض و هو يمشي ، و الثاني من لف على وجهه شيئا يقال تكبكب في ثيابه إذا تلفف بها ، و المكب على وجهه الذي لـــف عليه شيئا ، و السوي الذي يمشي بكامل حواسه و امكاناته و وعيه فهو السوي ، قال تعالى : " آيتك ألا تكلم النـــاس ثلاث ليـــال سويــا " (5) اي كاملة ، و قال : " فستعملون من اصحاب الصراط السوي و من اهتدى " (6) اي الصراط(1) المنجد مادة لج .
(2) المصدر مادة نفر بتصرف .
(3) المصدر بتصرف .
(4) قال تعالى : " كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة " المدثر / 50 - 51 .
(5) مريم / 10 .
(6) طه / 135 .
السليم ، و ان الكافرين لا يمشون في الحياة بكامل حواسهم و وعيهم ، و ليس أدل على ذلك من انهم معطلة اسماعهم عن تلقى المواعظ ، و عقولهم عن وعي الحق و استيعابه كما وصفوا انفسهم و كما وصفهم ربهم في قوله : " لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها و لهم آذان لا يسمعون بها " (1) و يؤكد هذه الحقيقة قوله تعالى في الآية اللاحقة مفسرا معنى المكب :
[ قل هو الذي أنشأكم و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة قليلا ما تشكرون ]قيل : انكم لا تشكرون إلا قليلا ، و قيل : ان المعنى لا يشكرون منكم إلا قليل ، و كلا المعنيين صحيح . و ان للشكر بالنعم جانبين :
الاول : ان لا يستخدم الانسان نعم الله عليه في معصيته ، فيسمع بإذنه ما حرمه عليه كـالغيبة و الكذب و الغناء ، او ينظر بعينه ما هو محضور كاعراض الناس و عوراتهـــم ، او يجعل فؤاده عشا للشيطان فيملأه بالظنون و النوايا السيئة و الأفكار الضالة .. و هكذا.
قال الامام الصادق - عليه السلام - : " شكر النعمة اجتناب المحارم " (2) ، و قال الامام علي - عليه السلام - : " شكر كل نعمة الورع عما حرم الله " (3) .
الثاني : ان يسخر ما أنعم الله به عليه في طاعته و إعلاء كلمته ، بأن يجعله وجوده و كيانه في طاعته و خدمة الحق و أهله ، و محاربة الباطل و أعداء الله ، فيستمع بإذنه علوم الحق و مواعظ الصدق ، و يوظف بصره في النظر الى آيات ربه و كتابه ،(1) الاعراف / 179 .
(2) موسوعة بحار الانوار / ج 71 - ص 40 .
(3) المصدر / ص 42 .
يصير فؤاده وسيلة لمعرفة الحق و التفكر فيما ينفع به رسالته و نفسه و الناس ، و هكذا سائر النعم و الهبات الإلهية .
وإذا فعل الانسان ذلك يكون شاكرا ، و لا يتم الشكر الا بمعرفة المنعم و التوجه اليه به ، فان الانسان عرضة للشرك في الشكر ايضا ، لذلك جاءت بداية الآية توجهنا الى المنعم وانه أهل الشكر ، وعلى هذه الحقيقة أكدت النصوص المستفيضة عن ائمة الهدى ، قال الامام زين العابدين علي بن الحسين - عليه السلام - : " الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة ، و اسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة ، لتصرفوا في مننه فلم يحمدوه ، و توسعوا في رزقه لم يشكروه ، و لو كانوا كذلك لخرجوا من حدودالانسانية الى حد البهيمة ، فكانوا كما وصف في كتابه : " إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا " (1) و قال الامام الحسن العسكري - عليه السلام - : " لا يعرف النعمة إلا الشاكر ، و لا يشكر النعمة إلا العارف " (2) و أوحى الله تعالى الى موسى - عليه السلام - : " يا موسى اشكرني حق شكري ، فقال : يا رب كيف اشكرك حق شكرك و ليس من شكر اشكر به إلا و أنت أنعمت به علي ؟ ! فقال يا موسى شكرتني حق شكري حين علمت ان ذلك مني " . (3)[24 - 27] و عند التفكير في الآية (23) و الآية (24) نجدهما تجيبان على أهم الاسئلة المصيرية التي تخطر على بال كل انسان : من الذي أوجدني و وهبني ما أنا فيه من النعم ؟ و من الذي ذرأنا في الارض ؟ ثم ماذا بعد الدنيا ، و الى أين تسير بنا الاقدار ؟ هذه الاسئلة و أمثالها تؤكد ان معرفة الخالق مسالة فطرية ملحة عند كل انسان ، وهي ان لم يجب عليها الاجابة السليمة فسوف يظل الانسان حائرا لانها(1) الصحيفة السجادية الدعاء الاول .
(2) موسوعة بحار الانوار / ج 78 - ص 378 .
(3) المصدر / ج 13 - ص 351 .
أسئلة مصيرية ترسم اجابة كل واحد عليها شخصيته ( فكره و سلوكه و علاقاته ) كما تحدد مستقبله .
و حيث ان القرآن متنزل من رب الانسان الذي خلقه و يعلم ما توسوس به نفسه و ذات صدره ، فان آياته جاءت واقعية و شفاء لما في صدره ، و علاجا لكل قضاياه و مسائله ، و ان هذه الآيات بحق تعبر عما في ضمير كل بشر و حاشا لله و هو الرحمن اللطيف بعباده ان يدعهم في حيرة من هذه الاسئلة الخطيرة فيضلون كفرا و شركا ، و هكذا قال ربنا سبحانه :
[ قل هو الذي ذرأكم في الارض و اليه تحشرون ]
و ليست الصدفة او الطبيعة او القوى المزعومة من دونه سبحانه ، و الذرأ هنا بمعنى الخلق و النشر ، فانه تعالى خلقنا في الارض و نشرنا في أقطارها ، قال الله : " و جعلوا له مما ذرأ من الحرث و الانعام نصيبا " (1) اي مما خلق و بث ، و قال : "و ما ذرأ لكم في الارض مختلفا ألوانه " (2) اي خلق و وزع ، و ذرأ الحبوب في الارض فرقها و بذرها . و الحشر هو الجمع ، و السؤال : هل خلق الانسان في الارض ليعود اليها بعد الموت دون هدف و مسؤولية ؟ كلا .. انما هي مرحلة في دورته الحياتية التي لا تنتهي، فقبل ان يذرأ في الارض في عالم الذر ، و بعد هذه الدنيا يبدأ رحلة الى عالم البرزخ ثم عالم الحشر و الجزاء حيث يلاقي مصيره الأبدي ، ومادامت بداية الانسان من الله و نهايته اليه و مصيره بيده فما أحوجه ان يوظف وجوده في هذه الارض و نعم الله عليه من أجل حشرسعيد في الآخرة .
وما أعظم ذكر الاخرة و الحشر في قلوب الصالحين ، و حسب ما يقول الامام علي(1) الانعام / 136 .
(2) النحل / 13 .
- عليه السلام - : " و لولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في ابدانهم طرفة عين أبدا " (1) ، و لكنك ترى الضالين الذين حجبهم الكفر و الشرك عن رؤية هذه الحقيقة يستهزؤون بها فيذهبون فرصتهم الوحيدة فــي بحــوث عقيمة تافهة ، فيتساءلون -مثلا - عن موعد الساعة .
[ و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ]
و اسئلة أخرى تافهة كقولهم : كيفي يحي الله الموتى ؟ و انك حين تدرس خلفياتها و أهدافها في نفوسهم تجد انهم لا يريدون بها معرفة الحقيقة ، انما مجرد الجدل و العناد . أوليسوا يبحثون عن تبرير للتملص من مسؤولية الالتزام بالحق ، و اتباع القيادة الرسالية في الحياة ، و الهرب من وخز الضمير و نداء الفطرة ؟ إذن لابد ان يكفروا بالآخرة لان الايمان بها قمة الشعور بالمسؤولية ، و لكن هل يغير انكارهم للحقيقة الواقعية شيئا ، فلا تقع الساعة و يصبح الداعية اليها كاذبا لو كفروا بها ؟ كــلا .. فلينكر أحد حقيقة الموت، و ليكذب من يذكره بها ، فهل يبقى خالدا الى الأبد و يصير المذكر كاذبا ؟ و سؤال آخر : هل ان عدم علم الانسان بلحظة موته - مثلا - ينفي حقيقة الموت ؟ فلماذا يعتبر الجاحدون عدم أخبار الرسول - صلى الله عليه وآله - لهم بموعد الساعة دليلا على انتفائها و كذب المؤمنين بها ؟
[ قل إنما العلم عند الله ]
و هنا نتساءل : لماذا تأتي هذه الاجابة كلما تحدى الكفار الرسول بالسؤال عن موعد الساعة ، أوليس الافضل ان يطلعه الله عليها فيجيبهم و ينتصر عليهم في الجدال ؟
(1) هكذا وصفهم امام المتقين علي بن ابي طالب في الخطبة 193 من نهج البلاغة .
و الجواب : هنا أسباب تكشف عن جانب من الحكمة الالهية ، تبرر عدم الاجابة على سؤالهم تبريرا موضوعيا واقعيا ، هي :
اولا : لان من عظمة الساعة ( ساعة الموت و القيامة ) و أثرها في الانسان يكمن في أنها مستورة ، مما يدعوه لاجتناب الباطل و اتباع الحق في كل لحظة من حياته خشية ان تحل به الساعة فيها فيلقى ربه على معصية . و إلا لكان الناس يسترسلون في الباطل و يزعمون انهم سوف يتوبون قبل موتهم بساعة !
و قد أشار الامام الصادق - عليه السلام - الى ذلك بقوله : " ثم ( لو ) عرف ذلك وثق بالبقاء و انهمك في اللذات و المعاصي ، و عمل على انه يبلغ من ذلك شهوته ثم يتوب في اخر عمره ، و هذا مذهب لا يرضاه الله من عباده و لا يقبله " (1) .
ثانيا : ان الكافر الذي أركس في الغرور و العتو و النفور عن الحق لا يغير فيه اخبار أحد له بموعد الساعة ، بل لا يصدق أحدا لو أخبره ولو كان مصيبا ، لان مشكلته انه لا يؤمن بالاساس وهو الساعة . فهب ان الرسول - صلى الله عليه و آله - قال له انك تموت بعدخمسين يوما ، او ان الساعة تقع بعد ألف عام ، فهل يصبح من المتقين ؟ كلا .. اذ ان سؤاله ليس بهدف معرفة الحق و التسليم له عند ظهوره ، انما لمجرد الجدال و المعاندة .
ثالثا : ان الرسول و كل داعية الى الحق ليس مسؤولا ان يجاري الناس و بالذات الملحدين منهم في كل شيء ، و يجيب على كل سؤال ، فان الاسئلة لا تنتهي ، و لو انه ينصب نفسه للرد و المجادلة فسوف يضيع الكثير من وقته و جهوده في أمور لا طائل منها و لا فائدة دونان يصل الى ما يريد ، و بالخصوص ان من بين
(1) موسوعة بحار الانوار / ج 6 - ص 38 .
الناس من هو بارع في صناعة السؤال و الذي لا يهدف من ورائه إلا الجدل الفارغ ، انما مسؤولية المؤمن الرسالي ابلاغ رسالة الله الى الناس بأمانة و وضوح .
[ و إنما أنا نذير مبين ]
و تهدينا خاتمة الآية الى حقيقتين في منهجية الدعوة السليمة الى الله :
الأولى : ان على الفرد الرسالي التحرك وفق ما ترسمه له رسالته و توحي به أهدافه في الحياة ، دون ان يلتفت كثيرا الى ما يثيره الآخرون أعداء و منافسين و جاهلين من اشكالات و اسئلة و ملاحظات تافهة ، لانه لو التفت الى ذلك فلن يصل الى اهدافه .
الثانية : ان التواضع للحق مسالة مهمة في الدعوة ، فاذا سئل عما لا يعلم يجب ان يقول لا أعلم .. وإلا أصيبت مقاتله كما يقول الامام علي عليه السلام ، فليس العيب ان يعترف الانسان بالجهل انما العيب الكبير ان يقول ما لا يعلم . فهذا سيد البشر على عظمته يجيب و قد سئل عن الساعة التي لا يعلم ميعادها : " إنما العلم عند الله " و إنما للحصر ، فليس من أحد يعلم بميقات وعد الله غيره ، و لا يكتفي القرآن بهذه الاجابة بل يضع الكافرين أمام آثاره المريعة عندما يحين أجله فتساء وجوههم ، و يعلمون الى حد اليقين حقا بالآخرة وصدق الرسول ، و يشهدون وقوعه الرهيب ، يوم لا ينفع نفس ايمانها لم تكن آمنت من قبل .
[ فلما رأوه زلفة ]
أي وقد اقترب منه الموت ، او عندما تظهر للناس علامات الساعة و آياتها كزلزلة الارض ، هنالك يكتشفون فظاعة خطئهم ، فيتحسرون و يندمون على ما فرطوا في جنب الله في أنفسهم ، ولكن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد انما تعلوهم آثار الهوان و العذاب حتى تظهر على وجوههم التي طالما صدوا بها عن الحق .
[ سيئت وجوه الذين كفروا ]
أي أساءها شيء او أحد كالملائكة الذين هم خزنة جهنم ، و لا ريب ان تلك الآثار التي تظهر على وجوههم يؤمئذ و تسوؤهم هي بأعمالهم السيئة و عقائدهم الخاطئة . قال في المنجد : ساء الأمر فلانا أحزنه ، أو فعل به ما يكرهه (1) و كذلك يصنع بالكافرين .
[ و قيل هذا الذي كنتم به تدعون ]
و لكلمة " تدعون " في هذه الآية معنيان :
الأول : الإدعاء بمعنى الزعم و التكذيب ، اي تتحدثون بشأنه مما لم يكن في قلوبكم ، قال ابن عباس : اي تدعون الاباطيل به ، و لا ريب ان الكافرون حينما كانوا يستعجلون وعد الله ما كان هدفهم البحث عن الحقيقة بل كان مجرد الانكار و الجدال ، و لعل في الآية إشارة الى حقيقة واقعية وهي ان كثيرا من عقائد الكفار و مواقفهم الضالة و هكذا اعمالهم السيئة كانت متأسسة على جحود الآخرة ( وعد الله ) ، فكأن انكارها وسيلة مزاعمهم و ادعاءاتهم .
الثاني : الادعاء بمعنى المبالغة في الدعاء ، حيث يقال لهم من قبل الله ان هذه الساعة هي الوعد الذي كنتم تكفرون به ، و تطالبون مستعجلين وقوعه . مما يكشف عن مدى جحودهم و استبعادهم للساعة .
وهذا القيل و أمثاله عذاب نفسي الى جانب العذاب المادي ، و قد يكون أشد أثرا منه ، لما ينطوي عليه من الاستهزاء و التبكيت و إثارة للحسرة في نفوسهم .
[28] و بعد حديث الآخرة يأمر الله رسوله ان يبين للكافرين خاصة و للناس(1) المنجد مادة ساء .
عامة مجموعة من البصائر ذات الأثر المهم في ايمان الانسان و واقعه في الحياة .
[ قل أرأيتم إن إهلكني الله ومن معي أو رحمنا ]
و للهلاك في القرآن معنيان : أحدهما : الموت و الفناء ، قال تعالى : " و لقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فمازلتم في شك ما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا " (1) اي حتى إذا مات ، و الآخر : الموت بالعذاب و الدمار ، قال تعالى : " و ما كنا مهلكي القرى إلا و أهلها ظالمون " (2) و تهدينا هذه الآية الى الحقائق التالية :
1 - ان الكفار عادة ، ما يتهربون من مسؤولية الحقائق الالهية بتحويل قضية الرسالة الى صراع شخصي بينهم و بين الرسول ، و كأن الرسالة قضية تهم النبي لذاته و أنه يبحث عن مصلحته الذاتية لذلك فهو يخوض الصراع مع الذين لا يؤمنون بها . و هذه الآية تبين سفه هذا الرأي و تذكر بان الرسالة في البدء قضية بين الانسان و ربه و ما الرسول إلا واسطة بينهما ، و عبد من عباد الله ان شاء أهلكه و ان شاء رحمه ، وقد حذر النبي شعيب - عليه السلام - قومه من الدخول في هذا النفق فقال : " و يا قوم لا يجرمنكم شقاقي ان يصيبكممثل مآ أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد " (3) .
2 - و تحذر الآية من الفهم الخاطىء للشفاعة سواء الاولياء او شفاعة الشركاء المزعومين ، بزعم انهم قادرون على منع الله عما يشاء او التأثير على قراره ، الأمر الذي يدعو الانسان الى الاسترسال في الانحراف و اللامسؤولية . و ذلك ببيان ان لله(1) غافر / 34 .
(2) القصص / 59 .
(3) هود / 89 .
وحده فيما يريد ، فهو بيده ان يهلك الرسول و يعذبه او يرحمه لو شاء . و هكذا تنسف الآية الأفكار الضالة في الشفاعة ، حيث يقول النبي محمد - صلى الله عليه وآله - و هو أقرب الخلق الى الله و أعظمهم عنده و هو الموعود بالشفاعة انه لا يملك من الله شيئا ، فكيف بمن هو دونه من الاولياء الصالحين ؟ و كيف بالشركاء الموهومين ؟!
[ فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ]
فالكافر إذن معذب لا محالة لان الشفاعة و الشركاء الموهومين لا يملكون له من الله شيئا .
قال البعض : انها تربط إجارة الكافرين من عذاب أليم ببقاء الرسول هاديا و مبشرا و نذيرا (1) و يبدو ان ذلك مستوحى من قوله سبحانه : " وما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " .
[19] و بعد التخويف و التحذير يفتح القرآن على القلوب باب الرجاء بذكر اسم الرحمن حتى لا تصاب باليأس و القنوط .
[ قل هو الرحمن آمنا به ]
و يبدو أن فــي الآيــة اشارة لطيفــة الى ان الله لا يهلك الرسول - صلى الله عليه وآله - ومن معه انما يرحمهم ، لانه الرحمن وقد آمنوا به و أطاعوه بالتوكل عليه وحده .
[ و عليه توكلنا ]
(1) تفسير الفرقان / ج 29 - ص 53 .
و لا يخيب من توكل على الرحمن ، فانه سيكون حسبه ، يفيض عليه من بركاته و رحماته ، و يجيره من العذاب و الهلاك . اما الكفار و المشركون فقد ضلوا ضلالا مبينا حينما كفروا بربهم و بالآخرة ، و اعتقدوا بالأنداد المزعومين و اعتمدوا عليهم ، وإذا كانوا يجهلونمدى ضلالتهم ، او استطاعوا ان يخفوها عن الآخرين ، فان الحقيقة ستظهر جلية في المستقبل ، و سيفتضحون امام الناس عند الجزاء ، بالرغم من انهم يتهمون المؤمنين و القيادة الرسالية بالانحراف و يحاولون ان يقنعوا الرأي العام بذلك .
[ فستعلمون من هو في ضلال مبين ]
[30] و يختم السياق سورة الملك مثيرا الخشية من الله بما يؤكد انه وحده الذي بيده الملك و انه على كل شيء قدير و انه الرحمن ، و يحذر بانه قادر على الذهاب بمائهم الذي ترتكز عليه الحياة ، فلا أحد حينئذ يقدر على ان ياتيهم بماء ، أترى لو جعل الله الماء أجاجا من الاساس بحيث لا يصلح للشرب و الزراعة ، او لا يمكن تفكيك اجزائه و تحليته ، او قرب موقع الشمس حتى تبخرت المياه جميعا ، هل استمرت الحياة عليها ، و من أين كانوا يأتون بالماء ؟
[ قل أرءيتم إن أصبح مآؤكم غورا ]
و الغور : القعر و العمق من كل شيء ، و غار الماء : ذهب في أعماق الارض و اختفى فـــلا تصل اليــه يد الناس . و ان وقع هذا الانذار في الوسط الذي تنزلت فيه يومئذ ( شبه الجزيرة العربية ) حيث يعز الماء ، و في تلك العهود حيث الانسان لم يكتشف بعد وسائل التنقيب عن الماء و حفر الآبار العميقة ، لا شك انه كان عظيما ، ولا يزال و لن يزال كذلك عند أولي الألباب من المؤمنين الذين يعرفون ربهم و قدرته المطلقة ، فهم يخشونه دائما و يخافون سطواته ، و يدركون الإجابة علىقوله تعالى :
[ فمن يأتيكم بماء معين ]
انها النفي القاطع الشامل الأبدي : لا أحد يا رب العالمين لان الله وحده هو الرحمن و المالك و القادر الذي لا يغلب . و قد قال المفسرون في معنى " معين " انه الماء الذي من كثرته يظهر علـى وجه الارض و يرى بالعين ، فهو معين ، خلافا للغائر الذيشح و اختفى ، و قيل : هو الماء الجاري من العيون .
وقـــد اعطى أئمة الهدى - عليهم السلام - بعدا عميقا للآية بتأويلها في إمام الحق ، بانه الماء بما يحمله من رسالة الله و الهدى للناس ، أوليس الماء عصب الحياة و عمادها ؟ كذلك الإمام ، لانه يحيي اتباعه ببصائر الوحي و بالهدى الى الحق في حياتهم . أوليسالكفر و الضلال موتا ؟
قال الامام الصادق - عليه السلام - : " هذه نزلت في الامام القائم ، يقول : ان أصبح إمامكم غائبا عنكم لا تدرون أين هو فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السماوات و الارض ، و حلال الله و حرامه ؟ " (1) ، و قال الامام موسى الكاظم - عليه السلام - : " اذا فقدتم إمامكم فلم تروه فماذا تصنعون ؟ " (2) .
(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 387 .
(2) المصدر .
|