بينات من الآيات [19] بعد عرض الناس للحساب تظهر حقيقتهم ، و تتعين مصائرهم على أساسها في ظل الهيمنة المطلقة للحق ، و لعله لذلك سميت القيامة بالحاقة ، فاما ان يكون الحق مع الانسان فيقوده الى الفوز بالجنة ، و اما ان يكون ضده فيسوقه الى بئس المصير في جهنم . و يكشف لنا القرآن عن غيب الآخرة ليضعنا امام مصيرين لا ثالث لهما بعد ان وضعنا في اجواء القيامة و احضر مشاهدها في قلوبنا لكي نختار احد الاثنين ، و بالطبع نرى السياق القرآني يرجح لنا بعرضه الحكيم خيار أصحاب اليمين .
[ فأما من أوتي كتابه بيمينه ]
مما يعني فوزه بالجنة و الرضوان ، لان اليمين رمز ذلك ، و كناية عن اليمن و البركة و الخير .
[ فيقول هآؤم اقرءوا كتابيه ]
قال العلامة الطبرسي " هاؤم " أمر للجماعة بمنزلة هاكم ( و اضاف : ) بمنزلة خذوا ، و انما يقول ذلك سرورا لعلمه بانه ليس فيه الا الطاعات ، فلا يستحي ان ينظر فيه غيره (1) ، و قال الرازي : دل ذلك على انه بلغ الغاية في السرور فأحب ان يظهره لغيره حتى يفرحوا بما ناله (2) ، و لعل خطابه موجه لإخوانه من أصحاب(1) مجمع البيان / ج 10 عند الآية .
(2) التفسير الكبير / ج 30 عند الآية .
الجنة ، و بالخصوص ائمة الحق الذين ينصبهم الله موازين للامم عند الحساب ، كما قال تعالى : " يوم ندعوا كل اناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فاولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا " (1) .
قال الامام الصادق (ع) : " كل أمة يحاسبها إمام زمانها ، و يعرف الائمة أولياءهم و اعداءهم بسيماهم ، وهو قوله تعالى : " و على الاعراف رجال يعرفون " و هم الائمة " كلا بسيماهم " فيعطوا اولياءهم كتابهم بيمينهم ، فيمروا الى الجنة بلا حساب ، و يعطوا أعداءهم كتابهم بشمالهم فيمروا الى النار بلا حساب ، فاذا نظر اولياؤهم في كتابهم يقولون لاخوانهم : " الآيتان 19 / 20 " (2) .
و كتاب المؤمنين الذي سجلت فيه صالحاتهم هو جوازهم على الصراط الى الجنة ، و شهادتهم في الإنتماء الى الصالحين و الابرار ، و تسجيل الله لهذه اللقطة " اقرؤوا كتابيه " يأتي للتأكيد على ان أحدا لا يدخل الجنة من دون ثمن ، بل إن الله خلق كل واحدو أعطاه الإرادة و الإختيار بأن يكتب بنفسه حياته و مستقبله المصيري ، و صفحات الانسان التي يتألف منها كتابه هي ساعات عمره التي يكتب فيها ما يشاء من الاعمال التي تحدد مصيره في الآخرة ، وفي الخبر النبوي انه : " يفتح للعبد يوم القيامة على كل يوم من أيام عمره اربعة و عشرون خزانة ( عدد ساعات الليل و النهار ) فخزانة يجدها مملوءة نورا و سرورا ، فيناله عند مشاهدتها من الفرح و السرور ما لو وزع على أهل النار لادهشهم عن الاحساس بألم النار ، وهي الساعة التي اطاع فيها ربه ، ثم يفتح له خزانة أخرى فيراها مظلمة منتنة مفزعة ، فيناله عند مشاهدتها من الفزع و الجزع ما لو قسم على أهل الجنة لنغص عليهم نعيمها ، وهي الساعة التي عصى فيها ربه ، ثم يفتح له خزانة(1) الاسراء / 71 .
(2) نور الثقلين / ج 5 - ص 407 .
أخرى فيراها فارغة ليس فيها ما يسره و لا ما يسوؤه ، و هي التي نام فيها ، او اشتغل فيها بشيء من مباحات الدنيا ، فيناله من الغبن و الأسف على فواتها حيث كان متمكنا من ان يملأها حسنات ما لا يوصف " (1) ، اما المتقون الذين لا يفترون عن طاعة الله و يذكرونه دائما وعلى كل حال " قياما و قعودا و على جنوبهم " فان اكثر صفحات كتبهم تتـــألق بنور الأعمال الصالحة التي يستبشرون بها ، و يدعون الاخرين لقراءتها يوم القيامة .
[20] و يؤكد الله ان الايمان بالجزاء ( الآخرة ) أصل كل خير ، و أساس كل عمل صالح في حياة المؤمنين ، فهو الدافع الذي يقف وراء الصالحات ، و الجامع المشترك بينها كلها ، و هذه الحقيقة تتضح لو قمنا بعملية استقراء دقيقة لحياة واحد من أصحاب اليمين ، الذينيعلن الواحد منهم هذه الحقيقة في صفوف المحشر يومئذ .
[ إني ظننت أني ملاق حسابيه ]
ولا يقول : سأعرف أو سأعلم حسابيه ، لان الانسان على نفسه بصيرة فهو الذي يكتب كتابه بنفسه .. إذن فهو يعلم بحسابه ولو بصورة مجملة ، فكيف و المؤمنون يحاسبون انفسهم ؟ انما يريد سألاقي من يحاسبني وهو الله و سأجازى ، لان ما بعد الحساب هو المقصود لذاته . والمعنى ان كل ما تقرؤونه في الكتاب من الصالحات هو ثمرة لشجرة الايمان بالآخرة ، و نبتة جذرها يعود الى ذلك .
وفـي معنى الظن اختلفت تعابير المفسرين ، فقال الزمخشري و تابعه الفخر الرازي : اي علمت ، و انما أجري الظن مجرى العلم لان الظن الغالب يقوم مقام العلم في العادات و الاحكام ، و يقال : " أظن ظنا كاليقين ان الأمر كيت(1) موسوعة بحار الانوار / ج 7 - ص 262 .
و كيت " (1) ، و هو ضعيف ، لان فيه تضعيف لكون الظن هنا بمعنى العلم و اليقين الذي ذهب اليه اغلب المفسرين وهو الأقرب و دلت عليه النصوص ، قال الامام علي (ع) وقد سأله رجل عما اشتبه عليه في القرآن : (( و أما قوله : " إني ظننت أني ملاق حسابيه " ، و قوله : " و تظنون بالله الظنونا " فان قوله : " إني ظننت أني ملاق حسابيه " يقول : إني ظننت أني أبعث فأجاب ، وقوله للمنافقين : " و تظنون بالله الظنونا " فهذا الظن ظن شك ، و ليس الظن ظن يقين ، و الظن ظنان : ظن شك و ظن يقين ، فما كان من أمر معاد من الظن فهو ظن يقين ، وما كان من أمر الدنيا فهو ظن شك " (2) .
و يبدو لي ان الظن في هذه الآية مرحلة متقدمة من العلم و اليقين ، لانه بمعنى الاستحضار و التصور ، فإن المؤمنين المتقين ليركزون الفكر في أمر الآخرة و يتخيلون مشاهدهـا الغيبية قائمة في الشهود أمام أعينهم ، فتارة يتصورون الجنة و ما فيها من النعيم ، و أخرى يتصورون النار وما فيها من شديد العذاب ، مما يزرع فيهم الخوف و الرجاء ، بل و يرون الجنة و النار بكل وضوح في الاعمال الدنيوية .
وان يقين المؤمنين بوجوب الحساب يجعلهم يتحركون في الحياة على أساس ذلك ، فإذا بهم يحاسبون أنفسهم و يسعون جهدهم ان تكون صحائفهم منورة بالصالحات ، فلغتهم في الحياة لغة رياضية ذات حسابات دقيقة في علاقاتهم ، و أوقاتهم ، و جهودهم ، و إنفاقهم و .. و ..
[21 - 23] و يبين الوحي جانبا من نعيم كل صاحب يمين فيقول :
[ فهو في عيشة راضية ]
(1) الكشاف / ج 4 - ص 603 .
(2) التوحيد للصدوق / ص 267 .
اي كاملة لا يعتريها نقص ولا عيب ، فإن الرضى لا يحصل إلا إذا وجد الاحساس بالكمال و عدم النقص ، و كون المؤمن في عيشة راضية دليل على بلوغه قمة الرضى لأن رضى المحيط و العيشة جزء من رضاه و يعززه ، فليس ثمة في محيطه شيء ولا أحد غير راض يبعث في نفسه عدمالرضى و الراحة النفسية ، فنعيم الجنة و حورها و كل شيء فيها ليفرح بالمؤمن و يرضى به .
وفي الآية فكرة عميقة و هي : ان المؤمن أين ما حل يحبه المحيط ، و تستأنس به الحياة ، لانه مبارك أين ما كان ، يرضى عنه الناس و الحيوان و النبات و حتى الارض و الجمادات التي تربطه بها رابطة ، فهو يخدم الناس و يتعب نفسه من أجلهم ، و يرفق بالحيوان ، و يرعى النبات ، و يصلح الارض ، و يستخدم كل شيء في طاعة ربه و لإهدافه المحددة ، مما يسبب شعورا داخله بالرضى ، و يضفي جو الرضا على ما حوله ، بينما الكافر العكس من ذلك تماما ، نفسه ساخطة ، و كل شيء ساخط منه ، لان علاقته ليست سليمة بما حوله .
قال الرسول (ص) : " الناس اثنان : واحد أراح ، و آخر استراح ، فأما الذي استراح فالمؤمن إذا مات استراح من الدنيا و بلائها ، و إما الذي أراح فالكافر إذا مات أراح الشجر و الدواب و كثيرا من الناس " (1) ، فهم غير راضين به ، و لا مستأنسين لوجوده، بعكس المؤمن الذي ترضى به عيشته حتى إذا مات تأثر له و حزن عليه كل شيء ، حتى جاء في الاخبار انه : " ما من مؤمن يموت في غربة من الارض فيغيب عنه بواكيه ، إلا بكته بقاع الارض التي كان يعبد الله عليها ، و بكته أثوابه ، و بكته أبواب السماء التي يصعدبها عمله ، و بكاه الملكان الموكلان به " (2) ، هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فالنصوص كثيرة و مستفيضة تحدثنا عن(1) موسوعة بحار الانوار / ج 6 - ص 151 .
(2) المصدر / ج 67 - ص 66 .
رضى الجنة و نعيمها حتى الفاكهة و الطير و القصور بسكانها من المؤمنين ، فقد جاء في الروايات ان الفاكهة تخاطب ولي الله ان كلني قبل هذه و تلك ، و ان الطير بعد ان يأكله يعود سويا فيطير في الجنة فرحا يفتخر على سائر الطيور قائلا : من مثلي وقد أكل مني ولي الله ؟ (1) .
و فكره أخرى نفهمها من الآية وهي : ان المؤمن لفي عيشة راضية حتى في الدنيا بسبب تسليمه لما يقسمه ربه له فيها ، و بسبب تطلعه الى الآخرة و نعيمها ، فلا يسأم من فقر ، و لا تعكر صفو عيشه مصيبة ، قال الامام الصادق (ع) : " ما من مؤمن إلا وقد جعل الله له من ايمانه أنسا يسكن اليه ، حتى لو كان على قمة جبل " (2) ، و لرضاه في الدنيا لله فانه يجعله في كمال الرضى معنويا و ماديا في الآخرة .
[ في جنة عالية ]
في درجتها و مقامها المعنوي ، و في ارتفاعها فان خير الجنان منظرا و ثمرا ما نبت على الروابي و ما كان شجرها عاليا رفيعا مما يزيدها روعة و ظلالا ، ولكن علو الجنة ليس بالذي يجعل ثمارها لا تطالها الأيدي ، كلا .. انما هي أقرب ما تكون ثمرة من قاطفها و جانيها .
[ قطوفها دانية ]
بحيث لا يحتاج المؤمنون لبذل جهد و عناء من أجل جنيها و أكلها ، و للدانية بالاضافة الى معنى القرب ( من الدنو ) معنى النضج و البلوغ ، فهي مقتربة من حين قطافها و قطعها من شجرتها .
(1) المصدر راجع المجلد الثامن عن الجنة و نعيمها .
قال رسول الله (ص) : " من قربها منهم يتناول المؤمن من النوع الذي يشتهيه من الثمار بفيه و هو متكىء ، و ان الانواع من الفاكهة ليقلن لولي الله : يا ولي الله كلني قبل ان تأكل هذا قبلي " (1) .
[24] و هنالك يدعى المؤمنون الى مأدبة الله ، و المشتملة على ما لذ و طاب من أنواع الأكل و الشراب التي لا يعلمها إلا هو عز وجل .
[ كلوا و اشربوا هنيئا ]
لا ينغصه عيب فيه ولا سبب خارجه ، وإنما يبعث الهناء بمنظره ( هو و آنيته و مائدته ) و بطعمه اللذيذ و فوائده الجمة . وفي الدعوة بفعل الأمر " كلوا و اشربوا " إشارة الى فكرتين : الأولى : الإباحة ، فكل شيء هناك مأكول و مشروب حلال مباح للمؤمنينلا حرام فيه ، و الثانية : ان الله يعطي أصحاب الجنة القدرة الواسعة على الإستلذاذ بنعيمها فهم يستطيعون الأكل و الشرب كلما شاؤوا لا يمنعهم مانع ، قال رسول الله (ص) : " و الذي نفسي بيده ان الرجل منهم ليؤتى قوة مئة رجل في الأكل و الشرب و الجماع " (2) .
ولأن منهج الرسالة يهدف اصلاح الانسان فهو لا يذكر قصص التاريخ ولا مشاهد القيامة إلا و يوجد رابطا بينه و بينها ، ليحدد لنا الموقف السليم تجاه ما يذكره ، كما سبق و ان قلنا : بأن القرآن يريدنا ان لا نعيش اللحظة الراهنة فقط ، إنما نعيش الحاضر على ضوءالماضي و المستقبل .. كذلك يبين الوحي ان نعيم الجنة نتيجة للعمل الصالح في الدنيا .
(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 216 .
(2) مجمع البيان / ج 10 - ص 346 .
[ بما أسلفتم في الأيام الخالية ]
و بهذا ينسف الأماني و الظنون الكاذبة ، و يضع الانسان أمام المسؤولية . وقد ذهب أكثر المفسرين الى القول بأن " أسلفتم " تعني الصيام ، و استشهد الدر المنثور بقول الله في حديث قدسي : " يا أوليائي ! طالما نظرت اليكم في الدنيا و قد قلصت شفاهكم عن الأشربة ، و غارت أعينكم ، و جفت بطونكم ، كونوا اليوم في نعيمكم ، و كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية " (1) ، و التفت الفخر الرازي الى معنى لطيف للكلمة فقال : و الإســلاف في اللغة تقديم ما ترجو ان يعود عليك بخير فهو كالإقراض ، و منه يقال : أسلف في كذا إذا قدم فيه ماله (2) .
و الذي أراه ان الصيام أحد مفردات الإسلاف ، أما الكلمة فهي عامة تتسع لكل الصالحات كالانفاق و الجهاد و الصلاة و .. التي هي ثمن الجنة بعد فضل الله و : " شتان ما بيـن عمليـــن : عمل تذهب لذته و تبقى تبعته ، و عمل تذهب مؤونته و يبقى أجره " ( 3) ، و ذلك هو الفرق بين اصحاب النار و اصحاب الجنة .
[25 - 27] و يمضي السياق قدما في تصوير جزاء الكفار الذين تعطى كتبهم في شمالهم دلالة على الشؤم و سوء المصير ، و ذلك لتتوازن معادلة الخوف و الرجاء في ذهن الانسان و يسمو بنفسه في آفاق القرب من الله ، يدفعه الرجاء للمزيد من العمل الصالح ، و يردعه الخوف عن محارم الله و اقتراف السيئات .
[ و أما من أوتي كتابه ]
(1) الدر المنثور / ج 6 - ص 262 .
(2) التفسير الكبير / ج 30 عند الآية .
(3) نهج البلاغة / حكمة 121 .
الذي اختطه و ألف ما فيه بنفسه .
[ بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه ]
و تعكس هذه الآية مدى الفارق بين الاثنين : الاول الذي يكاد يطير فرحا بكتابه ، و يدعو الاخرين لقراءته حتى يشاركوه السرور ، و الاخر الذي ليس لا يدعو الاخرين لقراءة كتابه بل يتعذب هو خجلا و حسرة مما فيه ، الى حد يتمنى لو ذهب به الى العذاب دون ان يقرأكتابه .
قال الفخر الرازي : و اعلم أنه لما نظر في كتابه يذكر قبائح افعاله خجل منها ، و صار العذاب الحاصل من تلك الخجالة أزيد من عذاب النار ، فقال : ياليتهم عذبوني بالنار و ما عرضوا هذا الكتاب الذي ذكرني قبائح أفعالي ، حتى لا أدفع هذه الخجالة ، و هذا ينبهكعلى ان العذاب الروحاني أشد من العذاب الجسماني (1) ، و الى مثل هذا ذهب اكثر المفسرين . ثم يضيف القرآن بلسان حال اصحاب الشمال قائلا :
[ ولم أدر ما حسابيه ]
مما يدل على وجود ثلاثة انواع من العذاب : عذاب الفضيحة بين الناس و الذي يحل باصحاب الجحيم فور إعطائهم كتبهم بشمالهم مما يعرفهم لأهل المحشر بأنهم من الخاسرين المعذبين ، و العذاب النفسي ( بالخجل و الندم ) الذي يحل بالنظر في صحائفهم المسودة بالقبائح والسيئات التي اكتتبوها لانفسهم ، و العذاب الذي يتلقونه عند ورودهم النار ، و لذلك فانهم يتمنون لو ان موتتهم الدنيوية كانت النهاية ، فلا بعث ولا حساب ولا جزاء بعدها .
(1) التفسير الكبير / ج 30 عند الآية .
[ ياليتها كانت القاضية ]
و القاضية التي ينتهي بها كل شيء . و حينما تدقق النظر في الآيات قد تهتدي الى حقيقة لطيفة و ذلك من تكرار صيغة التمني على لسان اصحاب النار (الآيات 25 / 27) وهي : ان من أهم أسباب الخسران هو التمني الذي يعتمد عليه الكافر بدلا عن العمل و السعي ، و الذيلا يغير في الواقع شيئا ، لا في الدنيا ولا في الاخرة .. وإنه قادر على النجاة من سوء العاقبة و الجزاء و الانتقال من اصحاب الشمال الى اصحاب اليمين و لكن عبر السعي و العمل ، و ليس بالتمنيات الخادعة التي يلوكها بلسانه حتى في عرصة القيامـة .
[28 / 30] و حيث ان القيامة - كما سبق و بينا - سميت بالحاقة لكونها تحق الحق ( تظهره و تغلبه ) فان اصحاب الشمال الذين حجبهم ضلالهم عن معرفة الحقائق و التسليم لها في الدنيا تزيل حوادث الاخرة و أهوالها الغشاوة التي على قلوبهم فيرون الحق بكل وضوح و جلاء ، و يكتشفون أخطاءهم الفادحة التي طالما أصروا عليها و حسبوا أنهم يحسنون بها صنعا . و تبرز هنا المفارقة الرئيسية بين المؤمن الذي لا يفاجئه البعث و الجزاء ، باعتباره كان حاضرا عند هذا الغيب و هو في الدنيا " إني ظننت أني ملاق حسابيه " ، و بينالآخر الذي كذب بالآخرة ، و وجد نفسه أمام حقيقتها يومئذ فاكتشف أخطاءه في وقت لا تنفع المعرفة و لا ينجي الايمان . ومن أفدح الأخطاء التي يقع فيها الانسان ، و بالتالي يدخل بسببها اكثر الناس نار جهنم ، هو الاعتماد على المال ، و الحال أنه لا ينفع أحدا في الآخرة ، لان العمل الصالح وحده زاد النجاة و الفلاح فيها .
ان المال بذاته لا يغني ، وإنما ينفع إذا عمل به أعمال خير و صلاح بالإنفاق في سبيل الله .. ولم يفعل ذلك أصحاب الشمال لأنهم كفروا بالحساب و الجزاء .
و الآية توجهنا الى معنى لطيف للغنى فهو لا يتحقق بوجود المال و كثرته ، إنما بأدائه دوره ، و هدفه في الحياة ، فأصل الغنى من ارتفاع الحاجة ، و مع ان المال يقضي للمترفين و المخدوعين بعض الحاجات الظاهرية ، و تستطيل به أيديهم الى كثير من بهارج الدنيا و زخارفها ، إلا ان ذلك لا يعد غنى إنما الغنى حقا يكون بانقضاء الحاجات الحقيقية للبشر ، و أهمها رضى الله و الزحزحة عن النار التي لم يوظف اصحاب الشمال و بالذات المترفون منهم أموالهم من أجل قضائها .
[ ما أغنى عني ماليه ]
و لقد بينت أحاديث أئمة الهدى المعنى الأصيــل للغنــى ، قــال الامـام علـي (ع) : " الغنى و الفقر بعد العرض على الله " (1) ، و جاء رجل الى الامام الصادق (ع) فشكى اليه الفقر ، فقال : " ليس الأمر كما ذكرت ، وما أعرفك فقيرا " ، فقال : و الله يا سيدي ما اسبنت ( ما عرفت ) ، و ذكر من الفقـر قطعة و الصادق (ع) يكذبه ، الـــى أن قــال (ع) : " خبرني لو اعطيت بالبراءة منا مائة دينار كنت تأخذ ؟ " قال : لا ، الى ان ذكر ألوف الدنانير ، و الرجل يحلف انه لا يفعل ، فقال له : "من معه سلعة يعطى هذا المال لا يبيعها هو فقير ؟ " (2) ، و العمل الصالح و الولاية هما اللذان يبقيان مع الانسان و يغنيانه يوم القيامة ، و ليست الأموال التي تفنى أو يرتحل عنها خالي اليدين .
و يضيف القرآن على لسان من يؤتى كتابه بشماله قوله :
[ هلك عني سلطانيه ]
(1) نهج البلاغة / حكمة 452 .
(2) موسوعة بحار الانوار / ج 67 - ص 147 .
و لعل من أسباب تقديم الحديث عن المال على الحديث عن السلطان ان المال هو طريق الانسان للسلطة و الحكم و الهيمنة في أغلب الأحيان . وفي معنى السلطان ذهب اكثر المفسرين القدماء و الجدد الى انه الحجة ، باعتبارها تعطي صاحبها الحق و الهيمنة ، و تجعل الاخرينيسلمون له ، قال القمي : " سلطانيه " اي حجته ، و مثله الدر المنثور و الكشاف و التبيان ، و زاد الرازي بقوله : ضلت عني حجتي حين شهدت على الجوارح بالشرك (1) ، وما أرجحه ان تصرف الكلمة الى عموم السلطان ، بينما ( الحجة ) من مصاديقه ، و هناك مصداقان أساسيان آخران نجد الإشارة اليهما :
الاول : السلطان بمعنى الهيمنة الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية التي عادة ما ترافق المال و الثروة عند المترفين ، فتزيدهم بعدا عن الحق و غرورا ببقائها ، فإنها تسلب بالموت و في الاخرة بصورة أشمل ، وقد أشار الى هذا المصداق العلامة الطبرسي بقوله : " سلطانيه " اي ملكي و تسلطي على الناس (2) ، وما أحوج الحكام و المترفين الى استحضار ذلك المشهد في أذهانهم لعله يدعوهم الى العدل و توجيه السلطة في مرضاة الله عز وجل .. و ان الآيتين " ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه " لهما ايضا لسانحال كل طاغية و حاكم قرعته يد القدرة و الجزاء في الدنيا قبل الآخرة .
الثاني : السلطان بمعنى الإرادة ، إذ ان الوجه البارز من الكلمة هو الهيمنة التي تجعل إرادة المتسلط ماضية و نافذة ، وهذه هي الاخرى تسلب بكل ما تؤدي اليه الكلمة من معنى ، لان السلطة هنالك للحق ولمن تمسك به .
(1) راجع التفاسير المذكورة عند الآية .
(2) مجمع البيان / ج 10 - ص 348 .
و تؤكد الاية اللاحقة هذا المعنى حيث يأتي أمر الله لملائكة العذاب بوضع الأغلال على أعدائه كرمز لسلبهم الحرية ، فلا يستطيعون حتى حراكا وهم يعذبون وإنه ليقطع عليهم تمنياتهم و ملامتهم لأنفسهم بنقلهم الى عذاب النار .
[ خذوه فغلوه ]
" فياله من مأخوذ لا تنجيه عشيرته ، و لا تنفعه قبيلته " ، قال رسول الله (ص) : " ثم تجيء صحيفته تطير من خلف ظهره فتقع في شماله ، ثم يأتيه ملك يثقب صدره الى ظهره ، ثم يفتل شماله ، ثم يقال له : إقرا كتابك ، قال : فيقول : أيها الملك ! كيف أقرأ و جهنم أمامي ؟ قال : فيقول الله : دق عنقه ، و اكسر صلبه ، و شد ناصيته الى قدميه ، ثم يقول خذوه فغلوه فيبتدره لتعظيم قول الله سبعون ألف ملك غلاظ شداد ، فمنهم من ينتف لحيته ، ومنهم من يحطم عظامه ، قال : فيقول : أما ترحموني ؟ قال : فيقولون : يا شقي كيف نرحمك ولا يرحمك أرحم الراحمين ؟ أفيؤذيك هذا ؟ فيقول : نعم أشد الأذى ، قال : فيقولون : يا شقي و كيف لو قد طرحناك في النار ؟ قال : فيدفعه الملك في صدره دفعة فيهوي سبعين ألف سنة " (1) ، و قال أمير المؤمنين (ع) : " وأما أهل المعصية فخذلهمفي النار ، و أوثق منهم الأقدام ، و غل منهم الأيدي الى الأعناق ، و ألبس أجسادهم سرابيل القطران ، و قطعت لهم منها مقطعات من النار " (2) ، و لعمري ان أمر الله بالأخذ ليخص بالذات الطغاة من الحكام الذين تسلطوا على رقاب الناس فراح ضحية لأوامرهم بالسجــن و التعذيب و القتل الكثير من الأبرياء و الصالحيــــن .. وقــد ذكر صاحب الكشاف ( انها نزلت في أبي جهل ) لأنه كان سلطانا يتعظم على الناس (3) .
(1) موسوعة بحار الانوار / ج 8 - ص 320 .
(2) المصدر / ص 292 .
(3) الكشاف / ج 4 - ص 604 .
[31 - 37] و بعد ان يغل المجرمون تؤمر الملائكة بواحدهم ان تصليه بالنار .
[ ثم الجحيم صلوه ]
ومن طبيعة الانسان انه يهب للدفاع عن نفسه او الهرب عند مواجهة الخطر ، اما المجرمون الذين تغل أيديهم و أرجلهم فانهم يقاسون عذاب جهنم و عذاب الاغلال في نفس الوقت ، و ذلك من أشد ألوان العذاب ان يصطلي الواحد بالنار ولا يجد سبيلا للخلاص و المقاومة .
قـــال الرازي عن المبـــرد : أصليته النار إذا أوردتــه إياهـا (1) ، و قال القمي : ( اي ) اسكنوه (2) ، و يبدو لي أن أصل الإصطلاء من الصلة و الوصول ، و " صلوه " ، اي اجعلوا النار واصلة اليه كأكثر ما يكون وصولها لاحد و اتصالها به كيفا و زمنا ، و قيل صلة الرحم لان المراد العلاقة الحميمة المتصلة فلا انقطاع فيها .
[ ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ]
اي طولها سبعـــون ذراعا ، و الذراع ما يساوي 18 بوصة × 70 = 1260 بوصة ، و هذا الطول كاف لتلتف السلسلة على جميع اجزاء البدن ، فكيف و بعض المفسرين يعتبر السبعين للمبالغة ، كقول الله : " ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم " (3) ؟!
و قد ذهب البعض الى أنها سبعون ذراعا ولكن من أذرع الملائكة الطويلة التي لا نعلم قياسها ، و قيل بأن الحلقة الواحدة منها ما بين الرحبة في الكوفة و مكة ، و نحن(1) التفسير الكبير / ج 30 عند الآية .
(2) القمي / ج 2 عند الآية .
(3) راجع الكشاف و التفسير الكبير / ج 30 عند الآية .
لا نخوض في هذا الأمر بل نورد حديثا عن السلسلة مرويا عن الامام الصادق (ع) قـــال : " لو ان حلقة واحدة من السلسة التي طولها سبعون ذراعا وضعت على الدنيا ذابت الدنيا من حرها " (1) ، و يحتمل انها سلسلة عظيمة تمتد في كل جهنم إلا أن لها أذرعا طول الواحد منها سبعون ذراعا يسلك كل مجرم في أحدها ( و الله العالم ) . اما كيف يسلكون فيها ؟ فهناك احتمالان :
الاول : انها تخترق أبدانهم ، كأن تدخل من أفواههم و تخرج من أدبارهم و تخرق بها أبدانهم من كل ناحية ، فأصل السلك من إدخال الشيء في الشيء ، كإدخال الأبرة في الخيط ، و كذلك ينظم فيه الخرز و نحوه ، و يقال دخل السلك العسكري أي انسلك في الجندية (2) .
الثاني : انه يطوق بالسلسلة و تلف عليه فكأنه يسلك فيها ، قال الزمخشري في الكشاف : أي تلوى عليه حتى تلتف عليه أثناؤها (3) .
و قبل ان ننطلق مع الآيات في بيانها للذنوب الاساسية التي صارت بهم الى ذلك العذاب المقيم نقف عند اللهجة القرآنية المتفردة بها هذه السورة ، أعني إضافة الهاء في الكلمات : ( كتابيه ، حسابيه ، ماليه ، سلطانيه ) وما هو وزنها من الناحية اللغوية ؟
لقد اختلف المفسرون و القراء أمام هذه الظاهرة القرآنية فقيل :
1 - ان الهاء للسكت و الإستراحة ومن ثم يجب الوقف عندها بين الآيات(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 409 .
(2) المنجد مادة سلك .
(3) الكشاف / ج 4 عند الآية .
لتصح القراءة و لتثبت الهاء ، ثم ترى البعض قد أوجب الوقف معتبرا الهاء جزء من القرآن لا يجوز حذفه بالوصل عند القراءة ولا بغير ذلك .
2 - و قال البعض : انها جعلت لنظم رؤوس الآي ، و ذلك مما لا يليق نسبته لكلام الله عز وجل ، لانه كما تؤكد الآية (41) " وما هو بقول شاعر " ، لان الشاعر يعتبر القافية أصلا فإذا عجز من نظمها تخبط في النحو و الصرف ، و المعنى من أجل حفظها واحدة، و حاشا لله ان لو أراد النظم ان تعجزه القوافي ، ثم من قال ان القرآن يلتزم بالقافية في سوره و آياته ؟ فهذا قوله تعالى : " للكافرين ليس له دافع * من الله ذي المعارج * تعرج الملائكة و الروح اليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة * فاصبر صبر جميلا *إنهم يرونه بعيدا * و نراه قريبا * يوم تكون السماء كالمهل * و تكون الجبال كالعهن * ولا يسأل حميم حميما " (1) .
3 - و الذي يبدو لي ان الهاء ليست زائدة حتى تحذف بالوصل في القراءة ، و انها لم توضع لنظم نهايات الآي ، و ليست اضافتها خارجة عن لغة القرآن ( العربية ) التي أنزل بها ، ولقد أخطأ أولئك الذين حاولوا تقييم كلام الله بشعر العرب و كلامهم ، و يجب ان لا يدعونا عجزنا عن ادراك بعض المعاني القرآنية الى افتراضات بعيدة ، على ان للصيغة ( كتابيه ، حسابيه ) إيحاءا نفسيا قد يبلغه الباحثون في يوم من الأيام . وما يهمني التأكيد عليه أننا لم نؤت من العلم إلا قليلا ، فالموقف السليم عند العجز عن فهم الآيات هو الاعتراف بالجهل و التواضع للحق لا الخوض فيما لا نعلم أو الطعن في كلام الله .
و نعود الى الآيات الكريمة ، و نستمع الى صفات اصحاب الشمال ، فما هي ؟
الأولى : عدم الايمان بالله .
(1) المعارج / 2 - 10 .
[ إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ]
و عندما كفروا بالله العظيم استحقوا جزاء الضعف من العذاب . لماذا ؟
أولا : لان الله عظيم انتشرت آيات قدرته و جلاله في كل شيء ، فكيف جاز لهم الكفر به مع ذلك ؟ ثانيا : ان الذنب يزداد قبحا حينما يكون عصيانا لرب عظيم .
ولقد عبر أئمة الهدى عن هذه الحقيقة بقول الامام السجاد - عليه السلام - : " لا تنظر الى الذنب ، و لكن أنظر الى من عصيت " (1) ، فكيف و ان عدم الايمان بالله أصل كل خطيئة و ذنب ؟ ان عـــدم الايمان جذر كل فساد و ضلال و فاحشة و زيغ ، فمن كفر بالله أشرك به ، لان من لا يؤمن بالله سيتبع غيره و يتأله اليه بشرا أو حجرا أو هوى نفس ، ومن لم يؤمن بالله ضل ضلالا بعيدا ، لانه لم يتبع رسالته فتراه يتخبط في ظلمات الباطل ، ومن كفر باللهأوغل في الفواحش بغير حساب حيث ان الايمان هو الذي يحجز البشر عن الزيغ و يردعه عن المعاصي .
وقد وصف القرآن ربنا بالعظمة هنا لأمرين : أحدهما : لكي لا يظن أحدا بأنه تعالى حينما يعذب المجرمين بذلك العذاب الغليظ الذي وصف آنفا في الآيات (30 - 32) أو ما سيأتي بيانه في الآيات (35 - 36) فانه يظلمهم ، كلا .. ان الجزاء يبقى أبدا أقل من الذنب ، الثاني : ربما لكي نهتدي الى ان مشكلة الكثير من اصحاب الشمال و ربما كلهم ليس محض الكفر بالله ، و لكن مشكلتهم عدم الايمان بأسمائه الحسنى و صفاته المثلى ، كما قال تعالى : " ما قدروا الله حق قدره إن الله(1) موسوعة بحار الانوار / ج 73 - ص 154 .
لقوي عزيز " (1) ، فاشركوا بالله أو آمنوا بصفات تعالى ربنا عنها : جسدوه أو زعموا انه مغلول اليدين أو أنه - سبحانه - ظالم للعبيد او هازل في الوعيد أو ما أشبه و كان ذلك مساوقا لعدم الايمان به رأسا ، و هذه كلها جرتهم الى واد سحيق من الانحراف و الضلالفي الدنيا و العذاب في الآخرة .
من هنا نستطيع القول بأن حقيقة التسليم و العبودية لله عز وجل تتأسس بصورتها السليمة على المعرفة بعظمته من خلال آياته و أسمائه الحسنى ومن ثم استشعار عظمته في القلب .
الثانية : و ثمة صفة سيئــة اخرى عند اصحاب الشمال تتصل بعلاقتهم مع عباد الله ، وهي عدم قضاء حوائجهم بل عدم الحث على قضائها .
[ ولا يحض على طعام المسكين ]
فهو يرتكب ذنبين عظيمين : أحدهما : الامتناع عن الانفاق على المحتاجين الذين فرض الله لهم حقا في أموال الناس ، و الآخر : تركه لواجب الأمر بالمعروف ، و الأخير نتيجة طبيعية للأول ، ذلك ان الذين يبخلون بأموالهم على الناس يتمنون ان يكون المجتمع مثلهم حتىيبرروا موقفهم .
و للمتدبر ان يتصور مدى صلافة من لا يحض على طعام المسكين و انعدام العاطفة و الوجدان عنده ، حيث يرى مس الجوع و الحاجة عند اضعف طبقة اجتماعية ثم لا يبالي بالأمر ، و لا يتحمل المسؤولية ، مع وجود أمر الله بالانفاق ، و كون ما عنده من نعمه و فضله الذي يأتمن عليه خلقه .
و لقد ربط الاسلام بين الايمان بالله و النفع لعباده و كأنهما صنوان لا ينفكان ،(1) الحج / 74 .
قال رسول الله (ص) : " أحــب عباد الله الى الله جل جلاله أنفعهم لعباده ، و أقومهم بحقه " (1) ، جاء في حديث قدسي ان الله عز وجل قال : " الخلق عيالي ، فأحبهم إلي ألطفهم بهم ، و أسعاهم في حوائجهم " (2) ، و حيث ننعم الفكر في العلاقة بينالكفر بالله وعدم الحض على طعام المسكين نهتدي الى ان المعنيين بالآيتين لا خلاق لهم في الآخرة ، و لذلك يعذبون دون رحمة ، لانهم لا ايمان لهم بالله يدعوهم الى العمل الصالح من الزاوية الدينية ، و لا انسانية تدعوهم الى الاحسان ، فقد يكون الانسان كافرا بالله او مشركا و لكن تبقى فيه بقية من الانسانية تحثه على بعض الخير ، فهو ان لم يخفف عنه العذاب لايمانه فسوف يخفف عنه لانسانيته ، حيث لا يضيع الله أجر المحسنين .
و اذا آمنا بهذه الفكرة في ضوء الايمان بأن الجزاء الأخروي صورة لعمل الانسان و اختياره في الدنيا فان تعامل اصحاب الشمال الصلف مع عيال الله المساكين فيها هو الذي يحدد نوع تعامل الله معهم يوم الجزاء . قال الزمخشري : دليلان قويان على عظم الجرم في حرمانالمسكين : أحدهما : عطفه على الكفر و جعله قرينة له ، و الثاني : ذكر الحض دون الفعل ، ليعلم ان تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل ؟ (3)[ فليس له اليوم هاهنا حميم ]
و هو القريب الذي يهتم بالانسان و يحامي عنه ، فأمثاله من المجرمين مشغولون بأنفسهم عن غيرهم ، وأما المؤمنون فانه عدوهم وهم اعداؤه لكفره بالله ، ومن يجرأ(1) موسوعة بحار الانوار / ج 77 - ص 152 .
(2) اصول الكافي / ج 2 - ص 199 .
(3) الكشاف / ج 4 - ص 605 .
على الشفاعة لمن غضب الله العظيم عليه ؟؟ و لعل للآية ظلالا يتصل بعلاقات الانسان الاجتماعية ، و انه ينبغي ان يبحث عما يدوم منها و ينفعه في الدارين ، فان لاصحاب الشمال اخلاء كثيرين و اصدقاء بالخصوص المترفين و اصحاب السلطة منهم و لكنهم لا يحمونهم و لا حتى يسألون عنهم يوم القيامة ، " الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " (1) .
أما طعامهم فان المجرمين يكادون يموتون جوعا لانهم لا يجدون طعاما ، و حيث يمض بهم الجوع و يطلبون ما يأكلونه يؤتى لهم بطعام هو لون من أشد العذاب .
[ ولا طعام إلا من غسلين ]
قال القمي : عرق الكفار (2) لأنه غسالة أبدانهم ، و في الدر المنثور عن ابن عباس : أظنه الزقوم ، و في خبر آخر : ( هو ) الدم و الماء الذي يسيل من لحومهم (3) أثر التعذيب ، و في التبيان : و قال قطرب يجوز ان يكون الضريع هو الغسلين ، فعبر عنه بعبارتين (4)، ولعل أقرب المعاني ما يخرج من أبدانهم من جراحة أو أنه يتصف بمجموعة الصفات السيئة التي يمكن ان يحويها الطعام الرديء لونا و رائحة و مذاقا ، و لعل النفي بـ " لا " يوحي بأن اصحاب الشمال لا يجدون الطعام بسهولة ، بل يبقون مدة طويلة يتضورون جوعا، وإذا جيء لهم بطعام فإنه لا يكون إلا من " غسلين " ، وهذا يتناسب مع موقفهم من المساكين في الدنيا ، حيث كانوا لا يشعرون بجوعهم و عوزهم ، فهم بذلك يذاقون عذاب الجوع مما يكشف لهم مدى قبحهم إذ لم يطعموا المساكين ولم يحضوا على إطعامهم .
(1) الزخرف / 67 .
(2) تفسير القمي / ج 2 عند الآية .
(3) الدر المنثور / ج 6 - ص 263 .
(4) التبيان / ج 10 - ص 106 .
ان الجزاء في الاخرة هو الصورة الحقيقية لعمل كل انسان في الدنيا ، فهو في الواقع الذي يطعم نفسه هناك ما يقدمه هنا ، فالمؤمنون يأكلون من قطوف الجنات العالية بما أسلفوه من الصالحات ، و المجرمون يأكلون طعام الغسلين بما قدموا من الخطيئات و المعاصي .
[ لا يأكله إلا الخاطئون ]
فهم إذن كما وصف الله : " انما يأكلون في بطونهم نارا " (1) حيث يمارسون الخطيئات ، و لكنهم - و قد عميت بصائرهم عن الحق - لا يرون ذلك إلا في الآخرة حين تقع الحاقة و تكشف الحجب عن كل حق كشفا معنويا و ماديا .
[38 - 41] و في الفصل الاخير من هذه السورة التي سميت بالحاقة يوجهنا الله الى كتابه العظيم الذي يذكر بها و يسبقها في الهداية الى الحق و إحقاقه ، و كأن السياق يقول لنا بأن القرآن حاق لانه كالحاقة يجلي كل الحقائق . كما انه تعالى آخر الحديث عن أصحاب الشمال على الحديث عن أصحاب اليمين ليكون لصيقا بكلامه عن كتابه ، و ذلك لأن الحديث عن اصحاب النار سوف يستثير في السامع السؤال عن النهج الذي فيه الخلاص من غضب الله و عذابه ، و الفوز باجر اهل اليمين و عيشتهم الراضية .
[ فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون ]
و التمهيد لأي حديث بالقسم أو بالإشارة للقسم يؤكد أهميته و عظم شأنه ، وإذ لا يقسم الله فذلك يدل على ان ما يريد قوله و بيانه غاية في الوضوح ، بحيث لا يحتاج لاقناع الآخرين به الى القسم ، و لكنه في الاثناء يلفتنا الى حقيقة عملية(1) النساء / 10 .
واقعية ، و هي : ان الحياة لا تتلخص في ما يراه الانسان ببصره ، بل لها جانبان : جانب ظاهر يحضر عنده بحواسه المادية ، و آخر خفي مغيب يحتاج الى العلم و البصيرة النافذة لكي يشاهده ، و كأنه بذلك يستحثنا نحو توسيع معارفنا و التطلع الى الوجه الآخر من الحياة ،فهل نكفر بوجود الميكروبات و الفيروسات لأننا لا نراها بأعيننا ؟ كلا .. لان ذلك لا يغير من الواقع شيئا ، فهي موجودة رغم ذلك وهكذا فان من يكفر بالآخرة لانه لا يراها بعينه فانه من الخاطئين (1) .
ومن هذه الزاوية يوصل القرآن الآيتين الآنفتين بتأكيده على ان الرسالة ليست من بنات أفكار النبي (ص) ، إنما هي متصلة بالغيب حيث جبريل الأمين يتنزل بمفرداتها كلمة كلمة و بحروفها حرفا حرفا ، بل و بحركاتها دون نقيصة او تغيير ، فان للرسالة جانبين : ظاهرايتمثل في القرآن الذي يبصره الناس بأعينهم و تدركه حواسهم ، و غيبا لا يبصرونه و لا يدركونه و لا ينبغي لهم ذلك و هو جبرئيل الواسطة بين المرسل و الرسول و رب العالمين الذي يتنزل من عنده القرآن ، و عدم أبصارنا بالجانب الغيبي منها لا يبرر الكفر بها ، و ذلكلسببين :
الاول : ان قصور الانسان عن الاحاطة علما بغيب الحياة من المسلمات البديهية التي يقبلها كل عاقل ، و هكذا لا يمكن للبشر الاحاطة بالوحي الإلهي ، و بذلك ينسف القرآن الشيئية المادية عند البعض ، كالذين كفروا بالرسالة لانهم لم يروا جبرئيل " و قالوا لولا أنزل عليه ملك " (2) " او جاء معه ملك " (3) .
الثاني : ان الجانب الظاهر ( القرآن ) دليل قاطع يهدي كل ذي عقل الى(1) تقدم الحديث حول القسم في الآية 75 من سورة الواقعة فراجع .
(2) الانعام / 8 .
(3) هود / 12 .
الايمان بالجانب الاخر ( الوحي ) ، فان المتدبر في الآيات القرآنية لابد و ان يسلم بأنها من عند الله ، لانه يجدها معجزات لا تتأتى إلا للخالق العظيم ببلاغتها و نظمها و معانيها الهادية للحق ، كما قال الله :
[ انه لقول رسول كريم ]
اي رفيع المنزلة عند الله ، منزه ، و غاية في الأمانة و الاخلاق فهو لا يقصر في التبليغ ولا يحرف ، مما يؤكد بأن الرسالة وصلت سالمة و تامة كما أرادها الله و أنزلها ، و هذا الأمر يعطينا الثقة و الاطمئنان بها ، و الاعتماد عليها بضرس قاطع . وفي الآية تأكيدان لهذه الحقيقة : " ان " و اللام في " لقول " ، و بالاضافة الى هذين التأكيدين اللفظيين هناك ثلاثة تأكيدات معنوية على ان الرسالة هي من عند الله :
ألف : كلمة " قول " ، فالرسول دوره لا يتعدى نقل الرسالة الى الناس ، فهو يقولها و ليس يؤلفها او يخلقها .
باء : انه تعالى لم يقل فلانا ( جبرئيل او محمد ) بل لم يقل نبي ولا ملك .. إنما اختار كلمة " رسول " لأنها أدل على المعنى المراد من سواها .. فالرسول هو الذي يحمل الرسالة من عند غيره .
جيم : وإذ امتدح الله رسوله بأنه " كريم " دل ذلك على أمانته و وصول الرسالة كما أراد المرسل ، وإذا كان نكران الذات من أبرز صفات الكريم فإننا نفهم من وصف الله لرسوله بذلك انه تنازل عن ذاته في قضية الرسالة لله ، و بالتالي ليس فيها شيء من عندنفسه .
و لقد اختلفت الاقوال في المقصود بالرسول ، فقال فريق : انه جبرئيل الذي يتنزل بالوحي من عند الله الى النبي (ص) فهو رسول الله الى نبيه ، و قال آخرون : انه النبي محمد (ص) ، وما أذهب اليه ان الكلمة منصرفة الى الاثنين ، لانهما رسولان من عند الله و فيهاذات الصفات الرسالية ، ولأن المقصود هنا اثبات ان القرآن من عند الله و ليس من عند أحد كالنبي أو جبرئيل ، مما يستوجب التأكيد على الصفات المذكورة في الإثنين .
[ وما هو بقول شاعر ]
لانه لا يشبه أقوال الشعراء لا في أوزانه و قوافيه ولا في بلاغته ، إذ المسافة بين بلاغته و أدبه الرفيع و بين بلاغة الشعراء و أدبهم مسافة لا يعلمها إلا الله ، فهي كما وصفها الرسول الاعظم ( ص ) بقوله : " فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله علىخلقه " (1) ، و لا في معانيه لان الشاعر قد يهمه ظاهر الكلام فقط فيتخبط في المعنى ، ولو كان الرسول كالشعراء لكان يضخم الأمور حتى إذا نقل رسالة الله ، فتلك طبيعة الشعراء .
و أعظم مفارقة بين رسالة الله و الشعر أنها تنطوي على الحق و تهدي اليه ، بينما ينطوي أغلب الشعر على الباطل ، و أنها تعبر عن الحقائق الواقعية ، بينما يطلق الشعراء لعواطفهم و ظنونهم العنان دون حساب ، فهم يعتمدون على المشاعر و الأحاسيس بينما تعتمد رسالة الله على علمه الواسع ، من هنا نستطيع القول بأن كلمة الشاعر لا تنحصر في الذي ينظم الأبيات و القصائد ، وإن كان من مصاديقها الجلية ، إنما تتسع لكل من يتبع الثقافة البشرية المنطلقة من الظنون و المشاعر البشرية لا من العلم الإلهي كأصحاب النظريات و الفلسفات ، و لعل هذه المفارقة هي السر في فشل النظريات البشرية و تزلزلها ، و ثبات القيم الإلهية و نجاحها ، وإلا(1) موسوعة بحار الانوار / ج 93 - ص 19 .. و لا يعني ذلك ان القرآن في منزلة الخالق لانه مخلوق له عز وجل و إنما يعني أن كل فضل في الكلام من قبل القرآن فهو كفضل من الله لانه كلامه .
لما تتبع المــــلايين جيلا بعد جيل رسول الله و رسالته بينما لا تتبع الشعراء و تعتد بكلامهم ؟
نعم . إن إقبال الناس منذ بعث النبي (ص) الى اليوم و حتى المستقبل - الذي هو لرسالات الله - على الاسلام و ايمانهم به لآية بالغة على أنها من عند رب العالمين .
[ قليلا ما تؤمنون ]
قالوا : ان " ما " هنا بمعنى العدم ، أي أنكم لا تؤمنون البته ، و اضافوا : العرب تقول : قلما يأتينا يريدون لا يأتينا (1) ، و لكن يبدو ان القلة هنا بمعناها حيث ينسجم ذلك مع سائر الآيات التي تنفي الايمان عن الكثرة " ان تتبع اكثر من فيالارض يضلوك عن سبيل الله " بينما تثبته للقلة " و قليل من عبادي الشكور " .
و كلمة أخيرة : ان الفرق بين الرسول و بين الشاعر هو الفرق بين الكريم الذي يتنازل عن ذاته و بين من تكون ذاته هي المحور في كلامه و تحركه ، فالشاعر يسأل الأجر و الرسول يعطي ولا يسأل ، و الرسول يقول الحق ولو على نفسه بينما الشاعر لا يملك هذه الشجاعة والاخلاص . كما ان قلة ايمان الناس لن يكون في يوم من الأيام مقياسا للحق ، لأن الرسالة ذاتها حق ، و بالتالي فان الداء في من لا يؤمن و ليس فيها ، لانها قمة سامقة قل أن يصل ذروتها أحد .
[42] و ينفي القرآن أن تكون الرسالة من أقوال الكهنة .
[ ولا بقول كاهن ]
(1) الرازي / ج 30 - ص 117 .
فما هي العلاقة بين نفي الشعر و الكهانة ؟
اولا : لان الشعر و الكهانة من الظواهر التي كانت شائعة في المجتمع الذي تنزلت فيه الـــرسالة يومئذ ، و كان الشعراء و الكهان يمثلون طبقة المثقفين و الواعين بين الناس ، وإذ ينفي الله كون القرآن من أفكار أوعى أفراد المجتمع فانه ينفي كونها من عند أي أحدمن الناس ، لان ما يعجز عنه الاقدر لا يستطيع الإتيان به غيره .
ثانيا : لأن أي ثقافة يأتي بها الانسان فانما يحصل عليها عن أحد طريقين أو عنهما معا : فاما تكون ذاتية يتفتق بها عقله و خياله كالشعر ، وأما تأتيه عبر الآخرين كالكهانة التي يتلقى الكهان أفكارها من القوى التي يتصلون بها أمثال الشياطين و الجن ، بغض النظر عن الصحة و الخطأ . و حيث ينفي القرآن الإثنين فانما يؤكد بأن الرسالة ليست من عند نفس الرسول (ص) ولا مصدر آخر يتصل به سوى وحي الله عز وجل .
ان الرسالة هي الحق المرتكز في فطرة الانسان و عقله ، و آياتها تترى و تتواصل الحجج الدالة عليها حتى يقتنع الانسان بها ، ثم انها تقوم بدور تذكرة البشر و تنمية عقله و إرادته .
[ قليلا ما تذكرون ]
و القليل هنا حسبما يبدو لي بمعناه المعروف .
و لعل الترتيب في النفي بتقديم نفي الشعر ثم نفي الكهانة ب " و لا " يهدينا الى ان الكهانة في عرف المجتمع أرفع و أعجب من الشعر ، كما في قول الله : " قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة " (1) .
(1) راجع تفسير هذه الآية في سورة الجمعة .
و الكهانة من حيث المعنى هي التحدث بالغيب ، و الكهان هم الذين يدعون العلم به ، اما من حيث اشتقاقها اللفظي فيبدو أنها من الأسماء الدخيلة لان أصلها دخيل على المجتمع العربي من الثقافات الجاهلية التي تسربت الى الديانات السماوية كاليهودية و النصرانية ومن خلالهما انتقلت الى العرب ، و يشير الى ان الكلمة مستعربة صاحب المنجد إذ يقول : " و اللفظة إما من كهن بالعبرانية ، أو من كهنا بالسريانية (1) ، و الأقرب أنها قدمت إسما و حرفة من الشعب العبري ، لان اليهود كانوا يسكنون شبه الجزيرة ، و كانت لهم محاولات لنشر مبادئهم و أفكارهم فيها .
و ثابت تاريخيا أغلب رواد الكهانة من اليهود و النصارى وقد اتخذوها سبيلا للوصول الى الزعامة الروحية .
اما كيف يقضي الكهان بما يحسبه الناس غيبا ؟ الجواب للأسباب التالية :
اولا : الذكاء المتميز الذي يساعدهم على التقاط إشارات الحقائق و إرهاصات الظواهر كبعض الجواسيس المتفوقين اليوم .
ثانيا : القدرة على استشفاف المستقبل و التنبأ به ، و هذه القدرة يمتلكها أغلب الناس إلا أن الكهنة ينمون هذه القدرة في انفسهم شأنهم شأن السياسيين الكبار أو لاعبي الشطرنج ومن أشبه .
ثالثا : الاتصال بالجن و الارواح الشيطانية عبر رياضيات روحية معينة شأنهم شأن المرتاضين اليوم .
رابعا : معرفتهم بالثقافات و العلوم الغريبة عن ذلك المجتمع الجاهلي ، و هذه العوامل كانت تساعد الكهنة على التعرف على بعض الحقائق المجهولة عند الناس و التي كانوا يخلطونها بكثير من الاكاذيب و الاساطير .
(1) راجع المنجد مادة كهن .
و حول اصل الكهانة جاء في الخبر المأثور في كتاب الاحتجاج : ان الزنديق سأل الامام الصادق (ع) فمن أين أصل الكهانة و من أين يخبر النــاس بما يحدث ؟ قـــال (ع) : " ان الكهانة كانت في الجاهلية ، في كل حين فترة من الرسل ، كان الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون اليه يشتبه عليهم من الأمور بينهم فيخبرهم عن أشياء تحدث ، و ذلك من وجوه شتى : فراسة العين ، و ذكاء القلب ، و وسوسة النفس ، و فتنة الروح ، مع قذف في قلبه ، لان ما يحدث في الارض من الحوادث الظاهرة فذلك يعلم الشيطان و يؤديه الى الكاهن ، و يخبره بمايحدث في المنازل و الاطراف " (1) ، و تهدينا هذه النهاية الى ان نسبة الصدق لدى الكهان فيما يتصل بأسرار الناس تكون أكبر من نسبتها في الحديث عن الغيب ، لان الأسرار قد وقعت و اطلع عليها الجن و الذين يتصلون بهم و يخبرونهم ، و ليس الغيب كذلك ، ولا سيمافيما يتصل بوضع برنامج حياتي متكامل في بصائر العقل و تزكية القلب و تنمية الإرادة و نظام الحياة ، فانه لم يبلغه أي كاهن عبر التاريخ . انه فقط معاجز الرسل [43] ان التمايز بين خط الرسالة و الثقافات البشرية واضح لا غموض فيه ، و لذلك فان نظرة فاحصة للقرآن تهدينا الى أنه ليس شعرا ولا كهانة انما رسالة الله الى خلقه .
[ تنزيل من رب العالمين ]
اولا : ان القـرآن معجزة الله الخالدة ، لفظا بأدبه و بلاغته و نظمه و .. و .. ، و معنى بهداه و معانيه ، و الذي يدر القرآن من جانبيه ( الظاهر و الباطن ) يتيقن بلا أدنى شك انه فوق قدرات العالمين إنسا و جنا ، و هذا ما توحي به كلمة " تنزيل "إذ لا ينزل الشيء إلا من المكان العلي ، و بتعبير آخر : إنه تعالى لو لم ينزل الرسالة(1) الاحتجاج / ج 2 - ص 339 .
بلطفه لما كان العالمون - مهما تفتقت عبقرياتهم و بلغت قدراتهم - قادرين على السمو الى مقام الإتيان بمثل آيات القرآن .. لا بالشعر و لا بالكهانة ، و لو بلغ الأمر أن تظافرت القوى و التقت الحضارتان ، حضارة الانسان و الجن " قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على ان يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " (1) .
ثانيا : ان الله تعالى يتجلى في كتابه بصفاته و أسمائه الحسنى ، و كتابه يهدي إليه من بدايته حتى نهايته ، وإن القارىء آياته و المتدبر كلماته ليرى ربه ببصيرة الايمان و اليقين ، قال الامام الصـــادق (ع) : " لقد تجلى الله لخلقه في كلامه و لكنهم لايبصرون " (2) ، و قال الامام علي (ع) : " فبعث الله محمدا .. بقرآن قد بينه و أحكمه ، ليعلم العباد ربهم إذ جهلوه ، و ليقروا به بعد إذ جحدوه ، و ليثبتوه بعد إذ انكروه ، فتجلى لهم سبحانه في كتابه من غيـــر ان يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته ، وخوفهم من سطوته ، و كيف محق من محق بالمثلات ، و احتصد من احتصد بالنقمات " (3) .
ان المسافة بين كلام الله و كلام المخلوقين ليست بالتي تخفى على ذي لب و فطرة حتى يجهل أحد التمييز بين الرسالة و أفكار المخلوقين .
و لنا وقفة هنا على العلاقة بين الحديث عن الرسالة و أنها من رب العالمين بالذات ، فلم يقل الله : تنزيل من الله .. أو ما الى ذلك من أسمائه الحسنى الأخرى .
ان أصل كلمة " رب " من التربية بما تعني الكلمة من نماء و تزكية و لطف ،(1) الاسراء / 88 .
(2) بحار الانوار / ج 92 - ص 107 .
(3) نهج البلاغة / ج 147 - ص 204 .
و رسالة الله هي اظهر آية على علاقة الرب الخالق بالمخلوق المربوب . لانها وسيلة الله في تأديب خلقه و تربيتهم ، و طريقهم لكل خير و نماء و بركة إذا عملوا بها ، كما أنها علامة حنانه و تلطفه بهم .
و ننقل هنا بعض الاخبار التي وردت في شأن الآيات الأربع ( 40 / 43 ) فيما يتصل بشأن نزولها عند المفسرين ، من ذلك ما رواه ابن اسحاق عن الوليد ابن المغيرة ، وعن النضر ابن الحارث ، و عن عتبة ابن ربيعة ، وقد جاء في روايته عن الاول :
" ثم ان الوليد ابن المغيرة اجتمع اليه نفر من قريش ، و كان ذا سن فيهم ، و قد حضر الموسم ، فقال لهم : يا معشر قريش ! إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فاجمعوا فيه رأيا واحدا ، و لا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، و يرد قولكم بعضه بعضا ، فقالوا : فأنت يا ابا عبد شمس فقل ، و أقم لنا رأيا نقل به ، قال : بل أنتم فقولوا أسمع ، قالوا : نقول : كاهن ، قال : لا و الله ، ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه ، قالوا : فنقول : مجنون، قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون و عرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته ، قالوا : فنقول : شاعر ، قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه و هزجه و قريضه و مقبوضه و مبسوطه فما هو بالشعر ، قالوا : فنقول : ساحر ، قال : ما هو بساحر ، لقد راينا السحار و سحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم ، قالوا : فما نقول يا ابا عبد شمس ؟ قال : و الله ان لقوله لحلاوة ، و ان اصله لعذق ، و ان فرعه لجناة ، و ما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، و إن أقرب القول فيه لأن تقولوا : هو ساحر ، جاء بقولهو سحر يفرق بين المرء و أبيه ، و بين المرء و أخيه ، و بين المرء و زوجه ، و بين المرء و عشيرته ، فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلــوا يجلسون بسبــل النـاس - حين قدموا الموسم - لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، و ذكروا لهم أمره ... " (1)و حكي عن الثاني ( النضر ابن الحارث ) قال :
" فقال : يا معشر قريش ! انه و الله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد . قد كان محمد فيكم غلاما حدثا ، أرضاكم فيكم ، و أصدقكم حديثا ، و أعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، و جاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحر لا و الله ، ما هو بساحر ، لقد رأينا السحرة و نفثهم وعقدهم ، و قلتم كاهن ! لا و الله ما هو بكاهن ، قد رأينا الكهنة و تخالجهم ، و سمعنا سجعهم ، و قلتم : شاعر ! لا و الله ماهو بشاعر ، قد رأينا الشعر ، و سمعنا أصنافه كلها هزجه و رجزه ، و قلتم : مجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه و لا وسوسته و لا تخليطه . يا معشر قريش ! فانظروا في شأنكم ، فانه و الله قد نزل بكم أمر عظيم .. " (2)[44 - 47] و نعود للآيات الكريمة حيث تؤكد أمانة الرسول و صحة الرسالة ، بنفي أي إضافة منه (ص) اليها نفيا قاطعا ، مما يهدينا الى حقانية الحق ، وأن الله يفرضه على الانسان فرضا دون ان يتساهل حتى مع حبيبه و أقرب خلقه اليه النبي محمد (ص) .
[ ولو تقول علينا بعض الأقاويل ]
قال الزمخشري : التقول افتعال القول كأن فيه تكلفا ، من المفتعل ، و سميت ألاقوال المتقولة أقاويل تصغيرا بها و تحقيرا ، كقولك الأعاجيب و الأضاحيك ،(1) في ظلال القران / ج 8 - ص 216 .
(2) المصدر .
كأنها جمع أفعوله من القول (1) ، و المعنى و لو نسب الينا قولا لم نقله (2) ، و الافتراض هنا افتراض جدلي يفيد ان النبي (ص) لم يتقول - حاشاه - إذ لم نر الوعيد الإلهي تحقق في هذا الشأن . و الآية تزكية للرسول ليس فيما يتصل بالقرآن و حسب بل في كل نطقه و كلامه . وهذه الشهادة الإلهية البينة اية على عصمة نبينا (ص) ، وأن سنته كالقرآن ليست من أهوائه انما هي بعلم الله و حكمته أجراها على لسانه .
[ لأخذنا منه باليمين ]
معنويا بسلب سمة النبوة منه ، و ماديا بمجازاته أشد الجزاء ، لان خطأ الانسان يكون أفظع و أسوأ كلما كان في موقع أهم ، وهذا ما يجعل ثواب نساء النبي و عقابهن مضاعفا عند الله . و لعمري إنه إنذار و وعيد لكل من يخون أمانة الله ، و بالذات اولئك الذين حملهممسؤولية الرسالة .. أعني العلماء ، فياويل الذين يفترون منهم الكذب ، و يحرفون الكلم عن مواضعه .
و قد اختلف في الأخذ باليمين ، فقال جماعة : انه كناية عن الأخذ الشديد باعتبار اليمين رمز القدرة ، و قال آخرون : أنه أخذ القوة منه أي سلبنا منه القوة (3) ، لان القوة في اليمين ، فإذا أخذت انتفت ، وفي المجمع : لأخذنا بيده التي هي اليمين على وجه الإذلال ، كما يقول السلطان : يا غلام خذ بيده ، فأخذها إهانة ، و قيل : معناه لقطعنا يده اليمنى (4) ، و يبدو لي أنه الأخذ الشديد ، و أخذ الله دائما يكون شديدا . أما كيف يأخذ الله ؟ فذلك من شأنه .
(1) الكشاف / ج 4 - ص 607 .
(2) التفسير الكبير / ج 30 عند الآية .
(3) التفسير الكبير / ج 30 عند الآية .
(4) مجمع البيان / ج 10 - ص 350 .
[ ثم لقطعنا منه الوتين ]
في الدر المنثور : عرق القلب ( عن ابن عباس ) و عن عكرمة قال : نياط القلب (1) ، و في المنجد : عرق في القلب يجري منه الدم الى العروق كلها (2) ، و المهم انه العرق الذي لو قطع لما بقي الانسان حيا .. ولو أخذ الله أحدا بيمينه فقطع منه الوتين فمن يستطيع ان يمنع عنه إرادة الله ؟
[ فما منكم من أحد عنه حاجزين ]
أي مانعين يمنعون نفاذ أمر الله في شأنه . و الآية قمة في البلاغة إذ تتحدى البشر فرادى " من أحد " و مجتمعين " حاجزين " في آن واحد ، وذلك لكي يمس التحدي أفرادها و احدا واحدا دون استثناء تأكيدا للمراد . و ربما يقرأ المتدبر في تضاعيفها ان هناك قوى تسعى للضغط على القيادة الرسالية للتغيير من نهجها و التقول على الله ، فيجب ان لا تستجيب لهـا او تنخدع بما عندها ، لانها لا تنفع شيئا و لا تحجز إرادة الرب عز وجل . و حيث ان الرسول (ص) مطمئن لهذه الحقيقة فإنه لا يتوكل إلا على الله ، ولاينتمي إلا الى الحق ، و لا يقول إلا الوحي .
و كفى بقول الرسول (ص) هذه الآيات و إعلانها للناس مع ما فيها من شديد اللهجة دليلا على نقله بامانة ، إذ لو كان يتقول على الله لكان يحذفها او يعزز نفسه بصورة مطلقة دون حد ولا شرط ، كما يعزز الكثير من الدعاة و الحكام أنفسهم حتى على الحق ، وما أحوج القادة وكل رسالي الى هذه الشجاعة تأسيا بسيرة حبيب الله (ص) .
(1) الدر المنثور / ج 6 - ص 263 .
(2) المنجد مادة وتن .
[48 - 52] وبعد ان أثبت القرآن بانه قول رسول كريم بالمعالجة الموضوعية الدقيقة ، و بالتالي كونه كلام الله عز وجل ، ينثني لبيان صفة أخرى لنفسه .
[ و انه لتذكرة للمتقين ]
او كما قال تعالى في سورة البقرة : " هدى للمتقين " (1) ، لان المتقي وحده الذي يرتفع بنفسه و عقله الى مستوى فهم اياته ، و هو وحده الذي يخشى ربه فيلزم نفسه ما في كتابه من الحدود و الاحكام و القيم لكي لا يتعرض لغضبه و عذابه ، وهم وحدهم الذينيملكون الاستعداد للتسليم له ، لانهم يحافظون على فطرتهم سليمة كما أودعها الله فيهم ، فإذا بهم يجدون آياته تلتقي بتطلعاتهم السامية في الحياة . و يتأكد لنا بأن القرآن تذكرة للمتقين إذا عرفنا ان التقوى ليست مجرد الخشية و الخوف .. انما هي مجموعة من الصفاتالنفسية و العقلية و الاجتماعية التي تجعل الانسان في مستوى التذكرة بالآيات و فهمها .. فالمتقون كما وصفهم ربهم : " الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة و مما رزقناهـم ينفقــون * و الذين يؤمنون بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك و بالآخرة هم يوقنون " (2) ، فالذي لا يؤمن بالغيب كيف يؤمن بالرسالة التي مصدرها غيب السماوات و الارض ؟؟ و الذي لا يؤمن بالجزاء كيف يلتزم بها ؟؟
ان هذه الآية تهدينا الى إحدى خصائص الوحي الإلهي المتميز بها عن الافكار الاخرى و الفلسفات ، و هي انه لا يستطيع التفاعل معه و فهمه الا المتقون فقط ، فاذا به " شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين الا خسارا " (3) ، " و الذين لا يؤمنون
(1) البقرة / 3 .
(2) المصدر / 3 - 4 .
(3) الاسراء / 82 .
في آذانهم وقر وهو عليهم عمى " (1) ، ولذلك خاطب الله رسوله فقال : " وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك و بين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا * و جعلنا على قلوبهم أكنة ان يفقهوه وفي آذانهم وقرا " (2) ، و لقد اعترف بهذه الحقيقة الكافرون و المشركون منذ قبل : " و قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا اليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا و بينك حجاب فاعمل اننا عاملون " (3) ، و هذه الخصيصة في الرسالة تفسر ظاهرة التكذيب بهــا مـن قبـل بعــض الإنس و الجن ، لان الرسالة في مرتبة عالية قل ان يسمو اليها البشر ، و الله يعلم بأن جبلا كثيرا منهم سوف يكذبون بها .
[ و إنا لنعلم أن منكم مكذبين ]
بتأكيدات لفظية ثلاثة " إن " و اللام في " لنعلم " و " أن " ، و إذ يكذبون فلأنهم لم يسمو الى درجة المتقين الذين يتذكرون بالوحي و يسلمون لآياته و يستوعبون حقائقه الكبيرة ، و ليس لعيب في القرآن .
[ وإنه لحسرة على الكافرين ]
و الحسرة بنت الخسارة ، و الأثر المعنوي المترتب عليها ، و بذلك يكون القرآن قد أشار الى الأمرين معا ، و انما يكون كذلك لانه الحق الذي يدمغ باطلهم فإذا هو زاهق في الدنيا ، كما انه ميزان لاعمال الخلق في الاخرة ، و الشافع المشفع و الماحل المصدق ، و حيث كذبوا به يريهم اعمالهم حسرات عليهم يوم القيامة ، و لا يشفع لهم ، بل يمحلهم بالشهادة عند الله ضدهم .
(1) فصلت / 44 .
(2) الاسراء / 46 .
(3) فصلت / 5 .
ومن هنا نكتشف خلفية تأويل الامام الصادق - عليه السلام - للآية في الامام علي بن أبي طالب انه الذي يكون حسرة على الكافرين بقوله : " يعني عليا " (1) ، فان امام الحق في كل أمة جنبا الى جنب القيم الإلهية حجة الله على خلقه عند الحساب و الجزاءحين يحشر كل أناس بإمامهم ، مما يجعله هو الآخر حسرة على الكافرين إذ يكون شاهدا و حجة عليهم .
[ وإنه لحق اليقين ]
اي حق يفرض نفسه على الانسان فيصبح موقنا به ، فهو حق في عالم الواقع و يقين في عالم النفس . قال صاحب الكشاف : ان القرآن اليقين حق اليقين ، كقولك هو العالم حق العالم ، و حد العالم ، و المعنى لعين اليقين و محض اليقين (2) ، و قال الرازي : اي حق لا بطلان فيه ، و يقين لا ريب فيه (3) ، و يأتي التأكيد على هذه الصفة القرآنية في سياق نفي الشعر و الكهانة عن آياته كتعريض من طرف خفي بالإثنين الأخيرين اللذين ملؤهما الخيال و الكذب و الرجم بالغيب ، و هذه من المفارقات الاساسية بين رسالـة الله و ثقافة الشعراء والكهنة ، انها تحتوي على الحق و العلم بأعلى درجاته ( اليقين ) من دونهما حيث ينطويان على التناقض و الباطل و حيث يعتريهما الخواء الفكري و العلمي .
و نهتدي من نعت القرآن بأنه " لحق اليقين " ان انتهاج القرآن هو الشرط الاساسي في مسيرة الانسان نحو اليقين ايمانا و علما ، و انه الواجب الذي يفرض نفسه على العقل حينما يتطلع الى الكمال المعنوي و المادي باليقين ، أي ان الانسان يبقى في حيرة وشك لا يصل الى الايمان التام ليس بالحقائق العلمية و الحياتية و حسب ،(1) نور الثقلين / ج 5 - ص 410 .
(2) الكشاف / ج 4 - ص 607 .
(3) التفسير الكبير / ج 30 - ص 120 .
بل بأصل الوجود ، و جود نفسه و الكون من حوله بكل مفرداته ، حتى يكتمل نور عقله بنور وحي الله ، لانه الذي يعرفه بالخالق الموجد ، و يرتقي به الى آفاق اليقين به ، فتنكشف عن بصره و بصيرته الحجب و الاغطية ، و تنزاح الغشاوة .. إذ لا معنى للايمان بالمخلوق ( ماديا كالانسان و الطبيعة ، او معنويات كالحقائق و القوانين ) إلا بعد الايمان بالخالق ، و ذلك ما يحققه اتباع القرآن .
و نقف قليلا ننعم الفكر في حكمة الحديث عن القرآن بهذا التعبير : " وإنه لحق اليقين " في سياق سورة الحاقة التي تحدثنا عن الجزاء .
ان نقطة التلاقي بين الحاقة والقرآن تكمن في ان كلا منهما يحق الحق و يظهره ، و يهدي الانسان اليه ، و يرفعه الى أعلى درجات الايمان و التسليم ( حق اليقين ) ، و لكن يبقى القرآن هو الوسيلة العظمى و الأقوم للهداية ، أعظم حتى من الحاقة نفسها ، لانه يهدينافي الدنيا و الاخرة حيث تنفع الهداية ، بل هو طريقنا للايمان بالساعة و القيامة ( الحاقة ) .
و لكي نفهم القرآن فهما صحيحا ، فنؤمن به ، و يكون لنا تذكرة و سبيلا الى اليقين الخالص ، يجب ان نتطهر من الشرك بالله عبر تسبيحه ، لان كل انحراف في حياة الانسان مظهر من مظاهر الشرك و ظلال له ، و كلما سبح ربه أكثر فأكثر تسبيحا سليما كلما تميزت في نفسه و فكره حقائق الوحي عن وساوس النفس ، و إلقاءات الشيطان ، ثم ان التسبيح هو الوسيلة لاجتناب القوارع الالهية في الدنيا و الابتعاد عن اصحاب الشمال في الآخرة .
[ فسبح باسم ربك العظيم ]
و قال " باسم ربك " لانه السبيل لتسبيحه تعالى ، إذ لا يجد الانسان وسيلة للاتصال بربه لولا أسماؤه . و قال : " العظيم " بالذات لأسباب منها :
1 - انه رمز التسبيح الصحيح ، حيث معرفة عظمة الله شرط رئيسي في تقديره حق قدره . أوليست مشكلة كل صاحب شمال " انه كان لا يؤمن بالله العظيم " ؟ ؟ بلى . و لــو أننا فتشنـا في أي انسان لما وجدناه خاليا من الايمان بربه ، و لكن أصحــاب الشمــال( مشركين و كافرين ) لا يؤمنون بالله كما هو عظيما منزها عن كل ما لا يليق بمقامه ، مما يدعوهم لاتخاذ الأنداد لــه من خلقه الذين يجدون فيهم بعض العظمة او يظنونهم عظماء .. و هذا هو مكمن الداء الذي انطلقت منه الفلسفات البشرية الضالة .. تجسيدية تشبيهية و شركية وما الى ذلك .. و لعله من هنا أصبح تسبيح الله بذكر عظمته في الركوع و علوه في السجود ( سبحان ربي العظيم و بحمده ، سبحــان ربي الأعلــى و بحمــده ) فرضا واجبا في الصلوات ، بل أصبحت الصلاة من بدايتها حتى نهايتها تسبيحا لله عز وجل .
2 - لان السياق يدور حول القرآن وهو أظهر آيات عظمة الله على الاطلاق ، ففيه تتجلى عظمته تعالى .. أوضح و أوسع و أعظم من تجليها في الطبيعة وفي النفس وفي كل شيء آخر .
|