فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


أن اعبدوا الله و اتقوه و اطيعون
بينات من الآيات

[1] ان اتباع الحق ضرورة حياتية ليس في الافق المعنوي ( الروحي و العلمي ) وحسب ، وإنما في الواقع المادي ايضا ، و هذه الحقيقة اعظم تجليا في حياة المجتمع منها في حياة الفــرد ، و الذي يستقرىء تاريخ البشرية يجد شواهدها ماثلة في الامم الغابرة ، و هكذاحينما ينظر الى الحياة من حوله .

و حيث تسير البشرية باقدام الضلال و الفساد الى هاوية العذاب الأليم و نهاية الهلاك بين الحين و الآخر يعطف الرب عليها بلطفه و رحمته فيبعث الانبياء برسالاته لانقاذها قبل ان تحين ساعة الصفر ، وذلك من أظهر آيات رحمته ، والتي تتجلى في الرسالات و الرسل الذين هم قمة الرحمة الإلهية للناس .

و لقد انحرف قوم نوح (ع) وكان الخط البياني لمسيرتهم يتجه نحو الموت الجماعي ، و لكن الله الرحمن الرحيم أبى إلا أن يرسل اليهم رسولا منهم رأفة بهم ،و اقامة للحجة عليهم ، و امضاءا لسنته في خلقه ، اذ ما كان الله معذبا قوما حتى يبعث فيهــم رسولا ، و على هذا الأساس و لهذه الاهداف جاء نوح يحمل رسالة الانذار الى قومــه .

[ إنآ أرسلنا نوحا الى قومه ]

و قومه يومئذ كل البشر الذين عددهم على بعض الاقوال (700) الفا ، و نهتدي الى ذلك من طبيعة العذاب إذ عم الارض كلها طوفانه ، وفي الحديث عن الامام الباقر (ع) قال : " كان بين آدم و نوح عشرة آباء كلهم أنبياء ، وإن الأنبياء بعثوا خاصة و عامة ، فاما نوح فإنه أرسل الى من في الارض بنبوة عامة ، و رسالة عامة " (1) .. وفي الأخبار ان إسمه ليس " نوحا " (2) ، بل " سكن " عن الامام علي (ع) (3) و قيل " عبد الأعلى و عبد الملك " عن الامام الصادق (4) " و انما سمي نوحا لانه ناح على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما " (5) كما قال أمير المؤمنين للشامي ، وفي معاني الأخبار : " معنى نوح انه كان ينوح على نفسه ، و بكى خمسمائة عــام ، و نحى نفسه عما كان فيه قومه من الضلال " (6) و قال الصادق (ع) عن النبي : " عاشنوح ألفي سنة و أربعمائة و خمسين سنة " (7) ، و عنه قال : " كانت أعمار قوم نوح ثلاثمائة سنة ، ثلاثمائة سنة " (8) .


(1) نور الثقلين / ج 5 ص 421 نقلا عن كمال الدين و تمام النعمة .

(2) راجع موسوعة بحار الانوار / ج 11 ، ص 286 - 287 .

(3) المصدر / ص 286 .

(4) المصدر / ص 287 .

(5) المصدر / ص 286 .

(6) المصدر / ص 287 .

(7) المصدر / ص 290 .

(8) المصدر / ص 289 .


و الآية تشير الى ان الأمم تسير عبر دورة حضارية ، ففي البدء يكونون على فطرة الايمان و الاستقامة ثم ينحرفون ، و عند منعطف خطير من حياتهم و بالضبط عند الانحدار القاتل يبعث الرسل و المصلحون لكي يوقفوا مسيرة السقوط ، ولذلك يبدأ الأنبياء في الغالب بالانذار باعتبارهم يرسلون الى قوم ضلوا و انحرفوا ليحذرونهم مغبة استمرارهم في الضلال .

[ أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب اليم ]

لان العذاب لا يأتي من الفراغ ، بل هو سنة إلهية و قانون تكويني له اسبابه و مبرراته التي يستطيع الانسان بإزالتها تلافيه و النجاة منه ، و لهذا فان الاستجابة للانذار تنفع مادام العذاب لم يحن اجله ، حيث الفرصة لا تزال قائمة ، يمكن فيها الاصلاح و التغيير .

و معرفتنا بخلفيات انبعاث الرسل في الامم المختلفة و اهدافهم .. و بالذات أنهم ينهضون للتغيير و يتصدون لقيادة الاصلاح حينما تتردى اوضاع المجتمعات و تسير الى العذاب ان ذلك يحملنا بالتأكيد مسؤولية التصدي للتغيير إذا كنا نريد اتباع الانبياء و مواصلة مسيرتهم ، وإذا كنا نريد للناس الخير و الصلاح . بلى . ان النبوة سمة غيبية يختص بها الله من يشاء من عباده ، و لكن الرسالة أمانة و مسؤولية يمكن لأي انسان ان يرتفع الى مستوى حملها و التصدي لها ، فيكون قائدا رساليا بالتزام الحق ، و اتباع النهج الإلهي الذي مشى على هداه الانبياء و الرسل عليهم السلام .

[2 - 4] إن أحدا لا يستطيع ان يدعي العصمة ، او حضور جبرئيل عنده ، و لا حتى بلوغ درجة الانبياء ، و لكن يستطيع ان يحمل رسالة الله الى قومه ، إذن فللرسالة وجهان : وجه خاص يتفرد به من اصطفاهم لوحيه مباشرة ، و وجه عام يتسع لاتباعهم و السائرين على نهجهمو خطاهم ، فما هو نهج الأنبياء في ضلوعهم


بدورهم الخطير ؟ ان حديث القرآن في هذه السورة يبين لنا الخطوط العامة للنهج الذي تلتقي عليه كل الرسالات و الزعامات الإلهية ، و ذلك بعرض قصة نوح عليه السلام .

اولا : التصدي لقيادة التغيير :

[ قال يا قوم إني لكم نذير مبين ]

ان نوحا لم ينظر للاوضاع نظرة لا أبالية - كما هو شأن الكثير من الناس الذين لا يهمهم سوى انفسهم و مصالحهم - إنما تحسس الانحراف بكل ابعاده ( الاجتماعية ، و السياسية ، و الاقتصادية ، و الاخلاقية ) و لم ينتظر من الاقدار ان تغير احوال الناس ، و لم يلقبالمسؤولية على غيره ، بل كان متيقنا بأن الواقع رهن إرادة الانسان ذاته ، ولا يتغير سلبا أو ايجابا إلا تبعا لتغييره ما بنفسه ، فبدأ بتغيير ذاته و انطلق منها لاصلاح المجتمع ، متحملا من أجل ذلك كامل المسؤولية ، و متحديا كل العقبات و الضغوط مع إصرار على إبلاغ الرسالة ، و الاستقامة في طريق ذات الشوكة .

ومن هنا طرح نفسه كقائد و رمز للتغيير ، و قبلها بالعمل الدؤوب المبرمج ، و المخلص لوجه الله . اعتقادا منه بأن القيادة أمانة و مسؤولية قبل ان تكون منصبا و شهرة ، و عملا و تحديا ، فكان أول طريقه مصارحة المجتمع بالحقيقة ، و توجيهه الى وجود الانحراف ،باعتبار ان وضع اليد على الداء ، والقناعة بأصل الخطأ أول خطوة في طريق الاصلاح ، فان الامة التي يأخذها الغرور ، ولا تنتهج النقد الذاتي تبقى الى الأبد في إنحرافها و أخطائها و تخلفها .

ولم يكن نوح عندما طرح نفسه جاهلا بمدى التحديات التي سيواجهها ، ولكنهتحمل ذلك استجابة للمسؤولية الإلهية ، إذ أمره الله بانذار قومه ، وإذ يدعوه ضميره الى القيام بذلك الدور الحضاري الهام ، و حيث نهض ينذر قومه اعتمد الاسلوب الواضح و البليغ ، ايمانا منه بان حقانية الدعوة و حدها لا تكفي بل لابد حتى يستجيب الناس لها ان يكونالانذار بها بينا ، يمتاز به الحق عن الباطل و تقوم الحجة ، وقد أعطى ذلك بصيرة واضحـة لمن قد يطلع على عاقبة قومه بأن عدم إستجابتهم لم يكن بسبب الغموض في البيان ، و من ثم فانهم لا يستحقون ما حل بساحتهم من العذاب .

و من تكرار كلمة القوم ثلاث مرات في هاتين الآيتين " الى قومه ، أنذر قومك ، يا قوم " نهتدي الى فكرة مهمة وهي : ان الانسان الفرد مسؤول عن قومه و مجتمعه ، كما أنهم مسؤولون عنه ، و لا يجوز لأحد ان يعيش فردا لا يبالي بغيره ، و ان الفرد قادر على الخروج عن سياق المجتمع الفاسد و تحدي الانحراف ، وأن نوحا بوقفته الرسالية الشجاعة لآية على بطلان حتمية التوافق الاجتماعي .

ثانيا : تشخيص أسس الواقع المنحرف و طرح البدائل الصالحة :

[ أن اعبدوا الله و اتقوه و أطيعون ]

و بهذه الجملة حدد نوح عليه السلام معـالم النظام القائــم و النظــام البديــل معــا ( ثقافيا و اجتماعيا و سياسيا ) فان الآية تهدينا الى البصائر التالية : الأولى : الى انحراف المجتمع ( كفرا و شركا و فسادا ) و مشكلة الانسان ( فردا و مجتمعا ) ليست الجهل بالخالق من الاساس ، بل هي في الدرجة الأولى عدم الخضوع لإرادته ، و تلقي القيم من لدنه ، و لقد كان مجتمع النبي نوح (ع) متورطا بالفعل في الوثنية و الشرك بتصريح الآية الكريمة : " و قالوا لا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث و يعوق و نسرا " و ما أكثر ما يؤدي اليه الانحراف المبدئي عن عبادة الله و التوحيد من تعويق لمسيرة الانسان نحو الرقي و التحضر الحقيقي ، ومن ضلال كبير في الحياة و بالذات في جانبها الروحي و الاخلاقي و الثقافي ، مما يجعله عاجزا عن الوصول الى أهدافه و طموحاته الحقيقية التي لا يبلغها أحد الا بعبادة ربه . الثانية : ان المجتمع يومئذ لم يكن ضالا عن المبادىء الأولية و حسب ، بل كان بعيدا عن ربه حتى في التفاصيل العملية لمفردات الحياة ، اذا لم يكن يخشى الله و يتقيه ، و ذلك يعني انفلاته من كل الضوابط ، و إسترساله مع الهوى ، حيث ان ضمانة الالتزام بالقيم الانسانية و الدينية على السواء مرهونة بمدى التقوى عند الفرد و المجتمع .

كما تكشف لنا الكلمة الأخيرة " و أطيعون " عن وجود الفساد في النظام السياسي ومن ثم الاجتماعي ، باعتبار ان النظام السياسي اطار للنظام الاجتماعي و سائر النظم ، و المتدبر موضوعيا فيما ورد عن قوم نوح من آيات القرآن يجد فيها بيانا واضحا لطبيعةالقيادة السياسية و الاجتماعية ، و التي ترمز بدورها الى الانحراف المبدئي و العملي ، فهي لم تكن قائمة على أساس الكفاءة ، إنما على أساس الأموال و الاتباع ، الأمر الذي قسم المجتمع الى طبقتين : الاولى : طبقة المترفين الحاكمين ، و الأخرى : طبقة المعدمين (
الاراذل بتعبير المترفين ) ولا ريب ان القيادة في أي مجتمع رمز لقيمه الواقعية ، ومن المعالم الأساسية لمسيرته .

و حيث رأى نوح - عليه السلام - الوضع المتخلف و الفاسد عقد العزم على تغييره ، فجعل خطوته الأولى تشخيص العوامل الاساسية للانحراف باعتباره المصلح و بيانها للناس ، و واضح للمتدبر ، انه لم تخدعه المظاهر و النتائج ، انما توجه الى الجذور الاولية ، لان علاجها هو النهج السليم لعلاج الاعراض و الظواهر التي لا تعدو كونها مجرد نتائج لها ، وهذه من أهم خصائص الحركات الرسالية .

ومع أننا نقرأ في الآية معالم الوضع القائم إلا أن الظاهر منها هو الإشارة الى البدائل الحضارية الثلاثة " اعبدوا الله و اتقوه و أطيعون " مما يؤكد ان التفكير في البدائل من قبل المصلحين لا يقل أهمية عن التفكير في جذور التخلف ، بل إنه الأهم ،إذ كيف يعرف الناس ان المسيرة تكون الى الامام بعد هدم الواقع إذا لم تكن البدائل مطروحة بوضوح كاف ؟ و لقد جسد نوح (ع) هذه القيمة في حركته فأكد : ان تحكيم القانون الإلهي ( بعبادة الله ) و الذي لا يتم إلا ( بالتقوى ) و تطبيق تفاصيل النظام الاجتماعي من جهة ، و الطاعة للقيادة الرسالية من جهة أخرى هو البديل القويم للوضع الفاسد ، ومن ثم السير بالمجتمع نحو الحياة الأفضل .

و نستطيع القول : ان عبادة الله بديل للاصول المنحرفة ، و التقوى بديل للفروع الخاطئة ، و الطاعة للقيادة الرسالية من أجل إصلاح الممارسات اليومية و السلبية ، و بالتعبير القانوني الحديث تمثل عبادة الله الدستور ( الخطط الاصولية العامة ) و تمثل التقوى القانون ( مجموعة القوانين الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و .. و .. ) ، و تمثل الطاعــة للقيادة اللوائح ( مفردات الأمور و التطورات ) و من هنا قال بعض المفسرين : وفي الآية ندب الى أصول الدين الثلاثة : التوحيد المشار اليه بقوله : " اعبدوا الله " و المعاد الذي هو أساس التقوى ، و التصديق بالنبوة المشار اليه بالدعوة الى الطاعة المطلقة (1) .

وفي قول نوح - عليه السلام - : " و أطيعون " دلالة واضحة و أكيدة على ضرورة بل وجوب أن يطرح القائد المصلح نفسه بديلا للقيادة المنحرفة ، لأنه مادام قادرا على تخليص المجتمع من بليته فهو مسؤول عن النهوض بمهمته و دوره ، وفي الاسلام تفريق بين حبالرئاسة الذي يبغضه الله ، و طموح الإمامة الذي يندب اليه(1) تفسير الميزان عند الآية .


و يفرضه على أهل الكفاءة (1) .

ثالثا : التأكيد على المعطيات :

و هذا من الاصول في كل دعوة ، ان يبين الداعية المعطيات التي تنبثق عن اتباع دعوته ، ولا ينبغي للرساليين الغفلة عن ذلك ، لانه يساهم بصورة ايجابية فعالة في دفع المجتمع للالتزام بالمنهج المطروح ، و خلق ديناميكية التطبيق في نفوس أفراده ، ولعل ذلك من دواعي تفصيل القرآن في التشويق الى الجنة كنتيجة للعمل بالحق و التخويف بالنار كعاقبة لاتباع الباطل ، و بذات المنهج و المنطق حدث نوح قومه :

[ يغفر لكم من ذنوبكم و يؤخركم الى أجل مسمى ]

و هذان المعطيان أهم ما تحتاجه الأمم و المجتمعات التي تتجه نحو الهلاك و النهاية حضاريا و ماديا ، ذلك ان العذاب الأليم الذي يحل بالاقوام ليس إلا نتيجة للذنوب و الانحرافات التي يتورطون فيها ، فتكون سببا في هلاكهــم ، و الســؤال : لماذا قــال الله : " من ذنوبكم " و ليس ذنوبكم ، مع ان من تفيد التبعيض ؟

لعل ذلك لأمور ثلاثة :

الاول : ان مجرد العبادة و التقوى و الطاعة للرسول لا تجب عن الانسان كل ذنوبه ، لان منها ما هو متعلق بحقوق الناس ، فلا تغفر إلا بإرضائهم و أدائها ، ومنها ما لا يغفر إلا بالعمل الصالح بعد الايمان ، بلى . إن ( العبادة و التقوى و الطاعة ) تسبب غفران الله لأهم الذنوب ، أي التي تؤدي الى الهلاك ، وهي بعض ذنوب الناس و ليس كلهــا .


(1) لقد مر الكلام في سورة الفرقان بهذا الشأن عند قول الله " و اجعلنا للمتقين إماما " فراجع .


الثاني : أنه تعالى لا يريد أن يعطي أحدا صك الأمان المطلق حتى لا يغتر بايمانه و عمله ، انما يوازن فيه الخوف إذ من الممكن انه لم يغفرها ، و الرجاء بما غفر له ، و يعبر القرآن عن هذه المنهجيـة الإلهية بصورة أخرى مثل : " لعلكم ترحمون " " لعلكم تتقون " و التي تفيد الترجي لا القطع .

الثالث : وإذا فسرنا الغفران بأنه محو الآثار السلبية للذنب ، فانه يمكننا القول : بأن لبعض الذنوب آثارا واقعية لا تنمحي بمجرد الايمان ، بل يمحو الله ما يترتب عليها من الآثار الأخروية و بعض الآثار الدنيوية السيئة .

و قيــــل المعنى : يغفر لكم ذنوبكم السالفة ، و هي بعض الذنوب التي تضاف اليهم ، فلما كانت ذنوبهم التي يستأنفونها لا يجوز الوعد بغفرانها مطلقا ، لما في ذلك من الاغراء بالقبيح . (1)ولان الأجل الذي ينتظر قوم نوح مترتب على منهجهم الخاطىء في الحياة ، و بالتالي ذنوبهم الفظيعة ، فإن عدو لهم الى المنهج الرسالي سوف يجنبهم الأخطاء ، ومن ثم يؤخر أجلهم الى مدته الطبيعية أو أكثر وهذا من أعظم الاهداف التي ينشدها الأنبياء باعتبارهم يأتونمنقذين .

ومن قوله تعالى : " و يؤخركم الى أجل مسمى " نهتدي الى ان للانسان ( فردا أو أمة ) أجلين : أجل حتمي و آخر معلق ، فأما الحتمي فهو الأجل الاعتيادي الذي يوافيه كل فـرد فــرد عند إنتهاء مدته المقدرة له بالموت بعد ستين سنة ، أو سبعين أو أقل أو أكثر ، وأما المعلق فهو الأجل الذي يكتب للمجتمعات بسبب من الأسباب سلبا بتقصير الأجل المسمى نتيجة الذنوب ، و ايجابا بمده و إطالته نتيجة الاعمال الصالحة جاء في الحديث عن الصادق (ع) في تفسير قوله : " ثم قضى أجلا و أجل(1) التفسير الكبير / ج 30 - ص 134 .

مسمى عنده ... " قال : " الأجل الذي غير مسمى موقوف ، يقدم منه ما شاء ، و يؤخر منه ما شاء ، و أما الأجل المسمى فهو الذي ينزل مما يريد ان يكون من ليلة القدر .. " (1) .

و عنه - عليه السلام - انه قال : " الأجل المقضي هو المحتوم الذي قضاه الله و حتمه ، و المسمى هو الذي فيه البداء ، يقدم ما يشاء ، و يؤخر ما يشاء ، و المحتوم ليس فيه تقديم ولا تأخير " (2) .

و الذي يظهر من الآية الأولى و الرابعة : ان قوم نوح حينما ضلوا و كفروا قدر لهم الهلاك السلبي ، و ثمة التقاء بين الأجلين هو أنهما حينما يأتيان لا يمكن دفعهما بشيء أبدا إلا أن يصلح الناس أمرهم من قبل ان يأتيهم العذاب .

[ ان أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون ]

و يؤكد الله هذه الحقيقة لان الايمان بها يزرع الخشية في النفس ، و يدفع الانسان الى المزيد من الجد و العزم و استغلال الفرصة .

[5 - 7] تلك كانت رسالة شيخ المرسلين - عليه السلام - التي تصدى لإبلاغها ، و أعمل كل جهده و صبره و حكمته لكي يؤمن قومه بها ، و لكنهم رفضوه و رفضوها إصرارا على اتباع المستكبرين ، وعلى ضلالات الشرك ، بالرغم من أنهم وهم يسيرون الى الهلاك أحوج ما يكونون اليه و اليها .

[ قال رب إني دعوت قومي ليلا و نهارا ]

و هذه من صفات المجاهدين الرساليين انهم لا يعرفون وقتا مخصوصا يحصرون فيه(1) (2) موسوعة بحار الانوار / ج 5 - ص 139 .


دعوتهم و جهادهم ، إنما يسخرون كل طاقاتهم ، و يصرفون كل أوقاتهم من أجل رسالتهم و أهدافهــم ، يدفعهم الى ذلك أمران مهمان : أحدهما : الرغبة في ثواب الله و خشية عقابه ، و الآخر : إحساسهم بعظمة أهدافهم و تطلعاتهم ، وأن بلوغها لا يمكن إلا بالجد و الاجتهاد والمزيد من السعي ، إذ الاهداف كبيرة و الامكانات محدودة ، فلابد من سد النقص الكمي في العدد و العدة بالكيف ، الأمر الذي لا يجعل حتى ليلهم - كما يتصور البعض - وقت راحة و إستراخاء ، فإنهم ان لم يشتغلوا فيه بدعوة الناس و الأدوار الاجتماعية المباشرة ، فسيجعلونه فرصة للتفكير في شأن رسالتهم و مسؤولياتهم ، و الاتصال بربهم تعرضا لنفحاته و مرضاته ، و تلقيا لإرادة العمل الدؤوب في سبيله ، و تزودا بالايمان و روح التسليم .

و لكن جهود نوح ما كانت تنفع قومه لأن بينهم و بين دعوته حجبا سميكة من الاصرار و التحدي الأعمى للحق ، بل كانت تزيدهم فرارا منه ، و بعدا عن الحق ، و هذه من خصائص الصراع بين الحق و الباطل ، انه كلما صعدت جبهة الحق من تحركها و نضالها ازدادت جبهة الباطلفي عنجهيتها و عنادها .

[ فلم يزدهم دعآءى إلا فرارا ]

و قد احتار المفسرون بسؤالهم : كيف يعقل ان تكون دعوة نوح سببا لفرار قومه من الحق ؟ إلا أن المسألة طبيعية وقد أكدنا في مواضع من تفسيرنا على القول بأن في داخل الانسان ضميرا يدعوه الى الحق ( فطرته و نفسه اللوامة و عقله ) و حينما يعقد الكفار عزمهم علىرفض الايمان فإنهم يواجهون حربا نفسية باطنية مع الضمير ، مما يدعوهم لتحدي عقولهم و وجدانهم ، و من جملة وسائل التحدي للحق التهرب من مجالس الدعوة و الدعاة ، و ذلك لإقناع النفس بعزة الإثم ، وفي عالم السياسة لا يخفى على المراقب ان وجود الحركات الرسالية فيمجتمع ما تؤثر على النظام القائم بصورة معاكسة ، حيث يقوم بالمزيد من القمع و الظلم ، وقد سمى دعوته بالدعاء لأنها في حقيقتها طلب لنجاتهم من العذاب الاليم .

[ و إني كلما دعوتهم لتغفر لهم ]

و بالتالي يتأخر عنهم العذاب الأليم ، و الأجل المعلق .

[ جعلوا أصابعهم في آذانهم ]

كناية عن الحجب التي تمنعهم عن سماع الدعوة و الاستجابة لها ، و ربما كان بعضهم يضعها بالفعل .

[ و استغشوا ثيابهم ]

أي استتروا بها فهي حجاب كالغشاء تمنعهم من الاتصال بالدعوة ، بل حتى من مجرد النظر الى الداعية ، و الى جانب هذه الحجب الظاهرة ، هناك حجب باطنة تغشى قلوبهم أهمها : الاصرار على الباطل ، و الضلال ، و الاستكبار عن التسليم للحق .

[ و أصروا و استكبروا استكبارا ]

و المفعول المطلق " استكبارا " يفيد التأكيد و التهويل . أي استكبروا أيما استكبار فاحش ، تحدوا به الحق رمزا و قيما ، و هذا تمهيد لتبرير الحكم الإلهي بعذابهم تبريرا موضوعيا ، فان من يعرف مدى تودد نوح لهم و تلطفه بهم من جهة ، و مدى عنادهم وجحودهم من جهة أخرى لا يستبعد العذاب عن ساحتهم ، ولا يشك في عدالة الله . و في الدر المنثور عن قتادة قال : بلغني أنه كان يذهب الرجل بإبنه الى نوح فيقول لإبنه : احذر هذا لا يغرنك ، فان أبي قد ذهب بي و أنا مثلك فحذرني كما حذرتك (1) ومن ظاهر الأخبار أنه -عليه السلام - عاصر ثلاثة أجيال ، كلها كانت لا تؤمن به إلا قليل منهم . لان معدل الأعمار يومئذ كان ثلاثمائة سنة تقريبا . قال الصادق (ع) : " كانت أعمار قوم نوح ثلاثمائة سنة " (2) .

[8 - 12] و أمام الموقف الصلف الذي اتخذه قوم نوح ( ع ) ضده و ضد رسالته لم يجعل خياره الهزيمة و التراجع ، ولا التوافق و المداهنة ، إنما أصر بعزيمة الايمان على المضي قدما نحو الهدف ، و أداء الرسالة بأكمل وجه ، فهو متيقن من الحق الذي بين يديه ، ولا يساوره أدنى شك فيه ، فالاهداف و القيم بالنسبة اليه ثوابت لا تقبل التبديل او التحويل ، وهذه من أهم خصائص الخط الرسالي الأصيل . ولذلك عمد شيخ المرسلين الى تغيير اسلوبه .

[ ثم إني دعوتهم جهارا ]

أي صارح قومه بأمره ، فبدل أن يطرح أهدافه و قيمه لمن يتصل بهم بصورة غير مباشرة ، خشية ردات الفعل ، او خشية عدم استيعابها جاهرهم بها .

[ ثم إني أعلنت لهم و أسررت لهم أسرارا ]

ومن الآيتين يتضح لمن يدرس تاريخ الحركة الرسالية في عصر نوح (ع) انها كانت تنتقل بين الحين و الآخر من اسلوب الى غيره تبعا لمقتضيات الظروف ، وهذه مسيرة طبيعية عند الحركات الرسالية و بالخصوص تلك التي يمتد عمرها أجيال و تعاصر تطورات كثيرة ، فليست إذن العلنية صحيحة على طول الخط ، كما ان


(1) الدر المنثور / ج 6 - ص 268 .

(2) موسوعة بحار الانوار / ج 11 - ص 289 .


التقية ليست اسلوبا ثابتا الى الأبد ؛ لان الحركة الرسالية حركة واقعية ، فقد لا تعلن الدعوة لان الظروف السياسية و الاجتماعية و التربوية لا تسمح بذلك .

وقد احتار المفسرون في التفريق بين الجهار و الاعلان ، و الذي يبدو : ان الجهار يعني التصريح الواضح و المباشر بافكار الدعوة و قيمها للناس ، و قد تكون هذه العملية محدودة فيمن يتصل بهم الرساليون اتصالا خاصا ، فالقيم الرسالية كالتغيير الجذري و الكفاح المسلح أمر صعب و مستصعب لا يحتمله الناس من البداية مما يضطر الداعية الرسالي الى الارتقاء بهم نفسيا و فكريا حتى يتسنى له مجاهرتهم ببعض الأمور ، فليس صحيح مثلا ان يفهم الفرد انه في تنظيم ثوري رسالي من أول لقاء بل لابد من ايصاله الى هذه الحقيقة شيئا فشيئالكي يمكن مصارحته بها و استيعابه لها . أو أن الجهر مرحلة بين الكتمان و الاعلان فليست سرية مائة في المائة ولا العكس ، أما الاعلان فهو أشبه ما يكون بـــالاعلام - حسب المصطلح الحديث - أي الطرح الجماهيري السافر للدعوة الرسالية ، و قوله في الأخير : "و أسررت " يدلنا على ان هذه المراحل و التكتيكات ليست ذات مراتب حتمية ( اسرار ، ثم اجهار ، ثم اعلان ) كلا .. وإنما هي معطيات يمليها الواقع ، فقد ينتقل العمل الرسالي من الاعلان الى الكتمان الشديد مباشرة لسبب من الاسباب .

و مع هذه التغيرات الظاهرية تبقى الاستراتيجيات المحورية واحدة و ثابتة ؛ إنها دعوة الناس الى العودة الى الله ، و الترغيب في معطيات الايمان ، و اتباع الرسالة ، و التحريض على نبذ الانداد الموهومين من دونه عز وجل .

[ فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا ]

أي دعاهم الى الاستغفار ، و طمأنهم بأن الغفران صفة الله الرحمن ، ولا ريب ان المعنى من الاستغفار ليس مجرد القول : استغفر الله ، انما هو الندم على الخطايا في النفس ، و الرجوع منها بالقول و العمل ، و اللجوء الى الله استجارة به منها و من عواقبها ، و بتعبير آخر : ان الاستغفار برنامج متكامل و هذا ما تفصح عنه المعطيات التي يأتي بها .

[ يرسل السماء عليكم مدرارا ]

أي مطرا كثيرا متواصلا ، تدره السماء كما يدر ضرع البقر الحليب ، وقد قدم القرآن ذكر الماء لأنه عصب الحياة و الحضارة .

[ و يمددكم بأموال و بنين ]

يعني ان الاستغفار يتسبب في النمو اقتصاديا و بشريا ، و قيل : انهم كانوا قد قحطوا ، و أسنتوا ( اجدبوا ) و هلكت أموالهم و أولادهم ( قبيل العذاب الاليم ) و لذلك رغبهم في رد ذلك بالاستغفار مع الايمان و الرجوع الى الله (1) و الى ذلك ذهب أكثر المفسرين ،و نهتدي من هذا السياق الى ان الايمان و الاستغفار ليس من شؤون الآخرة و حسب بل هو متصل ايضا بحياة الانسان في الدنيا . و عن قتادة قال : رأى نوح (ع) قوما تجزعت أعناقهم حرصا على الدنيا ، فقال : هلموا الى طاعة الله فان فيها درك الدنيا و الآخــرة (2) و الــى ذات الحقيقة أشــار الامام علي (ع) في خطبــة الاستسقاء حيث قال : " وقـد جعـــل الله سبحانه الاستغفار سببا لدرور الرزق ، و رحمة الخلــق فقــال سبحانه : " الآية " (3) .

[ و يجعل لكم جنات و يجعل لكم أنهارا ]


(1) مجمع البيان / ج 10 - ص 361 .

(2) الدر المنثور / ج 6 - ص 268 .

(3) نهج البلاغة / خطبة 134 .


تستوعب المياه و تقلها للشاربين إنسا و حيوانات ، و سقاءا للجنات و الاشجار و المزارع ، و ثابت علميا و عمليا ان وجود الانهار من العوامل الحضارية الاساسية ، لانه سبب الزراعة التي هي بدورها من مظاهر الحضارات و مقوماتها ، و الجنات و الانهار يشبع كلاهماحاجات مادية و معنوية عند الانسان . ولا ريب ان الجعل هنا لا يتم عن طريق المعجزة بحيث تتنزل الجنات من السماء باشجارها و أثمارها او تزداد الأموال و الأولاد بعوامل غيبية مجردة ، انما تحدث البركة و تكون الحضارة بعاملين ( سعي الانسان الذي قمته و رمزه الاستغفار + بركة الله و فضله ) و نحن يجب ان نقرأ في ثنايا دعوة نوح - عليه السلام - حينما قال " استغفروا ربكم " كل عوامل التقدم و الترقي من سعي و اتقان و جد .. أوليس الاستغفار غاية سعي الانسان نحو الفضيلة و الكرامة ؟! أوليس يعني تجنب الأخطاء ، والسير على المنهج القويم ؟ و كما ان الاستغفار يجلب الخير و التقدم للأمم فان الذنوب تسلبهما ، و تصير بها الى الشر و التخلف ، و يبدو من سياق الآيات ومن الاحاديث : ان قوم نوح اصيبوا بنقص في الأموال و الأنفس و الثمرات . بل انضب ماؤهم ، فجاءت دعوة النبي نوح- عليه السلام - بهدف اصلاح مسيرتهم و انتشالهم من حضيض هذه المشاكل الى افاق البركة و الرفاه ، قال العلامة الطباطبائي معلقا على هذا السياق : أي ان هناك ارتباطا بين صلاح المجتمع الانساني و فساده و بين الاوضاع العامة الكونية المربوطة بالحياة الانسانية ،و طيب عيشه و نكده (1) و الى ذلك أشار الفخر الرازي مستدلا بقول الله : " ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس " (2) و بقوله تعالى : " ومـا أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير " (3) .


(1) الميزان / ج 20 - ص 30 .

(2) الروم / 41 .

(3) الشورى / 30 .


[13 - 14] و يخاطب نوح قومه بلغة الوجدان ، مذكرا بنعم الله و آياته لعلهم يعودون الى فطرتهم ، فيعبدون الله و يتقونه ، و يطيعونه بدل الطاعة للمترفين .

[ مالكم لا ترجون لله وقارا ]

قــال ابــن عبـاس : الوقار هو الثبات ، من وقر إذا ثبت و استقر ، و منه قوله : " وقرن في بيوتكن " فوقاره تعالى ثبوته و استقراره في الربوبية ، المستتبع لإلوهيته و معبوديته (1) و قيل : المعنى مالكم لا توحدون الله تعالى ؛ لان من عظمه فقد وحده ، و عن الحسن : مالكم لا تعرفون لله حقا ، و لا تشكرون له نعمة (2) وقد ذهب أكثر المفسرين الى القول بالعظمة ، و يبـدو أننا نهتدي الى معنى الآية لو قارنـاهــا بقول الله : " وما قدروا الله حق قدره " (3) فان توقير الله بحق هو معرفة قدره بمعرفةأسمائه و صفاته الحسنى ، و العيش في الحياة على ضوء هذه المعرفة ، و ذلك لا يمكن إلا بعبادته و تقواه و اتباع رسله و رسالاته .

و تكشف لنا الآية عن مدى الضلال المتورط فيه أولئك القوم ، و نستوحي ذلك من كلمة " لا ترجون " إذ تبين انهم ليس لا يوقرون في أنفسهم ربهم و حسب ، بل لا يرجون ان يوقره الآخرون ، ولا أن يأتي يوم يوقرونه في أنفسهم ، فليس ثمة ولا بصيص نور في فكرهم يمكن ان يوقروا ربهم به في المستقبل .

ثم يذكر نوح بعض الآيات و النعم الإلهية الهادية الى الايمان بالله و التسليم ، و من ثم توقيره لو ان الانسان توجه اليها و أراد شكرها ، و أولها خلق الانسان و نظام خلقته .


(1) تفسير البصائر / ج 49 - ص 201 .

(2) راجع المصدر فقد اورد (15) رأيا في الاية .

(3) الانعام / 91 .


[ وقد خلقكم أطوارا ]

و لهذه الكلمة معان من بينها :

1 - المــراحل التــي يمر بها الانسان في خلقه ، حيث يبدأ نطفة ثم علقة ثم مضغة ... و هكذا ، حتى يصير شيخا كبيرا ، و ان خضوع البشر الحتمي لهذه الاطوار دليل أكيد على انه لا يملك أمر نفسه في كل شيء ؛ انما حياته محكومة بالقانون و النظام ، الذي يهديه الىالمقنن و المنظم ، كما يدله على الحساب و الجزاء ، حيث ان الاخراج من الارض كما اطوار الخلق حقيقة لا يمكن لأحد ان يرفضها او يدعي القدرة على مقاومتها .

2 - التنوع البشري الذي يؤدي الى التكامل ، فقد خلق الله الناس مختلفين في مواهبهم و قدراتهم و توجهاتهم ، مما يكامل مسيرتهم في الحياة ، فلم يخلقهم كلهم أمراء ولا أطباء . وذلك من عظيم نعم الله ، وإلا أصبحت الحياة قسرية ، و ذات لون واحد مما يؤدي الى فشلها قال تعالى : " و رفعنا بعضكم فوق بعض درجات ليتخذ بعضكم بعضا سخريا " (1) ( سخريا : اي سخرة ) ، و ثابت بالتجربة ان النظريات القسرية نظريات خاطئة فاشلة ، فقد خطط ماوتسي تونغ و سعى لجعل المجتمع الصيني على نمط واحد ، و غفل عن ان المجتمع بحاجةالى التنوع لكي يتقدم و يتطور ، و لذلك وجدنا كيف ان من خلفه خطأه و خطط للتغيير . قال الامام الباقر ( ع ) في معنى الاطوار : " و قد خلقكم على اختلاف الاهواء و الإرادات و المشيئات " (2) .

[15 - 20] و ينطلق السياق بنا يعرفنا ببعض نعم الله و مننه علينا في الآفاق ،(1) الزخرف / 32 .

(2) تفسير القمي / ج 2 - ص 387 .


و ذلك ليطمئن الانسان بانه مهما جال ببصره و فتش في الوجود فإنها تهديه آيات الخلق الى ربه ، حيث آثار قدرته و حكمته و رحمته مطبوعة على كل جزء جزء فيه .

[ ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا ]

انها سبع سماوات و لكنك لا تجد فيها فطورا و لا تناقضا ، انما هي منسجمة يكمل بعضها بعضا ، كما الاطوار في الخلق و الناس ، و الآية تهدينا الى ان من بين المقصود بالسماوات السبع تلك التي تظل الاقاليم السبعة و ذلك بدلاليتين ، الأولى : انه قال : " ألم تر " مما يعني ان المقصود مما يراه الانسان و يشاهده وذلك لا يمكن لو قصدت السماوات التي تنقل بينها النبي (ص) في رحلة المعراج لأنها طبق فوق آخر وليس ظاهرا منها سوى الأولى .

و الثانية : ان التعبير في الآية اللاحقة جعل القمر نورا فيها كلها ، بينما أطلق سراجية الشمس ، لان دور القمر محدود في آفاق الارض فقط ، بينما دور الشمس يشمل كواكب و آفاقا أخرى فكلمة " فيهن " إذن إشارة الى سماوات الاقاليم و ليست السماوات التي بعضها فوق بعض حسب الظاهر ، إذ القمر في واحدة منهن و ليس فيهن جميعا .

[ و جعل القمر فيهن نورا و جعل الشمس سراجا ]

و بهذه الآية كشف القرآن للبشرية جانبا من أسرار الكون في وقت ما كانت تحلم بالتطلع الى معرفة طبيعة الأرض فكيف بالأجرام التي حولها كالقمر و الشمس ؟ ان القمر يختلف عن الشمس في خلقته و دوره ، فبينما خلقت من كتل النيران حتى توفر الطاقة الحرارية ، و الإضاءة فيها ذاتية ، نجد القمر كالمرآة التي تعكس أشعة الضوء الساقطة من الشمس ، وكما أنه تعالى لم يترك الأرض و السماء تكوينيا مظلمتين من دون نور و سراج ، كذلك لن يدع المجتمع البشري من دون امام و نهج يهتدى بضوئه ، فلا غرابة إذن ان نجد بعض الروايات تأول القمر و الشمس في أئمة الهدى - عليهم السلام - و كل امام حق .. قال ابوذر - عليه السلام - : " ان أهل بيت النبوة فينا كالقمر الساري " (1) .

[ و الله أنبتكم من الارض نباتا ]

قال شيخ الطائفة ابو جعفر الطوسي : فالانبات اخراج النبات من الارض حالا بعد حال ، و النبات هو الخارج بالنوى حالا بعد حال ، و التقدير في " أنبتكم نباتا " اي فنبتم نباتــا ، لأن " أنبت " يدل على نبت من جهة انه متضمن له (2) و علق صاحب المجمع فقال : يعني مبدأ خلق آدم ، و آدم من الارض و الناس ولده ، و هذا كقوله : " و بث منها رجالا كثيرا و نساءا " و قيل : أنبت جميع الخلق باغتذاء ما تنبته الأرض ، و قيل معناه : أنبتكم من الأرض بالكبر بعد الصغر ، و بالطول بعد القصر (3) .


فالانسان إذن ابن الارض ، لا فرق بين آدم وبين كل فرد فرد من أبنائه ، فمع أنه - عليه السلام - خلق مباشرة من التراب إلا أننا عند التحليل العلمي الواقعي نهتدي الى ان كل ذرات الجسم أصلها الارض .

[ ثم يعيدكم فيها ]

كما أنبتكم منها حيث يذوب البدن بالموت و تتحلل أعضاؤه في التراب .


(1) البرهان / ج 4 - ص 270 .

(2) التبيان / ج 10 - ص 138 .

(3) مجمع البيان / ج 10 - ص 363 .


[ و يخرجكم إخراجا ]

بالبعـث و النشور ، و إننا نعرف بان هناك تشابها بين الانسان و النبات في أطواره ، حتى في الاخراج من الارض التي تصير يوم البعث كما رحم الأم يمطرها الله أربعين صباحا ، فاذا بك ترى الارض تنشق عن الناس سراعا .

[ و الله جعل لكم الارض بساطا ]

نفترشها و نمشي على ظهرها ، و الجعل يعني التمهيد الذي تم بلطف الله و رحمته من خلال القوانين الطبيعية ، و خلق الارض بالكيفية التي تجعل الحياة عليها ممكنة و ميسرة .

[ لتسلكوا منها سبلا فجاجا ]

اي طرقا كثيرة واسعة ، و قيل : طرقا مختلفة ، و الفج المسلك بين الجبلين (1) و هذه الآية تأكيد على أنه تعالى بسط الارض لنا ، إذ لو لم يبسطها ما كنا نجد لنا طرقا للمشي فيها و التنقل بين بقعها المختلفة ، ومن الآيات الإلهية انه لا توجد بقعة إلا و فيها سبلا يستطيع البشر ان يسلكها ، و قوله : " سبلا " بالجمع يهدي الى الكثرة و التنوع في نفس الوقت ، فبسط الله للارض يعم اليابسة و الماء و الهواء .

وإذا قلنا : ان الفجاج هي الطرق بين الجبال فانه ثابت عمليا بأن أغلب الطرق البرية بين البلدان تمر من خلال السلاسل الجبلية ، و ذكر الله للطرق التي بين الجبال بالذات لأنها أظهر آية و دلالة من التي في السهوب و الصحاري .

[21] و هكذا ذكرنا سبحانه بتلك النعم لعلنا نعرف عظيم منه علينا فلا نعبد(1) مجمع البيان / ج 10 - ص 137 .


سواه ، و تذكير نوح - عليه السلام - لقومه بمنائح الله و نعمه يأتي في سياق استثارة عقولهم و ضمائرهم التي حجبها الضلال لعلهم يتذكرون الحق و يتبعونه و يعرفون ان تلك النعم من عند الله رب العالمين ، و أنها تدعو الانسان الى التسليم بالحق قيما و قيادة ، و بعبارة أخرى : تفرض القيم الاساسية التي تتضمنها رسالات الانبياء على البشر ( عبادة الله و تقواه و الطاعة للقيادة الرسالية ) إلا أن قوم نوح بلغوا من الانحراف عن الحق و الجحود ما لا تنفع معهم الموعظة .

[ قال نوح رب إنهم عصوني ]

و هذا لوحده ذنب عظيم ان يرفض الانسان التسليم لقيادة الحق ، و لان احدا لا يستطيع ان يعيش فراغا قياديا فإنهم اتبعوا قيادات الباطل و الضلال .

[ و اتبعوا من لم يزده ماله و ولده إلا خسارا ]

و نستوحي من الآية : انهم كانت تحكمهم طبقة الاغنياء المترفين ، ومن الطبيعي ان يقف هؤلاء ضد دعوة الانبياء و القيادات الرسالية و طرحهم القيادي لانهم حريصون على رئاسة المجتمعات و السيطرة على افرادها و خيراتها و مقدراتها ، قال العلامة الطبرسي : اي اتبعوا اغنياء قومهم اغترارا بما آتاهم الله من المال ، فقالوا : لو كان هذا رسولا لكان له ثروة و غنى ، و قيل : اتبع الفقراء السفلة الرؤساء الذين لم يزدهم كثرة المال و الاولاد إلا هلاكا في الدنيا ، و عقوبة في الآخرة (1) و ذلك مما يدلنا الى مدى ارتكاسهم فيالمادية و الشيئية ، إذ اعتبروا الاموال و الاولاد مقياسا لاختيار القائد و ليس الحـق ، و هنا نصل الى فكرة هامة و هي : ان الخطأ الفظيع الذي وقع فيه قوم نوح (ع) انهم لم يسلكوا السبيل القويم في الحياة مما أدى(1) مجمع البيان / ج 10 - ص 137 .


بهم الى الخسران العظيم ، مع انه تعالى فرض على الانسان ان يختار طريقه تشريعيا و في الحياة المعنوية و الاجتماعية كما يختار طريقه بين فجاج الارض و مناكبها .

وقد أكد نوح ذنب معصيتهم له بالذات ، فلم يقل مثلا : انهم لم يعبدوا الله أولم يتقوه لان معصية القيادة الإلهية في الواقع معصية لله و عنوان كل انحراف و فساد ، و انما لم يعبدوا ربهم ولم يتقوه لانهم لا يريدون الطاعة للرسول و اتباعه ، بل ان العصيان هنا شامل لعدم استجابتهم للاهداف الثلاثة كلها ( عبادة الله و تقواه و اتباع القيادة الرسالية ) لانه هنا يعني رفض الدعوة و الداعية كلا و تفصيلا .

و السؤال لماذا يتبع الانسان المترفين ؟ و نجيب : لانه ينبهر بالمال او القدرة فيلهث وراء من يملكهما ، لعله يحصل على بعض الفتات من الخبز ، او تصيبه عزة من عزته ، و لكن الأمر على العكس من ذلك بالضبط إذ المجتمع الذي تشيع فيه هذه الثقافة سوف يصبح فريسةميسرة للمترفين ، فيمتصون جهوده و يستغلونه استغلالا بشعا ، ولو أننا حققنا في ظاهرة تسلط المستكبرين من أصحاب الثروة و القدرة على المجتمعات و الشعوب المستضعفة لوجدناها متأسسة على هزيمة المحكوم نفسيا أمامهم ، ولا يزيد المستضعفين ذلك إلا خسارة ، لانه كلمازاد الانبهار زاد المستكبر استكبارا ، و استغلالا لجهود المستضعفين ، و قمعا لتطلعاتهم المشروعة ، و طبيعي ان من لا يسخر المال من أجــل مصالحه الحقيقية سوف يزداد خسارة كلما ازداد مـالا ، و من هنا قال ربنا سبحانه : " من لم يزده ماله و ولده إلا خسارا" لان المعنى هنا شامل لخسارة الطرفين التابع و المتبوع ، بينما قد لا يشملهما لو جاء التعبير بما هو مفترض ( لم يزدهم ) ذلك أنه إذا خسر المتبوع فستنجر الخسارة نفسها على التابع الذي يلحق به في كل شيء .

[22] في قلب الانسان عقل يتوهج بقيم الصدق و الصلاح ، و وجدان يقظ يحاكم صاحبه عند كل انحراف ، وفي المجتمع الانساني عرف عام يلاحق المجرم باللائمة و اللعنة .. كل ذلك يدعو المجرم الى صنع ثقافة تبريرية للتهرب من وخز الضمير و محاكمة الفطرة كما يدعوه الىمقاومة المصلحين و اسكات أصواتهم المعارضة ، لعلهم ينجون من لومهم و إدانتهم ولعل هذا هو السبب في ان الانسان كلما ازداد اجراما كلما ازداد مكرا و كيدا لانه تزداد حاجته الى الفرار من لوم ذاته و إدانة العرف العام .

[ و مكروا مكرا كبارا ]

بنسبة عصيانهم و ضلالهم ، و هذا ما يفسر مدى اهتمام المستكبرين و أذنابهم في هذا العصر الذي تزداد فيه الجريمة ، و يطغى فيه المستكبرون باجهزة الاعلام و وسائله ، حتى تكاد الميزانية الإعلامية تضاهي أحيانا الميزانية العسكرية .

[23 - 26] ومن عظيم مكرهم تواصيهم بالباطل و تضليلهم لبعضهم ، ابقاء على الانحراف و إصرارا على الضلال .

[ و قالوا لا تذرن ءالهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث و يعوق و نسرا ]و قد اختلف المفسرون في هذه الأسماء ، و أقرب الآراء : انها ترمز الى رجال عظماء من أبناء آدم ، أوحى إبليس الى تابعيهم باتخاذ تماثيل لهم ، ثم أمرهم بعبادتهم ، و بهذا وردت بعض النصوص .

و قولهم : " لا تذرن " حتى نهاية الآية (23) مما لاكته ألسن المترفين الذين أحسوا بخطر الرسالة على زعامتهم و مصالحهم ، وهم لا يدعون الناس للتمسك بتلك الاصنام ايمانا بها إنما لأنها رمز للثقافة التي تمكنهم من السيطرة على المجتمع ، كما تنفخ دعاة العنصرية فيها وفي رموزها لمواجهة الحركات التحررية .

[ وقد أضلوا كثيرا ]

بهذه الدعوات الباطلة ، حيث وجدوا بين الناس من اتبعهم بسبب الجهل او انسياقا وراء المصلحة الدنيوية .

[ ولا تزد الظالمين إلا ضلالا ]

قيل : ان الضمير في " تزد " راجع الى الاصنام ، فالمعنى انها لا تزيد الظالمين باتباعها إلا ضلالا ، و قيل : ان الجملة استئنافية ، و هي دعوة من نوح على قومه بأن لا يزيدهــم الله إلا ضلالا ، و هي دعوة عليهم بكل شر مستطير ، أوليس الضلال أصل كلشر ، وقد استجاب الله دعاء نبيه الذي أيقن بأن الحياة لا تصلح لهم ، و ان الموت أولى لهم ، و كذلك أوحى اليه ربه : " أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " (1) فاهلكهم غرقا بالطوفان ، و هنا يلفتنا السياق الى حقيقة أساسية ، وهي ان سنة الجزاء مرهونة بالانســـان نفسه ، فهي تجري في سياق العدالة الإلهية ، و ان كانت مظهرا لقدرة الله ايضا ، ولو أننا فتشنا في الاسباب لهلاك اي قوم لوجدناها أعمالهم و مساعيهم لا غير ، و هذه بالضبط قصة قوم نوح مع الطوفان .

[ مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا ]

أصابهم الغرق في الدنيا ، و نقلهم الموت الى سوء العذاب في الآخرة ، حيث نار جهنم التي تنتظر كل كافر و مشرك ، وما كان موتهم في لجة الامواج ينجيهم من نيران جهنم في البرزخ ، لان تلك النار تكمن في وجودهم .

[ فلم يجدوا لهم من دون الله انصارا ]


(1) هود / 36 .


يحجزون عنهم العذاب ، أو يقاومون بهم سلطان الله و مشيئته ، كما يزعم المشركون بعبادتهم الاصنام بشرا أو حجرا أو غيرهما .

[ و قال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا ]و الديار - كما يبدو - هو من يسكن الدور و الديار ، و انها حقا دعوة بعذاب الاستئصال الذي حقت به كلمة الله عليهم ، فما بقي يومئذ أحد إلا من آمن بنوح و ركب السفينة ، و من هنا نهتدي الى ان عذاب الاستئصال يأتي بهدف تطهير الارض من العناصر الفاسدة التي لاتنفع معها النصيحة ، و ان مبرر وجود الانسان هو ما يشتمل عليه من الحق في كيانه فاذا صار خلوا من أي حق فقد مبرر الوجود تشريعيا و تكوينيا مما يؤدي به الى الهلاك ، و هذه الحقيقة تنطبق بصورة أجلى على الانسان ( المجتمع ) منها على الانسان ( الفرد ) و من هنانفهم الآية الكريمة : " و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض " (1) و كذلك الروايات التي تقول : " ان الله ليدفع بالمؤمن الواحد عن القرية الفناء " (2) لانه لولا وجود المؤمنين من الناس لما بقي مبرر لوجود الآخرين .

[27] ثم يبين شيخ المرسلين الخلفيات و الحيثيات وراء دعوته على قومه ، فهو لم يدع عليهم لأنه مل و تعب من الجهاد في سبيل الله ، ولا لأنه يحمل العداء الشخصي ضدهم لما لقيه من الأذى و المعاناة على أيديهم ، إنما كان منطلقه في ذلك رساليا خالصا لوجه ربه .


[ إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ]

الموجودين ، فيزيدون الضالين ضلالة ، و يؤثرون على من آمن ليعود كافرا(1) البقرة / 251 .

(2) موسوعة بحار الانوار / ج 67 - ص 143 عن أبي جعفر (ع) .

مشركا مثلهم ، وفي هذه الآية يجب ان نقرأ مدى الضغط الذي يواجهه المؤمنون حينما يستقلون برأيهم و مسيرتهم عن مجتمع الضلال و الفساد .. انه يبلغ حدا يخشى عليهم من الانحراف بسببه ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر أنه لا يرتجى خيرا ولا مستقبلا سليما للاجيال التيتنسل منهم ، باعتبارهم قد أحكموا أساليبهم التربوية السيئة التي من شأنها بناء شخصية الاولاد على اساس الباطل و العداء للقيادة الرسالية و لخط المؤمنين .

[ ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ]

بالوراثة و بالتربية ، و الفاجر هو من لا يقف عند حد شرع أو عرف ، ولا يقيم وزنا لقيمة لا في نفسه ولا في المجتمع ، انما يطلق لشهواته العنان ، بينما الكفار صيغة مبالغة من الكفر وهو خلاف الايمان ، و الكفور خلاف الشكر .

ولقد انتهى نوح الى هذه النتيجة بتجربته المرة الطويلة التي عاصر فيها ثلاثة أجيــال على الاقل و خبرهم بتمام المعرفة ، و كذلك بإخبار الله له ، قال الراوي : قلت لأبي جعفر الباقر (ع) : ما كان علم نوح حين دعا على قومه انهم : " لا يلدوا إلا فاجرا كفارا " ؟! قال : " اما سمعت قول الله لنوح : " انه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن " (1) و قد ذهب اغلب المفسرين الى القول : بان الله تعالى أخرج من أصلابهم كل من يكون مؤمنا ، و أعقم أرحام نسائهم ، و أيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعينسنة (2) .

و الآية تبيــن بـأن الانسان قد يرحمه الله ليس لذاته بل لآخرين يتعلقون به كالأولاد .


(1) تفسير القمي / ج 2 عند الآية .

(2) مجمع البيان / ج 10 - ص 365 .


[28] و ختاما لهذه السورة المتضمنة للحديث عن المعانات الصعبة ، و دعاء شيخ المرسلين على قومه نجد آثار اللطف و حب الخير يجليها لسان نوح عن قلبه الحنون ، و ذلك حتى لا يظن أحد أنه - عليه السلام - يحمل العداء الشخصي ضد قومه بالذات ، فإنه وازن بين الدعاءسلبا ضد الكفار الفاجريـــن ، و الدعاء ايجابيا لصالح المؤمنين الصالحين .

[ رب اغفر لي ]

و هذه قمة العبودية لله و الخشية منه ، فبالرغم من الجهاد الطويل في سبيل الحق الذي امتد طيلة حياته إلا أنه لم يمن على الله بشيء من طاعاته لايمانه بانها ما كانت تكون لولا لطفه و توفيقه ، و ان الخضوع له و الاعتراف بالتقصير تجاهه خير وسيلة للمزيد من القرب منه و السعي في خدمته و إنه حقا درس يحتاجه كل مجاهد في سبيل الله ليقاوم به الغرور و همزات الشيطان ، و بالذات اولئك الذين يتطاول بهم العمر في خدمة الرسالة .

و لكنه باخلاق النبوة التي تدعوه للخروج من قوقعة الذات ، و التفكير في نجاة الآخرين بمقدار التفكير في نجاة نفسه ، لم ينس غيره بالرغم من ان ساعة دعائه كانت صعبة حرجة ، سواء قلنا بأنه دعا ربه قبل الطوفان أو أثنائه أو بعده .. فهذا هو يلتفت لأولي الفضلعليه ( أبوه و أمه ) و لشركاء الصف و المسيرة ( المؤمنين ) لا فرق عنده بين من عاصروه و بين من سبقوه أو يأتون بعده ، و يلتفت مرة مؤكدا براءته من الظلم و الظالمين ، كما أكد بسابقتها ولاءه للحق و أهله .

[ و لوالدي ]

إذ لهما الفضل فطريا و تربويا في وجوده و بناء شخصيته ، و هكذا نتعلم درس الوفاء لأول معلم يلتقيه الانسان في الحياة ، إنه لم ينس عناء والديه ، حيث حملته أمه وهنا على وهن ، ثم سهرت ليلها و تعبت نهارها من أجل راحته ، وحيث أجهد أبوه نفسه في طلب المعاشله و أكله و شربه و كسوته ، وفوق ذلك كله ما تلقاه من تربية طيبة على الايمان و حب الله .

[ و لمن دخل بيتي مؤمنا ]

يعني المؤمنين الذين انتموا الى خطه و مسيرته ممن عاصروه .

[ و للمؤمنين و المؤمنات ]

في كل زمان و مكان لانهم و ان اختلفت الظروف و الأزمنة إخوته الذين تجمعه بهم وحدة الهدف و الخط و المسيرة .

[ ولا تزد الظالمين إلا تبارا ]

أي هلاكا و عذابا و ضلالا ، و هذه الجملة تأكيد للبراءة من الباطل قيما و أناسا في مقابل تأكيد الولاء للانتماء للحق الآنف .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس