فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[19 - 21] لان القرآن رسالة الله و عهده الى الانسان فانه اودع تبيانا لكل شيء حتى لا تكون لأحد حجة على ربه في الأدبار عنه الى غيره من السبل و المناهج ، ففيه يقرأ الانسان سنن الخالق في الحياة ، و يقرأ الخير و الشر ، و الحق و الباطل ، و الجنة و النار، و الدنيا و الاخرة ..

ومن أبرز ما في القرآن تعريف الانسان بنفسه ، ذلك ان الانسان قد خلق جهولا ، يجهل أقرب الأشياء اليه ( وهي نفسه ) وفي ذلك خطر عظيم عليه ، فقد يدعوه الجهل بالنفــس الـى الشـرك بالله ، و قد يدعوه الى ممارسة الأخطاء الفظيعة في قيادتها و تربيتها .. و من هنا وجد توجها أساسيا في القرآن اختص بمعالجة موضوع الذات الانسانية ، و بيان أهم صفاتها و طبائعها ، كما الآيات التالية من هذه السورة .

[ إن الانسان خلق هلوعا ]


قيل الهلع شدة الحرص ، و قلة الصبر ، و قيل : الهلوع الضجور (1) ، و في البصائر : اي البخل و الحرص ، او الخوف و قلق القلب ، و اضطرابه من كل صوت و حدوث أمر (2) ، و الذي يبدو ان اصل الهلع هو الخوف ، فالهلوع يخاف عند الشر فيجزع ، و يخاف عند الخير من نفاذه و انتقاله الى غيره من يديه فيمنع ، وهي الصفة التي تفقد الانسان توازنه و ثباته أمام الظروف و العوامل و الحوادث المحيطة .

و يبقى بيان القرآن لمعنى الهلع أجلى و أبلغ من بيان كل مفسر و أديب حيث يقول تعالى :

[ إذا مسه الشر جزوعا ]

فإذا به يصبح طعمة لحالات الخوف النفسية ، فيفقد توازنه النفسي و الفكري و السلوكي ، الى حد الهزيمة و الياس . و " الشر " الذي تقصده الآية شامل لكل الحوادث السلبية معنـــوية و ماديـة ، فالخسارة الاقتصادية شر ، و فقدان الأحبة شر ، و المرض شر، و .. و ..

و لو اننا حققنا في حوادث الانتحار و الحالات النفسية في العالم فسنجد ان معظمها عائدة الى صفة الهلع ( الجزع ) عند الانسان . و يقول الله " مسه " لان المس أدنى ما يصيب الانسان من الشر او الخير .

[ وإذا مسه الخير منوعا ]

و السبب حبه المفرط لذاته ، و شح النفس الذي يجعله يريد الخير لنفسه فقط ،(1) التفسير الكبير / ج 30 - ص 612 .

(2) تفسير البصائر / ج 49 - ص 120 .


" و انه لحب الخير لشديد " (1) و حق ما جاء في الرواية : " ما فتح الله على عبد بابا من أمر الدنيا إلا و فتح الله عليه من الحرص مثله " (2) ، وفي الآية بصيرتان :

الاولى : ان المتتبع لكلمة الانسان في استخدام القرآن يجدها ترد دائما عند الحديث عن الصفات السلبية فيه ، قال تعالى : " و خلق الانسان ضعيفا " (3) " و لئن أذقنا الانسان منا رحمة ثم نزعناها منه انه ليؤوس كفور " (4) " إن الانسان لظلوم كفار " (5) " و كان الانسان عجولا " (6) " و كان الانسان أكثر شيء جدلا " (7) " و حملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا " (8) .. و هكذا ترد الكلمة عند الحديث عن الصفات الذاتية للانسان .

الثانية : ان المفسرين اختلفوا في معنى الخلق ، و جرى بينهم بحث كلامي و فلسفي حول صفة الهلع كيف خلقها الله وهي ذميمة أم هي صفة يوجدها الانسان في شخصيته بنفسه ؟ فصاحب التبيان أكد كونها من فعله تعالى فقال : وإنما جاز ان يخلق الانســـان علـى هذه الصفة المذمومة لأنها تجري مجرى خلق شهوة القبيح ليجتنب المشتهى ، لان المحنة في التكليف لا تتم إلا بمنازعة النفس الى القبيح ليجتنب على وجه الطاعة لله تعالى ، كما لا يتم إلا بتعريف الحسن من القبيح في العقل ليجتنب(1) العاديات / 8 .

(2) اصول الكافي / ج 2 - ص 319 .

(3) النساء / 28 .

(4) هود / 9 .

(5) ابراهيم / 24 .

(6) الاسراء / 11 .

(7) الكهف / 54 .

(8) الاحزاب / 72 .


أحدهما و يفعل الآخر (1) .

وفي التفسير الكبير : قال القاضي قوله تعالى : " الآية " نظير لقوله " خلق الانسان من عجل " و ليس المراد انه مخلوق على هذا الوصف ، و الدليل عليه ان تعالى ذمه عليه ، و الله تعالى لا يذم فعله ، و لانه تعالى استثنى المؤمنين الذين جاهدوا انفسهم في ترك هذه الخصلة المذمومة ، و لو كانت هذه الخصلة ضروية حاصلة بخلق الله تعالى لما قدروا على تركها (2) ، و علق الفخر الرازي مفصلا بأن الهلع واقع على أمرين : أحدهما نفسي باطن ، و الآخر فعلي ظاهر ، و هو يدل على ما خفي .. و قال : أما تلك الحالة النفسانية فلا شك أنهــا تحدث بخلق الله تعالى ، فهي مخلوقة على سبيل الاضطرار ( و الجبر ) ، و الافعال الظاهرة من القول و الفعل يمكنه تركها و الاقدام عليها ، فهي أمور اختيارية (3) .

و الظاهر ان صفة الهلع صفة ذاتية مركوزة في الطبائع الاولية للانسان ، و انما يبينها الله و يذمها لكي يعرفنا بها و يحذرنا منها فنجتنبها ، و ليس في ذلك شيء من الجبر لان الله سبحانه قد خلق الانسان في أحسن تقويم إلا ان ذاته المرتكزة في الجهل و الجهالة والضعف و العجلة وما أشبه لم تتغير . أرأيت الذي يشعل شمعة في الليل فتضيء ما حولها يحمد عليها و لا يذم على الظلام المحيط لانه ليس من صنعه ، و هكذا تركب الانسان من صنفين : النور ( من الله ) و الظلام ( من نفسه ) ، قال ربنا سبحانه : " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " (4) ، و سائر ما في الانسان من جوانب القوة و الضعف و الخير و الشر فانما هي ظلال لهذين(1) التبيان / ج 10 - ص 121 .

(2) التفسير الكبير / ج 30 - ص 128 - 129 .

(3) المصدر / 129 بتصرف .

(4) النساء / 79 .


الصنفين ، إلا ان على الانسان ان يسعى جاهدا للتغلب على الظلام و ظلاله في نفسه ، و تنمية النور ، و اشعاعاته ، و الهلع واحد من ظلال الظلام الذي يجب ان يتغلب عليه بسعيه و عزم إرادته .

و الله تعالى عرف البشر كوامن نفسه شرها و خيرها ، و أعطاه إرادة الإختيار التي يتجاوز بها صفات السوء و طبائعه ان شاء او يسترسل معها ، و رسم له المنهج الذي يسلم بتطبيقه منها . فما هو المنهج القرآني لعلاج صفة الهلع عند الانسان ؟

اولا : حضور الآخرة في وعيه نفسيا و فكريا ، فان من يتذكر أهوالها و مشاهدها لا يجزعه من الدنيا شر بالغ ما بلغ ، لأنه يكون أبدا مشغولا عنه بذلك الشر المستطير ، بل تراه يعيش السكينة و الاطمئنان كالمؤمنين : " الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا للهو إنا اليه راجعون " ، كما لا يبطره خير فيمنع خشية العذاب و طمعا في الثواب .. و لعل هذه الفكرة تفسر لنا العلاقة بين الحديث عن مشاهد القيامة (8 / 18) و بين الحديث عن الانسان (19 - 21) . و المستقرىء للآيات القرآنية يجد ان الوحي ما يكاد يحدثنا عن صفات الانسان السلبية إلا و يمهد لذلك بالحديث عن الآخرة ، او يلحقه بالتذكير بها ، لأنه علاج ناجح لها .

[22 - 35] ثانيا : الصلاة التي هي معراج المؤمنين الى الفضيلة ، و وسيلتهم للتزكية و التربية الذاتية . أوليست هي الوسيلة التي دعانا الله ان نبتغيها اليه ؟ أوليست هي حبل الله و سفينة نجاة الانسان من الباطل و الشر ؟ .. بلى . و لكن يجب ان نفهم الصلاة ونقيمها بشروطها كما يبينها القرآن حتى نخلص من صفة الهلع و سائر الصفات السيئة ، و نعرج بأنفسنا روحيا و سلوكيا الى آفاق الكمال و الفضيلة ، فان الانسان كانسان متورط في الهلع .

[ إلا المصلين ]


الذين عرفوا الصلاة على حقيقتها فأقاموها في حياتهم .. عرفوا الصلاة بأنها الاتصال الدائم بلا انقطاع مع الله ، و الكون في طاعته كل ساعة و لحظة .. عرفوا الصلاة برنامجا متكاملا يتصل بكل شؤون الحياة و مفرداتها الخاصة و العامة ، الفردية و الاجتماعية و التربوية و الاقتصادية و الاخلاقية و القضائية و .. و .. ، لا صلاة القشور المحصورة في الركوع و السجود و بعض المظاهر . فما هي الصلاة الحقيقية في مفهوم القرآن ؟!

إن القرآن لا يفصل لنا في كيفية الصلاة ولا عدد ركعاتها و سجداتها ، وإنما يعرفنا الصلاة الربانية ببيان صفات المصلين الواقعيين عند الله ، وهي :

الاولى : الدوام على الصلاة .

[ الذين هم على صلاتهم دائمون ]

قال الزمخشري : يواظبون على أدائها ، و لا يخلون بها ، و لا يشغلون عنها بشيء من الشواغل (1) ، و في الدر المنثور عن ابن مسعود قال : على مراقبتها ، وعن عقبة بن عامر قال : الذين إذا صلوا لم يلتفتوا عن يمين و لا شمال (2) ، و كل ذلك صحيح ، إلا أن الآية جاءت لتعطي البعد الأشمل و الأصح للصلاة كما يراها الاسلام و يلتزم بها المصلون الحقيقيون ، وهي الصلاة الدائمة التي تورث الصلة المستمرة مع رب الكائنات في القيام و القعود في آناء الليل و أطراف النهار .

ان البعض فهم الصلاة فهما خاطئا على انها مجرد عدد من الركعات و الاذكار التي يؤديها المسلم في وقت مخصوص ، وقطعوها - و هي عمود الدين - عن الاتصال(1) الكشاف / ج 4 - ص 612 .

(2) الدر المنثور / ص 266 .


بمفردات الحياة و سلوك المصلي . أما الصلاة التي يريدها الاسلام فإنها الصلة الدائمة بين العبد و ربه ، وما العبادة المتعارفة إلا رمز و مظهر لذلك الجوهر .. فالمصلي الحقيقي لا يعيش الحياة مجزاة ، ولا يحد الصلاة بوقت معين ، انما يعتبرها موصولة بكل مفردة فيحياته ، و انه لو خالف قيمها و أهدافها في واحدة منها فإنها لا تعد في نظره مقبولة ، فلا يغش الناس عند المعاملة ، ولا يكذب في كلامه ، و يبخسهم أشياءهم ، ولا يغتاب ، ولا يتهم ، ولا يركن للظالمين , ولا .. و .. ، لأن كل ذلك يسلب صلاته روحها و معناها و ثوابها .. فالصلاة لابد ان تنهى عن كل فاحشة فردية أو اجتماعية ، و لابد ان تقطع المسلم عن كل أحد غير الله فيعيش مستقلا حتى تسمى صلاة .

ان الذي يصلي ثم يحيد عن أهداف الصلاة في سائر يومه و حياته لا يمكن ان يطلق عليه مصليا ، لأن من شروط المصلي ان يدوم على صلاته بالتزام مضامينها و قيمها و أهدافها و الاستقامة عليها طيلة يومه و حياته . وحيث فهم الواعون المخلصون من الرعيل الأول الصلاةمنهـج حياة فداموا عليها أصبحت اليهم معراجا الى كل فضيلة و كــرامة .

ولقد أول أئمة الهدى الصلاة في الآية بأنها النوافل ( الصلوات المستحبة ) ، قال الامام الباقر (ع) : " هذا في النوافل " (1) و قال القمي : إذا فرض على نفسه شيئا من النوافل دام عليه (2) ، و هذه الاخبار تهدينا الى أمرين : أحدهما : مدى حرصهم علىصلاتهم الواجبة و دوامهم عليها ، فإن من دام على المستحب كان أدوم على الواجب ، و الآخر : درجة التزامهم بالاسلام و منهجيته في الحياة ، بحيث أنهم يرفعون المستحبات المندوبة الى مستوى الواجبات أداءا و إلتزاما ، و هذا بدوره يكشف عن(1) البصائر / ج 49 - ص 120 .

(2) تفسير القمي / ج 2 - ص 316 .


مدى حبهم للعبادة .

وقد ذكر الله صفة المداومة على الصلاة لأن المعطيات الحضارية و غيرها كالتغلب على صفة الهلع في النفس البشرية لا تتأتى بصورة سريعة منذ أول ممارسة للصلاة من قبل الانسان ، بل لابد من الدوام عليها و الاستقامة حتى تعرج بنا الى تلك المعطيات .

الثانية : الإنفاق في سبيل الله .

وبه يخرج المصلون من سلطان المال و الثروة الذي يأسر الكثير من الناس الذين أنعم الله عليهم فيمنعون حقوق الله و حقوق المجتمع ، و إنها لآية على تحول الصلاة الى برنامج عملي في حياتهم . أوليس هدفها ان يتمحض الانسان في الخلوص لله ، و يتنازل عن كل شيء حتىذاته من أجل الحق ؟ بلى . فلماذا يبخلون بالمال ؟

ان المصلين الحقيقيين حينما يكررون في صلاتهم قوله تعالى " الحمد لله رب العالمين " فإنهم يعون بعمق ان الحمد ليس مجرد كلمات و شعارات يلوكها الواحد بلسانه ، بل هو باللسان المعبر عن النية الصادقة و الايمان المخلص ، و بالعمل من خلال تطبيق منهجية الحمد في واقع الحياة ، و منها إنفاق نعم الله في سبيله شكرا له و تعبدا .

إنهم قد اتصلوا بالله و عرفوه ( رب العالمين ) و علموا بأن ما في الوجود كله من عنــده وهو مالكه ، حتى أنفسهم ، وما الأموال التي عندهم إلا أمانات استودعهم إيـــاها ، فكيف يبخلون بها و يمنعون عن أدائها اليه حين يطلبها فيأمرهم بإنفاقها في سبيله ؟!

ان الإمتناع عن الانفاق في يقينهم لون من الخيانة للمستأمن ، وهذا ما يدفعهم الى الانفاق في وجوه الخير من جهة ، و من جهة أخرى يدفعهم الشعور بالمسؤولية الاجتماعية الى مد يد العون لأصحاب الحاجة و العوز تطبيقا لمنهجية التكافل الاجتماعي التي تستهدفها الصلاة .

[ و الذين في أموالهم حق معلوم * للسائل و المحروم ]و السائل هو الذي يعرض حاجته على الناس و يسأل العون مع أنه قد يكون محتاجا وقد لا يكون كذلك ، و لكن كرامة المصلين و عزتهم تمنعهم ان ينتظروا يدا تمتد اليهم بالسؤال حتى يعطوه مهما كان المعطى كثيرا .. فهذا سيد الشهداء وقد طرق الباب طارق يناوله صرة منالنقود الكثيرة ، ولا ينظر اليه بل يمد يده الكريمة من وراء الباب . هكذا قال المجلسي : فسلم الحسين و قال : " يا قنبر هل بقي من مال الحجاز شيء " قال : نعم أربعة آلاف دينار ، فقال : " هاتها قد جاء من هو أحق بها منا " ، ثم نزع برديه و لف الدنانير فيها و أخرج يده من شق الباب حياء من الاعرابي و أنشأ :

خـذهـــا فإنــي اليـــك معتـــذر و اعلم بأني عليك ذو شفقةلو كان في سيرنا الغداة عصا أمست سمانا عليك مندفقةلكن ريــب الزمــان ذو غيــــر و الكف منــي قليلــة النفقةقال : فــأخذها الاعرابي و بكى ، فقال له : " لعلك استقللت ما أعطيناك ؟ " قال : لا . و لكن كيف يأكل التراب جودك ؟ (1) .

اما المحروم فإن فرقه عن السائل أمران : احدهما : وجود الحاجة الماسة عنده و كونه مستحقا ، و الثاني : حياؤه الذي يمنعه عن السؤال .. هكذا جاء في تفسير(1) موسوعة بحار الانوار / ج 44 - ص 190 .


الرازي و المجمع و التبيان و الميزان و الكشاف : و المحروم الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنيا فيحرم (1) ، وهذا يدل على ان المؤمنين ينفقون أموالهم على المحتاجين و هم يشعرون بأنهم هم أهل الحاجة الى الانفاق .. فلا ينتظرون السائل يسألهم ، بل يعطوه للسائلين ، ويبحثون بأنفسهم عن المحتاجين لينفقوا عليهم لوجه الله ، ولقد جاء في التاريخ : ان الامام زين العابدين ( ع ) استشهد وفي كتفه أثر الجراب الذي كان يمر به ليلا على بيوت الفقراء و المحتاجين وقد ملأه تمرا و خبزا .

و الظاهر من الروايات ان الانفاق الذي تعنيه الآية ليس الواجب المفروض في الشريعة بقدر ما هو الانفاق المندوب الذي يبادر اليه المصلون أنفسهم قربة لله تعالى ، قال الامام الصادق (ع) : " ان الله عز وجل فرض للفقراء في مال الاغنياء فريضة لا يحمدون بادائها ( اي انه ليس فضلا يمدحون بادائه ) و هي الزكاة ، بها حقنوا دماءهم ، و بها سموا مسلمين ، و لكن الله عز وجل فرض في أموال الاغنياء حقوقا غير الزكاة ، فقال عز وجل : " وفي أموالهم حق معلوم " فالحق غير الزكاة ، و هي شيء يفرضه الرجل على نفسه في ماله ، يجب عليه ان يفرضه على قدر طاقته وسعة ماله ، فيؤدي الذي فرضه على نفســه ، ان شاء في كل يوم ، و ان شاء في كل جمعة ، و ان شاء في كل شهر " (2) ، و عنه قال - عليه السلام - : " هو الرجل يؤتيه الله الثروة من المال فيخرج منه الألف و الألفينو الثلاثة آلاف ، و الأقل و الأكثر ، فيصل به رحمه ، و يحتمل به الكل عن قومه " (3) ، و هذا المحمل هو الاقرب لان الانفاق المستحب أدل على رسوخ الايمان من الواجب .

و حيث بادر المصلون الى هذا النوع من الانفاق فإنهم لا يعتبرون أنفسهم(1) التفسير الكبير / ج 30 - ص 130 .

(2) البرهان / ج 4 - ص 384 .

(3) المصدر / ص 385 .


متفضلين على من أعطوا ، بل يشعرون في أنفسهم ان ذلك " حق " واجب عليهم أداؤه ، مما يبعدهم عن الرياء و المن و الأذى . ثم أنهم من الناحية الاقتصادية متوازنون في إنفاقهم ، فهم لا يسرفون و لا يقترون ، بل يقدمون على مواقف و خطوات مدروسة قائمة على الحسابات الدقيقة .. فإنفاقهم كما يصف " معلوم " مدروس و مخطط و محدد .

الثالثة : التصديق بالآخرة .

[ و الذين يصدقون بيوم الدين ]

قال العلامة الطبرسي : يؤمنون بأن يوم الجزاء حق لا يشكون فيه (1) ، وفي الكشاف : تصديقا بأعمالهم و استعدادا له (2) . و سميت الآخرة " يوم الدين " لأنها يوم الجزاء و فيها الميزان ، و لأن الحاكمية المطلقة فيها لدين الله عز وجل . وإذا كانت الدنيا صولات و جولات بين الحق و الباطل فان الآخرة دولة مطلقة للحق . و تصديق المصلين بذلك اليوم وما فيه من الحقائق تصديقان : تصديق القلب بالايمان و اليقين الراسخ ان الاخرة حق واقع ، و تصديق الجوارح بالعمل و السعي الصالح ، الذي يكون مصداقا للايمان ، و دليلا على صدق مدعيه . وقد أعطى الاسلام لهذه الكلمة مفهومها الحقيقي الشامل حينما اعتبر كل صالحة و حسنة صدقة ، قال رسول الله (ص) : " كل معروف صدقة الى غني او فقير " (3) ، و قال (ص) : " تبسمك في وجه أخيك صدقة ، و أمرك بالمعروف صدقة ، و نهيكعن المنكر صـدقـة ، و إرشادك الرجل في دلو أخيك صدقة " (4) .


(1) مجمع البيان / ج 10 - ص 356 .

(2) الكشاف / ج 4 - ص 612 .

(3) موسوعة بحار الانوار / ج 96 - ص 122 .

(4) كنز العمال / ج 5 - ص 163 .


و نهتدي من قوله : " يصدقون بيوم الدين " الى ان اعمالهم الصالحة مصداق ايمانهـم بالآخرة ، فلا يعملون رياءا او سمعة ، او اشرا او بطــرا ، او استعلاءا في الأرض . كما نستوحي من ذلك ان يوم الدين هو العامل الرئيسي الذي به يصدقون و يندفعون الىالاعمال الصالحة . أترى لو كفر أحد بالجزاء ماذا يدفعه الى التصدق و الانفاق و التضحيات ؟ لا شيء ، و لهذا فان توقف مسيرة الاحسان و العطاء عند الكفرة سببه كفرهم بالآخرة .

و حيث اعتبر القرآن التصديق بالآخرة صفة أساسية عند المصلين حقا فلأنهم عندما يقومون الى الصلاة يعيشون بوعيهم الايماني ظواهر الاخرة و احداثها الفظيعة . و ماهي قيمة الصلاة إذا لم يكن المصلي حاضرا بروحه و بصيرته في الآخرة عند أدائها ؟

و ايمانهم بالآخرة له دور أساسي و كبير في حياتهم ايمانا و تفكيرا و عملا ، فهو مقياسهم في القضايا المختلفة ، فلا يقربون الذنوب خشية الخزي و العذاب يومئذ ، و يستزيدون من عمل الصالحات طمعا في الفوز بالجنة و رضوان الله ، ولا يجزعون عند البأساء و الضراء لأن الشر الحقيقي ليس الفقر ولا فقدان الأحبة ولا المرض إنما هو عذاب الله و سخطه ، و لا يمنعون عند الخير برهم عن أحد طمعا في الخير العظيم عند لقاء الله . و بعبارة : ان الانسان لا يمكن له الثبات ، بل يبقى هلعا متقلب الشخصية حتى يؤمن بالاخرة ، لان ذلك وحده الذي يعطيه الاطمئنان إذ يشبع تطلعاته الفطرية ، و يشعره بأنه يسير نحو مستقبل أفضل و أنبل .

الرابعة : الخوف من عذاب الله .

[ و الذين هم من عذاب ربهم مشفقون ]

في التبيان : الاشفاق رقة القلب عن تحمل ما يخاف من الأمر ، فإذا قسى قلبالانسان بطل الاشفاق ، و قيل : من أشفق من عذاب الله لم يتعد له حدا ولم يضيع له قرضا (1) ، و خوفهم في الحقيقة ليس من شدة العذاب بقدر ما هو خوف من سخط الله ، لان فراق رضوان الله أعمق و أشد ألما من السنة النيران .

ان المصلين الحقيقيين يفترضون أنفسهم في النار ، و ينطلقون من ذلك بالجد و الاجتهاد و السعي الحثيث لانقاذ انفسهم منها ، و انما لا يفترضون انفسهم في الجنة لكي لا يستبد بهم الغرور فيركنون الى الراحة و الدعة ، و لكي لا يعيشوا في ظل خرافة الشرك او أمنيةالشفاعة المحتومة على الله تعالى سبحانه او حلم الاعمال الصالحة التي لا يعرفون مدى قبولها من عند الله ، فهم لا يعطون لها الامان بالاعتقاد الخاطىء ان الله لا يعذبهم ، و لا بالاتكال اغترارا على أعمالهم ، ولا بالفهم السيء للشفاعة .

[ ان عذاب ربهم غير مأمون ]

و تأكيد هذه الحقيقة من قبل الله يأتي في سياق المنهج التربوي للقرآن ، فان من لا يأمن العذاب لا يسمح لنفسه بالغفلة ، و ضياع الفرصة ، كما انه يتحرك في بعدين : بعد اجتناب الذنوب التي جزاؤها العذاب ، و الثاني : بعد العمل الصالح الذي يقرب العبد الى الله ، و ينجيه من غضبه ، و يقربه من الأمان الحقيقي من عذابه .

ان الذي يأمن مكر الله و عذابه او يكفر به و يكذب كاولئك الذين بلغ كفرهم بوعد الله حد الاستهزاء و التحدي بالسؤال عن العذاب ؛ ان هذا الانسان لا يتحسس المسؤولية ، و من ثم يخوض و يلعب ، و قد يعتمد على التمنيات فيود لو يفتدي(1) التبيان / ج 10 - ص 124 .


بالاخرين و ينجو ، او يطمع ان يدخل جنة نعيم ، و لكنها لا تعطي أمانا أبدا ، قال شيخ الطائفة مفسرا الآية : قيل يخافون ان لا يقبل حسناتهم و يؤخذون بسيئاتهم (1) ، و في الكشاف : أي لا ينبغي لأحد وإن بالغ في الطاعة و الاجتهاد ان يأمنه ، و ينبغي ان يكون مترجحا بين الخوف و الرجاء (2) ، و قيل : لان المكلف لا يدري هل أدى الواجب كما أمر به ، و هل انتهى عن المحظور كما نهي (3) .

و كــون العذاب غير مامون لا يعني انه تعالى لا يعدل ، حاشا و هو السلام المؤمن ، بل لكون الانسان غير معصوم ، و لكن التمحض في الحق من جانبه صعبا و قليلا أهله ، قال الامام الصادق (ع) : " أتي رسول الله - صلى الله عليه وآله - فقيل له : ان سعد بن معاذ قد مات ، فقام رسول الله (ص) و قام اصحابه معه ، فأمر بغسل سعد و هو قائم على عضادة الباب ، فلما ان حنط و كفن و حمل على سريره تبعه رسول الله (ص) بلا حذاء و لا رداء ، ثم كان يأخذ يمنة السرير مرة و يسرة السرير مرة حتى انتهى به الى القبر ، فنزل رسول الله (ص) حتى لحده وسوى اللبن عليه ، و جعل يقول : ناولوني حجرا ، ناولوني ترابا رطبا ؛ يسد به ما بين اللبن ، فلما ان فرغ و حثا التراب عليه و سوى قبره قال رسول الله (ص) : " إني لأعلم أنه سيبلى و يصل البلى اليه ، و لكن الله يحب عبدا إذا عمل عملا أحكمه " ، فلما ان سوى التربة عليه قالت أم سعد : يا سعد هنيئا لك الجنة ، فقال رسول الله (ص) : يا أم سعد مه ، لا تجزمي على ربك فان سعدا قد أصابته ضمة ، قال : فرجع رسول الله (ص) و رجع الناس فقالوا له : يا رسول الله لقد رأيناك صنعت على سعد ما لم تصنعه على أحد ، انك تبعت جنازته بلا رداء ولا حذاء ، فقال (ص) : ان الملائكة كانت بلا رداء ولا حذاء فتأسيت بها ، قالوا : و كنت تأخذ يمنة السرير مرة و ، و يسرة السرير(1) المصدر .

(2) الكشاف / ج 4 - ص 613 .

(3) الميزان / ج 20 ص 20 .


مرة ، قال : كانت يدي في يد جبرئيل أخذ حيث يأخذ ، قالوا : أمرت بغسله و صليت على جنازته و لحدته في قبره ثم قلت ان سعدا قد أصابته ضمة ؟! قال : فقال (ص) : نعم . إنه كان في خلقه مع أهله سوء " (1) .

الخامسة : العفة الجنسية .

ان مما يبعد المصلين عن صفة الهلع هو سيطرتهم التامة على شهواتهم ، فبينما تسير الآخرين غرائزهم و أهواؤهم تجد المؤمنين يوجهونها على أساس القيم كيفا و مقدارا ، مما يعطيهم الثبات في شخصيتهم .

[ و الذين هم لفروجهم حافظون ]

و يفسر علاقة هذه الآية بالآيتين السابقتين عن الخشية من العذاب حديث أمير المؤمنين - عليه السلام - : " من اشتاق الى الجنة سلا عن الشهوات ، ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات " ، و هذا يؤكد العلاقة بين عقائد الانسان المؤمن و سلوكه ، وأن المصلي بحق هو الذي يترجم القيم الايمانية الى حقائق واقعية في حياته ، فالتصديق بيوم الدين و الاشفاق من العذاب ليس مجرد أقوال على ألسنتهم أو أفكار في أذهانهم ، بل هي واقع ملموس في شخصياتهم .

و بالتدبر في معاني الآية الكريمة نهتدي الى الحقائق التالية :

الف : إنها باستثناء " أو ما ملكت أيمانهم " شاملة للزوجين الرجل و المرأة ، فإن المرأة كالرجل مكلفة بصيانة نفسها جنسيا إلا على زوجها ، وأن لا تبحث عن طرق ملتوية لاشباع غريزتها الجنسية .


(1) موسوعة بحار الانوار / ج 6 - ص 220 .


باء : ان حفظ الفرج يبدأ من طهارة القلب بعفة الايمان و عفة النظر عما حرم الله ، و هكذا سائر الجوارح كالسمع و اللمس ، فان فرج الانسان لا يزال محفوظا حتى تدخل قلبه افكار الشيطان ، او يزيغ نظره الى الحرام ، و كذا سمعه و جلده .

جيم : ان التعبير جاء بالجمع " فروجهم " و ليس بالمفرد ، و ذلك يهدينا الى ان من حفظ فرجه فانه يحفظ فروج عرضه و من يتعلق به كسنة اجتماعية طبيعية ، و هكذا من يقتحم به الفواحش فانما يجعل فروجه - زوجته و أخواته و إخوانه و عقبه - عرضة للتورط في الفاحشة ، فقد اوحى الله الى موسى (ع) : " يا موسى ! من زنى زني به ، ولو في العقب من بعده " (1) " يا موسى ! عف يعف أهلـــك " (2) ، " يـا ابن عمران ! كما تديــن تــدان " (3) ، وفي حيث آخر : " لما أقام العالـــم ( الخضر عليه السلام ) الجدار ( لليتيمين ) اوحى الله الى موسى (ع) : إني مجازي الأبناء بسعي الآباء ، ان خيرا فخير ، و ان شرا فشر ، لا تزنوا فتزني نساؤكم ، وإن من وطئ فراش أمرئ مسلم وطىء فراشه . كما تدين تدان " (4) .

دال : و اذا نظرنا الى الآية بتفكر أمكننا توسيع معنى الفروج ليشمل كل فرجة يساهم بها الانسان في ممارسة الجنس ، كالفم الأذن و العين و فتحات الشم ، وإن المصلين يعفون بها عن ممارسة الحرام ، فلا يقبلون بشفاههم غير أزواجهم ، ولا يتلفظون بها كلمات الغرامو الغزل ، كما انهم لا يستمعون بآذانهم أحاديث الهيام و كلمات الحب ، و يصونون أعينهم عن النظر إلا الى محاسن الازواج و زينتهن ، بل و يحفظون مشامهم قدر المستطاع عن الإستلذاذ بالحرام !


(1) كلمة الله للشهيد الشيرازي / ص 191 .

(2) المصدر .

(3) المصدر .

(4) المصدر / ص 193 .


هاء : و لعلنا نقرأ في بطون الآية الكريمة ان المصلين يحسنون إدارة عوائلهم في كل الابعاد و منها الجنس ، بحيث تتصل الفروج المتعلقة بهم الى حد الاشباع جنسيا و عاطفيا ، مما يحفظها عن التفكير في ممارسة الجنس الحرام خارج اطار العلاقة الزوجية ، هذا ما يستفاد من السياق و بالذات من قوله سبحانه في خاتمة الآية " فإنهم غير ملومين " كما يأتي تفسيره .

وان الدراسات العلمية في جنس الاجتماع لتؤكد على ان اغلب الانحرافات في هذا الجانب - و بالتالي فشل الازواج في حفظ ازواجهم و حصر علاقاتهم الجنسية بهم - مبتنية على سوء إدارتهم للعائلة .

ان الاسلام دين الفطرة ، و معنى ذلك أنه ينسجم مع طبيعة الانسان ، و الغريزة الجنسية غريزة طبيعية ، و الاسلام لا يحاربها ، و لكنه يفرض عليه منهجا سليما ، فهو من جهة يحرم ممارسة الجنس الحرام ، ومن جهة أخرى يفتح المجال فيما يخص الزوجات وما ملكت اليمين.

[ إلا على ازواجهم أو ما ملكت أيمانهم ]

وإذا عرفنا ان الزوجة تتعدد في الاسلام الى أربعة ، كما انها تشمل الدائمة و المؤقتة ، فان مصادر التمتع بالغريزة الجنسية تكون متنوعة ، خصوصا عندما كانت الظروف مواتية لملك اليمين في ظل نظام الرقية الشائع في القديم .

[ فإنهم غير ملومين ]

لا من قبل الله ولا من قبل الناس .

و الغريزة الجنسية أشبه شيء بتيار ماء عارم لا يدعه المؤمن يندفع حيث يشاء ،بل يصنع حوله السدود ، و يحفر القنوات التي تستوعبه و توجهه الى ما فيه الحق و الصلاح .

[ فمن ابتغى وراء ذلك ]

نتيجة للشذوذ بممارسة الحرام زنا و غيره (1) .

[ فأولئك هم العادون ]

يقال عدى فلان : اعتدى ، و عدى في مشيه إذا أسرع و تجاوز الحد المعروف ، و هو الأصل ، و العادي : الظالم بالتجاوز . قيل : فأولئك الذين تعدوا حدود الله ، و خرجوا عما أباحه لهم (2) . ومن مصاديق " وراء ذلك " الاستمناء ( العادة السرية ) فقد سئلالامام الصادق (ع) عن الخضخضة فقال : " إثم عظيم قد نهى الله عنه في كتابه و فاعله كناكح نفسه ، ولو علمت بمن يفعله ما أكلت معه " ، فقال السائل فبين لي يابن رســول اللــه من كتاب الله و نهيه ؟ فقال : " قول الله : " الآية " وهو مما وراء ذلك " (3) .

وإن من انتصر على هوى النفس و وسواس الشيطان بشأن الشهوة الجنسية فقد أوتي خيرا كثيرا ، قال الامام الباقر (ع) : " مــا عبـد الله بشيء أفضل من عفة بطن و فرج " (4) ، و هذه الرواية تفسر لنا العلاقة بين العفة الجنسية و بين كون العفيف من المصلينالحقيقيين عند الله . و كيف يقيم الصلاة من يخبط خبط عشواء في الفواحش و ربنا يقول : " و أقم الصلاة ان الصلاة تنهى عن الفحشاء(1) راجع سورة المؤمنون عند الآية / 6 - 7 .

(2) مجمع البيان / ج 10 - ص 355 .

(3) تفسير البصائر / ج 49 - ص 123 .

(4) المصدر / ص 122 .


و المنكر " (1) ؟؟ اي ان تجنب الفــواحش و المنكرات شرط أساسي لإقامة الصلاة بحــدودها .

السادسة : رعاية الأمانات و العهد .

[ و الذين هم لأماناتهم و عهدهم راعون ]

قال العلامة الطبرسي : الأمانة ما يؤتمن المرء عليه مثل الوصايا ، و الودائع ، و الحكومات و نحوها (2) ، و قيل : كل نعمة أعطاها الله عبده من الاعضاء ، فمن استعمل شيئا منها في غير ما أعطاه الله لأجله و أذن له في استعماله فقد خانه (3) . و اطلاق المعنىهو الاصح ، فالامانة كل ما استؤمن عليه الانسان ، و العهد كل ما تعاقد عليه و قطع على نفسه الوفاء به . و أظهر مصاديق الأمانة العقل و ما يفرضه من مسؤولية اختيار الحق و الذي يتجلى في رسالات الله ، تلك الأمانة التي عرضها على السماوات و الارض فابين ان يحملنها و اشفقن منها و حملها الانسان . كما ان أظهر مصاديق العهد ما أخذه الله على بني ادم أن يوحـدوه و لا يشركوا به شيئا ، و المشار اليه في قوله تعالى : " وإذ أخذ ربك من بني ادم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ان تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " (4) . وما هي قيمة الصلاة التي لا تردع الانسان عن خيانة الأمانة و العهد ؟ و ما هي قيمتها إذا لم تعطه روح الوفاء بهما و الرعاية لهما ؟!

السابعة : القيام بالشهادة .


(1) العنكبوت / 45 .

(2) مجمع البيان / ج 10 - ص 356 .

(3) الميزان / ج 20 - ص 21 .

(4) الاعراف / 172 .


[ و الذين هم بشهاداتهم قائمون ]

فلا يكتمون الشهادة ، و لا يشهدون بالباطل ، لا فرق عندهم اكانت لهم ام عليهم ، لان المهم هو اقامة الحق و اعلاء كلمته لوجه الله . و بالتالي فانهم لا يتأثرون بالضغوط التي تدعوهم للعدول بالشهادة عن الحق .

و الشهادة أوسع من ان نحصرها في القضاء ، بل هي قيام الانسان بالشهادة للحق في كل حقل و بعد ، و ذلك بالدفاع عن الحق قولا و فعلا ، مما يجعله ميزانا للحق ، و حجة بالغة على المخالفين له ، كما قال الله يخاطب حبيبه : " يا أيها النبي إنا ارسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا " (1) ، و قال : " و كذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا " (2) .

و بكلمة " قائمون " أعطى القرآن مفهوما أعمق للشهادة ، فهي ليست مجرد قول الحق عند اختلاف الناس فيه ، بل قد يرقى الى خوض الصراع الذي قد ينتهي الى القتل في سبيل الله ، وهو قمة شهادة المرء للحق . و بكلمة : ان القيام هنا قد يكون نقيض القعود في قول الله : " و فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما " (3) ، مما يجعل كل مؤمن شهيدا شاهدا على عصره ، و يجعل الصلاة رمز شهادته و معراج شهوده .

الثامنة : المحافظة على الصلاة .

[ و الذين هم على صلاتهم يحافظون ]


(1) الاحزاب / 45 .

(2) البقرة / 43 .

(3) النساء / 95 .


بمظهرها و كيفيتها ( يعني الصلاة المتعارفة ) ، و قد قدم الله تلك الصفات للتأكيد بأنها الجوهر و الأهم في الصلاة ، لأنها المحتوى و الصلاة اطارها ، و هي القيم و الصلاة مقامها ، وهي النور و الصلاة مشكاتها ، و ينبغي لكل مقبل على الصلاة ان يضعها نصب عينيه قبلها وبعد أدائها ، و يسعى للالتزام بها الى جانب إلتزامه بمظاهر الصلاة . قال صاحب المجمع : اي يحفظون أوقاتها و أركانها فيؤدونها بتمامها ، ولا يضيعون شيئا منها (1) ، و قال الرازي : و محافظتهم عليها ترجع الى الاهتمام بحالها حتى يؤتى بها على أكمل وجه(2) . ولا يمكن لأحد ان يحفظ صلاته من الفساد حتى يلتزم بشروطها فلا يقتحم الفواحش و المنكرات ، لانها تبطل أجرها ، و تمنع قبول الله لها من أحد .

ما هو أجر المصلين الحقيقيين الذين تقدمت صفاتهم ؟ يقول ربنا :

[ اولئك في جنات مكرمون ]

كرامة حقيقية تتمثل في القرب من الله ، و كرامة ظاهرة في نعيم الجنات ، و في هذه الآية تسكين لروعتهم من العذاب ، و تأمين لهم بأنه بعيد عنهم . و جزاؤهم هذا نقيض جزاء الكافرين الذين تخشع أبصارهم ، و ترهقهم ذلة و إهانة .

وفي نهاية سردنا لصفات المصلين في مفهوم القرآن نسجل هاتين الفكرتين :

1 - ان التعبير يكون صحيحا لو قال الله عند كل صفة ( الذين ) من غير الحاق للضمير المنفصل " هم " بالكلام ، ولكنه أثبته تعالى لغرض التأكيد أولا ، و لبيان ان صفاتهم ليست عرضية ، بل هي سجايا و ملكات دافعهم اليها مرتكز في أنفسهم ،(1) مجمع البيان / ج 10 - ص 357 .

(2) التفسير الكبير / ج 30 - ص 129 .


لا اتباعا لهوى أحد أو استرسالا مع ظرف محدد .

2 - ان بيان تعريف المصلين بهذه الصفات يعطينا مقياسا لتقييم أنفسنا ، و ميزانا لمعرفة الناس من حولنا ، فما اكثر من يصلي و لكنه لا يقيم الصلاة ، فيكون له الويل و اللعنة ، لا كرامة الله و الجنة .

[36] و من بيان صفات المصلين التي هي ثمن الكرامة في الجنات ينعطف السياق القرآني لانتقاد موقف الكافرين الذين يطمعون في دخول الجنة ، و يتمنونها نصيبا و مصيرا من غير سعي و اجتهاد ، مؤكدا بأنها منهجية خاطئة ، لأنها تقوم على التمنيات ، و لأنها لا تقودإلا الى الخوض و اللعب في الدنيا ، و الخسران المبين في الآخرة .

[ فمال الذين كفروا قبلك مهطعين ]

قيل أذلاء (1) ، و في المنجد : من ينظر في ذل و خضوع لا يقلع (2) ، قال تعالى : " مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد اليهم طرفهم و افئدتهم هواء " (3) ، و الأقرب هنا ان الاهطاع اسراع في ذل ، يقال : استهطع البعير في سيره اسرع ، و ناقة هطعى : سريعة(4) . و يدل على ذلك قوله تعالى : " خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر * مهطعين الى الداع " (5) أي مسرعين في إجابة داعي الله منكسي رؤوسهم أمامه .


(1) القمي / ج 2 - ص 238 .

(2) المنجد / مادة هطع .

(3) ابراهيم / 43 .

(4) المنجد مادة هطع .

(5) القمر / 7 - 8


و الآيـة تستنكر على الكفار بالرسالة مسارعتهم في الفرار من دعوة الرسول (ص) ، كأنهــم قطيــع بعيــر شــاردة ، او كما وصفهم تعالى حال إعراضهـم عن التذكرة : " كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة " (1) حيث لا يثبتون قبل الرسول الذي يحمل اليهم منهج الفلاح و العزة في الدنيا و الآخرة ، ولا يعلمون أنهم بذلك الإسراع في الفرار إنما يسارعون في الذل و الفشل ، و ليس كما يزعمون مسارعة في الخير ، وهذا ما يعاينونه في الآخرة " يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم الى نصب يوفضون * خاشعة أبصارهم ترهقهمذلة " ، و هاتان الآيتان بيان واضح لمعنى الإهطاع أنه الإسراع .

[37 - 39] و لا يفر الكافرون قبل الرسول في صف منتظم واحد ، بل في صفوف مختلفة ، و ذلك لان المسارعة في الفرار من الحق موقف مبدئي اجتماعي سياسي يتخذه المهطعون لعوامل متفاوتة بينهم ، مما يجعل مواقفهم التابعة للاهواء مختلفة ، فمن مشرق و من مغرب كما يقول الله و يصف القرآن :

[ عن اليمين و عن الشمال عزين ]

اي متفرقين جماعات كل ينتسب الى جماعة مختلفة . و أصل العزي من النسبة ، يقال : تعزى اليه يعني انتسب ، و العزية : الانتساب (2) ، قال الازهري : عزا فلان نفسه الى بني فلان ، يعزوها عزوا ، إذا انتمى اليهم ، و الاسم العزوة . و كأن العزوة كل جماعة اعتزاؤها ( و انتسابها ) الى أمر واحد (3) . و لقد رأينا كيف أن الانحراف عن الرسالة صير الناس مذاهب و طوائف ، بينما كانت الرسالة - لو استجابوا لها - تجمعهم أمة واحدة قوية و عزيزة .. إلا أنهم مزقوا أنفسهم بالضلال(1) المدثر / 50 - 51 .

(2) المصدر / مادة عزي بتصرف .

(3) التفسير الكبير / ج 30 ، ص 131 - 132


عن هداها كل ممزق فصاروا الى الضعف و الذل .

وفي الروايات إشارة من رسول الله ( ص ) الى معنى " عزين " على أنه التفرق جماعات و مذاهب ، فعن جابر بن سمرة قال : دخل علينا رسول الله (ص) المسجد و نحن خلق متفرقون فقال : " مالي أراكم عزين ؟ ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ؟ "قالوا : و كيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال : " يتمون الصفوف الأول و يتراصون في الصف " (1) .

و التفرق نتيجة طبيعية للكفر بالله و الرسالة ، لأن الايمان يجمع الناس على محور واحد هو محور الحق ، اما الكفر فانه يتخذ أشكالا مختلفة .. أحزابا و أفكارا و قيادات . و هناك قول بأن المقصود بالكافرين هم المنافقون الذين يظهرون الايمان و يخفون الكفر و التكذيب (2) ، و الأقرب تعميم المعنى ليشمل الكافرين و المنافقين جميعا .

وإذا تنكب الانسان عن صراط الجنة الرسول ( قيادة ) و الرسالة ( منهجا ) فكيف يسعد ؟ ومن أي باب يدخل الجنة ؟ و بأي وسيلة ؟

ان الانسان إنما يرفض الحق قيادة و منهجا فرارا من المسؤولية و الاجتهاد ، لا بغضا للحق في ذاته أو جهلا به ، بينما نفسه تظل تتطلع الى الخلاص من العذاب و الفوز بالجنة ، و هكذا تراه يلجأ الى التمنيات و الظنون . من هنا يستنكر عليهم السياق ذلك الطمع الزائف فيقول :

[ أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم ]


(1) تفسير البصائر / ج 49 - ص 124 .

(2) هكذا في مجمع البيان ، و اليه ذهب الفخر الرازي و العلامة الطباطبائي و صاحب تفسير فتح القدير للشوكاني .


و للآية إيحاء بأن ذلك الذي رفض دخول الجنة بالصد عن طريقها و بابها من أين يدخلها ؟ وهل ينتظر أحدا يأتي ليدخله فيها وهو لا يريد ؟

[ كلا ]

انه لا يكون فلا يدخل أحد من غير بابها ، و من دون ان يسعى اليها سعيها ، و ما يحمل جناح التمني و الطمع صاحبه إلا الى النار و التهلكة . و قال ربنا : " يدخل " مبنيا للمجهول لبيان ان صاحب التمنيات لا يسعى بنفسه ، انما يترقب نجاته من غيره ، وليس يفعل ذلك أحد ، فأما الله والاولياء فهم اعداؤه ، و أما الانداد فإنهم لا يملكون نفعا ولا ضرا .

ثم ان الانسان حينما يتفكر في الخليقة من حوله ، بل في خلق نفسه ، يصل الى حقيقة مهمة تنفي له التمنيات و الاطماع من أساسها ، وأنها لا تدخل أحدا الى جنة النعيم ، لأنه أينما نظر و تفكر لن يجد شيئا يدور في الفراغ ، بلا قانون أو سنة ، ومن ذلك نفسه .

[ إنا خلقناهم مما يعلمون ]

إشــارة الى خلقــة الانســان الماديــة ( العناصــر التي يتكــون منها ) و المعنويـة ( الاطوار و القوانين و السنن ) . و فكرة أخرى تفسر العلاقة بين نسف القرآن للتمنيات و بين إشارته الى خلقة الناس و هــي ان في الانسان جانبين لابد ان يتكاملا : الجسد والروح ، وهو لا يملك في تكامل جسمه شيئا كثيرا ، فمن نطفة يصير علقة فمضغة حتى يولد طفلا فيشب و يشيخ ثم يموت ، بينما يعتمد تكامل روحه على إرادته و سعيه ، و الجنة جزاء إحرازه للتكامل في هذا الجانب ، و لن يدخلها بمجرد الطمع و التمنيات ، و بصيرة ثالثة : انالكافرين انما تركوا الايمان و السعي للطمع و التمني بسبب كفرهم بالآخرة ، حيث قالوا : كيف نعود أحياء بعد ان نصير ترابا ؟ فذكرهم الله بأصل خلقتهم ( التراب ) لبيان أنه تعالى قادر على إعادتهم بشرا أسوياء بعد ان يصيروا ترابا . و لعل الآية تقرير بأن جذر ذلكالتمني و الكفر راجع الى طبيعة الانسان الترابية و جانب الظلام في وجوده .

[40 - 41] و يعالج الله موقف الكفار من وعده و عذابه الواقع بالرد على تحديهم للحق و سؤالهم عن العذاب ، و ذلك من خلال تذكيره بحقيقتين :

الاولى : طبيعتي الجهل و الضعف عند الانسان ، و اللتان تجعلان تحديه في غيــر محله ، فانه لو اطلع على عذاب ربه و عرف قدر خالقه لما ساقه الكفر و التحدي . وما عسى ان يكون و هو المخلوق الضعيف حتى يتحدى خالقه ، و يسأله إنزال عذابه عليه تكذيبا و هزوا ؟! والى هذه الحقيقة تشير الآية ( 39 ) .

الثانية : قدرة الله المطلقة و حكمته النافذة ، فهو قادر لو أراد ان يهلك الكفار و يمحوهم من الوجود ، و لكنه حكيم لا يفعل ذلك .. و من تحسس هاتين الصفتين لله ينبغي الايمان بالآخرة و خشية العذاب .

[ فلا أقسم برب المشارق و المغارب إنا لقادرون * على ان نبدل خيرا منهم ]و اول سؤال يفرض نفسه : ماذا تعني المشارق و المغارب ؟ يجيب الامام أمير المؤمنين علي - عليه السلام - عن ذلك عندما وجه ابن الكوا تهمة التناقض الى القرآن ، فقال له - عليه السلام - : " ثكلتك امك يا ابن الكوا ! هذا المشرق وهذا المغرب ( مشيرا بيدهالى الجهتين ) ، وأما قوله : " رب المشرقين و رب المغربين " فإن مشرق الشتاء على حده و مشرق الصيف على حده ، أما تعرف بذلك من قرب الشمس و بعدها ؟ ! وأما قوله : " رب المشارق و المغارب " فان لها ثلاثمائة و ستين رجا ، تطلع كل يوم من برج ،و تغيب في آخر ، فلا تعود اليه إلا من قابل في ذلك اليوم " (1) .

وعـــن ابن عباس قال : " للشمس كل يوم مطلع تطلع فيه ، و مغرب تغرب فيه ، غير مطلعها و غير مغربها بالأمس " (2) .

و العلاقة واضحة بين إشارة الله الى آية المشارق و المغارب الكونية ، و بين تأكيده على أنه قادر على التبديل ، ذلك ان تبدل المشارق و المغارب اليومي - هذه الحركة الكونية - آية من آيات قدرته تعالى على التبديل ، و ان الخلق و الأمر اليه ؛ بحيث لو أراد الرد على تحدي الكفار بإنزال عذابه لفعل فأهلكهم ، و أتى بغيرهم خيرا منهم ، لا عجزه شيء أبدا .

و السؤال الثاني : لماذا قال ربنا : " خيرا منهم " ؟ لعل الجواب : ان سنة هلاك الأمم الغابرة قائمة علــى أساس ان الأمة الناشئة البديلة تكون أفضل لقربها من فطرة الخلق ، و عدم تلوثها بعوامل الفساد و الزيغ . لقد أهلك الله قوم نوح ، و طهرت الارض جميعا من فسادهم و زيفهم ، و أنشأ من بعدهم قوما صالحين ( هم ذرية الناجين في السفينة ) ، ثم أهلك فرعون و قومه و استعمر بلادهم بنو اسرائيل ، و كانوا أمة مؤمنة و هكذا لا يكون خلق الله إلا صالحا ، كما قال ربنا سبحانه : " لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم " .

[ وما نحن بمسبوقين ]

أي لا يسبقنا شيء ، ولا يعجزنا أحد ، ولم نمارس في أمر الخلق لغوبا ولا(1) الاحتجاج / ج 2 - ص 259 .

(2) الدر المنثور / ج 6 - ص 267 .


علاجا ، ولا تعلمنا التجربة من أحد أو احتجنا الى شريك او معين ، سبحان الله .. وإنما تقتضــي حكمتـه الإمهــال . قال شيخ الطائفة مشيرا الى هذا المقطع من الآية : و قوله : " الآية " عطف على جواب القسم ، و معناه ان هؤلاء الكفار لا يفوتون بأن يتقدموا على وجه يمنع من الحاق العذاب بهم ، فلم يكونوا سابقين ، ولا العقاب مسبوقا منهم ، و التقدير : وما نحن بمسبوقين بفوت عقابنا إياهم (1) . و يستشف من الكلمة معنى الغلبة لأن من دخل السباق و سبق فهو مغلوب ، و تعالى الله ان يغلبه أحد وهو القادر على كل شيء(2) .

وفي الآية " نبدل خيرا منهم " اختلاف في كيفية الإبدال ، فقيل : بالإهلاك و ذلك بأن يهلكهم الله و يخلق غيرهم ، و قيل : بانه تعالى يبدل الرسول عنهم - وهم المكذبون المهطعون عن اليمين و عن الشمال عزين رافضين لرسالته - يبدلهم بآخرين قبله يطيعونه و يصدقون بدعوته . و الإثنان صحيحان .

ثم يشير تعالى الى حقيقة أساسية وهي : ان الدنيا و ان كانت تتجلى فيها سنة الجزاء إلا أنه ليس ضروريا ان يجازي الله فيها كل أحد ، و السبب أنها دار الابتلاء ، أما دار الجزاء فهي الآخرة ، و إنهم - أي الكفار - لن يفوتوه ، بل سيلاقون جزاءهم يوم القيامة.

[ فذرهم ]

في الدنيا .

[ يخوضوا و يلعبوا ]


(1) التبيان / ج 10 - ص 129 .

(2) لقد مر بيانه في سورة النجم و مواضع أخرى لمعنى ( لا أقسم ) فراجع .


فيــذهبوا بكل خلاقهم ، و يتمادوا في الذنوب حتى يأتوا في الآخرة لا خلاق لهم ، وقد فعلوا ما يستحقون به المزيد من العقاب و العذاب ، فان فرصتهم أنى بدت طويلة فهي محدودة بالدنيا .

[ حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ]

يعنــي يوم الجزاء عندما يلاقون الاذلال و العذاب . و من مصاديقه يوم يتوفاهم الله . أوليس إذا مات ابن آدم قامت قيامته ؟ أوليس الموت يضع حدا لخوضهم و لعبهم ؟

و أصل الخوض دخول الماء ، يقال خاض بالفرس إذا أورده الماء ، و الغمرات اقتحمها ، و كذا المهالك (1) ، و لعله الدخول في الشيء بالكامل ، و خوض الكافرين هو دخولهم في الذنوب و اتباعهم الاهواء و الشهوات مسترسلين بلا ضوابط او حدود . و اللعب كل ما يقدم عليه الانسان باهداف شهوانية تافهة . و قول الله تعالى : " فذرهم " هو تحديد لموقف الرسول و من يتبعه تجاه الفريق المذكور من الكافرين ، و لا يعني ذلك ان يعتزل الرساليون ساحة الجهاد و العمل في سبيل الله ، بلى . انهم من الناحية الدينية العقائدية ليسوا مسؤولين عن دعوتهم لقبول الحق و الايمان بالاخرة عن طريق الجبر ، بل يتركونهم فالخيار لهم ، كما لا ينبغي ان يذهبوا أنفسهم حسرات على عدم ايمانهم و اختيارهم طريق النار . هذا من جانب ، ومن جانب آخر يجب ان لا تدعوهم تحديات الاعداء و استفزازاتهم الى التعجلبردات الفعل غير المدروسة ، وإنما يجب ان يصبروا صبر جميلا ، في الوقت الذي يواصلون فيه مسيرة الجهاد ، حسبما يوحي اليه السياق العام لهذه السورة الكريمة .


(1) المنجد مادة خوض بتصرف .


[43 - 44] و يبين القرآن صفات اليوم الذي يوعد الكافرون و أعداء الله ، مصورا مشاهد منه ، تبعث في القلوب رهبة و تدعو الانسان الى التفكير في اتقاء سوء عذابه .

[ يوم يخرجون من الأجداث سراعا ]

بإرادة الله ، فاذا بجسد تتصل به روحه ، و يصير بشرا سويا واعيا في ساعات معـــدودة ، " سراعا " بحيث لا يحتاج الأمر ان يمر كل واحد بمراحل خلقه الأولى .. نطفة فعلقة فمضغة .. الخ . و الجدث هو القبر . و ان الكافرين الذين تنكبوا عن الصراط و رفضوا دعوة الله عن طريق رسله في الدنيا لا يملكون يومئذ حيلة ولا قدرة للصد عن دعوة الحق ، بل يجيبون دعوة الداعي مسرعين .

[ كأنهم الى نصب يوفضون ]

اي يعدون و يسرعون . و للنصب معان :

الاول : العلامات ، فكل ما نصب و جعل علما و علامة فهو " نصب " وما أشبه إسراعهم يومئذ بإسراع الضائع في الصحراء حينما يقع بصره على العلامات الهادية الى الطريق !

الثاني : الاصنام ، جاء في المنجد : الأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهل عليها و يذبح لغير الله (1) ، قال تعالى : " إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " (2) .


(1) المصدر / مادة نصب .

(2) المائدة / 90 .


قال صاحب التبيان : شبههم في إسراعهم من قبورهم الى ارض المحشر بمن نصب له علم او صنم يستبقون اليه (1) ، و قال الفخر الرازي مثله : كما كانوا يستبقون أنصابهم (2) .

الثالث : قصب السبق الذي ينصب حدا لميدان السباق أو علامة لمعرفة السابق من المسبوق ، و كأن أهل النار يومئذ يسرعون سرعة المتسابق الذي يسعى للوصول قبل غيره من المنافسين .

[ خاشعة أبصارهم ]

فالموقف منعكس عليهم من الناحية المادية حيث يعلوهم الوجوم ، و لا يرتد اليهم الطرف ، و ترجف أطرافهم من شدة الموقف .. ومن الناحية المعنوية ايضا حيث يشملهم الصغار و الذل .

[ ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون ]


(1) التبيان / ج 10 - ص 129 .

(2) التفسير الكبير / ج 30 - ص 133 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس