ساعات الدنيا خير من ساعات الاخرة : - و بالرغم من ان ظاهر التعريف بالدنيا يحقرها في نفوسنا ، لكن ربنا لا يريد من هذا التعريف ان يحط من قدرها لكي ننصرف عنها انصراف المتصوفة ، فهي ذات أهمية لكل انسان ، لانها دار تقرير المصير الابدي ، و حينما يسأل الامام علي ( عليه السلام ) ايهما افضل ساعة من ساعات الدنيا أم ساعة من ساعات الآخرة فانه يجيب : ساعة من الدنيا خير من ساعات في الآخرة ، لانه يربح بساعة دنيوية الاف الساعات ، و ربما اشترى بها الخلود في الجنة كالحر بن يزيد الرياحي ، الذي لم يكن بين توبته و شهادته الا لحظات ، و انما اراد الله ان يبين لنا طبيعتها و طبيعة الانسان حينما يحبها و يتخذها هدفا ، دون مرضاة الله . و هذا يتضح من نهاية الآية ، و علاقتها بالتي تليها حيث الدعوة الى التسابق نحو الخيرات ، فهو تارة يتخذها هدفا فلا قيمة لها ، انما هي متاع الغرور ، و تارة اخرى يتخذها وسيلة وميدانا للتسابق الى مغفرة الله و الجنة ، فيسخر كل ما يملك من نعيمها لهذه الغاية ، فهي عند ذلك ذات قيمة عظيمة .
ان الله يؤكد للمؤمنين - بالذات الفريق الذين ضعف ايمانهم نفسيا ، فما عادوا يخشعون لذكر الله و آياته بالكيفية اللازمة ، و عمليا ، فما عادوا يسلمون لاوامر القيادة بالانفاق مثلا ، فصاروا على شفا جرف هار من القسوة و النفاق بسبب اليأس من الانتصار لتأخره، و بسبب الانصراف الى الدنيا بدل الاخرة - يؤكد لهم(1) نهج / خ 28 .
بانها ليست سوى ميدانا للعب ، و للهو ، و الزينة ، و التفاخر ، و التكاثر ، و بالرغم من ان هذه الحقيقة ليست غائبة عن اذهان المؤمنين عموما الا انها لم تتحول من الفكــرة الى وعي يهيمن على النفس ، و بتعبير آخر لم تتحول العبرة الى موعظة عملية ، و انئذ ما الفرق بين الذي يجهل وجود لغم في طريقه فينفجر فيه ، و بين الاخر الذي يحتــمل ذلك او يــدري به لكنه لا يحتاط ؟ ! كلاهما ينتثران اشلاء في الهواء ، لان العلم بلا اقدام يساوي الجهل ، قال تعالى : " و لئن سألتهم من خلق السماوات و الارض ليقولن الله قل الحمد لله بل اكثرهم لا يعلمون " (1) فلا شك اذن ان المؤمن الذي يلعب و يلهو في الدنيا ، و يتخذها زينة و تفاخرا و تكاثرا في المال و الاولاد ، و يبخل بالانفاق في سبيل الله حرصا و تشبثا بها ، كمثل الذي يكفر بالآخرة و ما فيها من الثواب و العقــاب ، و الا لجعل الاخرة هدفه ، و بذل ما يستطيع من اجلها رغبة في رضوان ربه و ثوابه ، و خوفا من غضبه و عقابه ، بل اصبح يتسابق - اذا - نحو الخيرات ، لانها الــزاد و الثمن فيها ، و ربما لذلك امرنا القرآن بالعلم قائلا :
[ اعلموا انما الحياة الدنيا ]
هنا ثلاثة تأكيدات : احدها الدعوة المؤكدة الى العلم ، و الثاني اداة التوكيد ان ، و الثالث الحصر ( انما ) ، و حيث تتوالى هذه التأكيدات على حقيقة ما فهي مهمة و مهم ان يعلمها الانسان ، فما هي تلك الحقيقة ؟ ؟
ان الحياة الدنيا لمن ارادها ؛
[ لعب و لهو و زينة ]
و اللعب هو العمل الباطل و بلا هدف معقول ، قال تعالى يحدث عن(1) لقمان / 25 .
ابراهيم ( ع ) : " قال لقد كنتم انتم و آباؤكم في ضلا مبين * قالوا أجئتنا بالحق ام انت من اللاعبين " (1) ، و قال : " و ما خلقنا السماء و الارض و ما بينهما لاعبين ، ما خلقناهما الا بالحق و لكن اكثرهم لا يعلمون " (2) ، اي لا يعلمون الهدف الذي تنطوي عليه الحياة الدنيا ، فتصبح بمجملها باطلا و لعبا و لهوا ، كما ان تفريغ الدين من مضمونه و من قيمه و اهدافه عند البعض يجعلهم يتخذونه لهوا ولعبا ، كما قال ربنا سبحانه عنهم : " و ذر الذين اتخذوا دينهم لعبا و لهوا ، و غرتهم الحياة الدنيا" (3) .
و انما نسمي مجموعة ممارسات لعبا لانها غير هادفة ( حتى بمقاييس أهل الدنيا ) كذلك الدنــيا لمن يمارسها لا لهدف ابعد منها تصبح لعبا ، فاذا سألته لماذا تعمل ؟ قال : لاكل ، و اذا اعدت عليه ذات السؤال و قلت : لماذا تأكل ؟ قال : لكي اتقوى على العمل ، و اذا سألته ثالثا : لماذا اساسا تعيش ؟ قال هكذا جئت لاعيش و لا اعرف لماذا ؟
او لم تسمع شاعرهم قال :
جئت لا اعلم من اين و لكني أتيتو لقد ابصرت قدامي طريقا فمشيتو سأبقى ماشيا ان شئت هذا او ابيتكيف جئت كيف ابصرت طريقي ؟ لست ادريو حينما يغرق في ممارسته اللعب يتحول الى اللهو ، حيث النسيان التام و الغفلة عن الهدف . بلى . جاء الانسان من عالم الذر الى الدنيا كمحطة يتزود منها ، ثم(1) الانبياء / 55 .
(2) الدخان / 39 .
(3) الانعام / 70 .
يواصل سفرة الى الآخرة ، و لكنه حيث جاءها رأى الناس يلعبون ، و رأى ادوات اللعب فشاركهم ، فبالغ في لعبه ، فنسي انه على سفر و غفل عن مهمته .
و كل شــيء يدعــونا الى الغفلــة ، و ينسينا اهدافنا فهو لهو ، قال الامام علي ( ع ) : " فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات ، كالبهيمة المربوطة همها علفها ، او المرسلة شغلها تقممها ، تكترش من اعلافها ، و تلهو عما يراد بها " (1) . و استخدام القــرآن لكلمة اللهو يأتي بهذا المعنى ، قال تعالى : " الهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر " (2) . و قال : " لا تلهكم اموالكم و لا اولادكم عن ذكر الله و من يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون " (3) ، و قال : " رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عنذكر الله و اقام الصلاة و ايتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب و الابصار " (4) ، و قال : " و من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم و يتخذها هزوا اولئك لهم عــذاب مهيــن " (5) ، و اكثر ما يتورط احد في اللهو بسبب نسيان الموت و الاخرة ، و لذلك يأتي في نهاية الآية تذكير بها عند قوله : " و في الآخرة عذاب شديد و مغفرة " ، و انطلاقا من هذا التعريف فان الغناء ، و الرقص ، و مجالس البطالين و جمع المال ، و ما اشبه مصاديق للهو .
و اذا لهى الانسان نسي السفر ، و نسي الاستعداد اليه ، فاذا بك تراه يغرق في حب الدنيا ، و ينصرف الى أهداف جانبية فيها ( تسمى بالزينة ) ، طبيعتها الفساد و الزوال حتى بمقاييس الدنيا الزائلة . أرأيت الذين يصرفون الالوف من اموالهم على امور كمالية او ديكورية ؟
(1) نهج كتاب / 45 / ص 418 .
(2) التكاثر 1 - 2 .
(3) المنافقون / 9 .
(4) النور / 37 .
(5) لقمان / 6 .
و الزينة هي الامور الثانوية التي يكمل بها الشيء ، و منها الحلي و العطر و الورد لانها تكمل جمال المرأة ، قال تعالى : " ولقد جعلنا في السماء بروجا و زيناها للناظرين " (1) و قال : " المال و البنون زينة الحياة الدنيا " (2) .
و الاسلام لا يعارض الزينة ، بل و يستنكر تحريمها ، قال تعالى : " قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة " (3) ، كما انه دعى اليها ، قال تعالى : " يا بني آدم خذوا زينتكم عن كل مسجد و كلوا و اشربوا " بلى . حرم الاسلام الاسراف فيها ، فقال في خاتمة الآية : " و لا تسرفوا ان الله لا يحب المسرفين " (4) ، كما حرم الباطل : " قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الاثم و البغي بغير الحق و انتشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا و ان تقولوا على الله ما لا تعلمون " (5) .
ان المطلــوب هو حفــظ التوازن المعقول بين الامور الكمالية و الاخرى الاساسية ، و ان يجعل الانسان الامور الثانوية تكمل بالفعل الجانب الضروري من حياته ، لا ان تكون بديلا عنه ، او على حسابه ، و مشكلة البشرية اليوم انها توجهت الى الكماليات على حساب اهدافها الاساسية ، ليس في مجال الالتزام بالدين و حسب ، بل في مجال الحضارة ، و هذا جزء من الموقف الخاطىء من الحياة الدنيا ، و لا ريب ان سببه نسيان الآخرة او الكفر بها ، لان مثل هذا الانسان يجري وراء اهوائه و ناسيا ليس فقط اهدافه السامية ( في الآخرة ) بل ومصالحه الحقيقية ( في الدنيا ) ، كما قال ربنا سبحانه عن مثله : " و لا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا و اتبع هواه(1) الحجر / 16 .
(2) الكهف / 46 .
(3) الاعراف / 32 .
(4) المصدر / 31 .
(5) المصدر / 33 .
و كان امره فرطا " (1) .
اما الذي يعتقد بالدنيا وحدها فسعيه سوف يكون من أجل اشباع الشهوات ، و جمع الزينة ، و ستزيده زينتها انغماسا فيها و بعدا عن الحق . و من مظاهر الاهتمام الزائد بالزينة التوجه الى القشور ، على حساب اللباب . بينما المؤمن بالآخرة يحس بالمسؤولية فلا يسترسلفي اتباع شهواته ، و لا يندفع في الزينة التي تخالف بمصالحه الحقيقية .
[ و تفاخر بينكم ]
و التفاخر هو الآخر مما يتلهى به الانسان و يستعيض به عن اهدافه الحقيقية ، و اذا كان اللعب و اللهو و الزينة تحكي الجانب الفردي من الاغترار بالدنيا ، فان التفاخر هو الجانب الاجتماعي لذات الحالة ، و يأتي التفاخر نتيجة مباشرة للافتتان بالزينة اذ يرى الشخص نفسه كاملا و أفضل من غيره من خلالها ، فيركبه الخيلاء و الفخر .
ثم تتحول هذه الحالة النفسية الاجتماعية الى فعل خارجي يمارسه المختال الفخور ليثبت عظمته على غيره من خلال التكاثر و التسابق المادي ، قال تعالى : " و اضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من اعناب و حففناهما بنخل و جعلنا بينهما زرعا ... و كانله ثمر فقال لصاحبه و هو يحاوره ( انا اكثر منك مالا و اعز نفرا ) * و دخل جنته ( و هو ظالم لنفسه ) قال ما اظن ان تبيد هذه أبدا * و ما أظن الساعة قائمة " (2) . انظر هكذا يتحول حب الدنيا و زينتها الى حالة نفسيه داخلية ( الغرور و الظلم ) فاجتماعية ( التباهي و التفاخر ) .
(1) الكهف / 28 .
(2) الكهف / 32 - 35 .
[ و تكاثر في الاموال ]
الممتلكات من العملات و العقارات ، و المشاريع و ما اشبه .
[ و الاولاد ]
الابناء و الانصار ، و قد يتحول هذا التسابق صراعا بين الناس في أغلب الاحيان ، و يركز فيهم حب الدنيا ضمن أطر سياسية و اجتماعية و اقتصادية ، و اظهر صورة صراع القوى الاستكبارية و تسابقها في نهب ثروات العالم ، و استغلالهم في صالحها ، و السيطرة عليهم بضمهم الى نفوذها .
تعالوا نمعن النظر في هذه الحياة الدنيا التي استحوذت على افئدتنا ( هذا اللعب و اللهو ، هذه الزينة ، و هذا التفاخر و التكاثر ) ما هي عاقبتها ؟ بل ما هي حقيقتها بل هل لها - اساسا - حقيقة ام انها اضغاث احلام تراود النائمين فاذا ماتوا انتبهوا ، و عرفواانها لم تكن سوى سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، او حفنة رماد في كف الاعصار .
و لكن انى لنا ان نفكر في الدنيا و لا زلنا في اسر سحرها الجذاب ؟ ! لا تكاد لحظة تمر علينا الا و نحن في دوامة امنية نسعى اليها ، او فتنة نعيش في لهبها ، او صراع نحترق في اتونه ، و حتى في النوم تلاحقنا كوابيس النهار في صورة احلام مزعجة ! اذا كيف الخلاص من اغلال هذه الشهوات لنفكر بحرية و موضوعية في واقعنا ؟
ان للقرآن الحكيم مناهج شتى تساعد على التفكر السليم ، و ما يشير اليه السياق هنا من ابرزها : ان ننظر الى الطبيعة و دوراتها السريعة ، و نتساءل : اليست هذههي الدنيا ؟ ! او ليست حياة النبات في دورتها السريعة شبيهة بحياة الانسان في دورة ابطأ قليلا و لكن بذات النسق ، يقول عنها ربنا في آية كريمة : " و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء انزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما تذروه الرياح و كانالله على كل شيء مقتدرا * المال و البنون زينة الحياة الدنيا و الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا و خير املا " (1) ؟ ! و يقول ربنا في هذه الآية :
[ كمثل غيث ]
مطر نزل على الارض ، فسقاها ، و اختلط بما فيها من بذور فصارت نباتا .
[ اعجب الكفار نباته ]
اي ادخل الى نفس الفلاح العجب و الاغترار به ، كما تدخل زينة الدنيا في نفوس الكافرين بالآخرة ، و لا شك ان هذه الحالة سوف تجعله يعتقد ببقائه ، و يلهو عن نهايته حيث يصير حطاما ، و النبات هو المزروعات الصغيرة التي لا تبقى كالقمح و الذرة ، و يقال لها نباتا في اطوارها الاولى حيث تشق التربة .
[ ثم يهيج ]
و يترعرع ، و يثمر حينما يبلغ اقصى القوة ، و لكنه لا يبقى طويلا حتى تبدا مسيرته الى النهاية .
[ فتراه مصفرا ]
اول الامر . و الملاحظ ان العطف جاء بالفاء و هي اقرب الحروف عطفا .
(1) الكهف / 45 - 46 .
[ ثم يكون حطاما ]
اذا أكل دورته الحياتية ، اذ تيبس و تتكسر اوراقه و اعواده ، و هذه بالضبط مسيرة الحياة عند الانسان في الدنيا ، يبدا طفلا كالنبات ، ثم ينشط و يهيج عند المراهقة و الشباب ، و لكنك تراه يتنكس في الخلق شيئا فشيئا ، و يفقد قوته و زينته ليصير كهلا فشيخا عجوزا قد وهن وخارت قواه ، و لا يطول به الامد حتى تراه جثة هامدة محمولة على الاكتاف الى قبر ضيق يستحيل فيه هيكلا ، فأوصالا ، فحطاما ، فترابا تذوره الرياح ، فلماذا يتشبث الانسان بالحطام و المتاع الزائل اذن وهو مقبل على الآخرة ؟
|