بينات من الآيات هل نظرت الى السماء في ليلة صافية .. هل حاولت مرة إحصاء نجومها ؟ لا ريب انك لو فعلت ذلك كللت ، لأنه كلما أدرت عينك رأيت نجمة غائرة في الفضاء اللامتناهي ، و إذا علمنا ان كل مجموعة نجوم تشكل مجرة واحدة ؟ لابد ان نذهل فعلا مما اكتشفه العلم من عدد نسبيلعدد المجرات التي تبلغ المليارات .. فهل ياتي يوم يستطيع الانسان أن يحصي نجوم السماء علما بأن ضخامة نجمة واحدة منها قد تبلغ حدا لو ألقى كوكبنا الأرضي فيها لضاعت كما تضيع حبة الرمل في الصحراء .
أي قوة بنت هذه السماء ؟!
[ و السماء بنيناها بأيد ]
والأيد هي القوة ، و لعل كلمة البناء توحي بالتدريج في الخلق و المتانة فيه ، و الصلة بين جزء و جزء فيما بني ، و كل ذلك صحيح في أمر السماء .
[ و إنا لموسعون ]
ذهب المفسرون مذاهب شتى في معنى هذه الكلمة ، فقد قال ابن عباس ان معناها : إنا لقادرون ، و قيل : و إنا لذو سعة ، و قيل : وإنا لموسعون الرزق على خلقنا ، و قال الضحاك : اغنيناكم دليله : " على الموسع قدره " و قيل : جعلنا بينها وبين الأرض سعة ( 1) .
و لعل هذا الإختلاف دليل صعوبة استيعاب ظاهر الآية في تلك البيئة العلمية التي كادت لا تعترف إلا بالأرض وما فوقها من اجرام علوية محدودة ، و إنا لنجد مثل هذا الإختلاف في كثير من الآيات التي تهدي الى حقيقة علمية كانت غامضة في تلك الايام .
علما بأن المعنى الظاهر للآية هو : ان ربنا المقتدر يوسع بناء السماء دائما ، و هذا ينسجم مع الحقائق العلمية التالية :
1 / ان الأرض و سائر الكرات تمتص المواد الأثيرية المبثوثة في الفضاء ، كما لو كانت أجهزة تنظيف عملاقة تكنس الفضاء مما يسمح لها بالنمو دائما ، و قد قالوا : ان حجم المواد المبثوثة في الفضاء هو بحجم الاجرام الموجودة الآن ، أي أنها كافية لتكون المادة الآولية لخلق أجرام جديدة بعدد و بفخامة الأجرام الموجودة و ربما أكثر .
(1) القرطبي / ج 17 / ص 52 .
2 / ان السماء في حالة امتداد دائم و كأنها كانت في يوم ما كرة واحدة ، و حدث فيها انفجار عظيم قبل (15) مليارد سنة ثم بدأت تتمدد ، و تتسع الفجوة بين أجرامها بصورة منتظمة و سريعة ، و كما يقول جورج كاموف : ان الفضاء المحيط بنا الذي يتشكل من مليارات المجرات هو في امتداد سريع . و في الحقيقة ان عالمنا ليس ساكنا ، و ان انبساطه لأمر مؤكد .
و ان معرفة هذه الحقيقة هي مفتاح ألغاز العالم ، إذ أن العالم لو كان في حالة امتداد الآن فلابد انه كان في وضع انقباض و تركيز شديد في يوم من الايام (1) .
و قد حدد بعضهم سرعة انبساط الاجرام ، و تباعدها عن بعضها بـ ( 66) ألف كيلو متر في الثانية الواحدة (2) .
و العجيب انها كلما ابتعدت عن بعضها ازدادت سرعتها كما قالوا .
الى أي مدى ستظل السماء تنبسط و تمتد و تتباعد أجرامها و اين ستقف وما هي عاقبة أمرها ؟
علم ذلك كله عند الله . إلا ان هذا التوسع العظيم لا يجري دونه تدبير و هيمنة من لدن سلطان العالم الذي يحفظ توازنه ، و يدبر أموره ( سبحانه ) .
3 / يرى بعض علماء الفضاء : ان هناك أجراما سماوية تتكون مع الزمن ، و قد اكتشفوا في بعض زوايا هذا الفضاء الرحيب ما يبدو عندهم بدايات تكون الشموس التي تبدو أكثر لمعانا من الشموس الموجودة بكثير .
(1) تفسير نمونة / ج 23 / ص 374 نقلا عن جورج كاموف في كتابه خلقة العالم .
(2) المصدر / ص 373 / نقلا عن فرد هوبل .
إن ألغاز السماوات لا تزال كثيرة و لعل الانسان يحل المزيد منها كلما تقدم في صنع أدوات جديدة لتصوير أجرام السماء ، و تحليل الأشعة التي تصل منها ، و ربما يعي الانسان يومئذ أبعاد هذه الآية وأمثالها بصورة أفضل .
4 / و يقول الاستاذ بيار روسو ، في كتابه المؤلف عام 1963 ( من الذرة إلى النجم ) : إن المجرات تقع في تسلسل النظام الفلكي فوق النجوم ، فالمجرة مجتمع يتألف من مئات ملايين ، أو مئات مليارات النجوم ، أو قل بالأصح : عددا لا يمكن أن يحصى حتى بأضخم و أدق الكمبيوترات من النجوم .
و المجرة التي نحن جزء منها تحتوي على مالا يقل عن مائتي مليار نجم ، يضاف إليها كتلة من المادة المبعثرة بين النجوم تتراوح بين 30% و 40% من الكتلة العامة .
و نكتفي هنا بالقول : إن عدد المجرات لا يحصى كما يبدو ذلك في الصور الفوتغرافية المأخوذة بواسطة المقاريب الكبرى .
ثم يتحدث عن تكون النجوم من الغيوم ( أي المواد ما بين النجوم ) : و وجود غيوم من المادة الكونية يحمل على الإعتقاد بان النجوم خرجت من الغيوم عند تكثفها تصبح نجوما ، و ليست هذه الظاهرة مجرد افتراض لأن الفلكيين عثروا في السماء على تحول من هذا النوع تم خلال سنوات معدودة .
أما الآن فما يجب أن نحفظه من هذه النظرة السريعة على العالم المجري أمران :
الأول : هو أن النجوم لم تكن موجودة منذ الأزل لكنها نشأت عن المادة الكونية في أوقات معينة .
الثاني : انها لم تتكون جميعها في آن واحد ، و أنها تتابع تكونها في أيامنا هذه ،و يعتقد الثقاة من علماء الفلك : أن عمر النجوم يدور حول 15 مليارد سنة .
و إذا حددنا عمر المجرة بخمسة عشر مليارد سنة ، فلا يعني ذلك أن الكون محتوم بهذه البداية ، و نحن نعلم الان أن المادة تتحول بلا انقطاع إلى طاقة ( و بتعبير أصح إلى اشعاع ) و في داخل الظاهرات الهائلة العاصفة في الآفاق الفضائية تعيد هذه الطاقة تكوين المادة بدون انقطاع ، و إن كان سياق إعادة الخلق هذا في غاية البطء .
[ 48] كيف مهد الله الارض لحياة البشر ، كيف تحطمت الصخور التي تكونت أصلا منها حتى أضحت ترابا مرنا ، يصنع منه المساكن ، و يشق فيه الطرق ، و يزرع فيه ما يشاء ؟ ولو كانت صلبة كصخور كوكب الزهرة أو رخوة كتراب القمر هل كنا نرتاح عليها ، و كيف اودع في ضميرها ما نحتاح اليها من مواد تخصب زراعتنا ، و تطهر أجواءنا و تمتص ما يضر بنا ؟!
[ و الأرض فرشناها فنعم الماهدون ]
بلى . يا ربنا ! أنت نعم الممهد و المهيء للارض لعيشنا سبحانك .
[ 49] و بين السماء التي هي آية قدرة الله ، و الأرض التي هي آية رحمة الله نجد الاحياء و النباتات و الأشياء التي جعلها الله يكمل بعضها بعضا . فاذا كانت الأرض تكمل الشمس ، و يكملها القمر ، فان البحر يكمل فوائد البر ، و هكذا السهل و الجبل ، و الإنسان وسائر الاحياء ، و كل أنواع النبات يكمل بعضها بعضا كما يكمل سائر المخلوقات .
[ و من كل شيء خلقنا زوجين ]
و تتجلى هذه الزوجية في أروع صورها بين الذكر و الانثى ، التي نراها في الانسانو الحيوان و النباتات ، بل وفي كل شيء مخلوق حتى الذرة المتناهية في الصغر تجد فيها الجانب المنفي ( المتمثل في الالكترون ) و الجانب المثبت ( المتمثل في البروتون ) .
و هذا التكامل عنوان الحاجة المشتركة بين المخلوقات و التي هي بدورها تهدينا الى بصيرتين :
الف / الحاجة بذاتها نعمة ، و التحسس بها وقود التحرك ، و اشباعها لذة الوجود ، فلو افترضنا حياة بلا حاجة الى الطعام و الشراب و الراحة و الجنس فهل كانت لدينا رغبة فيها . انها اخت الموت ، و كلما ازدادت ، و اشتدت ، و تنوعت الحاجة كلما ازدادت و تنوعت و اشتدت اللذة في قضائها .. اليس الشبع بعد الجوع ، و الأمن بعد الخوف ، و النكاح عند الشبق أشد لذة و أعظم ؟!
باء / التكامل و خصوصا بين الزوجين دليلنا الى ربنا ، لان كل شيء يحتاج الى غيره ، فلا يتصور فيه الاستقلال و الالوهية لشهادة كل محتاج انه فقير محدود و مدبر ، و ان له ربا غنيا ، واسعا مدبرا .
ثم أن تدبير التكامل ، و تأليف التزاوج ، و تنظيم شؤونهما دليل الى المدبر المنظم سبحانه .
وهو في الوقت ذاته شاهد على أن المدبر غير محتاج ، و انه غير محدود ، و انه لا ند له ولا نظير .
جاء في الحديث عن الامام الرضا ( عليه السلام ) : " بتشعيره المشاعر عرف ألا مشعر له ، و بتجهيره الجواهر عرف ألا جوهر له ، و بمضادته بين الاشياء عرف ألا ضد له ، و بمقارنته بين الاشياء عرف ألا قرين له ، ضاد النور بالظلمة ، و اليبس بالبلل ، و الخشنباللين ، و الصرد بالحرور ، مؤلفا بين متعادياتها ، مفرقا بينمتدانياتها ، دالة بتفريقها على مفرقها ، و بتأليفها على مؤلفها ، و ذلك قوله : " ومن كل شيء خلقنا زوجين اثنين لعلكم تذكرون " . ففرق بين قبل و بعد ليعلم ألا قبل له ولا بعد له ، شاهدة بغرائزها ألا غريزة لمغرزها ، مخبرة بتوقيتها ألا وقت لموقتها ،حجب بعضها عن بعض ليعلم ألا حجاب بينه و بين خلقه " (1) .
[ لعلكم تذكرون ]
فتزدادون معرفة بالله كلما أحسستم بالحاجة ، و كلما قضيت لكم . حقا إن معرفة الله هي الهدف الأسمى لخلقة العالم . أوليست المعرفة هي السبيل الى التقرب الى الله ، و الأنس بمناجاته ، و الفلاح بذكره .
[ 50] و لكن كيف نتسامى الى الله وقد أحاطت بنا عوامل النقص و العجز ، فمن نفس أمارة بالسوء تسول لنا الذنوب و تسوفنا التوبة ، الى شيطان يغوينا يزين لنا الموبقات ، و يملأ أفئدتنا بالتمنيات و الوساوس والظنون ، و الى طغاة الأرض الذين يضيقون علينا مذاهب الحياة حتى نسلم لهم أمورنا ، و نشركهم في ديننا و دنيانا ، و الى مجتمع فاسد ، و تربية مفسدة ، و ثقافة ضالة .. و .. و .. كل هذه العوامل تهبط بنا الى واد سحيق . فكيف نتسامى الى الله ، و نحرز الفلاح ؟!
القرآن الكريم يجيب على ذلك :
[ ففروا إلى الله ]
استعيذوا به من كل شر تذكروه ، ناجوه ، و اعتمدوا مناهجه التي اوحى بها ، أطيعوا من أمركم بطاعته ، و الوا من أمركم بولايته .
(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 130 .
و الادعية المأثورة عن أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله زاخرة بمعاني الاستعاذة بالله ، والالتجاء اليه ، و الفرار من سخطه : واليك بعضا منها :
" الحمد لله ، و الحمد حقه ، كما يستحقه ، حمدا كثيرا ، و أعوذ به من شر نفسي . إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ، و أعوذ به من كل جبار فاجر ، و سلطان جائر ، و عدو قاهر . الله اجعلني من جندك فان جندك هم الغالبون ، و اجعلني من حزبك فان حزبك هم المفلحون ، و اجعلني من أوليائك ، فان أوليائك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (1) .
و نحن نفر الى ا لله و نستعيذ به ليس فقط من تلك العوامل ، بل وأيضا من سخطه و عذابه كما نقرأ في دعاء سيد النبيين محمد ( صلى الله عليه وآله ) :
" أعوذ بنور وجهك الذي أضاءت له السموات و الأرضون ، و انكشفت له الظلمات ، و صلح عليه أمر الأولين و الآخرين من فجاءة نقمتك ، و من تحويل عافيتك ، و من زوال نعمتك " (2) .
و نقرأ في الدعاء الماثور عن الصادقين عليهما السلام :
" اللهم إني إليك فقير ، و من عذابك خائف مستجير . اللهم لا تبدل إسمي ، و لا تغير جسمي ، ولا تجهد بلائي ، ولا تشمت بي أعدائي ، أعوذ بعفوك من عقابك ، و أعوذ برحمتك من عذابك ، و أعوذ برضاك من سخطك ، و أعوذ بك منك ، جل ثناؤك . أنت كما أثنيت على نفسك ، و فوق ما يقول القائلون " (3) .
[ إني لكم منه نذير مبين ]
(1) مفاتيح الجنان / دعاء يوم الثلاثاء .
(2) مفاتيح الجنان / أعمال النصف من شعبان .
(3) المنتخب الحسني / ص 747 .
و هكذا فالانسان بين خطرين : أحدهما يسير و سريع الانقضاء ، و الثاني عظيم دائم ، فلينظر لنفسه كيف يختار ؟ فلو استسلم للضغوط ، و أشرك بالله فانه يتجنب الخطر اليسير ، و يحيق به الخطر الأكبر ، بينما لو فر الى الله و استجار بذمامه المنيع فانه ليس فقط يتجنب الخطر العظيم المتمثل في غضب الله الجبار ، و عظيم عذابه ، بل ويغيثه الرب و ينقذه من الخطر الآخر .
[ 51] و هكذا بعث الله النذير المبين ليدعوهم الى نفسه ، و ليحذرهم من عاقبة التمرد عليه ، و الاشراك به .
[ ولا تجعلوا مع الله إلها آخر ]
فانه لا ينقذكم من أخطار الدنيا ، و يسبب لكم غضب الرب و عذابه .
[ إني لكم منه نذير مبين ]
وكم تكون خسارة الانسان كبيرة ، و ندمه عظيما حينما تصم أذنه عن هذا النذير المبين .
[ 52] ما الذي جعل البشر يكفرون بهذا النذير المبين ، و يخسرون أنفسهم وإلى الابد ؟
إنه الطغيان الذي انطوت عليه أنفسهم ، انها الذاتية المقيتة ، لذلك تراهم يتهمون النذير بتهم متناقضة لكي يبرروا كفرهم به .
[ كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ][ 53] كانت تلك تهمة هدفها الطغيان و الكفر ، يكررها كل الكفار على امتداد التاريخ ، حتى ليخيل للانسان ان بعضهم يوحي لبعض بذلك ؛ بيد ان الحقيقة اشتراكهم جميعا في تلك النفسية الطاغية التي تفرز مثل هذه التهم .
[ أتواصوا به بل هم قوم طاغون ]
ان ذات التهم التي افتراها قوم نوح قبل ألوف السنين ضد نبي الله العظيم ( عليه السلام ) نجدها اليوم مثلا على ألسنة الذين يخالفون الدعاة الى الله ، المنذرين الناس عذابه ، ذلك أن أشياء كثيرة تتغير في حياة البشر إلا انها لا تمس جوهر وجوده ، و الغرائز التي تنطوي عليها نفسه .
و هكذا ينبغي ألا ننزلق - نحن الذين نتلوا آيات القرآن - في هذا الوادي فكلما دعانا الى الخير داع ، أو أنذرنا عن الشر منذر أتهمناه في عقله أو في نيته .
و لعل أخطر شر يجب أن نفر منه الى الله ، و نجأر اليه ليخلصنا منه هو هذا الطغيان الذي تنطوي عليه أنفسنا ( أعاذنا الله من شرورها ) .
[ 54] و حين يبلغ الرسول قومه الانذار تتم الحجة عليهم ، و تنتهي عندئذ مسؤوليته ، فلا يظن أحد أن الرسول يكون وكيلا عنه ، و مسؤولا عن هدايته بطريقة أو بأخرى . كلا .. انه لا يلام على كفرهم بعد الانذار المبين .
[ فتول عنهم فما أنت بملوم ]
[ 55] بلى . المؤمنون يظلون موضع رعاية و عناية من لدن رسول الله ، الذي لا يني يذكرهم بربهم ، لأنهم يستفيدون من الذكرى .
[ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ]
و قد روي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) انه قال :
" لما نزل : ( فتول عنهم فما أنت بملوم ) لم يبق أحد منا إلا أيقن بالهلكة حين قيل للنبي ( فتول عنهم ) فلما نزل ( و ذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين ) طابت أنفسنا " (1) .
[ 56] ما هي الغاية الأسمى لخلق الجن و الانس ؟ الخليقة سخرت للانسان ، الشمس و القمر ، و السحاب و الرياح ، و السهل و الجبل ، و الانعام و الطيور و الاسماك و .. و .. كلها مسخرات للانسان . أولا نتفكر هل الممكن أن تكون خلقة البشر بلا هدف ؟
كل شيء يخدم هدفا ، بل لكل جزيئة من جزيئات وجود كل شيء غاية . أفيمكن ألا تكون لوجود الانسان - سيد مخلوقات كوكبنا - أية غاية ؟!
أو يتخذ رب السماوات و الأرض من الخلق لعبا - سبحانه - وهو الغني الحميد ، و العليم الحكيم ؟!
تعالوا اذا نتفكر : هل خلق أي عضو من أعضاء أجسادنا عبثا ، حتى ولو كانت قطعة من المصران ، أو غدة صغيرة ، أو حتى خلية واحدة ، واذا كان الجواب بالنفي حسب كل معلومات الطب و الفسلجة ، فكيف يكون مجمل خلق الانسان بلا هدف ؟!
فما هو الهدف اذن ؟
أو يكفي ان نجعل الهدف الطعام و الشراب . دعنا نستنطق عقولنا ، و وجدان(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 132 .
قلوبنا ؟! أو نقتنع من أنفسنا أن نأكل ، و نشرب ، ونتمتع . أو لأنا نجد فراغا كبيرا لابد أن نملأه بغير اللذات العاجلة .
اننا نسعى جميعا نحو العلم و الفضيلة ، و نعطي لهما قيمة أسمى من قيمة الثروة و القوة ، و نتساءل : ما هي أعلى درجات العلم ؟ أوليست معرفة الله الذي نعرف به حقيقة أنفسنا ، و الواقع المحيط بنا . فمن دون معرفة الله تبقى كل الأسئلة حائرة .
كذلك أسمى درجات الفضيلة تقوى الله ، و ابتغاء مرضاته ، و القرب منه .
و تتلخص معرفة الله و تقواه في كلمة العبادة ، التي يجعلها القرآن الكريم غاية خلقة البشر فيقول :
[ وما خلقت الجن و إلانس إلا ليعبدون ]
فما هي العبادة ؟ قالوا : اصل العبودية الخضوع و الذل ، و التعبيد : التذليل ، يقال : طريق معبد (1) ، و يبدو لي أن أصل معنى العبودية ليس التذلل و الخضوع - كما قالوا - بالرغم من أن ذلك من لوازمها ، بل صلاح الشيء بحيث يكون مهيأ للاستفادة او بتعبير آخر : عدم وجود ما يمنع الانتفاع منه ، و لذلك قيل سفينة معبدة وانما سمي الطريق معبدا لانه خال من الثغرات و العثرات ، و الا فان كل الطرق وكل الاراضي خاضعة وذليلة ، فلماذا لا تسمى بالمعبدة ؟ وإنما سمي الرقيق عبدا لانه لا يمتنع عن طاعة مولاه ، وهكذا يكون أصلالكلمة الطاعة و التسليم .
فما معنى عبادة الله وما هي أبعادها ؟ هنالك حقائق لابد أن نعرفها لكي نعرف شيئا عن عبادة الله :
(1) القرطبي / ج 17 / ص 56 .
أولا : اولئك الذين يخضعون لغير الله ، و يتخذون أهواءهم إلههم من دون الله أو يعبدون الطغاة و المترفين ، أو يقدسون التراث و التقاليد انهم بعيدون عن هدف الخلق ، لأن عبادة الله تعني تحرير الانسان من الشركاء من دونه ، و لعل الآية التالية تشير الى ذلك :
" أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا " (1) . و قال سبحانه : " يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء و الأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون " (2) .
و جاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق عليه السلام : " إن الله عز وجل ما خلق العباد إلا ليعرفوه ، فاذا عرفوه عبدوه ، فاذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه " فقال له رجل : يا ابن رسول الله ! بابي أنت و أمي فما معرفة الله ؟ قال : " معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي تجب عليهم طاعته " (3) .
و حسب هذا الحديث يكون تحرر الانسان عن عبادة غير الله الغاية الأسمى للخلق ، كذلك نجد توحيد الله المحور الرئيسي لكل سور الذكر وآياته .
ثانيا : ان عبادة الله لا تتم إلا بمعرفته ، و ان معرفته لا تكتمل إلا بعبادته ، لأن في معرفته التزلف إليه ، و التقرب من رضاه ، و لذلك جعلت معرفة الله أو معرفة آياته هدفا من أهداف الخلق حسبما قرأنا في النص السابق و نقرؤه في قوله سبحانه : " الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير و أن الله قد أحاط بكل شيء علما " (4) .
(1) الكهف / 102 .
(2) فاطر / 3 .
(3) عن علل الشرائع / تفسير البصائر / ج 41 / ص 134 .
(4) الطلاق / 12 .
و لكن كيف يمكن بلوغ كمال المعرفة الالهية ، من دون التسليم له ، و طاعته و عبادته ، علما بأن معرفته لا تكون إلا به ، وكيف يكون غيره دالا عليه ، و بنوره أشرقت السماوات و الأرض ، أو يكون لغيره من الظهور ما ليس له حتى يكون هو المظهر له سبحانه ؟!
وهو لا يمنح معرفته إلا لمن سلم له ، و عبده وحده ، و هكذا تكون العبادة هدفا للخلق لانها السبيل الى المعرفة .
ثالثا : هل يمكن أن يبلغ الانسان الفلاح في الدنيا و الآخرة من دون شريعة واضحة يسير عليها ، و هل يمكن تطبيق الشريعة بغير الايمان بالله ، و التسليم لأوامره ، و هل يمكن تطهير القلب من أدرانه ، و تحريره من أغلاله بغير معرفة الله ، التي تجعل النفوس في رحاب قدسه ، بعيدة عن الأنانية و الشح ، والغضب ، و نائرة الشهوات ؟! كلا .. إن معرفة الله ، و التسليم له هما السبيل الى طرد جنود الشيطان من القلب ، و تنظيفه من وساوسه ، و ظنونه ، و أمانيه ، و تخلقه بأخلاق الرب ، و تأديبه بادابه السامية من الكرم ، و الايثار ، و الاحسان ، و التقوى ، و حب الخير و اهله ، لذلك نجد في آيات الذكر ما يوحي بان هدف الخلق هو الخلق الرفيع . لنقرأ الآيات التالية :
في تسع آيات قرآنية جعل الله الشكر هدفا لنعمة الخلق أو سائر النعم كقوله سبحانه :
" وجعل لكم السمع و الأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون " (1) .
" لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون " (2) .
(1) النحل / 78 .
(2) الجاثية / 12 .
كما جعلت التذكرة غاية الخلق في قوله سبحانه في هذه السورة :
" ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون " (1) .
وهكذا جعل التعقل هدفا في قوله سبحانه :
" ولتبلغوا أجلا مسمى و لعلكم تعقلون " (2) .
كما جعل الابتلاء هدفا أساسيا للخلق في آياته عديدة كقوله سبحانه :
" الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا " (3) .
و الامتحان بدوره سبيل لتكامل الانسان ، و تطهيره من الجوانب السلبية التي فيه .
التكامل .. الهدف الأسمى :
من خلال البصائر التي ذكرت نعرف : أن تسامي الانسان في معارج القرب من الله سبحانه هو الهدف الأسمى لخلقه ، و يتمثل ذلك في تحريره من نير العبوديات ، و تطهير قلبه من غل الهوى و الشهوات ، و تساميه في مدارج المعرفة بالله سبحانه ، و التقرب إليه بالصالحات .
واذا تسامى الانسان الى حيث القرب من الله فان رضوان الله وغفرانه ورحماته وسائر نعمائه وآلائه يكون كل ذلك قد سبقته هناك لتشمله ، و من هو أولى من الله بأن يقري عبده الذي حل بجنابه ضيفا ، و من هنا جعلت الرحمة هدفا للخلق في آية(1) الذاريات / 49 .
(2) غافر / 67 .
(3) الملك / 2 .
كريمة حيث يقول سبحانه :
" و لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " (1) .
[ 57] و لكن الغاية التي نتحدث عنها ليست بمعنى العلة التي لدينا فنحن إذا فعلنا شيئا فلابد من علة تدفعنا إليه ، و غاية نسعى إليها . فالعطش علة الشرب ، و الجوع علة الاكل ، و الرقة علة العطف ، أما الارواء و الشبع و الاحسان فهي أهداف و غايات .
و تعالى الله عن أن يكون لفعله سبب و يدفعه ، و علة تجأره ، و تجبره . إنه الغني الحميد ، عطاؤه محض رحمة منه ، و فضله محض إرادة ، لا يبرمه إلحاج الملحين ، و كما جاء في الدعاء :
" تقدس رضاك أن تكون له علة منك فكيف تكون له علة مني . إلهي أنت الغني بذاتك أن يصل اليك النفع منك ، فكيف لا تكون غنيا عني " (2) .
و ان اللام الذي جيء بها في سياق بيان الهدف من الخلق " ليعبدون " ليس بمعنى : أن الله سبحانه سعى نحو هذه الغاية بهذه الوسيلة - وهو الغني بذاته - و انما بمعنى : أنه قدر و قضى ليكون ذلك وسيلتنا اليه ، و طريق سعينا ابتغاء مرضاته ، و مدارج كمالنا في وجودنا ، كما أن الطهارة غاية الوضوء ، وذكر الله هدف الصلاة ، و التقوى نتيجة الصيام ، فان العبادة غاية الخلق و محتوى ما أمر الاسلام به من واجبات .
(1) هود / 118 - 119 .
(2) دعاء عرفة للامام الحسين ( عليه السلام ) / المنتخب الحسني / ص 925 .
و لعله لذلك أكد ربنا على أنه غني بذاته عن خلقه ، و عن أي فعل يمارسونه فقال سبحانه :
[ ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ]
فلا يتصور أي فائدة تصل الى الله - سبحانه - من خلال خلقه ، و حتى ما قيل ( بأن الله سبحانه كان كنزا مخفيا ، فأراد أن يعرف ) لم أجد مصدره و حتى لو كان لهذه الكلمة مصدر موثوق فان علينا تأويله بما لا يتنافى ونص الآية الكريمة ، و حكم العقل بأن الله لا تصل اليه منفعة من لدن خلقه و الظهور بعد الخفاء نوع من المنفعة ، و لذلك نقرأ في الدعاء المأثور :
" كيف يتسدل عليك بما هو في وجوده مفتقر اليك ، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك متى غبت حتى تحتاج الى دليل يدل عليك " (1) .
و يبدو أن الفارق بين الرزق والاطعام هو أن الرزق يستمر ، بينما قد يكون الطعام مرة واحدة ، و قد لوحظ في كل منهما معنى الاستفادة و المنفعة ، و كأن المرزوق يعتمد في بقائه على الرزق أو الطعام الذي هو مفردة من مفردات الرزق .
[ 58] و كيف يحتاج الى الرزق من يعتمد عليه الخلائق جميعا في حياتهم، فلولا دوام فضله ، و تواتر نعمه ، و تواصل رزقه لم يبق شيء مخلوق .
[ إن الله هو الرزاق ]
و الرزاق لا يكون مرزوقا .
(1) المصدر / 924 .
[ ذو القوة المتين ]
فلا ضعف فيه حتى يحتاج الى الطعام ، ولا نقص حتى يحتاج الى إتمام ، و قوته ليست عرضية بل هو متين شديد ، فهو سبحانه لا يغلب ولا تلحقه مشقة في أفعاله أو رهق .
و ربما تدل الأية على أن رزق الله - سبحانه - يتوالى على عباده بعبادتهم ، و كذلك قال ربنا سبحانه على لسان نبيه الكريم نوح - عليه السلام - : " فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * و يمددكم باموال و بنين و يجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا " (1) .
[ 59] و لتبقى مصائر الغابرين عبرة للأجيال ، ولابد أن نعرف أنها خاضعة لسنة إلهية لا تتبدل ولا تتغير ، فلقد أهلك الظالمين لظلمهم ، وسوف يهلك من سار على دربهم عاجلا أو آجلا .
[ فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون ]وما لهم يستعجلون الله و رسوله في عذاب يصيبهم ، تقدم أو تأخر و هل يستعجل أحد هلاكه ؟!
قالوا : الذنوب : الفرس ذو الذنب الطويل ، و سمي به الدلو الكبير الذي يربط في نهايته الحبل لتسهيل عملية التفريغ ، و يبدو ان العرب كانوا يتعاونون في نزح مثل هذا الدلو على أن يكون كل ذنوب لطائفة منهم و أنشدوا :
(1) نوح / 10 - 12 .
لكم ذنوب ولنا ذنوب فإن أبيتم فلنا القليبو هكذا استخدمت الكلمة بمعنى النصيب ، و لعله النصيب الذي يشترك فيه طائفة من الناس ، فيكون معنى الآية : إن لهم نصيبا من الذنوب يصيبهم بعد نصيب السابقين . أي ان لهم دورهم فلينتظروا ولا يستعجلوا ، كما أن لكل قوم دورهم في تقسيم الماء ذنوبا لهؤلاء وذنوبالأولئك على الترتيب .
و قال بعضهم : باعتبار أن الذنوب هو في الأصل الدلو الذي يصب فان العذاب يصب عليهم صبا .
و يبقى سؤال : لماذا استخدمت كلمة الظلم فيهم مع انهم كانوا كافرين يبدو ان الظلم أعم من الكفر و الشرك ، يشملهما ، و يتسع لغيرهما فيكون المعنى : ان عاقبة الظلم سواء كان بدرجة الكفر و الشرك أو أقل منهما و خيمة ، تستنزل النقمة على صاحبه .
[ 60] أما الكفار فلهم الويل في يوم الوعيد الصادق ، الذي أنذروا به في فاتحة السورة .
[ فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون ]
انهم هالكون في ذلك اليوم ولا يأسف لمهلكهم أحد أبدا ، انما تلحقهم اللعنة لانهم مسؤولون عن هلاكهم .
وفي نهاية تلاوتنا لسورة " الذاريات " نستعيذ بالله من كل شر ، و نفر الى جنابه من كل خوف ، و نبتهل اليه ضارعين :
" اللهم اني أسألك من كل خير أحاط به علمك ، و أعوذ بك من كل شرأحاط به علمك . اللهم إني أسألك عافيتك في أموري كلها ، و أعوذ بك من خزي الدنيا و عذاب الآخرة " (1) .
المنتخب الحسني / ص 105 .
|