و يعلمهم الكتاب و الحكمة
بينات من الآيات [ 1] لان الله خلق الخلق للعبادة فقد اودع في ضميرهم الحاجة اليه ، و فطرهم على الاحساس بما هو مرتكز فيه من النقص و العجز ، و المهم المعرفة به حيث لا حد و لا نقيصة و لا ضعف ، لذلك فان الخلق لا يرون لانفسهم وجودا من دون فضله و لطفه و هباته ، و لا هدفااسمى من التقرب اليه عبر تنزيهه و تسبيحه و الاستزادة من فضله بذكر اسمائه الحسنى ، لذلك فالخليقة في تسبيح دائم له عز وجل .
[ يسبح لله ما في السماوات و ما في الارض ]
كل بلغته و طريقته ، هذه هي مسيرة الكائنات و وجهتها ، و اذ يضع القرآن الانسان امام هذه الحقيقة الكبرى فلكي يدفعه نحو الالتحاق بها ، و يبين له ان عدم خضوعه لله شذوذ خطير يضعه في مسيرة معاكسة لارادة ربه و للخليقة جميعا ، و بالتالي فانه يواجه تحديات كبيرة تسحقه و تؤدي به الى الدمار ، فلا طريق للنجاة منهاو الوصول الى الاهداف و التطلعات الا بمسايرة الوجود بقيمه و سننه في مسيرته الصواب ، من خلال الاعتراف بالعجز و النقص المرتكز فيه و المعرفة بكمال ربه المطلق ، و من ثم تسبيحه و الخضوع له . و لانه تعالى لا تدرك ذاته الابصار و لا العقول و لا الاوهام فقد جعلاسماءه وسيلتنا اليه و ذكرنا بها فقال :
[ الملك القدوس العزيز الحكيم ]
قال ابو جعفر ( عليه السلام ) : " خلقها وسيلة بينه و بين خلقه ، يتضرعون بها اليه ، و يعبدونه ، و هي ذكره " (1) و عن الرضا ( عليه السلام ) قال : " هو نفسه ، و نفسه هو ، قدرته نافذة فليس يحتاج ان يسمي نفسه ، و لكنه اختار لنفسه اسماء لغيره يدعوه بها ، لانه اذا لم يدع باسمه لم يعرف " (2) .
و اذا كنا نريد معرفته بأسمائه فلا بد ان نتيقن بانها غير ذاته سبحانه ، ففي الخبر عن الصادق ( عليه السلام ) : " فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها ، و لكن الله معنى يدل عليه بهذه الاسماء و لكنها غيره " (3) ، و لا بد ان يتذكر الانسان هذه الحقيقة و هو في طريق العرفان بربه حتى لا تذهب به المذاهب ، فيحاول كما فعل بعض الفلاسفة و المجسمة ان يتصور به بوهمه او بعقله المحدود فيضل عنه الى خلقه ، فقد " تاهت هناك عقولهم ، و استخفت حلومهم ، فضربوا له الامثال ، و جعلوا له اندادا ، و شبهوه بالامثال ، و مثلوه اشباها ، و جعلوه يزول و يحول ، فتاهوا في بحر عميق لا يدرون ما غوره ، و لا يدركون كنه بعده " (4) ، فسبحان الله عما يصفون و يشركون . و انى للانسان ان يتصور خالقه ؟ !
(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 295 .
(2) المصدر .
(3) المصدر .
(4) المصدر عن الامام الكاظم ( ع ) .
بلى . نحن نقول الملك و القدوس و العزيز و الحكيم و لكن دون حد و تشبيه ، فهو واسع الملك ، عظيم القداسة ، دائم العزة ، و نافذ الحكمة . و تتجلى هذه الاسماء حينما يعود الانسان الى نفسه يتفكر فيها او يرمي ببصره في الافاق من حوله .
نعم ، ان ربنا الملك الذي لا حد لملكه ، و انما يملك كل شيء ملكا ، يملك شهوده و غيبه ، حاضره و مستقبله ، و يهيمن عليه بجميع ابعاده ، و لا يملك شيء و لا شخص شيئا الا بما يملكه . و كل هذا آيات ملكوته و اكثر من هذا مما لا يمكن لنا ان نتصوره .
و هو قدوس بمعنى النزاهة المطلقة من كل نقص و عيب و حد ، فليس شيء و لا احد اولى منه بالتسبيح و العبادة . كما انه القادر بالعزة على ما يشاء ، و الذي لا يذل او يحتاج الى غيره . و حيث نسبحه او يدعونا الى تسبيحه فليس لحاجة منه الينا و لا الى ذلك ، لانه سبوح و عزيز و ملك و قدوس بذاته ، و انما بحكمته تفضل علينا بان جعل تسبيحه طريقا لنا الى رضوانه و ثوابه و هو الحكيم . و هناك علاقات متينة بين الاسماء الحسنى المذكورة في الآية الكريمة بعضها مع بعض ، فالملك الحق لا بد ان يكون نزيها و قويا و حكيما ، لكي يكون مهيمنا مع ملكه . و العزة لا تكون الا بالملك ، كما لا يكون الملك الا بها ، و هكذا توجب القداسة العزة . و لم يقل تعالى عزيزا و حسب بل ذكر الحكمة ايضا فهو ملك ذو قوة في حكمة ، لا يدبر الحياة بالقوة وحدها انما يهيمن عليها بالقوة و يدبرها بالحكمة .
و هنا ينبغي التأكيد على مسألة مهمة و هي ان ما تقدم من التحقيق حول اسماء الله لا يعدو كونه محاولة محدودة لتقريب معانيها ليس اكثر ، و الا فان الانسان لا يستطيع ان يفي بالمعنى حينما يتحدث عنها .
[ 2] و الاسماء الاربعة الحسنى لله تجلت عندما انبعث الى الناس رسولا من انفسهم فجاء ليهديهم من الضلال و يعيدهم الى مسيرة الكائنات بعد الابتعادعنها ، و هكذا انطلقت مسيرة المجتمع الاصلاحية حيث تحول من الشتات الى الالفة ، و من الضعف الى القوة ، و من الجاهلية و التخلف الى العلم و الحضارة .
[ هو الذي بعث في الامين رسولا منهم ]
قال كثير من المفسرين ان " الاميين " هم الذين ينتسبون الى مكة ام القرى ، و يحتمل انهم المتفرقون امما وقيما ، و الاظهر انهم الجاهليون ، الا انه ينبغي القول بان الامي و الجاهلي ليس الذي لا يقرأ و لا يكتب فان ذلك هو المعنى الحرفي الظاهر للكلمة ، فقد ينسب العالم الذي يقرا و يكتب الى الجاهلية و الامية لانه لا يتفاعل مع معارفه (1) ، و عدم القراءة و الكتابة مظهر واحد من مظاهر التخلف و الجهل ، و للجاهلية مظاهر شتى تصدق عليها جميعا كلمة الامي التي يبدو انها غلبت لتشمل كل ابعاد الجاهلية ، و نستوحي ذلك من استخدام القرآن الحكيم لها في سياق حديثه عن اهل الكتاب و هم يقرؤون و يكتبون و فيهم دعاة العلم اذ قال : " و منهم اميون لا يعلمون الكتاب الا اماني و ان هم الا يظنون " (2) ، و لكن لماذا بعث الله في الاميين بالذات ؟
1 / اذا اخذنا بالتفسير الاول ( انهم اهل مكة ) فذلك تجل لحكمة الله حيث يبعث رسله في مركز البلاد و اكبر مدنها و اهمها و حيث بؤرة الفساد و الضلال ، فان ذلك اكبر اثرا في التغيير .
2 / و على التفسير الاظهر ( انهم الجاهليون ) نهتدي الى ان الله يستنقذ البشرية(1) قال الصادق ( عليه السلام ) : " كانوا يكتبون ولكــن لــم يكــن معهــم كتــاب مــن عند الله ، و لا بــعث اليهم رسـول فنســبهم الله الــى الامـــيين " نور الثقلين / ج 5 / ص 322 .
(2) البقرة / 78 .
حينما تتجه حضارتها نحو الدمار و الانتهاء .
ثم ان الله حين بعث رسوله في الوسط المتدني في العلم عرفنا بان الرسالة لم تكن تكاملا ذاتيا وصلت اليه البشرية و المدنية ، كلا .. انها كالغيث الذي ينزل من السماء على ارض جرداء فيملأها خصبا و جمالا . انها كما اشعة الشمس تهبط على و ديان الظلام فتنشر عليها الضياء و الروعة . انها تاتي من خارج اطار السياق التاريخي فتحدث فيه ثورة بديعة و تحولا عظيما لا نجد له اي تفسير الا في الرسالة ، و ليس كما يدعي البعض بانها حجر و عامل مساعد لعوامل حضارية لدى العرب ، فان الدلائل التاريخية كلها تشير الى وجود جاهلية ( امية ) شاملة في كل الابعاد في المحيط الذي بعث فيه الرسول ( صلى الله عليه وآله ) عبرت عنها فاطمة بنت محمد ( عليها السلام ) بقولها عن ابيها : " ابتعثه الله اتماما لامره ، و عزيمة على امضاء حكمه ، و انفاذا لمقاديـــر حكمته ، فراى الامم فرقا في اديانها ، عكفا على نيرانها ، عابدة لاوثانها ، منكرة لله مع عرفانها ، فأنار الله بأبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) ظلمها ، و كشف عن القلوب بهمها ، و جلى عن الابصار غممها ، و قام في الناس بالهداية ، فانقذهم من الغواية ، و بصرهم من العماية ، و هداهم الى الدينالقويم ، و دعاهم الى الصراط المستقيم " (1) ، و قالت ( عليها السلام ) : " و كنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ، و نهزة الطامع ، و قبسة العجلان ، و موطىء الاقدام ، تشربون الطرق ، و تقتاتون القد ، اذلة خاسئين ، تخافون ان يتخطفكم الناس من حولكم " (2) .
و هناك سؤال : لماذا سمي النبي اميا ، و قال الذكر " رسولا منهم " ، فما هي النعمة في ان يكون النبي اميا ؟ قال الماوردي : الجواب من ثلاثة اوجه : احدها لموافقته ما تقدمت به بشارة الانبياء ، الثاني : لمشاكلة حاله لاحوالهم فيكون اقرب(1) الاحتجاج / ج 1 / ص 99 .
(2) المصدر / ص 100 .
الى موافقتهم ، الثالث : لينتفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعى اليه من الكتب التي قراها و الحكم التي تلاها (1) .
بيــد ان الجــواب الافضـــل هو ما ذكر في حديث شريف مأثور عن الامام الباقر ( عليه السلام ) كما سيأتي .
او هناك شبهة حاول البعض ان يدسها عند قول الله عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : " منهم " اذا نسبوا الى النبي الاكرم الامية و الجهل ، و ائمة الهدى من جهتهم سعوا لدفعها بصورة منطقية ، فقد قيل للامام الباقر ( ع ) : ان الناس يزعمون ان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لم يكتب و لا يقرأ ، فقال : " كذبوا لعنهم الله . انى يكون ذلك و قد قال عز وجل : " هو الذي بعث في الاميين ... و يعلمهم الكتاب و الحكمة " فيكون يعلمهم الكتاب و الحكمة و ليس يحسن ان يقرأ او يكتب ؟ " ، فسئل : فلم سمي النبي الأمي ؟ قال : " نسب الى مكة ، و ذلك قوله عز وجل : " و لتنذر ام القرى و من حولها " فام القرى مكة ، فقيل أمي لذلك " (2) و قد جاء في حديث ماثور عن الامام الصادق ( عليه السلام ) : ان تسمية العرب بالاميين كان بسبب حرمانهم عن كتاب الهي ، و على هذا فان نسبة الرسول الى ذلك كان بسبب انتمائه الى ذلك القوم جغرافيا و نسبيا ، و ليس لانه شخصيا لم ينزل عليه الكتاب ، فقد نزل عليه احسن الكتب فكيف يكون أميا بهذا المفهوم ؟ و السؤال هنا : ما هو منهج الرسول في الاصلاح و السير بالانسان نحو الحضارة و الهدى ؟
[ 1] هــداية الناس الى الله عز وجل ، ببث آياته بينهم و بيانها لهم آية تلو آية ، و الذي من شانه تفجير الطاقات الخيرة الكامنة داخل النفس البشرية ، و من اهمها(1) القرطبي / ج 18 / ص 92 .
(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 322 .
اســتثارة العقل في البحث عن الطريق لان الآيات تبين معالم الطريق و هي اساس الهدى ، الا ان هنالك حاجة الى تتميمها بتذكرة الانسان بها مما يقوم به الانبياء ( عليه السلام ) ، و هكذا نهتدي الى ان اول ما يجب على الحركات الرسالية القيام به هو بث الثقافة الصحيحة بين الناس لكي يقتنعوا بالاصلاح و يتحسسوا ضرورته . و لعل الآية الكريمة تشير ايضا الى ميزة الرسالات الالهية عن الدعوات البشرية و هي كونها تبدا من الله لتنتهي اليه .
[ يتلوا عليهم اياته ]
[ 2 ] تطهير الناس من عقد النفس و اغلالها التي تمنع انطلاقهم نحو الهدى كما قال تعالى : " و يضع عنهم اصرهم و الاغلال التي كانت عليهم " (1) ، و لا يمكن لامة مثقلة بعقد الاحقاد و الاضغان ، و الاغلال و الحسد و الاستئثار ، و أصر الخوف و التهيبو الانطواء ، لا يمكن لمثل هذه الامة ان تنهض بمسؤولية الاصلاح و التقدم او ان تكون اهلا لوحي الله و هداه ، لذلك عمد الرسول ( صلى الله عليه واله ) و هو ينشد النهضة بذلك المجتمع الى تطهيره من ادران الشرك و التخلف و الجاهلية .
[ و يزكيهم ]
قال ابن عباس : يجعلهم ازكياء القلوب بالايمان ، و قال بعضهم : يعني يأخذ زكاة اموالهم ، و هو بعيد .
3 - و اذا ما تفاعل المجتمع مع الآيات ، و اهتدى بها الى غاياتها ، و تزكى بها(1) الاعراف / 157 .
و بتوجيهات المصلح ، اصبحت لديه القابلية العقلية و النفسية لتلقي تعاليم الرسالة و التفاعل معها ، و لعله لذلك تقدمت تلاوة الآيات و التزكية على التعليم .
[ و يعلمهم الكتاب و الحكمة ]
و الكتاب هو القران الذي كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) اول مفسر و مؤول لمعانيه ، و ما احوجنا و بالذات مجاميعنا العلمية ان نتعلم و نعلم كتاب الله الذي هو حبله و بابه الى الهدى و الفلاح . ان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) طهر النفوس و العقول منالاغلال و العقد ، ثم راح يعلم الامة معاني الكتاب بعد تلاوته عليهم ، و يستخرج لهم منها مناهج الحياة ، في السياسة و الاقتصاد و الاجتماع و العسكرية ، حتى اصبح القران بديلا حضاريا شاملا عن المناهج الجاهلية الضالة بقضها و قضيضها . و اليوم حيث نريد العودةالى الاسلام باعتباره الحل الامثل للمشالك المعوزة التي لا تستطيع البشرية الفرار منها لا بد ان نعود من الباب الذي ولجه المعلم الاول للرسالة نبينا الكريم ( صلى الله عليه وآله ) ، فنشرع بآيات الله نتلوها على الناس ، و نذكرهم بربهم حتى ينصهروا جميعا في بوتقة الوحدة الربانية ، ثم نعلمهم كتاب ربهم حتى يتشبعوا بقيمه المتسامية ، و يتسلحوا برؤاه و بصائره ، و ينبعثوا من آياته في كافة تصرفاتهم و مواقفهم .
ليكن القران اهم مادة دراسية في مجاميعنا العلمية و مدارسنا و جامعاتنا و مراكز دراستنا حتى ننظر من خلاله الى كل شيء و نصبغ بصبغته كل عمل و موقف .
و حيث يريد الرسول لمن حوله ان يقودوا الحياة عمليا بالقرآن علمهم الحكمة ايضا ، ليحسنوا فهمه و تطبيقه على الواقع حسب اختلاف الظروف و تقدم الحياة و تطورها ، فبالحكمة تستنبط الحلول لمشاكل الحياة و مفراداتها . ولو كان الرسول( صلى الله عليه واله ) يقتصر على تعليم نص القرآن للمسلمين و حسب دون ارشادهم لاصول الاجتهاد و منهاهجه لكانوا يقعون في مشاكل لا تنتهي .
و يبدو ان الحكمة الالهية تستوحى من الآيات المحكمة التي يرد اليها كل آيات القران و كل الحوادث الواقعة في الحياة ، ذلك لان محكمات القرآن هي التي تذكر الانسان بالقيم الفطرية المرتكزة في ضميره ، و تثير دفائن عقله بالحقائق الكبرى التي يعرفها بذاته بعد التبصير بها .. و بكلمة : المحكمات القرآنية هي مرتكزات العقل الانساني كالتوحيد و العدل و الحرية و المسؤولية و ما اشبه ، و هي التي تعتبر مصدار للتشريع الالهي ، كما يزعم المشرعون الوضعيون انهم يعتمدونها في تشريعاتهم .
و حينما يبلغ الانسان درجة متقدمة من الوعي بهذه المرتكزات ، و يعقلها عقل دراية ، و يتعمق في معرفتها ، هنالك يصبح فقهيا قد اوتي الحكمة ، و انئذ يستطيع ان يستنبط سائر احكام الشريعة منها ، كما يتمكن من اعتمادها في مواقفه السياسية و الاجتماعية المتغيرة.
و اعرف الناس بالحكمة ، و اقدرهم على استنباط الاحكام الفرعية منها ، و اوعاهم لبصائرها ، هو الجدير بحكم الامة ، لانه اقرب الى القرآن من غيره ، و لان القرآن هو الحاكم الاول في الامة الاسلامية ، و انما يمثله اوعى الناس له و اقرب الناس اليه ..
لذلك فان الحكمة هنا تعني الولاية الالهية و القيادة الشرعية ، لانها وعاء الحكمة ، و عيبة المعارف الربانية ، و مرتكز البصائر القرآنية .
من هنا جاءت النصوص المأثورة عن ائمة اهل البيت ( عليهم السلام ) تفسر من جهة الحكمة بالولاية ، و تبين من جهة اخرى ان الحكمة هي التفقه في الدين .
قال الامام الصادق ( عليه السلام ) في تفسير قوله سبحانه : " و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " : " طاعة الله ، و معرفة الامام " (1) .
و قال الامام الصادق ( عليه السلام ) في تفسير الآية ذاتها : " ان الحكمة المعرفة و التفقه في الدين ، فمن فقه منكم فهو حكيم ، و ما احد يموت من المؤمنين احب الى ابليس من فقيه " (2) .
و روي عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) انه قال : " ان الله اتاني القرآن ، و اتاني من الحكمة مثل القران ، و ما من بيت ليس فيه شيء من الحكمة الا كان خرابا . الا تفقهوا و تعلموا و لا تموتوا جهالا " (3) .
و في تفسير آخر مأثور عن الامام الصادق ( عليه السلام ) : " و الحكمة هي النجاة ، وصفة الحكمة الثبات عند اوائل الامور ، و الوقوف عند عواقبها ، و هو هادي خلق الله الى الله " (4) .
و تكاد كلمات المفسرين في الحكمة تكون واحدة ، فقد فسرها مالك بن انس انها الفقه في الدين ، و قال بعضهم : و يعلمهم الحكمة فيدركون حقائق الامور ، و يحسنون التقدير ، و تلهم ارواحهم صواب الحكم و صواب العمل ، و قال آخر : الكتاب : الوحي ، و الحكمة : العقل، و قال آخر : ان الحكمة هي العلم الذي يعمل به فيما يجتبى او يجتنب من امور الدين و الدنيا ..
و هكذا تتواصل تفسيراتهم للحكمة لتوضح انها بلوغ مستوى من علم الدين(1) نور الثقلين / ج 1 / ص 287 .
(2) المصدر .
(3) المصدر .
(4) المصدر / ص 288 .
يمكن الانسان من معرفة متغيرات الشرائع و هو الفقه .
بلى . لا يمكن فقه الاسلام بعمق من دون فقه الزمن ، لان حكم الله يختلف من حادثة لاخرى و واقعة و ثانية ، و انما اصبح الفقهاء مرجعا لاحكام الدين لانهم يعرفون الدين ، و يعرفون شروط الزمن و متغيرات الحوادث ، فيستنبطون احكامها منه ، و لذلك جاء في الحديث الشريف : " و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا " .
و هكذا كانت الحكمة هي العقل المزكى بالدين ، و هي لا تتأتى عادة الا بعد الالمام بسائر احكام الشريعة و قيم الوحي .
و لان القرآن اخر رسالة بعثها الرب الى عباده ، و هي التي تستمر حتى قيام الساعة برغم تطور الظروف ، فان البشرية احتاجت الى الحكمة المرتكزة في ائمة الدين لملاحقة المتغيرات .
و هكذا دعا ابراهيم ( عليه السلام ) ربه ان يبعث في العرب يعلمهم الحكمة و الكتاب ، فقال هو و ابنه اسماعيل : " ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم اياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم انك انت العزيز الحكيم " ..
و استجاب الله لابراهيم و بعث النبي محمدا ( صلى الله عليه واله و سلم ) الى اولئك الاميين فجعلهم الله به في مستوى رفيع ، حتى قال في بعضهم الرسول ( صلى الله عليه واله ) : " علماء حكماء كادوا ان يكونوا من الفقه انبياء " (1) .
[ و ان كانوا من قبل لفي ضلال مبين ]
(1) المصدر / ص 288 .
لقد بلغوا من الضلال ابعد مدى حيث اتسموا بالتخلف في جميع شؤونهم ، فمن وأد البنات الى قتل الاولاد ، و الى التناحر و التطاحن ، الى الفقر و المسكنة ، و هكذا كانت حركة الرسالة التي انقذتهم من تلك الوهدة العميقة حركة من خارج السياق التاريخي لمجتمعهم . ولو كانت مجرد تكامل طبيعي داخلي لما استطاعت القفز بهم الى تلك القمم السامقة و بتلك السرعة الخيالية ..
[ 3] من غياهب ذلك التخلف البعيد و ذلك الضلال المبين تعالى ذلك الصوت الميمون يدعو العالمين الى ولادة جديدة ، الى الانبعاث من ضمير الجاهلية ، الى حياة الحضور الفاعل ، و سوف تتواصل امواج الملتحقين بالركب من شعاب الارض و على امتداد التاريخ لانها ليست دعوة مكية للعرب ، و لا دعوة قريشية لقريش ، و لا دعوة سياسية لذلك العصر . انها دعوة الهية تتجاوز الجغرافيا و العنصر و الزمن .. انما دعوة رسول الله رب العالمين الى الناس كافة ..
و سوف تتزود المسيرة الحضارية من القيم التي جاءت بها ، و تظل تأخذ بيد الانسانية نحو الهدى و الخير ، كما تتزود من الخط الرسالي و القيادة الشرعية التي تشكل الامتداد الحقيقي للرسول قيادة و ذكرا ، و هو لا ينقطع في كل زمان و جيل ، حيث لا تخلو الارض من حجة الهية ، و لذلك يبقى الالتحاق بمدرسة النبي ( صلى الله عليه وآله ) مركبه مستمرا مدى الحياة . تنتشر رسالته و تتوسع امته بين الناس .
[ و اخرين منهم لما يلحقوا بهم و هو العزيز الحكيم ]من هم الاخرون الذين يتوقع التحاقهم بركب الرسالة ؟
قالوا : انهم سائر العرب الذين امنوا من بعد . و جاء في حديث مستفيض مأثورعن رسول الله انهم قوم سلمان الفارسي .. الحديث يقول : عن ابي هريرة قال : كنا جلوسا عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) اذ نزلت عليه سورة الجمعة ، فلما قرأ : " و اخرين منهم لما يلحقوا بهم " قال رجل : من هؤلاء يا رسول الله ؟ فلم يراجعه النبي ( صلــى الله عليه و آله ) حتى سأله مرة او مرتين او ثلاثا ، قال : وفينا سلمان الفارسي ، قال : فوضع النبي ( صلى الله عليه وآله ) يده على سلمان ، ثم قال : " لو كان الايمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء " (1) .
و جاء في حديث آخر عن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : " ان في اصلاب امتي رجالا و نساء يدخلون الجنة بغير حساب ، ثم تلا هذه الآية " (2) .
و قد اختتمت الآية الكريمة باسمي العزيز و الحكيم لان لحاق الآخرين بمسيرة الامة الاسلامية ، و امتداد الرسالة فيهم عبر الزمن ، مظهر لهذين الاسمين ، اذ يعز الله بهم دينه بين الامم في سائر الازمان ، و تتجلى فيهم عزته بين الناس ، كما ان من حكمــته انه لميجعل امتداد المؤمنين برسالته في المجتمع المعاصر للرسول و حسب ، انما جعله عبر الاجيال و الازمان ايضا ليبقى مشعل الحق يحمله اللاحقون بعد السابقين ، تتوسع بهم الامة و تستمر مسيرتها .
و من تجليات اسم الحكمة لربنا العزيز انه لم يخص الجيل المعاصر للرسول بفضل الاسلام بل جعل الآخرين شركاءهم في الفضل بقدر درجاتهم الايمانية و مساعيهم الحميدة ، وهو القائل : " كل نفس بما كسبت رهينة " .
[ 4 - 5] و تنتظم الآية الرابعة في هذا السياق لتلغي اي تصور محدود عرقي او قومي للرسالة بانها تخص اهل مكة او العرب فقط ، مؤكدة بان الهداية الى الحق(1) القرطبي / ج 18 / ص 92 .
(2) المصدر / ص 93 .
مكرمة إلهية يهبها الباري لمن يشاء من خلقه .
[ ذلك فضل الله ]
اما اللغة و اللون و الحسب و سائر الصفات و المقاييس المادية فليست فضلا بذاتها حتى يفتخر العربي على العجمي ، او الابيض على الاسود ، او ذي القرابة على البعيد ، كلا .. و حيث يختص هذا الفضل بالله عز وجل و هو صاحب الخيرة الذي لا يسأل عما يفعل فليس لاحدان يدعي اختصاصه به من دون الناس ، كما صنعت اليهود و النصاري ، و اختلقت لذلك الوانا من الفلسفات الشركية التي تصور الله مغلولا او رهن ارادات خلقه ، سبحانه عما يصف المشركون .
[ يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم ]
في انقاذ الناس من الجاهلية و الضلال المبين الى نعمة الطهارة و العلم و الهدى و ليس مازعمها البعض في تحليله للتغير الحضاري الذي حدث في تاريخ شبه الجزيرة بأنه راجع الى حالة من التكامل الطبيعي الذي يقع عند الامم ، كلا .. بل هو فضل الهي ، و ينفي قوله : " يؤتيه من يشاء " ان التاريخ ليس بالضرورة في مسيرة هابطة ، كما زعم البعض اعتقادا منهم ان الجيل الاول يكون ابدا افضل الاجيال ، كلا .. ان ربنا ذو فضل عظيم ، فاي جيل في اي عصر و في اي بقعة اتجه الى الله عمه الله بفضله الكبير .
و هذه الآية من جهة اخرى مدخل لانعطاف السياق نحو الحديث عن اليهود ، الذين زعموا بان فضل الله ( رسالته و رسله ) خاص بهم ، و لم يتحملوا مسؤولية الرسالـــة ، انما راحــوا يتشبثون بالقشور ، و جعلوا مجرد اختيار الله لهم لرسالته فضل ،يفتخرون به ، و يتهربون باسمه من الالتزام بمسؤولياتهم .. بلى . ان رسالة الله فضــل عظيــم ، و لكن احدا لا يبلغ الفضيلة و الكرامة بها الا بالعمل و تحمل المسؤولية ، اما ان يكتفي العرب بمجرد ان الرسول كان منهم ، و ان الآيات تنزلت بينهم ، فانه امر خطير ينتهي بهم الى ما انتهى اليه اليهود من قبلهم فصاروا كما وصف الله تعالى :
[ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفارا ]تحتوي العلم و لكنه لا ينتفع بها شيئا ، وفي هذا التشبيه دقة بالغة ، فان حمل الرسالة ليس باقتناء نصوصها في الجيب و رفوق المكتبة او بجمعها و حملها على الرأس و الكتف ، كلا .. و الا فالحمار اقدر على حمل عدد اكثر و وزن اكبر من اسفار الرســـالة ، انما حملالرسالة بتطبيقها و الالتزام بها في الحياة ، لانها قيم و ليست مادة . و لعل المثل موجه الى علماء السوء الذين لم يرعوا امانة العلم و الدين ، بل استغلوها في الوصول الى المصالح الشخصية و الشهوات ، لانهم ابرز مصاديق المحملين لمسؤولية الرسالة ، و ليس من احديشك في ان الانحراف الذي وصل اليه اليهود ، و لا زالوا مرتكسين فيه ، كان بسبب ادعياء العلم و الدين . او ليسوا اليوم يحاربون الاسلام باسم التوراة ؟ اوليسوا ينتهكون حرمة المسجد الاقصى باسم الدين و بفتاوى الاحبار ؟ ؟ او ليسوا يمارسون الظلم و الارهاب ضدالناس ؟ بلى . فليست التوراة اذن هي التي تملي عليهم ذلك ، لانها رسالة الله - رسالة الالفة و المحبة و السلام - ؟ ان الله كرم الانسان على كثير ممن خلق و فضله تفضيلا ، و لكن باي شيء ؟ هل بضخامة جسدة و قوته المادية ؟ كلا .. فان كثيرا من الاحياء اقوى منه جسدا و اكبر ، و لكن انما كرامة الادمي بالعقل و باتباع رسالات الله ، فماذا بقي لدعاة التوراة و هم يخالفون هدى العقل ، و يكذبون رسالة الله ، سوى ان يشبهوابالحمار ؟
[ بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ]
و حيث انها النهج الذي يقود الانسان الى الصلاح و قيم الخير ( الهدى ) فقد ضلوا الطريق الى ذلك ، و تخبطوا في الضلال و الظلم ، و قد نظم الشعراء في هذا المثال شعرا لعل اطرفه قول بعضهم :
ان الرواة على جهل بما حملوا مثل الجمال عليها يحمل الودعلا الودع ينفعه حمل الجمال له و لا الجمال بحمل الودع تنتفع[ و الله لا يهدي القوم الظالمين ]
لماذا اعتبر هؤلاء من الظالمين ؟ يبدو ان السبب ان مثل هؤلاء - تجار الدين و ادعياء العلم - انما يتركون تطبيق روح الآيات ، و يكذبونها ، و يحرفونها عن مواضعها ، ليحصلوا على دراهم معدودات من المترفين و المستكبرين ، فيلحقون بهم عند الله ، و يعتبرون من الظالمين . و لان الله لا يهدي الظالمين فانهم يخرجون من اطار العلماء بالله ، و لا يمكن ان يكونوا سفراء بين الله و عباده المؤمنين ، و لا تكون اراؤهم حجة شرعية ، لانها تنبعث من وساوس الشيطان و ليس من وحي الرحمن ، و من هنا لا يعتبر الشرع المقدس الفقيه غيرالعادل فقيها ابدا .
[ 6 - 7] و لقد تورط اليهود في التكذيب و الظلم بالايات فكانوا مصداق مثل الله فيهم " كمثل الحمار يحمل اسفارا " ، و لكنهم سعوا للاحتفاظ بعلاقة ظاهرية مع رسالة الله ليستغلوا السذج من الناس باسمها ، فزعموا ان الدين حكرا عليهم ، و انهم وحدهم يمثلون الشرعية الدينية ، و ان من يجرؤ على الكلام فيفضائحهم انما هو مارق يجب قتله ، فهم من دون الناس شعب الله المختار ، بيد ان القرآن يضعهم امام محك وجداني ليفضح مزاعمهم ، بامتحانهم من خلال اعمق الصفات تجذرا في نفوسهم الا و هي حب الحياة و البقاء ، " و لتجدنهم احرص الناس على حياة و من الذين اشركوايود احدهم لو يعمر الف سنة " (1) .
[ قل يا ايها الذين هادوا ان زعمتم انكم اولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت ان كنتم صادقين ]و السؤال : هل يصلح هذا التحدي محكا لمعرفة صدقهم او عدمه ، فهب انهم سألوا الله الموت فهل يثبت ذلك انهم اولياء الله ؟ و نجيب ان هذا التحدي يحمل على ثلاثة معاني :
الاول : ان اليهود الذين باهلهم الرسول ( صلى الله عليه واله ) يومئذ كانوا يموتون لو تمنوا الموت تلك اللحظة ، قال رسول الله : " لو تمنوا الموت لماتوا عن آخرهم " (2) .
الثاني : ان اولياء الله بصدق يموتون لو طلبوا منه لقاءه بالموت لثقل دعائهم في ميزانه عز وجل .
الثالث : ان التمني هنا مقياس من زاويته الوجدانية ، و ليس مجرد الحديث عنه ، بينما اليهود اشبعوا في قلوبهم حب الدنيا و حب البقاء بحيث لم يكن يتمنى احدهم الموت ابدا ، و ذلك بسبب كفرهم بالآخرة و علمهم بأنهم لا يملكون فيها شيئا ، و هذا مقياس يميز اولياءالله عن غيرهم ، فانه مكتوب في التوراة :
(1) البقرة / 96 .
(2) تفسير البصائر / ج 46 / ص 187 .
" اولياء الله يتمنون الموت " (1) ، و في الخبر عن ابي عبد الله ( عليه السلام ) قال : " جاء رجل الى ابي ذر فقال : يا ابا ذر مالنا نكره الموت ؟ فقال : لانكم عمرتم الدنيا و خربتم الآخرة ، فتكرهون ان تنتقلوا من عمران الى خراب " (2) ، اما الاولياء الذين عمروا آخرتهم فهم يحبون الانتقال اليها ، و ليس اليهود كذلك .
[ و لا يتمنونه ابدا بما قدمت ايديهم ]
و كيف يتمنون الموت و هو الجسر الموصل الى لقاء الله و الجزاء من عنده و قد قدمــوا الخطــايا و الذنوب ؟ ان اعمالهم و افكارهم تؤكد فيهم حب الدنيا و حب البقاء ، و من جانب آخر تكره لهم لقاء الله و الآخرة و اذا استطاعوا ان يخدعوا الناس بانهم اولياء لله ويخفوا حقيقتهم عنهم فأنهم لن يخدعوا الله ابدا .
[ و الله عليم بالظالمين ]
و اذا كانت هذه الصفة تصدق في سائر اليهود المنحرفين عن التوراة فانها اصدق في احبارهم الذين كانوا متشبثين بحياة . آية حياة ، في مقابل اي ثمن ؟ حياة الذل و التبعية و المهانة ، و بثمن فقدان دينهم و عزتهم ، و ربما راحتهم . و اعوذ بالله عندما يصبح العالم جبانا ، فانه لا يجعل نفسه فقط تابعا ذليلا للجبارين ، بل و ايضا يجعل من اتباعه مجموعة ذليلة و خاضعة لكل حاكم ظالم ، و يرسم خطا انهزاميا تبريريا في واقع المجتمع بما يبثه من افكار سلبية و بما يحرفه من نصوص دينية .
و هذه السنة جرت في علماء اليهود و النصارى و في بعض علماء المسلمين الذين(1) تفسير القمي / ج 2 عند الآية .
(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 324 .
مازالــوا متسكعيــن على ابواب الملوك سرا و علنا ، يوقعون على جرائمهم بكل الاصابع ، و يكيلون لهم سيل الفتاوى الكاذبة انى شاؤوا ، و يزورون ارادة الجماهير ، و يحرفون نصوص الدين . انهم بحق قطاع طريق الله ، كما جاء في حديث قدسي ، و ان خطرهم على الاسلام اشدمن خطر الف سيف و الف بندقية ، " هم العدو قاتلهم الله انى يؤفكون " . و ليعلم هؤلاء انهم مهما خدعوا الناس او انفسهم فان الله عليم بهم ، و سيقدمهم للحساب حسب علمه سبحانه لا حسب خداعهم او التباسهم ، و سيلقيهم في الجحيم و هم مهانون .
[ 8 ] [ قل ان الموت الذي تفرون منه فأنه ملاقيكم ]و في الخبر خطب امير المؤمنين علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) الناس فقال : " ايها الناس ! كل امــرء لاق في فراره ما منه يفر ، و الأجل مساق النفس اليه ، و الهروب منه موافاته " (1) ، و قال الصادق ( عليه السلام ) : " تعد السنين ، ثم تعد الشهور ثم تعد الايام ، ثم تعد الساعات ، ثم يعد النفس ، فاذا جاء اجلهم فلا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون " (2) .
و هكذا الانسان و كل حي لعلى موعد مع الموت ، و انما العمر مطية تحث بنا الخطى نحو ميعادنا المصيري ، و ان كل لحظة تمر بنا لهي تنتقص من اجلنا بقدرها ، فعلينا الا نحسب تقادم الايام طولا في اعمارنا ، فنقول مثلا فلان طويل العمر عمره سبعون عاما او ثمانون ،و انما الحقيقة انه انتقص من عمره هذا القدر . ثم هل ينتهي بالبشر المطاف عند الموت حتى يطلق لنفسه العنان ، و يسير في الحياة حيث يريد ؟ ! ! انما الموت قنطرة الى الحساب و الجزاء ، و المحاسب هو الله الذي لا يخفى(1) تفسير القمي / ج 2 عند الآية .
(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 324 .
عليه شيء ، اما الحياة الدنيا فانها ليست حياة اللهو و اللعب ، انما هي عرصة المسؤولية و الالتزام امام الله بما يأمر به و ينهى عنه .
[ ثم تردون الى عالم الغيب و الشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ]و حري بالانسان الذي يواجه تحدي الزمن و الموت ان يتسلح بالايمان و العمل ، لانهما الطريق الوحيد لانتهاز فرصة العمر ، و اذا كان البشر عاجزا عن الفرار من الموت فهو لا ريب قادر على اختيار العاقبة الحسنى بالعمل الصالح ، الذي هو سفينة النجاة و الميزان الاوحد عند الله ، لا الحسب و النسب او الانتماء الظاهر .
[ 9] و هكذا مهد الله - بالآية السابقة - للحديث عن الجمعة و اعتبارها عيدا للامة ، و يؤكد استقلالها في شعائرها بالاضافة الى استقلالها في رسالتها عن الامم الاخرى ، كالنصاري و اليهود الذين لهم رسالتهم ( التوراة و الانجيل ) و عيدهم ( السبت و الاحد ) (1) ، و يعطي القرآن في هذه السورة صلاة الجمعة و يومها الموقع و المفهوم الحقيقي في منهج الاسلام ، فالجمعة على الصعيد الخارجي رمز الاستقلال و على الصعيد الداخلي رمز الوحدة و الائتلاف .
و من هذه الحيثيات و اخرى غيرها تأتي الدعوة الالهية بالسعي لصلاة الجمعة و ترك كل ما سواها لهوا او بيعا او ما اشبه من شؤون الدنيا ، و هكذا اصبح السعي الى الجمعة لدى بعض المسلمين ( مذاهب و علماء ) امرا مفروضا باجماع الامة عند توافر شروطها ، و جاء في كتاب من لا يحضره الفقيه مروي : " انه كان بالمدينة اذا اذن المؤذن يوم الجمعة نادى مناد حرم البيع ، لقول الله : " آية الجمعة " (2) . و قال(1) و هناك اشارات لهذه الفكرة في الاخبار : قال رسول الله ( ص ) : " كيف انتم اذا تهيأ احدكم الجمعة عشية الخميس كما تهيأ اليهود عشية الجمعة لسبتهم ؟ " تفسير البصائر / ج 46 / ص 345 .
(2) نقله نور الثقلين / ج 5 / ص 325 .
الامام الباقر ( عليه السلام ) يصف اهتمام الرعيل الاول من المسلمين بالجمعة : " و الله لقد بلغني ان اصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله ) كانوا يتجهزون للجمعة يوم الخميس " (1) ، و عن جابر بن عبد الله قال : " اقبل عير ( جمال محملة ) و نحن نصلي مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فانفض الناس الهيا فما بقي غير اثنى عــشر رجــلا انا فيهــم ، فنزلت الآية : " 11 " (2) ، و قال الحسن ابو مالك : اصاب اهل المدينة جوع و غـــلاء سعر فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام ، و النبي ( صلى الله عليه واله ) يخطب يوم الجمعة ، فلما رأوه قاموا اليه بالبقيع خشية ان يسبقوا اليه ، فلم يبق مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) الا رهط ، فنزلت الآية ، فقال ( صلى الله عليه و آله ) : " و الذي نفسي بيده لو انه تتابعتم حتى لا يبقى احد منكم لسال بكم الوادي نارا " (3) .
الا ان كثيرا من فقهاء الاسلام اعتبروا وجود الحكم الاسلامي و الامام العادل شرطا لاقامة صلاة الجمعة ، و لعل ذلك مرتكز على كونها من الشعائر الدينية السياسية التي ينبغي ان لا ينتفع منها الظلمة في تضليل الناس و تمكين انفسهم ، فهي من اهم و ابرز المناسباتالتي يجتمع فيها المسلمون مما يسمح للطغاة اتخاذها منبرا جماهيريا لتضليل المجتمع ، و نحن نقرأ في التاريخ كيف اصبحت خطبها مركزا لحرب اولياء الله ، كما فعل ذلك الحزب الاموي تجاه الامام علي و اهل البيت ( عليهم السلام ) ، كما ترى اليوم كيف حول علماء السوءخطبتي الجمعة بوقا من ابواق الطغاة الى حد صاروا يتسلمون خطبهم من الحكومات نفسها ، و يستلمون لذلك الاجر .
(1) المصدر / نقلا عن الكافي .
(2) المصدر .
(3) المصدر .
و هكذا جاء في الحديث المأثور في كتاب الدعائم عن علي ( عليه السلام ) انه قال : " لا يصلح الحكم و لا الحدود و لا الجمعة الا للامام او من يقيمه الامام " (1) .
و هكذا روى سماعة في موثقة عن الامام الصادق ( عليه السلام ) قال : سألت ابا عبد الله عن الصلاة يوم الجمعة ، فقال : اما مع الامام فركعتان ، و اما من يصلي وحده فهي اربع ركعات ، و ان صلوا جماعة " (2) .
و في خبر مأثور عن الامام الرضا ( عليه السلام ) قال : " فان قال : فلم صـــارت الصلاة الجمعة اذا كان مع الامام ركعتين ، و اذا كان بغير امام ركعتين ركعتين ؟ قيل لعلل شتى ، منها : ان الانسان يتخطى الى الجمعة من بعد فاحب الله عز وجل ان يخفف عنهم لموضع التعب الذي صاروا اليه ، و منها : ان الامام يحبسهم للخطب ، و هم منتظرون للصلاة ، و من انتظر الصلاة فهو في صلاته في حكم التمام ، و منها : ان الصلاة مع الامام اتم و اكمل لعلمه و فقهه و عدله و فضله ، و منها : ان الجمعة عيد و صلاة العيد ركعتان ، و لمتقصر لمكان الخطبتين . فان قال : فلم جعل الخطبة ؟ قيل : لان الجمعة مشهد عام فاراد ان يكون للامام سبب الى موعظتهم ، و ترغيبهم في الطاعة ، و ترهيبهم من المعصية ، و توفيقهم على ما ارأد من مصلحة دينهم و دنياهم ، و يخبرهم بما ورد عليه من الامان من الاهوال التي لهم فيها المضرة و المنفعة . فان قال : فلم جعل الخطبتين ؟ قيل : لان يكون واحدة للثناء والتمجيد و التقديس لله تعالى ، و الاخرى للحوائج و الاعذار و الانذار و الدعاء و ما يريد ان يعلمهم من أمره و نهيه و ما فيه الصلاح و الفساد " (3) .
(1) موسوعة جواهر الكلام ج 11 / ص 158 الطبعة الثانية .
(2) المصدر / ص 160 .
(3) المصدر / ص 165 .
و هكذا نقل العلامة الشيخ حسن النجفي اجماع الطائفة على اشتراط الامام العادل ( الحاكم ) حتى بلغ اربعين شهادة على هذا الاجماع (1) ، منها : قول الكركي : يشرك لوجوب الجمعة السلطان العادل و هو الامام او نائبه عموما او في الجمعة . باجماعنا (2) .
و لكن السؤال : هل هذا الاجماع يدل على ان شرط وجوب الجمعة وجود امام عادل انى كان ام امام معصوم من اهل البيت ( عليهم السلام ) خصوصا ؟ يبدو لي ان القضية تتصل بموضوع الولاية العامة للفقهاء العدول ، فمن راى انهم امتداد لحكم المعصومين ( عليهم السلام ) ينوبون عنهم نيابة عامة ، و ان عليهم تطبيق كل واجبات الشريعة من اقامة الحدود و فرض الجهاد و الزكاة ، و . و . ، و الظاهر ان الجمعة ليست اعظم من اقامة الحدود ، و الدفاع عن حرمات المسلمين ، فهي الآخرى من شؤون ولي الفقيه الحاكم ، اما الذين لا يتصورون اقامةحكومة اسلامية في غيبة الامام المعصوم فانهم لا يرون الجمعة فيها ايضا لانهم في الاغلب يشترطون اذن الامام فيها ، و يعتبرونها من شؤونه كالحدود و القصاص و الجهاد .
بلى . مسوغ اغلب الفقهاء اختيار الجمعة بالمجتهد العادل او حتى بامام جماعة عادل في ظروف الحرية ، و مع عدم وجود حكومة اسلامية عادلة ، من هنا قال في المعتبر .
السلطان العادل او نائبه شرط وجوب الجمعة ، و هو قول علمائنا . و قال ابو حنيفة : يشترط وجود امام وان كان جائرا . و قال الشافعي : لا يشترط . ورده بان معتمدنا فعل النبي فانه كان يعين لامامة الجمعة - وكذا الخلفاء بعده - كما يعين للقضاء ، و كما لا يصحللانسان ان ينصب نفسه قاضيا من دون اذن الامام كذا
(1) راجع المصدر / ص 156 .
(2) المصدر / ص 154 .
امامة الجمعة . ثم قال : و هل للفقهاء المؤمنين - حالة الغيبة - و التمكن من الاجتماع و الخطبتين صلاة الجمعة ؟ اطبق علماؤنا على عدم الوجوب ، و اختلفوا في استحباب اقامتها فالمشهور ذلك " (1) .
و يـــوم الجمعة يوم عيد للمسلمين و هو سيد الايام ، و ليلتها ليلة عبادة و تهجد ، و يندب فيها المزيد من الابتهال الى الله ، و الانشغال بالمستحبات ، و زيارة القبور لتذكر الموتى و الترحم عليهم و الاعتبار بمصيرهم ، و بالذات قبور ائمة الهدى ( عليهم السلام ) و مرقد سيد الشهداء ابي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) ، و تجديد العهد مع الرسول و آل بيته و الامام الحجة ( عليهم السلام ) بالاستقامة على خط الرسالة .
كما ينبغي صلة الارحام ، و التوجه الى المساكين ، و التزاور مع الاخوان ، في هذا اليوم الشريف .
كما ينبغي محاسبة الذات لتجديد العزم على متابعة الخطط السليمة و مقاومة الانحرافات و الضلالات .
و عموما فان يوم الجمعة ليس يوم اللعب و اللهو و الانشغال بالتوافه ، و انما هي فرصة المؤمنين للتفرغ للعبادة و ذكر الله بخير الاعمال يومئذ حيث صلاة الجمعة المتميزة بفروضها و خطبتها و مظهرها الاجتماعي . و هذا نداء الله و دعوته للالتزام بها و اقامتها اذيقول :
[ يا ايها الذين امنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله و ذروا البيع ](1) المصدر / ص 153 .
فكل مؤمن اذن مكلف بالامتثال لهذا الامر الالهي مالم يمنعه مانع مشروع عند الله ، و حيث يدعو الله للصلاة جمعة كل اسبوع فان هذه الفريضة تبقى مقياسا لوحدة الامة و مصداقية ايمانها بنسبة التفاعل مع هذا التكليف بالرباني الحكيم .
و اذ ينادي الوحي المؤمنين بالسعي للفضيلة و ذكر الله - سعيا بالروح قبل الجسد - فلا بد لنا ان نتحرر من شتى الاصر و القيود التي تثقلنا و تشدنا الى الارض اولا ، انى كانت مادية او معنوية ، و هذه الفكرة تفسر لنا العلاقة بين الدعوة للسعي الى ذكر الله و بين الامر بترك سائر شؤون الدنيا كالبيع وقت صلاة الجمعة .
و قد افتى كثير من فقهاء المسلمين بحرمة البيع حينها ، بل قال بعضهم ببطلان العقد اساسا اذا صارت الجمعة واجبة لازمة بتوافر شروطها ، قال المحقق في الشرائع : ان باع ( عند النداء ) اثم و كان البيع صحيحا على الاظهر . ثم قال العلامة الشيخ حسن النجفي عن هذاالحكم : الاشهر بل هو المشهور نقلا و تحصيلا (1) .
و لعل الانسان يتحسس للوهلة الاولى الذي يقع فيها فكره على هذا الحكم الالهي انه يخالف مصالحه ، و لكنه اذا ما درسه من ابعاده المختلفة ، و ارتقى درجة في الوعي بحقائق الحياة ، و جده منطويا على خير الدنيا و الآخرة بالنسبة له ، كما وصف القرآن :
[ ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون ]
و من ذلك الخير وحدة المجتمع المسلم ، و ما يتلقاه من الوعي و الهدى في شؤون الدين و الدنيا حيث خطبتي الصلاة ، و كذلك التوفيقات الالهية التي يختص بها(1) الجواهر / ج 11 / ص 306 .
المصلــين المستجيبين لدعوته . و هذه بعض الاخبار التي تبين جانبا من فضائل الجمعة :
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " اف لرجل لا يفرغ نفسه في كل جمعة لامر دينه فيتعاهده و يسأل عن دينه " (1) .
و قال ( صلى الله عليه واله ) : " ان لكم في كل جمعة حجة و عمرة ، فالحجة الهجرة الى الجمعة ، و العمرة انتظار العصر بعد الجمعة " (2) .
و قال الامام الباقر ( عليه السلام ) : " اذا كان يوم الجمعة نزل الملائكة المقربون معهم قراطيس من فضة و اقلام من ذهب ، فيجلسون على ابواب المسجد على كراسي من نور ، فيكتبون الناس على منازلهم الاول و الثاني حتى يخرج الامام ، فاذا خرج الامام طووا صحفهم ، و لا يهبطون في شيء من الايام الا في يوم الجمعة " (3) .
و قال الامام الصادق ( عليه السلام ) : " ما من قدم سعت الى الجمعة الا حرم الله جسده على النار ( و قال ) : من صلى معهم في الصف الاول فكأنما صلى مع رسول الله ( صلى الله عليه واله ) في الصف الاول " (4) و قال ( عليه السلام : " و انكم تتسابقون الى الجنة على قدر سبقكم الى الجمعة ، و ان ابواب السماء لتفتح بصعود اعمال العباد " (5) .
[ 10 ] و لان الاسلام جاء منهجا كاملا و شاملا لابعاد الحياة الانسانية جعله(1) تفسير البصائر / ج 46 / ص 343 .
(2) المصدر / ص 346 .
(3) المصدر / ص 343 .
(4) المصدر / ص 346 .
(5) المصدر / 344 .
الله متوازنا في اصول و احكامه بحيث لا يتضخم بسببه جانب في حياة الانسان على حساب جانب آخر ، فهو منهج الدنيا و الآخرة ، و الدين و السياسية ، و الروح و الجسد ، و حيث تتكامل شخصية الانسان بالوصول الى المصالح المشروعة من جانب و بالتزام الواجبات المفروضةمن جانب اخر فقد دعاه الدين الى مصالحه جنبا الى جنب دعوته للالتزام بواجباته ، و لم يجعل فروضه بديلا عما يطمع اليه الناس من المصالح و التطلعات ، و لذا نجد القرآن فور ما يأمر بالسعي الى صلاة الجمعة يأمر بالانتشار لممارسة الحياة الطبيعية و بلوغ المآرب والاهداف ، و الحصول على الرزق و لقمة العيش . و ان الدعوة للصلاة يوم الجمعة و تحريم البيع حينها هي منهجية لتأسيس انتشار الانسان المؤمن لابتغاء فضل الله على هدى القيم و الايمان .
[ فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض ]
كل الى مقصده . و هذه الدعوة المنطوية على الامر بالسعي لشؤون الدنيا تهدينا الى ان الصلاة و العبادة ليست بديلا عن ممارسة الحياة الطبيعية و الاجتماعية ، كما فهمها بعض المتصوفة ، فالدين منهج لتوجيه الانسان و قيادة الحياة ، يجد الناس فيه فرصة للعبادة ومنهجا للسعي و العمل ، و قد قال الامام الصادق ( عليه السلام ) يفسر هذه الآية : " اني لاركب في الحاجة التي كفاها الله . ما اركب فيها الا التماس ان يراني الله اضحى في طلب الحلال . اما تسمع قول الله عز اسمه : " الآية " ارايت لو ان رجلا دخل بيتا و طين عليه بابه ثم قال : رزقي ينزل علي أكان يكون هذا ؟ اما انه احد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم ، قال الراوي قلت من هؤلاء ؟ قال : ... و الرجل يكون عنده الشيء فيجلس في بيته فلا ينتشر ، و لا يطلب ، و لا يلتمس حتى يأكله ، ثم يدعو فلا يستجاب له " (1) بلى . ان فضل الله و رزقه ينال بالسعي و العمل الحثيث من اجله ، لذلك يقول تعالى بعد الدعوة للانتشار :
(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 327 .
[ و ابتغوا من فضل الله ]
اي انكم حينئذ في موضع يرتجى فيه الفضل و الرزق او تجدون انفسكم امام فضل من الله تصيبون منه رزقكم .
[ و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ]
و اهمية الاستمرار في ذكر الله للانسان حيث ينتشر في الارض و يبتغي من فضل الله انه يجنبه الانحراف و الوقوع في الاخطاء بسبب نسيان الله ، فان ذاكر الله لا يسعى نحو الحرام ، و لا يسلك الطرق الملتوية ، و لا يغش الناس و يضرهم ، فهو يرتجى له الصلاح و الفلاح .
و من اللطائف الواردة في هذه الآية انه تعالى قال : " فاذا قضيت الصلاة " ببناء الفعل للمجهول بينما يفترض ان يقول : فاذا قضيتم الصلاة ، و صلا بخطابه الآنف للمؤمنين ، الا ان هذه الصيغة للفعل تعطي حرمة لوقت الصلاة بالذات ، بحيث يكون المفهوم انالبيع وقت صلاة الجمعة المستوفية شروطها حرام لمن شهد الصلاة مع المسلمين و لمن لم يشهدها عمدا ، و لو جاء التعبير للمعلوم : فاذا قضيتم الصلاة لكان الحكم منحصرا للمصلين فقط و لا يشمل غير المصلين .
[ 11] و بعد ان يرسم الوحي للمؤمنين الموقف المطلوب تجاه صلاة الجمعة - و هو السعي لذكر الله و ترك البيع وقتها - ينثني السياق القرآني لنقد ظاهرة الانفضاض الى شؤون الدنيا و تقديمها على الصلاة ، مما يشير الى وجود ضعف في الايمان لدى المجتمع ، و انخفاض فيمستوى التفاعل مع شعائر الدين و برامجه .
[ و اذا رأوا تجارة او لهوا انفضوا اليها و تركوك قائما ]خوف ان يفوتهم ذلك او يسبقهم الآخرون اليه ، و هذه الظاهرة تنطوي على هزيمة امام جموح النفس و ميلها العظيم للدنيا ، مما يكشف عن ضعف الايمان الذي يريده الاسلام مقدما و ما يتصل به على كل شيء في حياة ابنائه . و قد استفاد الفقهاء و المفسرون حكما باستحبابالوقوف اثناء خطبتي الجمعة من هذه الآية اذ وصفت الرسول قائما بعد الانفضاض . و عن ابي بصير انه سئل عن الجمعة : كيف يخطب الامام ؟ قال : يخطب قائما فان الله يقول : " و تركوك قائما " (1) .
و يعالج القران هذه الظاهرة السلبية التي تنم عن ترجيح التجارة و اللهو على حضور الصلاة ببيان ان ما عند الله الذي يتأتى بالتزام مناهجه خير من ذلك كله . و الاية نفسها فضح للاعقتاد بالتناقض بين الالتزام بالدين و بين الدنيا ، و الذي يقع فيه البعض عمليا فلا يرون امكانية الجمع بين الاثنين فيرجحون الدنيا باعتبارها الاجر المقبوض على الآخرة المؤجلة . و الحقيقة ان خير الالتزام بمناهج الله في الحياة ليس مقتصرا على الاخرة فقط ، بل يشمل الدنيا ايضا .
[ قل ما عند الله خير من اللهو و من التجارة و الله خير الرازقين ]فالذي يريد كل الخير معنويا و ماديا ، و في الدنيا و الآخرة " ما عند الله " فان سبيله اتــباع نهجه القويم ، و اي خير في تجارة لا تقوم على هدى الوحي و تقوى الله ؟ انها تزرع الطبقية المقيتة ، و الفقر ، و تسبب الانحطاط في الاقتصاد .
و في ترتيب كلمات الآية الكريمة ملاحظة جديرة بالالتفات ، ففي البداية عندما اراد الله بيان ظاهرة الانفضاض عن الصلاة قدم التجارة - و هي الاهم - على اللهو ، و ذلك ليبين مدى ترجيح البعض لامور الدنيا على شؤون الدين ، فهم ليس(1) المصدر / ص 330 .
تستخفهم التجارة و حسب بل يتأثرون بما هو ابسط و اقل شأنا منها و هو اللهو . و حيث اراد التأكيد على ان ما عنده افضل مما ينفض له الناس قدم الادنى على الاهم تدرجا ، فما عند الله ليس خيرا من الله بل حتى مما هو فوقه كالتجارة .
بلى . ان البعض و منهم التجار لا يلتزمون بالشعائر الدينية خشية الخسارة او ان تفوتهم ارزاقهم ، و لكن الله يؤكد لهم العكس و هو ان الصلاة و بالذات صلاة الجمعة تجلب الرزق ، باعتبارها صلة الانسان بضامن الرزق و معطيها ، بل بخير الرازقين .
|