فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 8 - 9] [ يريدون ليطفئوا نور الله بافواههم ]

و النور لا يطفؤه نفخ الانسان عليه ، فكيف اذا كان ينبعث من عند مليك السماوات و الارض ؟ و هذا التعبير من بلاغة القرآن و بديعه في تقريب المعنى الى ذهن المتدبر . و كلمة الافواه يستخدمها القرآن للدلالة على الكلمات الكاذبة التي لا تنطلق من القلب و لا تملك رصيدا من الواقع ، كالثقافات الجاهلية و الدعايات المضللة التي تبثها اجهزة الاعلام الطاغوتية ضد الحق و رموزه و اتباعه .

و قد اختلفت اقوال المفسرين في بيان مصداق النور الالهي ، فقال بعضهم : انه الرســالة المتمـــثلة في القــــرآن و سائــــر كتب الله ، و قال آخرون : انه الرسول ( ص ) ، كما اولته بعض روايات اهل البيت في الامامة و صاحب الامر - عجل الله فرجه - ، و الذي يظهر لي ان الحقائق الكبرى تتواصل فيما بينها ، فمثلا العقيدة بالتوحيد مبعث للعقيدة بالعدل ، و هذه تبعثنا نحو الايمان بالآخرة ، و كل هذه الحقائق تتركز في الايمان بالولاية ، و هكذا يحدثنا الكتاب عن الحقائق الكبرى بلا فصل بينها و لا تمييز ، مما نجد لها اكثر من مصداق ، فمثلا عندما يأتي في القرآن ذكر لحبل الله او نور الله فاننا نجد له اكثر من مصداق ، فحبله كتابه ، و كذلك القيادة التي تمثل امتداده في المجتمع ، لا ينفصل احدهما عن الآخر ، و لا يؤدي دوره العملي بتمامهمن دونه ، و هكذا فسرنا قوله سبحانه : " و اعتصموا بحبل الله جميعا " بانه الوحي الالهي و القيادة التي تمثله ، و هكذا اوضح الرسول - صلى الله عليه وآله - في حديث الثقلين ( كتاب الله و عترته ) انهما لن يفترقا حتى يردا عليه الحوض ، و كذلك هنا لايوجد اي تعارض بين اقوال المفسرين ، فنور الله واحد و لكن له تجليات عديدية ، فهو يتجلى في كتابه كما يتجلى في الرسول و في الامام الذي يخلفه ، حسبما مر في تفسير اية النور (1) .

[ و الله متم نوره و لو كره الكافرون ]

اذن فنوره لا يتم بطوع الناس كلهم ، انما في ظروف من التحدي و الصراع بين ارادة الحق و اتباع الباطل ، ينتصر فيها حزب الله رغم اعدائه ، و رغم كرههم و سعيهم لاطفاء نوره بشتى الوسائل و الطرق ، فهو ليس محايدا في الصراع بين الحق و الباطل ، و ان كانت حكمتهتقتضي امتحان المؤمنين و تعريضهم للفتنة بعض الاحيان . و لكن السؤال : هل ان نوره تعالى كان يشكون النقص حتى يكتمل ؟ كلا .. فلماذا قال انه سيتم نوره ؟

و الجواب : ان للنور كمالين : الاول في ذاته ، الثاني فيما يتصل بانتشاره ، و نور الدين كامل في ذاته ، و لكن انما يتم كمالا بانتشاره في آفاق المعمورة ، و ذلك باسقاط كل الحجب التي تمنع اتصال الناس بنور الله . و لعل من مصاديق اتمام النور ان تلتحم مسيرة العقل المزكى بالوحي المنزل ، فيتحول القرآن الى برامج و مناهج عملية مفصـــلة تحكم الحياة و تسير البشرية على سبيل الهدى و الصواب . افتدري كيف ؟ بان يتكامل عقل الانسان بزيادة علمه في كافة الحقول حتى يكتشف المزيد من اسرار الدين و يقتنع الجميع بانه منزلمن عند الله ، فيصبح الدين ضرورة


(1) هنالك تجد بيانا للعلاقة بين قوله تعالى : " الله نور السماوات و الارض " و بين قوله : " في بيوت اذن الله ان ترفع .. " .


علمية بعد ان كان ضرورة نفسية و اجتماعية ، و هنالك يكشف الله الغطاء عن وجه وليه الاعظم مهدي هذه الامة الذي وعد الرسول بظهوره في آخر الزمان فيملأ الارض قسطا و عدلا بعد ان ملئت ظلما و جورا .

اذا كتاب الله كامل و انما الناس بحاجة الى الارتفاع الى مستواه بالتدبر و التعلم حتى يتم الله نوره .

و هذه الآية و التي تليها تحلان جدلا حول مسيرة البشرية هل هي نحو التكامل او الانحطاط ، فحسب النظرية الدينية قال بعضهم : انها تتجه نحو الانتكاس ، و احتجوا على ذلك بان حوادث القيامة التي تطوى بها صفحة الحياة الدنيا انما تقع نتيجة لوصول البشرية الى منتهى الانحراف ، و نقل البعض عن النبي ما نصه : " ان خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم حتى يأتي أناس همج رعاع اتباع كل ناعق " ، و رووا عن الرسول - صلى الله عليه وآله - قوله : " انما تقوم الساعة على كل لكع ابن لكع " ،و انطلقوا من ذلك في تقييم مسيرة الاجيال و انها تسير نحو الانحطاط .

و قال اخرون : بل الحياة تسير نحو التكامل ، و هذا ما نستلهمه من آيات القرآن و من بينها هاتان الايتان ، فانهما تنطويان على بشارة بان الكمال ينتظر البشرية في المستقبل ، و ان نور الله سوف يتم يوما من الايام ليشمل كل الارض و يهيمن على الناس جميعا . و هكذا جعل ربنا خاتم انبيائه افضلهم . و لا غرابة حينئذ لو قرانا الاخبار القائلة بان اخر اوصيائه الاثنى عشر من ولده هو الذي ينهض باعباء تلك النهضة العالمية نحو قمة السعادة و الكمال .

قال علي بن ابراهيم القمي ( رض ) : " و الله متم نوره " بالقائم من ال محمد ( ص ) حتى اذا خرج يظهره الله على الدين كله ، حتى لا يعبد غير الله ، و هوقوله - عليه السلام - : " يملأ الارض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا " (1) ، و قال امير المؤمنين ( ع ) : " حتى لا تبقى قرية الا و ينادى فيها بشهادة ان لا اله الا الله و محمد رسول الله بكرة و عشيا " بلى . لو قسنا مسيرة البشرية بالساعات و الايام فقد نجد بعض امارات التراجع ، و ربما واجهتنا بعض الانتكاسات ، و لكن المحصلة النهائية القائمة على اساس الارقام الاستراتيجية ( بالاجيال و القرون ) تهدينا الى ان المسيرة تتجه نحو الامام ، فليس من شك ان حال البشرية الان خير مما كانت عليه قبلقرنين من الزمن لو اتخذنا مجمل القيم الدينية مقياسا ، كالتقدم العلمي ، و الرفاه ، و الحرية و .. و ..

و نجد في الآيتين الكريمتين بيانا لمسيرة الصراع بين الافكار و الامم ، ففي المرحلة الاولى يدور الصراع بين الفلسفات الدينية و القيم البشرية ، فتنتصر الفكرة الدينية على الاخرى . و ها نحن نلاحظ بشائر عودة الناس الى الدين و نبذها للكفر بالله عز وجل ، و اظهر تلك البشائر ما نجده اليوم من تراجع سريع و واسع للمد الالحادي ( و منه الشيوعية ) في سائر انحاء العالم ، و سوف يستمر هذا التحول حتى ياتي اليوم الذي تعود البشرية بمعظمها الى الله و الدين . فتبدا المرحلة الثانية و التي يدور فيها الصراع بين الدين الخالص و الاديان المحرفة ، و قد تكفل ربنا باظهار دينه الحق على كل الاديان .

[ هو الذي ارسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ]و على خاتمة هذه المرحلة ينتصر الله بوليه الاعظم الامام الحجة بن الحسن - عجل الله فرجه - لدينه الخالص . و حيث حدثتنا الآية الثامنة عن المرحلة الاولى(1) تفسير القمي / ج 2 عند الاية .

(2) مجمع البيان عند تفسير الاية .

جاءت خاتمتها : " و لو كره الكافرون " ، بينما اختتم الاية التاسعة بالقول : " ولو كره المشركون " لان الذين يعاكسونهم انما هم اتباع التوحيد الخالص من دنس الشرك و الارتياب !

[ 10 - 13] و لان هذا التكامل يتحقق عبر عشرات الالوف من المواجهات الممتدة عبر قرون متطاولة فانه لا يخص عصرا او طائفة او جهة ، انما هي سنة الهية ، كسنة الضياء الذي ينبعث من الشمس و يهزم جيوش الظلام من كل بقعة .. فهي لا تخص زمانا او مكانا او تجمعا .


و هكذا تكون هذه البصيرة القرانية شعلة امل في افئدة المؤمنين بالله في كل مواجهة لهم مع الكفر ، و الطغيان ، و تعطيهم روح النصر ، و تزودهم بوقود الاستقامة و الصبر .

و هكذا كانت هذه البصيرة - ضمن السياق القرآني - تعبئة روحية لمن يريد التجارة مع الله و التفرغ للجهاد في سبيله ، بانه انئذ يصبح ضمن تيار حركة التاريخ في اتجاه التكامل و اتمام نور الله و اظهاره على الدين كله .

بلى . هذه الحقيقة تهدينا ايضا الى ان ذلك الامل يتحقق على ايدي المؤمنين و بما يبذلونه من تضحيات .

[ يا ايها الذين امنوا هل ادلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم ]و النجاة من النار اعظم طموحات المؤمنين لعلمهم بان الانسان واقع في العذاب مالم يسعى للخلاص منها . و يحدد القرآن طريق النجاة في الالتزام بثلاثة شروط اساسية هي : الايمان بالله ، و التسليم للقيادة الالهية ، و الجهاد بالمال و النفس مناجل الحق .

[ تؤمنون بالله و رسوله و تجاهدون في سبيل الله باموالكم و انفسكم ]و يبدو ان الله قدم الجهاد بالمال على النفس لان الانسان يبدا بالجهاد بالمال فيصعد درجات في الايمان الى ان يصل الى الجهاد بالنفس ، كما ان الجهاد بالمال يهيء وسائل الجهاد بالنفس . هل رايت حربا او مقاومة الا و يسبقها الاعداد لهما بالسلاح و العتاد و الزاد و الاعلام ، و كلها لا تتحقق الا بالمال .. و حيث يعتبر البعض الجهاد خسارة للامة يؤكد القرآن بانه خير عظيم للمجتمع ، و اي خير اعظم من العزة ، و الاستقلال ، و الحرية ، و اقامة حكم الله ، و هي كلها من ثماره و نتائجه .

[ ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون ]

و خير الجهاد يعم الانسان و المجتمع المجاهد في الدارين : في دار الاخرة متمثلا في الغفران ، و سكنى الجنة و هو اعظم الخير ..

[ يغفر لكم ذنوبكم و يدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار و مساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم ]جاء في تفسير هذه الاية خبر ماثور عن رسول الله - صلى الله عليه واله - انه قال : " قصر من لؤلؤ في الجنة ، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء ، في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء ، في كل بيت سبعون سريرا ، على كل سرير سبعون فراشا من كل لون ،على كل فراش امرأة من الحور العين ، في كل بيت سبعون مائدة ، على كل مائدة سبعون لونا من الطعام ، في كل بيت سبعونو صيفة ، و قال : و يعطي الله المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله " (1) .

و في دار الدنيا متمثلا في النصر و الفتح و التحرر ..

[ و اخرى تحبونها نصر من الله و فتح قريب و بشر المؤمنين ]قيل : بشرهم بالنصر لما في ذلك من السرور و رفع المعنويات ، و يبدو لي ان البشارة هنا تنصرف ايضا الى اشياء اخرى غير الجنة و النصر ، من ابرزها لقاء الله و رضوانه . و هنا ملاحظة نستوحيها من امر الله للرسول بتبشير المؤمنين هي ان على القائد ان يثبت روح الامل و الرجاء في صفوف اتباعه على الدوام ، ليرفع من معنوياتهم ، و لكي لا يفقدوا حماسهم و املهم بسبب التحديات التي في الطريق .

و هذه الآيات الكريمة تحدد الاستراتيجيات الاساسية للجهاد ، فهو على صعيد الآخرة و قبل كل شيء يجب ان يستهدف النجاة من النار و غفران الله و كذلك الجنة ، و على صعيد الدنيا النصر و الفتح ، و الفتح اشمل من النصر ، فالنصر هو هزيمة العدو عسكريا و قد يكون محدودا ، بينما الفتح هو الانتصار الشامل و في كل الابعاد .

و تاكيد ربنا على ان الهدف الآخروي هو الغاية العظمى للجهاد من شأنه السمو بروح المؤمنين الى سماء القرب من الله ، و علاج اي حالة من حالات التوقف التي قد يبتلى بها المجاهدون بسبب اليأس من طول الانتصار ، فان الجهاد ليس موضوعا للانتصار على العدو و حسب بللنيل رضوان الله ، و هو واجب شرعي و فريضة كالصلاة و الصيام لا يسقطها عن كاهل المجتمع ا التجمعات الرسالية مجرد ان(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 318 .


يكون الانتصار صعبا او بعيد المنال .

[ 14 ] و تأتي خاتمة السورة لتشير الى المراحل الاساسية في الحركات الرسالية ، و هي اربع مراحل :

الاولى : انبعاث القائد الرسالي في المجتمع ، و الذي يمثل البذرة الاولى و الاساسية للحركة و التغيير .

الثانية : التفاف مجموعة من الناس حوله ، و ايمانهم بفكرة ، و تسليمهم لقيادتهم ، و هم الطلائع .

الثالثة : توسع دائرة الحركة و تيارها في المجتمع ، الامر الذي يقسمه الى جبهتين : جبهة الحق ، و جبهة الكفر ، مما ينتهي به الى الصراع .

الرابعة : انتصار الحق و اهل على جبهة الباطل كعاقبة نهائية للصراع .

[ يا ايها الذين امنوا كونوا انصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحوارين ]جمع حواري و هم الخلص الخواص من اتباعه ، قيل : سموا حواريين لانهم كانوا قصارين حيث ان الله - حسب هذا القول الذي ذهب اليه قتادة - امر عيسى - عليه الــسلام - فقال : اذا دخلت القرية فأت النهر الذي عليه القصارون فأسالهم النصرة ، فأتاهم عيسى و قال : من انصاري الى الله ؟ قالوا : نحن ننصرك ، فصدقوه و نصروه . (1)(1) القرطبي / ج 18 / ص 90 و لعل القصار الذي يبذل قصارى جهده .. و سموا بذلك لمبالغتهم في العبادة و الطاعة لله .

و قيل : اصل الكلمة من الحور و هو البياض ، و انما سموا كذلك لبياض قلوبهم او نقاء قلوبهم وصفائها في الولاء لعيسى ، و يبدو ان هذا اقرب و ابلغ دلالة على معناها المصطلح الذي يدل على اقرب الناس من الرسل و الاوصياء ، و هذا المعنى يقابل النفاق و يرادف معنىالمخلص .

و قيل ان عيسى - عليه السلام - بعث كل واحد من الحواريين الى منطقة في انحاء المعمورة لابلاغ الرسالة ، مما يعكس مدى تفانيهم في سبيل الدعوة حيث ان الواحد منهم كان يمثل امة في دفاعه عن الحق و تحديه للباطل . (1)[ من انصاري الى الله قال الحواريون نحن انصار الله فآمنت طائفة من بني اسرائيل و كفرت طائفة فايدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ]و هذا الشاهد من التاريخ يهدينا الى انه تعالى يؤيد المجاهدين في سبيله ، و ينصرهم على عدوه و عدوهم .


(1) راجع المصدر تاريخ الطبري / ج 3 / ص 737 ( طبعة اوروبا ) .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس