فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


ثانيا : ما هي اهدافه في الدنيا و كيف يصل بها ؟
و حينما يطمئن الانسان الى حقيقة الدنيا فسيعلم ان حطامها ليس بالذي يشبع طموحاته و يحقق تطلعاته ، انه يريد السعادة و لا تتم له فيها ، و يريد الخلود و هيهات ذلك ؟ ، فلا بد ان يبحث له عن هدف سام يجده اهل للسعي له ، و هذا لا يمكن حتى يضيف الى علمه بحقيقة الدنيا علما بحقيقة الآخرة ، و من هذا المنطلق يعطف الله على قوله " اعلموا انما الحياة الدنيا " قوله تعالى :

[ و في الآخرة عذاب شديد ]

فكل انسان يحس بفطرته ، ان طموحاته اكبر من الدنيا و ما فيها ، و لكنه اذا غفل عن الاخرة فسيبقى مصرا على التشبث بالدنيا ، طمعا في تحقيق ما يقدر عليه منها مما كان متواضعا ، و لذلك نجد القرآن يرسي قاعدة الايمان بالآخرة في النفس ليحقق التوازن المطلوب في نفس البشر لكي لا ينساق وراء التكاثر في جمع حطامها ، ظنا منه انه يحقق تطلعاته بذلك . كلا .. انت مخلوق لما هو اكبر منه و أبقى ، فماالذي يعطيك هذا التفاخر و التكاثر ؟ هب انك بلغت ما بلغ سليمان ذلك النبي الكريم الذي سخرت له الريح ، و استخدم الجن و علم منطق الطير ، و لكن أتعلم اين سليمان اليوم ؟ و اين ملكه الكبير ؟ و اين عزته الشامخة ؟ افلا نعتبر بمصير الملوك الذين حققوا عند الناسطموحاتهم فاذا بهم ينقلون من قصورهم الى قبورهم تأكل ابدانهم الديدان قبل ان تصبح رميما ثم ترابا تذروه الرياح ؟

اما المؤمن بالآخرة فان نفسه قانعة بما لديها ، راضية بما آتاها الله ، و تائقة الى ما عنده . هل سمعت نبأ الامام الحسن المجتبى ( عليه السلام ) كيف خرج عن امواله جميعا لله مرة و قاسم الله امواله مرات ؟ ام هل عرفت زهد الامام علي عليه الســلام ؟ و هكــذاالمؤمن يستبدل الدنيا بالاخرة ، و لن يمتنع عن الانفاق في سبيل الله .

و على أساس الايمان بأن الآخرة هي دار الجزاء و الخلود - فاما عذاب شديد ، او مغفرة و رضوان من الله حسب ما يقدم الانسان في الدنيا ليوم الحساب - فانه لا ريب سيعرف أهمية الحياة الدنيا ، و دورها الحاسم في مستقبله الابدي ، و حينها لن يدع الهزال و المزاح واللعب يأخذ من وقته شيئا ، لان الغاية عظيمة ، و الخطر كبير ، و الفرصة قصيرة ، بل سوف يخشع قلبه لذكر الله خوفا من عذابه ، و طمعا في مغفرته و رضوانه .

و اعظم هدف يسعى اليه هو الخلاص من النار ، لان صراط الجنة يمر من فوقها . اوليس طريق الجنة محفوفا بالمكاره التي ينبغي للانسان تحملها و الصبر عليها ، و بالشهوات التي ينبغي ان يتحداها و يجتنبها ، فان لم يتحمل و لم يصبر ، او لم يتحد و يتجنب فسوف يقع فيالجحيم و قودا لنيرانها و يعذب فيها بقدر فشله ؟ و هذه الغاية من اعظم طموحات المتقين " الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم و يتفكرون في خلق السماوات و الارض ربنا ما خلقت هذا باطلاسبحانك فقنا عذاب النار " (1) . و اعظم بها من غاية فاز و الله من اصابها " فمن زحزح عن النار و ادخل الجنة فقد فاز " (2) .

و الهدف الاخر هو الدخول الى الجنة ، و ذلك لا يمكن من دون مغفرة الله و رضوانه ، اذ لا يدخل احد الجنة بعمله - بل بفضل الله - حتى الانبياء ، و ذلك لا يتحقق الا بالانابة الى الله و الاعتراف له بالخطأ ، و السعي الدائب للاصلاح .

[ و مغفرة من الله و رضوان ]

هذه هي الاهداف الحقيقية التي يجب على كل انسان السعي من اجلها ، و بها تصبح الدنيا اخرة ، و الحياة فيها ذات معنى ، و كل ساعة فيها اعظم من ساعات الآخرة . اما بدونها فتصبح لعبا و لهوا ، و تتحول الى اداة للغرور .

[ و ما الحياة الدنيا الا متاع الغرور ]

المتاع هو الزاد ، و الغرور الانخداع ، قال تعالى : " فلا تغرنكم الحياة الدنيا و لا يغرنكم بالله الغرور " (3) ، و شبه الدنيا بزاد الغرور ، لانها لا تشبع عند المنخدع بها حاجة حقيقية ، الا غروره الكاذب الباطل ، الذي ينتهي عند الموت ، فلا تبقىعنده ذرة من غرور .

و اذا نظرنا الى حديث القران عن الدنيا ، و الى السياق الذي تقع ضمنه في كل مرة ، فاننا سوف نلاحظ ورود ذكرها في مواضع كثيرة و علاجا لمشاكل مختلفة مما يثير فينا التساؤل : لماذا ؟ و قد يتكرر النصف الواحد في موارد متعددة ، و سياقات مختلفــة ، و يجيــب عنذلك الحديث المروي عن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :


(1) ال عمران / 191 .

(2) ال عمران / 185 .

(3) لقمان / 33 .


" حب الدنيا رأس كل خطيئة " فمهما وجدت انحرافا او خطأ في حياة الانسان ( فردا و جماعة ) فانك تجده متصلا بحب الدنيا ، و الاغترار بها .

[ 21 ] و اذا تحول نظر الانسان و قلبه الى تلك الاهداف السامية ، فهو لا ريب سيتحول موقفه من الدنيا و سلوكه فيها ، فالاهداف عظيمة و الفرصة قصيرة ، اذا لابد من ترك اللعب و اللهو الى الجد و الاجتهاد ، و ترك الزينة الى ما ينفع ، و التفاخر و التكاثر في الاموال و الاولاد الى التسابق في الخير و الصالحات الباقيات .

ان تلك الاهداف كفيلة بان تجعله في ذروة الفاعلية ، و تحيل المجتمع الى بركان متفجر من الحيوية و الاجتهاد و روادا في فضيلة التسليم للقيادة الرسالية ، و الاستجابة لدعوتها .

[ سابقوا الى مغفرة من ربكم ]

و انبعثوا انبعاثة نحو الجنة العريضة ، بدل الدنيا ، و قاوموا جاذبية المادة طلبا لرضوان الله .

[ و جنة عرضها كعرض السماء و الارض اعدت للذين آمنوا بالله و رسله ]و هذا هو الاجر و هو - في ذات الوقت - النور الذي وعد به الله تعالى الصديقين و الشهداء في الاية ( 19 ) .

[ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ]

فلا يظنن احد انه يمن على ربه بالايمان ، او انه يحصل عليه بجهده ، او يدخل الجنة بسعيه ، انما بفضل الله و منه يحظى الانسان بالايمان ، و يدخل الجنة ، بلى . انارادة الانسان و سعيه ضروري ، كما قال ربنا : " و من اراد الاخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا " (1) ، و لكن التوفيق الى ذلك جزء من فضله تعالى .

[ و الله ذو الفضل العظيم ]

و ما دمنا في مقام رب عظيم ، ذي فضل عظيم ، و مغفرة عظيمة و رضوان ، فمن السفه ان نرضى لانفسنا بالادنى ، و نشتغل بالتوافه تاركين وراءنا ذلك الفضل العظيم .

و يأتي الامر الالهي بالتسابق الذي يستهدف ( المغفرة و الرضوان ) ، و هو اعلى مراحل السعي الايجابي و حالاته ، في مقابل التكاثر في الاموال و الاولاد ، الذي يستهدف جمع اكبر قدر من حطام الدنيا ، و يمثل اسفل دركات العلاقة و الانشداد بها ، بالرغم من اعتقادالانسان بانه يبلغ الكمال عندها . و يصل التسابق الى اقصاه حينما ينبذ المؤمنون الغرور بالعمل و الاماني ، و ينطلقون من الاحساس بالتقصير ، لان الاحساس بالكمال يوقفهم عن السعي و الاستزادة ، و لذلك قال تعالى " الى مغفرة " ، و هذه من صفات المتقين" لا يرضون من اعمالهم القليل ، و لا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متهمون ، و من اعمالهم مشفقون ، اذا زكي احد منهم خاف مما يقال له ، فيقول : انا اعلم بنفسي من غيري ، و ربي اعلم بي من نفسي ! اللهم لا تؤاخذني بما يقولون ، و اجعلني افضل مما يظنون ،و اغفر لي ما لا يعلمون " (2) و هذه الصفة هي التــي تصنــع الابــداع و الفاعلية في الفرد و المجتمع ، و تجعله يتقدم الى الامام ابدا .


(1) الاسراء / 19 .

(2) نهج / خ 193 / ص 304 .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس