فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[34 - 38] بعد التحذير من العذاب في الدنيا و من العذاب الاكبر في الآخرة يرغبنا السياق في الجزاء الحسن الذي اعد للمتقين دون سواهم ، و ذلك بالتأكيد على انه لا يشمل كل من هب و دب ، لان للجزاء الإلهي مقاييس دقيقة حيث يتناسب بنوعه و قدره و درجات الناسالايمانية و أعمالهم الصالحة .

[ ان للمتقين عند ربهم جنات النعيم ]

ولم يقل ( جنات نعيم ) لان الألف و اللام يجعلان الكلمة اوسع معنى ، فبينما يدل قولنا : ( نعيم ) على جزء منه يتسع النعيم لتمام المعنى مما يتناسب و معالجة السياق لموضوع الترف حيث يسمو بالمؤمنين عن فتن الدنيا و يفتح أمامهم أفقا من النعيم الذي لا ينتهيعند حد و لا زمان فتتصاغر عنده الدنيا ، فلا يجدون ضيرا لانها زويت عنهم ، لان الآخرة خالصة لهم ، كما قال تعالى : " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة " (1) ، و بهذا تتعادل الصورة في اذهان المتقين بانهم ان لم يملكوا في الدنيا من متاعها فالآخرة خالصة لهم .

و ببيان هذه الحقيقة ان الجنات للمتقين يمهد القرآن لإبطال أماني المجرمين بتساويهم مع المؤمنين في الجزاء ، و تلك الاماني عامل من عوامل تكذيب المترفين(1) الاعراف / 32 .


الرسالة يعالجها القرآن الكريم في هذا السياق ، و هي التالية :

اولا : الأمنيات الباطلة بالتساوي في الجزاء مع المؤمنين .

هل يتساوى الصالح و الطالح ؟ كلا .. انه مرفوض عند كل عاقل .

[ أفنجعل المسلمين كالمجرمين ]

و المسلم هو الذي سلم نفسه لله بتطويعها وفق أوامره . و السؤال : لماذا قدم المسلمين على المجرمين بينما يفترض العكس باعتبار السياق ينفي مزاعم المجرمين بأنهم متساوون مع المتقين في الثواب ؟ و لكن المتدبر حينما يمعن النظر يهتدي الى لطائف بلاغية لترتيبالكلمات في الآية :

1 - انه تعالى في نهاية قصة اصحاب الجنة اكد حقيقة العذاب وأنه في الآخرة أكبر ، مما يرجح كفة الرهبة في النفس ، فجاءت الآيتان (34 / 35) لتحقيق المعادلة عند المؤمنين بالتأكيد على ان لهم جنات النعيم ، و انهم لا يعذبون كالمجرمين ، و يرفع الله رجاء المتقين الى اقصاه حينما ينفي تساوي المجرمين مع المسلمين الذين هم أقل شأنا من المؤمنين فكيف بالمتقين الارفع درجة حتى من المؤمنين ؟ و من جانب آخر يزيد من يأس المجرمين من الثواب حينما لا يفسح مجالا حتى لمجرد الاحتمال بأنهم يمكن ان يتساووا مع المسلمين بتقديمهم في الآية ( المجرمين كالمسلمين ) و جعـل مدارها حول الثواب بدل العقاب ، فان الآية على حالها تجعل العذاب مسلما به للمجرمين و يبقى التساؤل عن مصير المسلمين هل يتبعونهم فيه ام لا ؟

2 - ان الجزاء في واقعه ذات العمل الذي يقوم به كل انسان خيرا او شرا ، و لو انه سبحانه أعطى للمجرمين جنات النعيم كما يعطي المسلمين له لكان الأمر من أحد جهاته جعلا لهم كالمجرمين ، و كانهم لم يعملوا ما يتميزون به عنهم ، بل وكأنهم عملوا أعمالهم الإجرامية التي ساوت المصير و الجزاء بين الفريقين ، و هذا ما ينكره كل عاقل سليم ، و يستنكره السياق :

[ مالكم كيف تحكمون ]

يعني على أي أساس و منهج ؟ و لا يملك المترفون المجرمون أمام هذا المنطق إلا التسليم له و نبذ الأمنيات الباطلة بالعودة الى الحق و تحمل المسؤولية في الحياة كضرورة وجدانية و عقلية . وإنه ليضعهم أمام واحدة من اجابتين : فاما ان يحكموا بالتساوي ، و هذا مايرفضه كل عاقل ، وإما ان يحكموا بالاختلاف وأن الثواب للمسلم و العذاب للمجرم ( كما يحكم العقلاء ) فلابد إذن ان يضربوا بظنونهم عرض الحائط ، ثم كيف يتمنون على ربهم ذلك الحكم الجائر و هو المنزه عن الظلم و الجهل ؟ وما اظهر تسفيه هاتين الآيتين لبعض الفلسفات الصوفية المفرطة في الرجاء ، التي يستبعد دعاتها ان يعذب الله أحدا من الناس وهو الرؤوف الرحيم ، بل و يفسرون آيات العذاب القرآنية على أنها لمجرد التخويف و سوق الناس نحو العمل بالحق ليس إلا !!

إن أماني المترفين بالتساوي مع المؤمنين عند ربهم من العوامل الخطرة التي تدعوهم الى التكذيب بالحق و الحياة اللامسؤولة ، و التي تعيق فيهم اي سعي جاد ، بل و تبعث فيهم أسباب الإجرام . وأي قيمة تبقى للاحكام و الحدود الإلهية إذا كفر الانسان بحقيقة الجزاء و بانه من جنس العمل ؟! وأي حافز للالتزام بأوامر الله ، و الإرتداع عن نواهيه يظل إذا كفرنا بالآخرة او فصلنا بينهما وبين الدنيا ؟! ولذلك يتصدى السياق حتى الآية (45) للرد على تلك الأماني و الظنون .. و هكذا بعد ان اوضح بأنها لا تستند الى أي دليل وجدانيولا عقلي ينفي استنادها الى الوحي المصدر الثاني للعلم الحق ، بل حتى الى كتاب معتبر لدى العقلاء .

[ أم لكم كتاب فيه تدرسون * إن لكم فيه لما تخيرون ]و الكتاب الذي يدرسه الانسان هو العلم الثابت الذي يعتمده منهجا في الحياة فيعكف على دراسته بالبحث لفهمه و تطبيق ما فيه ، و ليس ثمة كتاب إلهي ولا حتى بشري معتبر لدى الناس يساوي في قوانينه و قيمه بين البري ء و المجرم مهما اختلفت الكتب البشرية و القوانين الوضعية في تحديد مصاديق المجرم ، لان الكتاب الذي يخالف كل قيم العرف لن يكون مقبولا عند الناس ، و اذا يحكم المترفون بالتساوي عند الله بين المجرم و المسلم فانما ينطقون من الأهواء و الأماني التي لا اعتبار لها عند العرف العام .

و هذه الاية تستثير فطرة الانسان و وجدانه و تستشهد بما تعارف عليه الناس على اختلاف مذاهبهم و قومياتهم ، كما الآيات القرآنية الأخرى التي تفرق بين المسلمين و المجرمين كالآية (35) ، و بين الجاهل و العالم (1) ، و بين الأعمى و البصير (2) ، و بين أصحابالجنة و أصحاب النار (3) .

و الآية (38) تكشف عن حقيقة يمكن لكل انسان ان يلمسها في واقع المترفين المستكبرين السياسي و الاجتماعي ، و هي انهم لا يريدون ان تحكم شريعة او نظام قانون أنى كان نوعها ، فحتى الدستور الذي يضعونه بانفسهم ، و حسب القياسات التي يختارونها لحكمهم تراهم يتهربون منه ، و لا يرضون به حكما بينهم و بين الناس . لماذا ؟ لان ذلك الدستور مهما كان ظالما و منحرفا لابد ان ينطوي على نسبة(1) الزمر / 9 " قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون " .

(2) فاطر / 19 " وما يستوي الأعمى و البصير " .

(3) الحشر / 20 " لا يستوي أصحاب النار و أصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون " .

من القيم حتى يكون مقبولا عند العرف العام ، وتلك النسبة تدين طائفة من تصرفاتهم فلا يريدونها ، و هكذا كانت مخالفة حكم العقل و القانون من أظهر سمات المجرمين ، كما ان تحكيم الهوى و الشهوات من أعظم بواعث الجريمة .

و لعلنا نهتدي من ذلك الى ان من عظمة الاسلام ان فيه قيما اساسية ثابتة لا يمكن تبديلها و تحويلها ، بل ان تبقى هي الميزان في المجتمع ، و هذه القيم لا يعطي الله لاحد ( من رسوله و امام او حاكم شرعي او دولة ) الحق في خرقها تحت اي عنوان ، و لأي سبب بالغما بلغ ، و الحكمة في ذلك انها فوقهم جميعا ، و ان دورهم هو التنفيذ و ليس التشريع ، كما ان الرسالة تفقد مصداقيتها و قيمتها لو بدلت فيها هذه القيم ، بلى . ان المصلحة العامة قد تقتضي تغيير بعض القوانين و لكن ضمن اطار قانوني معين .

[39 - 43] و بعد ان نفى السياق اي شاهد من عقل او نقل ( كتاب ) يؤيد مساواة المسلمين و المجرمين ، ينفي ان تكون للمجرمين ايمان على الله تقتضي برائتهم من النار و تحللهم عن أية مسؤولية تجاه أعمالهم .

[ أم لكم ايمان علينا بالغة ]

و الايمان البالغة اما بمعنى التامة من جميع جهاتها و شروطها ، نقول : بلغ الصبي اذا تمت رجولته و استوى ، او بمعنى الايمان التي لا تنقض و التي تتصل ..

[ الى يوم القيامة ]

و تقضي ان يكون الأمر كما يقولون بضرس قاطع ان لهم براءة من العذاب .

[ إن لكم لما تحكمون ]


فأنتم مفوضون من قبل الله ؟! و هذا لا دليل عليه ، فلو كانت ثمة يمين حلف بها الله فانها ستكون في رسالته و الحال ان فيها ايمان مناقضة بان يملأ جهنم من المجرمين ، و لعل قوله تعالى " الى يوم القيامة " يهدينا الى انهم في الظاهر يحكمون رقاب الناس في الدنيا و لكن الوضع يختلف تماما في الاخرة إذ لا تبقى لهم أية سلطة ، فهنالك الولاية لله الحق و له الحكم ، بل في الدنيا ايضا ليس بالضرورة ان يكون لهم ما يتمنون و يحكمون ، لانهم لا يقدرون على شيء إلا بإذن الله القاهر فوق عباده .

بلى . هناك وعد عند الله للمؤمنين بالمغفرة و الجزاء الحسن إذا ماتوا مؤمنين ، و ليس الى يوم القيامة دون شرط او قيد . و ما يتوهمه بعضهم من ان السلطان ظل الله في الارض ، او انه يعفى عن مسؤوليات افعاله ، لا يعدو مجرد تمنيات تفرزها الاهواء ، و هي تتبخرعند الحجة العقلية . من هنا يتحدى السياق ان يملك احد الشجاعة على تبني ذلك القول و الدفاع عنه و المجادلة بشانه .

[ سلهم أيهم بذلك زعيم ]

و الزعيم : الكفيل الذي يقوم بالأمر و يتصدى له ، و منه زعيم القوم ، و لا احد يتكفل هذا الأمر لانه لا يعتمد على دليل منطقي ، انما ينطلق من الخيال و الظن ، و هذه الآية تتشابه و قوله تعالى : " فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا " (1) .

و يمضي السياق قدما في تسفيه الزعم الواهي بتساوي المجرمين مع المسلمين ، حيث ترى كثيرا من المجرمين و المذنبين يتكلون على الشركاء و الأنداد ، و يزعمون بأنهم ينقذونهم من جزاء أفعالهم المنكرة ، و يزعمون بأنهم يستطيعون التأثير على(1) النساء 109 .


حكم الله بحكم الشراكة معه في الملك و التدبير ، سبحانه ، و هكذا تراهم يعتقدون بالشفاعة الحتمية التي تقتضي نجاتهم من العذاب يقينا بفعل تأثير الآلهة الصغار كالاصنام و الملائكة و الجن و الاولياء الذين يتوهم البعض انهم يتقاسمون الله الربوبية سبحانه و تعالى.

[ أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم ان كانوا صادقين ]و المشركون حينما يعودون الى وجدانهم ، او عند المواجهة العلمية بالجدال او الواقعية حيث يجازي الله الناس ، يعرفون ان لا حول للشركاء ، و انهم انما يخدعون أنفسهم و يخادعون الآخرين إذ يتظاهرون بعقيدة الشرك ، ولقد رأينا كيف أفحم نبي الله إبراهيم - عليهالسلام - المشركين في عصره عند المجادلة ، " قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم ان كانوا ينطقون * فرجعوا الى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون * ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون * قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم و لما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون " (1) .

و في هذه النهاية القوية يتضح لنا انه تعالى في الآية (41) من سورة القلم إنما طالبهم بأن يأتوا بشركائهم استثارة لوجدانهم و عقولهم للتحقيق في زعم الشركاء ، باعتبار ان بطلانه لا يحتاج الى أكثر من ذلك ، فهناك مزاعم كثيرة يسترسل معها الانسان و يعتبرهامسلمات بل مقدسات و لكن بمجرد عرضها على عقله و وجدانه و التفكير فيها بجد يتبين له مدى سخفها ، و انما كانت هذه المسلمات تستمد قوتها من التمنيات و من الغفلة و الجهل .

وإذا كان الانسان قادرا على فضح باطل الشركاء بالوجدان و العقل في الدنيا(1) النساء 62 - 67 .


فان كذب كل مزاعمهم و ظنونهم الباطلة يتبين بأجلى صورة في الآخرة .

[ يوم يكشف عن ساق ]

و للكشف عن الساق تفاسير أهمها :

الف : قيل انه ساق العرش يكشف الله عنه يوم القيامة ، و قال الامام الرضا - عليه السلام - : " حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجدا " (1) .

باء : و أوغل البعض في الوهم إذ قالوا انه ساق الله سبحانه عما يصفون ، و رووا عن النبي - صلى الله عليه وآله - انه قال : ( يكشف الله عز وجل عن ساقه ) و أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن منده عن ابن مسعود .. قال : عن ساقيه تبارك و تعالى.. وضعفه البيهقي (2) ، و يبدو ان ذلك من افكار المجسمة التي تسربت الى الثقافات الدينية لدى بعض المسلمين ، كما اختلطت مع الافكار المسيحية من قبل . و قد رد الفخر الرازي ردا مفصلا على هذه الخرافة في التفسير الكبير (3) .

جيم : وقد يكون الكشف عن الساق كناية عن انه يوم الجد و الشدة ، وفي المجمع عن القتيبي : أصل هذا ان الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج الى الجد فيه يشمر عن ساقه ، فاستعير الكشف عن الساق في موضع الشدة .. تقول العرب : قامت الحرب على ساق ، و كشفت عن ساق يريدون شدتها .. قال الشاعر : قد شمرت عن ساقها فشدوا وجدت الحرب بكم فجدوا و القوس فيها وتر(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 395 .

(2) الدر المنثور / ج 6 - ص 254 .

(3) التفسير الكبير عند الآية في المجلد 30 .


عرد (1) .

دال : و يمكن القول انه كناية عن تجلي اصول الحقائق ، و انما استخدم القرآن الكشف عن الساق لان ساق الشيء اصله ، و على هذا قيل ساق الشجرة . و يوم القيامة هو يوم الكشف عن أصل الحقائق فهنالك يكشف للناس الحق الأصل و أعمالهم ، قال علي ابن ابراهيم : يوم يكشف عن الأمور التي خفيت (2) ، و لعلنا نلمس تلويحا الى هذا المعنى في قوله تعالى : " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " (3) . اذن فيوم القيامة هو يوم سقوط الحجب عن الحقيقة ليراها الناس كما هي ، و هل ترى الساق إلا حينمايكشف عنها ما يمنع الرؤية عنها ؟

و كذلك يتضح للمجرمين بطلان حكمهم بالتساوي مع المسلمين ، و انه ليس من كتاب يؤيد ذلك ، و لا يمين بالغة قطعها الله على نفسه لصالحهم ، و لا شريك موجود فينفعهم يوم القيامة ان لم يكتشفوا ذلك بأنفسهم في الدنيا ، فيهتدوا للحق ، و يسلمون لله بدل ممارسة الجريمة حيث الفرصة قائمة لا تزال ، و الا فان شيئا من ذلك لا ينفعهم قيد شعرة في الآخرة لانها دار جزاء لا عمل فيها .

[ و يدعون الى السجود ]

دعوة تشريعية يوجهها منادي الحق يومئذ ، و تكوينية يفرضها هول الموقف و عظمة تجليات الحقيقة ، و هنالك يستجيب المؤمنون لربهم بطبيعة التسليم التي كانوا عليها في الدنيا ، و بفعل الخشية من مقام الله ، بل لا يملك أحد من أهل المحشر(1) مجمع البيان / ج 10 - ص 339 .

(2) تفسير القمي / ج 2 - ص 383 .

(3) ق / 22 .


إلا الاستجابة لدعوة الحق لولا انه تعالى بحكمته يمنع المجرمين من ذلك .

[ فلا يستطيعون ]

جاء في الحديث المأثور عن النبي - صلى الله عليه وآله - : " تبقى أصلابهم طبقـا واحدا " (1) اي فقارة واحدة ، و في نور الثقلين عن الامام الرضا - عليه السلام - " تدمج اصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود " (2) ، و بالاضافة الى هذا المعنى الظاهري تتسع الآية لمعنى أعم وهو ان المجرمين لا يملكون يوم القيامة أية حرية ، ليعلموا ان ليس لهم ما يتخيرون ولا ما يحكمون كما كانوا يظنون ، و ليسوا كوضعهم في الدنيا حيث أطلقوا العنان لأهوائهم فلم يراعوا حلال الله و حرامه ولا حقا و باطلا ، و بالذات اولئك الذين تسلطوا على رقاب الناس فتمادوا في الجريمة طغيانا و ظلما .

و يصور لنا القرآن حالهم حيث الهوان الظاهر على جوارحهم و وجوههم ، و الذلة الباطنة التي تكاد تقتلهم ارهاقا في المحشر . وقد شمخوا بأنوفهم حتى كادت تستطيل مثل الخرطوم ، و استكبروا و بالغوا في التظاهر بالعزة في الدنيا لأنهم في أيديهم المال و السلطة وحولهم الاتباع .

[ خاشعة أبصارهم ]

مرسلة الى الاسفل لا يرفعونها بين الناس لما هم فيه من ذل الموقف الذي لا يستطيعون معه حتى النظر الى الآخرين .

[ ترهقهم ذلة ]


(1) الكشاف / ج 4 - ص 595 .

(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 395 .


أي تغشاهم و تعلو و جوههم ذلة ، و يحتمل ان يكون المعنى أي تحملهم الذلة مالا يطيقون من الأذى المعنوي ، و تتعبهم كما تتعب الكلاب الصيد ، يقال : أرهقه أي حمله على ما لا يطيق ، و حكمة الله في منع المجرمين عن السجود بعد أمرهم به فضيحتهم في المحشر حيث يمتاز بامتحان السجود المسلم عن المجرم ، قال قتادة ذكر لنا ان النبي - صلى الله عليه وآله - كان يقول : " يؤذن للمؤمنين يوم القيامة في السجود فيسجد المؤمنون ، و بين كل مؤمن منافق فيتعسر ظهر المنافق عن السجود " (1) ، و بذلك يعرف الناس حقيقته ، حيث ان الآخرة في حقيقتها انعكاس لاعمال الانسان في الدنيا ، و بالتالي فان التمايز في الجزاء هناك هو صورة للتمايز في الاعمال و الصفات هنا في الدنيا ، و هذا يعمق المسؤولية في النفوس ، و يدفعها باتجاه التسليم لربها و استغلال فرصة الدنيا لمستقبل الآخرة .


[ وقد كانوا يدعون الى السجود و هم سالمون ]

معنويا و ماديا بحيث لم يكن عندهم عذر يبرر عدم تسليمهم لدعوة الله سوى اتخاذهم الهوى الها من دونه عز وجل ، و لعلنا نستوحي من الآيتين (42 - 43) فكرة هامة تتصل بسلوك الانسان في الدنيا ، و هي : انه حينما لا يستغل نعم الله عليه كالصحة و الغنى فانها قد تسلب منه فيفوته الانتفاع بها ، او يسلبه الله توفيق الطاعة بسبب تماديه في المعصية و الجريمة حتى يصل به الأمر انه قد يفكر في التوبة و الاستجابة لدعوة ربه و لكنه لا يوفق لذلك لانه قد طبع على قلبه .

[44 - 45] و لان المترفين يعتبرون تتالي النعم عليهم دليلا على رضاه تعالى عنهم ، فيتمادون في التكذيب بالرسالة و محاربة الرسول اعتمادا على ذلك ، جاءت الآيات تؤكد بأن الحقيقة عكس ذلك تماما لان الله يكيد لهم عبر خطة حكيمة ،(1) الدر المنثور / ج 6 عند الآية .


وأي كيد أعظم من ذلك الذي يحسبه الانسان خير و هو شر و بيل ، و ينطوي على حرب مباشرة بين الخالق العظيم الجبار شديد العقاب و بين المخلوق الحقير الضعيف المسكين يمشي اليها برجله و يقع في فخاخها بغتة ؟!!

[ فذرني و من يكذب بهذا الحديث ]

يعني الرسالة التي هي حديث الله الى الانسان ، ومن الرسالة حديث الآخرة و العذاب ، وما أخوف هذه الآية للمكذبين ان يبارزهم رب العزة مباشرة ، وما أسوء مصير من لا تبقى بينه و بين ربه رحمة !

و ما أرجى هذه الآية في نفس الوقت للرساليين الذين يواجهون تحديات المترفين في مسيرتهم الجهادية ، فانها تثلج صدورهم و تزرع فيها الاطمئنان و السكينة بأنهم منتصرون و محميون لان الله يدافع عنهم ، وان الله سيدمر المكذبين بدعوتهم الصادقة و المعارضين لها ،ان خطة الحرب الإلهية ضدهم تمر خلال كيد متين ( قوي لا يستطيع أحد تحديه و الانتصار عليه ، و محكم لا يجد الطرف الآخر ثغرة ينفذ فيها حينما يواجهه ) بحيث يدخل هو كعنصر فعال ضد نفسه دون ان يعلم ومن حيث لا يتوقع .

[ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ]

في المنجد : تدرج الى كذا تقدم اليه شيئا فشيئا ، و استدرجه صار به من درجة الى درجة وحدعه (1) ، وفي هذه الآية اشارة واضحة الى انه تعالى يجعلهم يتقدمون للوقوع في المكيدة من خلال نقاط ضعف عندهم ، هم قاصرون عن وعيها ، بحيث يصيرها الله عاملا يستحثهم للوقوع في عذابه . ومن أهم نقاط ضعفهم ما أترفوا فيه


(1) المنجد مادة درج بتصرف .


من الاحوال و الاتباع الذي يزيد لهم فيه ليطغوا في الدنيا و يأتوا يوم القيامة لاخلاق لهم .

[ و أملي لهم ان كيدي متين ]

وكلما أترفهم الله ظنوا ذلك دليلا على رضاه عنهم ، و ان مسيرتهم سليمة ، فيتمادون في الانحراف و لا يعلمون ان الاملاء كيد متين ضدهم ، " فذرهم في غمرتهم حتى حين * أيحسبون أنما نمدهم به من مال و بنين * نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " (1)، " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرا لانفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما و لهم عذاب مهين " (2) ، و الاملاء هو الزيادة في النعم و الإمهال في الأخذ ، و لماذا يستعجل الله وهو لا يفوته أحد وله الأولى و الآخرة ؟

و في النصوص تحذير من حالة الاستدراج الذي يأتي نتيجة لاسترسال الانسان ، قال الامام الصادق - عليه السلام - : " إذا أحدث العبد ذنبا جدد الله له نعمة فيدع الاستغفار فذلك الاستدراج " (3) و قال - عليه السلام - : " إذا أراد الله عز وجل بعبد خيرا فأذنب ذنبا تبعه بنقمة و يذكره الاستغفار ، و اذا أراد الله عز وجل بعبد شرا فأذنب ذنبا تبعه بنعمة لينسيه الاستغفار و يتمادى به ، و هو قول الله عز وجل : " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " بالنعم عند المعاصي " (4) ، و في رواية : "ان رجلا من بني إسرائيل قال : يا رب كم أعصيك وأنت لا تعاقبني ؟! فـــأوحى الله الى نبي زمانهم ان قل له : كم من عقوبة لي عليك و أنت لا تشعر ، ان جمود عينيك و قساوة قلبك استدراج مني و عقوبة لو عقلت " ، وفي(1) المؤمنون / 54 - 56 .

(2) آل عمران / 178 .

(3) مجمع البيان / ج 10 عند الآية .

(4) نور الثقلين / ج 5 - ص 397 .


الكشاف قال الزمخشري : قيل : " كم من مستدرج بالاحسان اليه ، و كم من مفتون بالثناء عليه ، و كم من مغرور بالستر عليه " (1) .

ثانيا : الاعتقاد بان الرسالة مغرم .

[46] و ثمة مرض عضال يستولي على قلوب المترفين يدعوهم للتكذيب بالرسالة و الرسول و كل حركة اصلاحية في المجتمع و هو شعورهم الخاطىء بان الاستجابة لها و اتباع المصلحين مغرم يخالف مصالحهم و من طبيعة رؤوس الأموال و أصحابها الجبن . و لكن هل الرسالة جاءت لتأخذ منا شيئا أم جاءت لتعطينا الكثير وفي مختلف جوانب الحياة الفردية و الاجتماعية و الحضارية ؟

بلى . قد يتصور الانسان حينما يلاحظ برامج الانفاق التي تفرضها رسالة الله و تدعو القيادات الرسالية اليها ان الاستجابة لذلك مغرم ، و لكن البصيرة النافذة تناقض ذلك تماما ، فان المجتمع حينما تحكمه القوانين الإلهية سوف ينمو اقتصاديا و حضاريا لصالح الناسو حتى لصالح اصحاب الثروة ، لما في الرسالة من برامج لتنميتها و تدويرها . و ليس أدل على ذلك من دراسة تجربة مجتمع الجاهلية المتخلف في شبه الجزيرة العربية و مقارنتها بواقع الاسلام حينما آمنوا بمناهجه و كيف تطورت حياتهم ، فلماذا إذن يكذب المترفون ؟!

[ ام تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ]

و المغرم في التجارة الخسارة او ما يعطى من المال على كره (5) ، و التجارة التي يــدل الرسول الناس عليها لا خسارة فيها ، بلى هي مشتملة على أرباح الدنيا و الاخرة ، كما انه (ص) لا يسأل أحدا أجرا على تبليغ الرسالة لانه (ص) ( و كذلك كل قيادة رسالية ) انما يبلغ لوجه الله لا يريد جزاءا ولا شكورا ، ولا يطالب بمال ولا منصب ،(1) المنجد مادة غرم .


إنما لأجر الله عز وجل الذي وعده و كل مصلح مخلص فقال : " و إن لك لأجرا غير ممنون " كما مر في مطلع السورة .

نعم . ان دعوة الرسول (ص) خالصة من أي تطلع نحو حطام الدنيا ، فلا مبرر يدعو المترفين للتكذيب به أو التشكيك في سلامة رسالته ، و حيث يتثاقلون عن اتباعه فلمرض في صدورهم .

ثالثا : البطر .

[47] ان المترفيـــن ينظـرون الى الحياة و يقيمون كل شيء فيها من خلال المادة ( المال و الثروة ) و كانها كل شيء ، و ما دامت في ايديهم فإنهم لا يحسون بالحاجة الى العلم او القائد العالم الذي يهديهم الى الحق ، و يرشدهم في جوانب الحياة المعنوية ، و القرآن ينفي ذلك فيتساءل مستنكرا :

[ أم عندهم الغيب فهم يكتبون ]

كلا .. ان علم الغيب يختص بالله ، وإذا أخرجه الله فهو إما في رسالاته وإما عند رسله الذين يرتضي ، لانهم وحدهم الذين يتصلون به عبر الوحي . و الذي يريد اتصالا بالغيب فلا طريق له اليه الا بالتصديق بالرسالة و الرسول " و ما كان الله ليطلعكم على الغيب و لكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله و رسله " (1) ، و المترفون يكذبون بهما فكيف يدعون علم الغيب ؟!

إن علم الغيب عند الله وهو وحده الذي يستطيع ان يكتبه بالقلم على لوح الاقدار ، لأنه لا يتبع الظن او التخمين . أما البشر فإنهم ولو ادعوا ذلك(1) آل عمران / 179 و لقد جاءت هذه الآية الكريمة في سياق مفصل للترف و المترفين .


( كالمنجمين و الكهنة ) فهم لا يثبتونه بمثل الكتابة باعتباره لا قطع به . و ان المترفين ليدعون علم الغيب حيث يظنون في أنفسهم بان أموالهم باقية وسوف تزداد في المستقبل ، و لا يدرون لعلها في علم الله تزول ، قال تعالى : " أفرايت الذي كفر بآياتنا و قاللأوتين مالا و ولدا * اطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا * كلا سنكتب ما يقول و نمد له من العذاب مدا " (1) .

وما داموا لا يملكون ناصية العلم فهم بحاجة ماسة الى مصادره ( الرسالة ) و ما تكذيبهم بهما إلا دليل على ما هم فيه من العتو و الجحود .

[48 - 50] و الاسباب الثلاثة التي مر ذكرها تجعل الحركة التغييرية في اوساط المترفين تواجه تحديات صعبة من شأنها ان توحي للبعض بان التغيير مستحيل البتة ، و في ذلك خطران على المصلحين :

الاول : خطر التراجع عن المسيرة ، كنتيجة طبيعية لليأس من الوصول الى الاهداف المنشودة من الحركة التغييرية ، او لا أقل التنازل عن بعض القيم و التطلعات ، و الاستسلام للتحديات المضادة ، و مـــن ثــم المداهنة فيها ، و الى ذلك أشار الله في قوله : "فلعلك تارك بعض ما يوحى اليك و ضائق به صدرك ان يقولوا لولا أنزل عليه كنز او جاء معه ملك إنما أنت نذير و الله على كل شيء وكيل " (2) .

الثاني : خطر اليأس من الناس ، مما يؤدي الى اعتزالهم و الانطواء على الذات ، و من ثم إصدار حكم الكفر عليهم مما يفقد المصلحين الفاعلية التغييرية .

و هكذا يحتاج الرساليون الى مزيد من الصبر في مواجهة تكذيب المترفين . الصبر(1) مريم / 77 - 79 .

(2) هود / 12 .

كصفة نفسية تعطيهم روح الاستمرار و الاستقامة على طريق الرسالة .

[ فاصبر لحكم ربك ]

أي ان ذلك ليس أمرا شاذا ، بل هو من القوانين و السنن الطبيعية التي حكم الله بها ان تكون في المجتمعات ، و معرفة هذه الحقيقة من شأنه ان ينفخ روح الصبر و الاستقامة في نفوس المصلحين فلا يستعجلون النتائج او يكفرون المجتمع ، ولا حتى يكونون كيونس بن متى -عليه السلام - الذي زرعت تحديات قومه في نفسه الغيظ و الغضب لرسالة ربه فدعا عليهم بالهلاك .

[ و لا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم ]

قـــال الامام الباقر - عليه السلام - " اي مغموم " (1) ، و في تضاعيف الآيتين (48 - 49) تحذير للمؤمنين من ان عدم الصبر لحكم الله ليس لا يخدم الرسالة فقط ، بل و يضر بهم أنفسهم ، كما أضر بيونس - عليه السلام - .

[ لولا ان تداركه نعمة من ربه ]

فسبحه و اعترف ان النقص كان فيه اذ تعجل بالدعاء على قومه ، و لم يصبر لحكم ربه فظلم نفسه ، و ليس في تدبير الله ولا في حكمه .

[ لنبذ بالعراء و هو مذموم ]

من قبل ربه او عند قومه و عبر التاريخ بسبب موقفه ، و نبذ الله له بالعراء يدل على عـــدم رضاه عنه ، و لكنه تعالى تداركه بنعمة منه معنوية حيث تاب اليه ، و مادية حيث أخرجه من بطن الحوت و أنبت عليه شجرة من يقطين تظله عن ذلك العراء .


(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 399 .


[ فاجتباه ربه فجعله من الصالحين ]

و الاجتباء هو الاختيار و الاصطفاء ، وقد بين الله ذلك حتى لا تصير قصة يونس - عليه السلام - مع قومه سببا للطعن فيه ، و النيل من شخصيته . و الآية تهدينا الى ان الانسان بعد الخطيئة و التوبة يمكن ان يسمو بنفسه الى مقام يجتبيه ربه ، فيصيره في عداد أئمةالصلاح و التقوى ، كما تهدينا عموم قصة يونس الى ان الله يمتحن الرساليين بعناد أقوامهم ليرى هل يصبروا لحكمه أم لا .

و هذا جانب من القصة نقلهــا العياشــي في تفسيــر بالتفصيل : عن الامام الباقر - عليه السلام - قال : " كتب امير المؤمنين علي بن ابي طالب - عليه السلام - قال : حدثني رسول الله - صلى الله عليه و آله - ان جبرئيل حدثه ان يونس بن متى بعثه الله الى قومه وهو ابن ثلاثين سنة ، و كان رجلا تعتريه الحدة ، و كان قليل الصبر على قومه و المداراة لهم ، و انه اقام فيهم يدعوهم الى الايمان بالله و التصديق به و اتباعه ثلاثا و ثلاثين سنة ، فلم يؤمن به ولم يتبعه من قومه الا رجلان : اسم أحدهما روبيل و الآخر تنوخا، و كان روبيل من اهل بيت العلم و النبوة و الحكمة ، و كان قديم الصحبة ليونس بن متى من قبل ان يبعثه الله بالنبوة ، و كان تنوخا رجلا مستضعفا عابدا زاهدا منهمكا في العبادة و ليس له علم ولا حكم ، و كان روبيل صاحب غنم يرعاها و يتقوت منها ، و كان تنوخا رجلاحطابا يحتطب على رأسه و يأكل من كسبه ، و كان لروبيل منزلة من يونس غير منزلة تنوخا لعلم روبيل و حكمته و قديم صحبته ، فلما رأى ان قومه لا يجيبونه ولا يؤمنون ضجر ، و عرف من نفسه قلة الصبر ، فشكا ذلك الى ربه ، و كان فيما شكا ان قال : يا رب انك بعثتني الىقومي و لي ثلاثون سنة فلبثت فيهم أدعوهم الى الايمان بك و التصديق برسالتي و أخوفهم عذابك و نقمتك ثلاثا و ثلاثين سنة فكذبوني ، ولم يؤمنوا بي و جحدوا نبوتي و استخفوا برسالتي ، وقد توعدوني و خفت ان يقتلوني ، فأنزل عليهم عذابك فإنهم قوم لا يؤمنون ، فأوحى الله الى يونس : ان فيهم الحمل و الجنين و الطفل و الشيخ الكبير و المرأة الضعيفة و المستضعف المهين و أنا الحكم العدل ، سبقت رحمتي غضبي ، لا أعذب الصغار بذنوب الكبار من قومك ، و هم يا يونس عبادي و خلقي و بريتي في بلادي و في عيلتي ، أحب ان أتأناهم و أرفق بهم و أنتظر توبتهم ، و انما بعثتك الى قوم لتكون حيطا عليهم ، تعطف عليهم سخاء الرحمة الماسة منهم ، و تتأناهم برأفة النبوة ، فاصبر معهم باحلام الرسالة ، و تكون لهم كهيئة الطبيب المداوي العالم بمداواة الدواء ، فخرجت بهم و لم تستعمل قلوبهم بالرفق ، و لم تمسسهم بسياسة المرسلين ، ثم سألتني مع سوء نظرك العذاب لهم عند قلة الصبر منك ، و عبدي نوح كان أصبر منك على قومه ، و أحسن صحبة ، و أشد تأنيا في الصبر عندي ، و أبلغ في العذر ، فغضبت له حين غضب لي ، و أجبته حين دعاني ، فقال يونس : يا رب انما غضبت عليهم فيك، و انما دعوت عليهم حين عصوك ، فوعزتك لا أنعطف عليهم برأفة أبدا ، ولا أنظر إليهم بنصيحة شفيق بعد كفرهم و تكذيبهم إياي ، و جحدهم نبوتي ، فأنزل عليهم عذابك فانهم لا يؤمنون أبدا ، فقال الله : يا يونس انهم مائة الف او يزيدون من خلقي ، يعمرون بلادي ، و يلدون عبادي ، و محبتي أن أتأناهم للذي سبق من علمي فيهـم و فيك ، و تقديري و تدبيري غير علمك و تقديرك ، و أنت المرسل و أنا الرب الحكيم ، و علمي فيهم يا يونس باطن في الغيب عندي لا تعلم ما منتهاه ، و علمك فيهم ظاهر لا باطن له ، يا يونس قد أجبتك الى ما سألت، أنزل العذاب عليهم ، وما ذلك يا يونس بأوفر لحظك عندي ، و لا احمد لشأنك ، و سيأتيهم العذاب في شوال في يوم الاربعاء وسط الشهر بعد طلوع الشمس ، فأعلمهم ذلك ، فسر يونس ولم يسؤه و لم يدر ما عاقبته " (1) .

[51 - 52] و بعد ان يأمر الله نبيه ( و عبره كل داعية رسالي ) بالصبر لحكم(1) تفسير العياشي / ج 2 ، ص 129 - 130 .


الله ، مشيرا الى قصة صاحب الحوت النبي يونس و تجربته مع قومه ، و محذرا له من الوقوف كموقفه في هذا الجانب ، يوصل الكلام بذلك الأمر ، مؤكدا على الصبر في طريق الرسالة ، مهما كانت التحديات المضادة و الضغوط مدعاة للتخلي عن الرسالة او ردات الفعل العشواء ضد المكذبين و الكافرين .

[ و ان يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ]أي اصبـــر لحكم ربك بالرغم من ذلك ، و الزلق من الانحراف ، قال صاحب المنجد : ازلقه : ازله و أبعده عن مكانه و نحاه ، و زلقت القدم : لم تثبت ، و الفرس أجهضت و ألقت ولدها قبل تمامه ، و الارض الزلقة : الملساء التي لا شيء فيها (1) ، و لا تثبت عليها قدم.. فيزلقوك إذن بمعنى يزلون قدمك عن مسيرة الحق ، سواء بالمداهنة التي يودها المكذبون او بالمواجهة و التحدي .

و لقد ذهب أكثر المفسرين الى ان معنى الإزلاق بالابصار هو الحسد الذي يؤثر في الانسان بصورة غيبية ، و نقلوا عن الرسول - صلى الله عليه وآله - : " ان العين تدخل الرجل الى القبر ، و الجمل الى القدر " و قوله يعوذ الحسنين : " أعيذكما بكلماتالله التامة ، و أسمــائه الحسنى كلها عامة ، من شر السامة و الهامة ، و من شر كل عين لامة ، ومن شر حاسد إذا حسد " (2) ، و قد يكتشف البشر أسرار ظاهرة الحسد اذا تقدموا في العلم و دراسة الحالات النفسية ، و لكن الاقرب من هذا المعنى انها كناية عن المواقف الحاقدة التي تعبر عنها نظراتهم الحادة كالسهم النافد و كحد الحسام المرهف . و نحن من هذه الظاهرة البصرية يجب ان ننطلق لمعرفة ما وراءها و ما تعبر عنه من الضغوط ، و المواقف النفسية و الاجتماعية و السياسية للكفار ضد(1) المنجد مادة زلق .

(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 400 .


كل قيادة رسالية تنشد التغيير ، و بالذات إعلامهم الموبوء بمختلف الدعايات و التهم الباطلة .

[ و يقولون إنه لمجنون ]

و قولهم هذا يعبر عن ذلك الفيض الذي امتلأ به قلوبهم و الموقف الذي أظهرته ابصارهم ، و هكذا كلمات القرآن يفسر بعضها بعضا ، فقوله سبحانه " يزلقونك بأبصارهم " يفسر قوله سبحانه : " و يقولون انه لمجنون " ، فعبر أبصارهم الحادة و كلماتهم النابية يريدون أبعادك عن الصراط المستقيم .

و اليوم و مع تطور الوسائل الاعلامية ينبغي ان يتوقع كل مصلح رسالي ان يواجه المزيد من الضغوط في مسيرته ، و بالتالي عليه ان يصبر في نفسه ، و يستقيم في حركته و عمله لوجه الله و تسليما بقضائه و حكمه ، فأنى كانت الضغوط و التهم لا يمكنها ان تغير من الواقع شيئا ، فهل يصبح العاقل مجنونا و الذكر أساطير الأولين بمجرد ان يقول الكافرون ذلك ؟ كلا .. لان الحقائق لا تتغير بقول المكذبين المنكرين ، و ان الدارس للقرآن لا يمكنه إلا التسليم بانه رسالة من الله الى الناس .

[ وما هو إلا ذكر للعالمين ]

و الذكر في مقابل الغفلة و النسيان ، و قد سمي القرآن بذلك لانه يذكر البشر بربهم و بالحق فـــي جوانب الحياة المختلفة ، بل و يكشف لهم من أسرار الوجود و قوانينه ، و يذكرهم بعقولهم التي تستثيرها آياته ، فهو الذي يحافظ على مسيرة الانسان مستقيمة على الفطرة و الحق و نحو الهدف السليم دون غفلة او انحراف " إن هو إلا ذكر للعالمين * لمن شاء منكم ان يستقيم " (1) .


(1) التكوير / 27 - 28 .


و حينما يكون القرآن ذكرا للعالمين ( و ليس لقوم النبي وحده ) يتبين انه يتجاوز البيئة الجاهلية الضيقة و الموبوءة بتلك الدعايات التافهة ، و يتسامى فوق تلك الحواجز التي وضعها الجاهليون حول أنفسهم ، و مجرد هذا التجاوز يدل على ان القرآن ليس وليد تلك البيئة ، و ان النبي ليس مجرد حكيم عظيم أفرزه ذلك المحيط ، بل هو رسول الله رب العالمين . ترى كم هي المسافة شاسعة بين قولهم انه مجنون و بين الحقيقة ؟


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس