فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


ثالثا : ما هو الموقف السليم من متغيرات الدنيا ؟
[ 22 - 23 ] و حيث يعيش المؤمنون في الدنيا ، و يسابقون الى فضل الله ، فلا بد ان يستوعبوا طبيعتها المتغيرة لكي لا تترك آثارها السلبية عليهم ، ففيها الغنى و الفقر ، و الشفاء و المرض ، و القوة و الضعف ، و النصر و الهزيمة ، و الزيادة و النقص ، و لابد انيستقيموا على كل حال ، فالذي يتغير مع الظروف و المتغيرات لا يصل الى اهدافه و طموحاته ، لانه تضله النعمة بطرا ، و المصيبة يأسا ، او يعطي و يسابق حيث تسود هذه الحالة المجتمع و يلقى التشجيع اليها ، و لكنه يتوقف حيث توقف الآخرون ، او ثبطوه ، فكيف يحصل الانسان على الثبات ؟

اولا : بالمعرفة العميقة بطبيعة الدنيا على ضوء الاية الكريمة " اعلموا انما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر في الاموال و الاولاد .. و ما الحياة الدنيا الا متاع الغرور " و الرغبة في فضل الله ، مما يزهد الانسان فيها ، فلايفرح حيـن تقبل عليــه ، و لا يحزن حين تدبر عنه ، لانها ليست بذات شأن عظيم عنده .

قال الامام علي ( ع ) : " الناس ثلاثة : زاهد و صابر و راغب ، فاما الزاهد فقد خرجت الاحزان و الافراح من قلبه ، فلا يفرح بشيء من الدنيا ، و لا يأسى على شيء مــنها فاته فهو مستريح " (1) ، و قال ( ع ) : " الزهد كله بين كلمتين في القرآن ،قال الله تعالى : " لكيلا تأسوا على مافاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم " و من لم يأس على الماضي ، و لم يفرح بالاتي فقد اخذ الزهد بطرفيه " (2) .

و نقل عن الامام الباقر ( ع ) انه رأى جابر بن عبد الله ( رضي ) و قد تنفس الصعداء ( التنفس الطويل من هم او تعب ) فقال ( ع ) : " يا جابر على م تنفسك(1) نور الثقليم / ج 5 / ص 248 .

(2) المصدر / ص 249 .


اعلى الدنيا " ؟ ! فقال جابر : نعم ، فقال له : " يا جابر ملاذ الدنيا سبعة : المأكول ، و المشروب ، و الملبوس ، و المنكوح ، و المركوب ، و المشموم ، و المسموع ، فألذ الماكولات العسل و هو بصق من ذبابه ، و أحلى المشروبات الماء ، و كفى بإباحته و سباحته على وجه الارض ، و اعلى الملبوسات الديباج و هو من لعاب دودة ، و اعلى المنكوحات النساء وهو مبال في مبال ، و مثال لمثال و انما يراد احسن ما في المرأة لاقبح ما فيها ، و اعلى المركوبات الخيل و هو قواتل ، و اجل المشمومات المسك و هو دم من سرة دابة ، واجل المسموعات الغناء و الترنم و هو اثم ، فما هذه صفته لم يتنفس عليه عاقل " .

قال جابر : فو الله ما خطرت الدنيا بعدها على قلبي . (1) .

ثانيا : الرضى و التسليم بالقضاء الذي ياذن به الله فيقع ، و هو أرفع درجة من الزهد ، بل ارفع درجات الايمان لقول الامام علي بن الحسين ( ع ) و قد سئل عن الزهد : " الزهد عشرة اجزاء ، فأعلى درجات الزهد ادنى درجات الورع ، و اعلى درجات الورع ادنى درجات اليقين ، و اعلى درجات اليقين ادنى درجات الرضى " (2) . و لا يسمو الانسان اليه الا اذا آمن بان كل ما يحدث في الوجود بتقدير مسبق من الله ( القدر ) ، فذلك بدل ان يؤثر فيه سلبا باتجاه الانحراف يؤكد فيه الانتماء الى مسيرة الحق ، و التوحيد المخلص للهبدل الشرك ، " و لنبلونكم بشيء من الخوف و الجوع و نقص من الاموال و الانفس و الثمرات و بشر الصابرين * الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله و انا اليه راجعون " (3) ، لانهم يعتقدون بهذه الحقيقة :


(1) بح / ج 78 / ص 11 .

(2) بحار الانوار / ج 78 / ص 136 .

(3) البقرة / 155 - 156 .


[ ما اصاب من مصيبة في الارض ]

خارجية من حولكم ، قال صاحب المجمع : مقل قحط المطر : و قلة النبات ، و نقص الثمرات .

[ و لا في انفسكم ]

مباشرة " من الامراض و الثكل بالاولاد " (1) او ما اشبه .

[ الا في كتاب من قبل ان نبرأها ]

فهي مكتوبة على الانسان في قدر الله قبل الخلق الاول لنفسه ، و تحولها الى الواقع انما هو تصويب للقدر بانفاذ القضاء ، و من الصعب على الانسان ان يستوعب هذه الحقيقة انطلاقا من النظر الى نفسه و قدراته المحدودة ، و لكنه اذا فكر فيها من خلال ارادة الله و علمه فالأمر هين عنده تعالى .

[ ان ذلك على الله يسير ]

و كيف لا يكون كذلك " و هو على كل شيء قدير " " و بكل شيء عليم " ؟ ؟

و لهذه الآية الكريمة علاقة وثيقة بالدعوة الى التسابق ، و هي ان المتغيرات السلبية في حياة الانسان ( المصيبة ) قد تصيبه بالاحباط النفسي الذي يفقده الفاعلية اللازمة للتسابق ، و لا شك ان الايمان بالقضاء و القدر مانع عن الاحباط في الضراء كما هو حاجز عنالاغترار في السراء .

[ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ]


(1) المجمع عند الآية .


لان اليأس ( التثبط و الهزيمة الداخلية ) بسبب التغير السلبي يسلبنا الفاعلية و التحرك . و لماذا نسعى و نسابق الى هدف لا نصل اليه ؟ هذا هو الاحساس و التساؤل الذي يرتسم عند المصيبة ، و لكن لماذا اليأس ، فالمصيبة اما بارادة الهية لا سبيل فيها الا الاعتراف بها و التسليم لارادة ربنا و حكمته ، و اما تكون بسببنا فنحن اذا قادرون على مقاومتها و تغييرها بتغيير ما في انفسنا . و لا داعي لليأس ، فقد نجاهد العدو فنفشل و ننهزم لاننا متفرقون ، منهزمون نفسيا ، و لكننا نستطيع الانتصار عليه اذا اعترفنا بعوامل الهزيمة عندنا فتجنبناها ، و اسباب الانتصار عند العدو فأخذنا بها .

و كذلك النعمة يجب ان لا تدفعنا الى الغرور و الفخر ، فنعتمد عليها بدل الاعتماد على الله ، و هي لا تبقى ، او ننسى العوامل التي تسببت فيها فتزول .

[ و لا تفرحوا بما ءاتاكم ]

لان الفرح ( الغرور و الاحساس بالكمال ) يدعونا الى التوقف ، كاليأس و لكن بصورة اخرى ، حيث لا نجد دافعا الى السعي و الاستزادة ، و قد بلغنا القمة عند انفسنا ، بل قد يدعونا الى الشرك و ذلك للشعور بالاستغناء عن الله تعالى .

[ و الله لا يحب كل مختال فخور ]

كائنا من كان ، لانهما صفتان سلبيتان منبوذتان عنده تعالى ، لا يبررهما حسب و لا نسب و لا منصب و لا فضل مادي او معنوي . و نستلهم من الآية :

اولا : ان الفرح ( و الاعجاب بما نملك ) يسبب التكبر على الناس و الفخر .

ثانيا : ان علاجه يتم بالايمان بالقضاء و القدر ، و ان ما نملك لم نحصل عليه منعند انفســنا بل بفضل الله سبحانه ، فلا داعي للتعالي على الناس به او الفخر و الغرور .

ثالثا : ان من يعيش التكبر و الفخر يخسر ما آتاه الله ، لان الله لا يحب كل مختال فخور ، و اذا كانت النعمة من الله فان زوالها سيكون بيده .

[ 24 ] و يضرب الله مثلا على المختالين الذين يفخرون ، و يبين لنا انعكاس فرحهم بالنعم على نفوسهم و سلوكهم بالنسبة للانفاق ، بعد بيان انعكاسه في النفس و المجتمع .

[ الذين يبخلون و يأمرون الناس بالبخل ]

و انما يبخلون لاسباب اهمها امران ؛ الاول : لانهم يريدون التفاخر و التكاثر ، فهم يزعمون ان الانفاق يقلل ما يملكون ، و جاء في الحديث " ما فتح على عبد بابا من امر الدنيا الا وفتح عليه من الحرص مثليه " (1) و الثاني : لانهم يحسون بالاستغناء عنكل احد ، و هذا يتضخم في نفوسهم حتى يشعرون بعدم الحاجة الى ثواب الله ، فاذا بهم لا يستجيبون لدعوته بالانفاق ، و لا يدعمون مسيرة الحق .

[ و من يتول فان الله هو الغني ]

الذي لا يحتاج الى أحد ، و انما امر بالانفاق لصالح الناس و لابتلائهم .

[ الحميد ]

فهو يواصل فضله على عباده ، و لكن لماذا يأمرون الناس بالبخل ؟


(1) بح / ج 73 / ص 160 .


1 - لكي يبرروا بخلهم بخلق تيار من البخلاء في المجتمع حتى لا يرى بخلهم شذوذا .

2 - حفاظا على الحالة الطبقية التي تمهد لهم الاستبداد و الاستغلال و الفخر و الخيلاء ، اما اذا ردمت الهوة بين الطبقتين الاغنيا و الفقراء فعلى من يختالون و يفتخرون ، و من يستغلون و يستبدون ؟ ! و الرأسمالية الموجودة الآن هي احد افرازات الفلسفات و الافكار الاغريقية القديمة العفنة ، و التي تقسم الناس الى طبقات حتمية ، و ذاتها موجودة الان في الفلسفات البرهماتية في الهند .

3 - كما ان المنافقين يتخذون تثبيط الناس عن الانفاق ، و دعوتهم الى البخل سبيلا للصد عن سبيل الله ، و محاربة الرسول و رسالته الداعيان الى العدالة و الوقوف ضد الطبقية المقيتة ، و استغلال الناس و . و . مما يتعارض مع مصالحهم . قال تعالى : " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا و لله خزائن السماوات و الارض و لكن المنافقين لا يفقهون " (1) و هذه الاية تشير الى الهدف الاخير للامر بالبخل ، و لعل الاية من سورة الحديد اشارة الى دور المنافقين في محاربة الرسالة ، و الدعوة الى التولي عن الرسول و الحق .

و في الاخبار روايات كثيرة في ذم البخل و البخلاء اليك بعضها :

قال الرســول ( صلــى الله عليه وآله ) : " البخيل بعيد من الله ، بعيد من الناس ، قريب من النار " (2) و قال الامام علي ( عليه السلام ) : " البخل جامع لمساوىء العيوب ، و هو زمام يقاد به الى كل سوء " (3) و قال : " النظر الى البخيل يقسي


(1) المنافقون / 7 - 8 .

(2) بح / ج 73 / ص 308 .

(3) المصدر / ص 307 .


القلب " (1) و قال الامام الصادق ( عليه السلام ) : " حسب البخيل من بخله سوء الظن بربه ، من ايقن بالخلف جاد بالعطية " (2) و عن الامام الرضا عليه السلام : " اياكم و البخل فانها عاهة لا تكون في حر و لا مؤمن . انها خلاف الايمان " (
3) .


(1) بح / ج 78 / ص 53 .

(2) بح / ج 77 / ص 147 .

(3) بح / ج 78 / ص 346 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس