الاطار العام
للنفس حرم تنطوي فيه و تتحصن داخله عن بصائر الوحي و ضياء العبر و العظات ، و ما لم يخرق الانسان بعزائم اليقين حجب النفس الى حرمها فانه لن يفلح . و لكن كيف يتم ذلك ، و بماذا ؟
انما بمعرفة الرب ، و انه سميع بصير . ان وعي شهادة الله على كل شيء كفيلة بتنمية الوعي الديني في النفس ، هنالك في تلك الاغوار التي تنضج قراراتها و تتحدد وجهتها ربما بعيدا عن وعي صاحبها ، هنالك يصلح الايمان ما تفسده و ساوس الشيطان .
و لعل في سورة المجادلة نورا نافذا الى ذلك البعيد الباطن ، الى ذلك الغور العميق ، الى ذلك الحرم المستور في النفس البشرية ، و هذا الاطار يجمع حسبما يبدو لي بين محاور السورة التي تتراءى بادىء النظر انها متباينة . كيف ذلك ؟
الف ) في فاتحة السورة و في بداية الجزء الثامن و العشرين من الذكر الكريم يتلو علينا الرب كلمة السمع ، فالله سمع قول التي جادلت الرسول في قصة الظهار و اشتكت الى الله ، و سمع تحاورها و الرسول ، و انه سميع بصير .
ب ) و بعد ان يسوق الذكر احكام الظهار و يحدد كفارته يقول : " ذلك لتؤمنوا بالله و رســوله " مما فــسر بانه يعني تنمية روح الايمان ، لان المفروض انهم مؤمنون .
فاذا الحكمة من الكفارة تنمية الايمان في النفس ، على ان الظهار يتم في العلاقة الزوجية التي هي من الامور الشخصية و المستورة عادة ، و انه موقف خاص لا يمكن ضبطه الا بالايمان و بروح التقوى ، كما ان كفارته كبيرة ، و الدافع الجنسي الذي يقف الظهار دونه متصاعد ، و ضمن هذه الظروف لا ينظم العلاقة سوى الوازع النفسي الذي تصنعه معرفة الانسان بربه و بانه سميع بصير .
ج ) و بعد ان ينذر السياق الذي يتجاوزون حدود الله ( و منها احكام الشريعة في الظهار ) يذكرنا بيوم البعث حيث ينبىء الله الكافرين بما عملوا ، و يبين انه قد احصى ما لم يحفظوه و انه شاهد على كل شيء . و كل هذه البصائر تنمي روح التقوى في النفس ليس في ابعادها الخارجية بل في حرمها المستور .
د ) و عبر اربع آيات بينات يعالج الذكر موضوعة النجوى التي تتصل بتنمية الوعي الايماني في النفس ، مؤكدا - اولا - ان الله سبحانه حاضر عند كل نجوى ، فما من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم ، و لا خمسة الا هو سادسهم ، ثم ينذر الذين يتناجون بالاثم و العدوان ، و يتحدون عذاب الله ، و يكفرون بالنذر قائلين : لماذا لا يعذبنا الله بعد التناجي ؟ حسبهم جهنم ، و يرسم القرآن حدود النجوى المسموح بها .. عندما يتم التناجي بالبر و التقوى ، و ينفي اي اثر لتناجي الكفار ، و يأمر المؤمنين بالتوكل على الله .
و من الواضح : ان التقوى هي وحدها التي تضبط النجوى من الانحراف في الاثم و العدوان و معصية الرسول ، و بما ان هدف تناجي الكفار التعالي يوصي ربنا المؤمنين بالتواضع لبعضهم بالتفسح في المجالس ، و تركها اذا امروا بها ، و يبين ان الله هو الذي يرفع المؤمنينو اهل العلم درجات ( بدرجات ايمانهم و علمهم ) ، و انه ليس انتخاب المجالس القريبة من القيادة او طول المكث عندها سبب التعالي كما يحسب الكفار و المنافقون .
و يأمر المؤمنين بإيتاء الصدقة قبل تناجي الرسول ( لكي لا يتسابقوا الى ذلك طلبا للفخر ) ، ثم يتوب عليهم رعاية لهم لانهم اشفقوا عن تقديم الصدقات .
هـ ) و يعالج السياق بعدئذ موضوعة البراءة من الكفار التي تتصل ايضا بالوعي الايماني ، و ينذر المنافقين الذين يتولونهم واقعا ، ثم يتخذونه ايمانهم جنة حيث يحلفون على الكذب انهم مؤمنون حقا ( كل ذلك طلبا للثروة و القوة ، و لا يعلمون انهما لا تنفعانهم شيئا ) .
و يبين القرآن ان الاموال و الاولاد لا تنفع يوم القيامة حيث يبعثهم الله ليحاسبهم فاذا بهم يحلفون له عبثا كما يحلفون للمؤمنين في الدنيا .
و ) و ما يفرق بين المؤمن و المنافق ليس تلك المظاهر ( مناجاة الرسول ، و التقرب المكاني منه ، و التأكيد على صدق الايمان بالحلف الكاذب ) ، انما هي تلك الحقائق ( التحسس بشهادة الله ، و الكفارة عند الظهار ، و مراعاة حدود الله و احكامه ، و التواضع لاولياء الله ، و البراءة من اعداء الله ) ، و بها يتميز حزب الشيطان عن حزب الله فأن حزب الشيطان هم الخاسرون ، و هم الذين يتجاوزون حدود الله ( و يتولون اعداء الله ) ، و لقد كتب الله بغلبة رسله ، و اكد ان المؤمنين حقا لا يتولون من حاد الله حتى ولو كانوا من ذوي قرباهم ، لان الله قد ثبت
قلوبهم على الايمان ، و ايدهم بروح منه ، و اعد لهم جنات خالدين فيها ، و قد رضي عنهم و رضوا عنه ، و اعتبرهم من حزبه . الا ان حزب الله هم المفلحون .
|