فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 29] تزدحم التهم و الاشاعات ضد كل مصلح رسالي بمجرد ان يرفع راية الاصلاح ، فإذا به يدعى كاهنا أو مجنونا أو عميلا يتصل بجهات خارجية ، من أجل تحطيمه أو الضغط عليه في اتجاه التخلي عن رسالته ، فيجب إذن أن لا يفاجأ أي عامل إذا ما تعرض لذلك في مسيرته ، بل يعتبره أمرا طبيعيا ، و يستمر في حركته حتى يبلغ إحدى الحسنيين ، متوكلا على ربه ، و مهتديا بوحيه ، واثقا بنفسه .

و رسولنا الأكرم محمد بن عبد الله (ص) وهو الأسوة العظمى لنا ، كان عرضة لمختلف الدعايات و التهم و لأنواع شتى من الأذى ، و إذا لم تكن ثقته بربه و برسالته و بنفسه ثقة عميقة لم يستمر ، و مع ذلك أمره الله بالاستمرار في دعوته قائلا :

[ فذكر فما انت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون ]

و هذه الآية تنفي عن النبي (ًص) جميع التهم التي وجهت اليه بالتالي :

1 - أن رسالته تثير دفائن العقول البشرية بالتذكرة .

2 - أن التذكرة التي جاء بها الرسول ليست من عنده ولا من أحد ، إنما هي نعمة من الله تصله عبر الوحي ، ومن دونها لا يكون رسولا ولا مذكرا .


و بهذين الدليلين نهتدي إلى أن الرسول ليس بكاهن لأن الكاهن هو الذي يتنبأ بالمستقبل دون أن يستثير العقل ، فتراه يصيب مرة و يخطيء مرات ، بينما لا نجد ولا خطأ واحدا في آيات الله ، و ليس بمجنون لأن ما يصدر عن المجنون لا يلتقي مع العقل ، بينما تلتقيالرسالة معه بكل مفرداته دون استثناء ، وهو يعتمد خطة واضحة في تحركه هي رسالته ، و ليس بمجنون - حاشا لله - لأنه ينبعث عن منطلقات إيمانية و عقلية ، و حسابات علمية بالغة الدقة نافذة الحكمة .

كما يتميز النبي بالشجاعة و التوكل والثقة ، بينما المجنون لا يعتمد على شيء ، و ليس الرسول بشاعر لأنه يستثير العقل ، بينما يعتمد الشاعر على إثارة مشاعر الانسان ، و أداته الخيال و المبالغة ، و أخيرا ليس بساحر لأن الساحر إنما يلعب بخيال البشر ، و يسحرعيونهم ، و لا يفلح الساحر حيث أتى ، فهل رأيت ساحرا يقود أمة او يصنع تاريخا أو حتى يجمع ثروة طائلة أو يكتسب جاها عريضا ؟ كلا .. لأن الساحر لا يعيش حقائق الحياة حتى يسخرها لمصلحته او لقضيته بل يتقلب في سحره مع التمنيات و الظنون ، هذا أولا ، و ثانيا تلتقي التهم الموجهة الى النبي (ص) في كون المذكورين يعتمدون على قوى ليست مشروعة في نظر العرب أنفسهم ، فالكاهن يعتمد على اتصاله بالشياطين أو على مجرد الحدس ، و المجنون هو الذي سحرته الجن فهي توحي له بتصرفاته و أقواله ، و الذي اعترته الآلهة بسوء كما قالوا من قبل لهود (ع) : " إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء " ، و الشاعر هو الذي يحس بما لا يحس به الآخرون ، ويتلقى الالهام من الآلهة أو قوى أخرى كالجن ، و الساحر هو الذي يستغني بالشياطين و العفاريت أو يسخرهما ، أما الرسول (ص) فهو يتصل عبر الوحي بالله خالق الخلق و يعتمد عليه .

و القرآن إنما يثبت هذه التهم ليعكس للرساليين عبر التاريخ طبيعة المسيرة التي ينتمون إليها من جانب ، و من جانب آخر لبيان اعتراف الأعداء بجوانب منشخصية الرسول (ص) ، فهم بهذه الاتهامات يعترفون ضمنيا بقوته و تأثيره في الناس ، فتهمة الكهانة تعكس صدقة ، و تهمة الجنون تعكس شجاعته ، و تهمة الشعر تعكس بلاغته و قوته على الاقناع ، و تهمة السحر تعكس تأثيره العملي في المجتمع ، إلا أنهم يسعون بهذه التسميات إلى النيل من شخصيته ، و تحوير الحقيقة لكي لا يتأثر أحد .


[ 30 - 31] إن الحيرة التي وقع فيها المشركون و الكفار و عدم ثباتهم على تهمة معينة دليل واضح على اتباعهم الظنون لا العقل في تقييم رسالته و شخصيته ، مما يدل على أنه جاء بحركة جديدة لم يستطيعوا لها تفسيرا ولا تأويلا ، و قد يدلل اتهامهم له بالشعر بعد الكهانة و الجنون - مع كون الشاعر في نظر العرب أعلى ثقافة من الآخرين - على تنازلهم أن لأخريتين الماضيتين .

[ ام يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ]

و لكن الرسول يختلف عن الشاعر ، و رسالته ليست شعرا للأسباب الأساسية التالية :

1 - إن الشاعر - وفي ذلك العصر بالذات - يعتبر تعبيرا بليغا عن الثقافة القائمة ، بينما الرسالة خارجة عن إطار الثقافة الفاسدة الواقعية الشائعة في المجتمع ، و الذي يقرأ أشعار العرب يلاحظ فيها و بوضوح تعبيرا صريحا عن الروح القبلية ، و عن الأضغان و الفرقة و سائر مفردات الثقافة القائمة على الواقع ، كقول الفرزدق :

أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامعأو كقول جرير :

فغض الطرف إنك من ثقيف فلا كعبا بلغت ولا كلابا2 - أن الشعر يعبر في كثير من الأحيان عن ا لمصالح و الأهواء الشخصية ، بينما الرسالة كلها قيم ، و ربما تعارضت مع شهوات الانسان .

3 - إن الشعراء عندهم ثقافة و لكنها لا تستمر مع الزمن و عبر الأجيال ، أما الرسول فخطه يبقى أبدا ، و المستقبل لرسالته التي لا تبلى ، ولا يتجاوزها تقدم البشرية ، و لعل السبب في ذلك أن الشاعر ثقافته مربوطة به تموت عند موته أو بعده بقليل ، بينما الرسالةيرعاها الله ، و ليست متصلة بشخص الرسول حتى تذهب بذهابه ، و لذلك أمر الله تعالى نبيه (ص) بتحدي الكفار و المراهنة على أن المستقبل في صالحه و لرسالته .

[ قل تربصوا فاني معكم من المتربصين ]

و التربص هو الانتظار ، و لكن مع توقع شيء ما يحدث ، و منه قوله تعالى : " للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم " (1) .

و الكفار ينتظرون نهاية للرسالة بموت النبي (ص) في أي لحظة ، بينما يعلم النبي أن الرسالة تزداد على الزمن بهاء و إشراقا .

[ 32] ثم يأتي القرآن على بيان المنطلقات الحقيقية للكفر بالرسالة مؤكدا بأن التهم التي وجهوها للرسالة لا أساس لها حتى عند أصحابها ، بل جاؤوا بها رغبة عن الحق ، و تهربا من المسؤولية .

[ ام تامرهم احلامهم بهذا ]

و الحلم هو الجانب العملي من العقل ، و الحليم الذي يستخدم عقله في مواقفه(1) البقرة / 226 .


و أفكاره فلا ينطلق في أي موقف أو حكم من ردات الفعل و إثارة المواقف المضادة ، و الكفار كبشر لديهم مناهج عقلانية و لكنهم خرجوا عن دائرتها فصاروا يعارضون الرسول و يتهمونه بالكهانة و الجنون أو بالشعر و السحر ، ليس لأنهم وجدوا ما عنده باطلا ، و إنما نتيجةاتباع الهوى و الطغيان وردود الفعل .

[ ام هم قوم طاغون ]

و " أم " هنا ليست بمعنى التخيير و عدم التأكد ، بل هي تأكيد لما بعدها ، و لعل السبب أن الاحتمالات السابقة واضحة البطلان مما يبعث السامع إلى البحث عن الاحتمال الصحيح ، و يتساءل : إذا لماذا يعارض هؤلاء الرسالة ؟ و يأتي الجواب بصيغة إحتمال ،و لكن السامع يتقبله رأسا ، فيكون كما لو أنه هو الذي اكتشف الحقيقة .

و من عموم هذه الآية نستفيد فكرة كثيرا ما يشير القرآن إليها ، و هي أن الاحتياط من العقل ، فينبغي للمؤمن أن لا يستعجل في رفض فكرة يسمعها ، بل يفترض إمكان صحتها ، ثم يفكر فيها مليا ، و يتخذ موقفه منها على ضوء تفكير موضوعي دقيق .

و إن الذين رفضوا الرسالة لم يعتمدوا في رفضهم على العقل بل على الطغيان ، لأن العقل يقيد الشهوة و يقيننها ، بينما الطغيان يسيرها ، بل و يجعلها هي القانون ، و لو أنهم اتبعوا هدى عقولهم لآمنوا بها ، لأنها تهدي إلى العقل كما يهدي العقل إليها .

[ 33] و من نتائج اتباعهم الهوى في تقييم الرسالة و النبي (ص) اتهامهم له بأنه لا ينطق عن الله ، و أن ما عنده ليس رسالة من الرب ، إنما هي من صنيع فكرة . إنعقولهم تهدي الى صحة ما جاء به ، و لكنهم لا يريدون إلزام أنفسهم بالمسؤولية ، لذلك تراهم يبحثون عن تبرير لعدم إيمانهم ، فقالوا : نحن نؤمن بعظمة الرسول و بعظمة ما جاء به و لكنه من عبقريته ، و لسنا ملزمين باتباع ما تفتقت عنه عبقريات البشر ، إنما نحن ملزمون باتباع وحي الله و حسب ، و هذا هو منهج المستشرقين وكثير من المسيحيين في تقييم الاسلام و الرسول الأعظم (ص) .

[ ام يقولون تقوله بل لا يؤمنون ]

[ 34] و يتحداهم القرآن بأنه إذا كان القرآن من عبقرية الرسول فهو بشر مثلهم فهل يستطيعون صناعة كلام يشبه القرآن ؟؟

[ فليأتوا بحديث مثله ان كانوا صادقين ]

و تنكير كلمة " حديث " يدل على التبعيض ، فالتحدي إذن واقع على جزء من القرآن كالسورة أو الآية ، و تبقى هذه المعجزة الالهية الخالدة تتحدى ضلال البشر عبر الزمن وفي كل جيل من الانس و الجن ، يقول تعالى : " قل لئن اجتمعت الانس و الجن على أنيأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " (1)[ 35 - 36] و من الحديث المنطلق من واقع التشريع ينتقل السياق إلى الحديث من واقع الخلق ، فبعد أن أثبت بأن الرسالة ليست من صنيع البشر فلا هي كهانة ولا جنون ولا شعر ولا مخالفة للعقل ، و أن الدليل على كونها من الله عدم قدرة البشر على المجيء ولو بحديث واحد يشبهها ، نجد السياق هنا يتعطف لاثبات وجود الخالق عز وجل عبر تساؤلات ثلاث :

الأول : أن يكونوا ( الكفار و عموم الخلق ) قد خلقوا من غير خالق .


(1) الإسراء / 88 .


الثانية : أن يكونوا هم الذين خلقوا أنفسهم .

الثالثة : أن يكونوا هم الذين خلقوا السماوات و الأرض .

[ ام خلقوا من غير شيء ام هم الخالقون ]

و التعبير هنا عن الخالق بالشيء ليس من باب أنه سبحانه يشبه الخلق ، و إنما لاثبات أنه حق فالشيء في مقابل العدم ، ففي مقام الربوبية ليس لنا سبيل إلا بقدر الخروج من حد النفي و التعطيل ، أو بتعبير آخر : نفي النفي و إعدام العدم ، أما أن نثبت - وراء ذلك -لربنا القدوس ذاتية معلومة أو موهومة أو متخيلة فلا ، فهو شيء أي أنه حق قائم قيوم و لكن لا كالأشياء الكائنة التي يحيط بها العلم و يتصورها القلب .

و ليس أحد يعتقد في نفسه ولا يعتقد في الآخرون العقلاء بأنه مصداق لأحد هذه الفروض الثلاثة ولا التي ستأتي بعدها ، ذلك أن المخلوق لا يأتي من الفراغ ما دامت شواهد الصنع ظاهرة فيه ، بل لابد له من خالق ، و واضح أنه لا يمكن للشيء أن يخلق نفسه إنما يحتاج إلى صانع غيره ، و يكفي الانسان شاهدا على نفسه بأنه ليس الخالق أن ينظر حوله إلى السماوات و الأرض هل يعقل أن يكون قد خلقهما هو أو بشر مثله ؟؟

[ ام خلقوا السموات و الأرض بل لا يوقنون ]

ان المشكلة مشكلة نفسية ولو كانت عقلية لانحلت بشيء من التفكير في مثل هذه الفرضيات انهم لا يريدون الايمان لكي لا يلزموا انفسهم بمسؤولياته ، اذن فالنقص موجود فيهم لا في حجج الحق التي تقوى عليهم !

[ 37] ثم دعنا عن حديث الخلق و لنسأل : ماذا لدى الكفار من الملك و السيطرةحتى يتكبرون على الحق اعتمادا عليهما ؟ إن أكثر من 99% من ثروات البشر و قدراته هي رزق مباشر من عند الله . و الذي يحتاج الحصول عليه من الثروة مع السعي أقل من 1% ، و ما هي نسبة ما يقع في أيدي الناس حتى يتفاخروا به و يكون سببا لكفرهم .

[ ام عندهم خزائن ربك ]

و الخزائن هي أماكن حفظ الثروات و مقاليدها ، و من مصاديق الخزائن المنابع الأولية للثروة في الحياة ، كمناجم المعادن ، و ينابيع الغيث ، و مصادر الطاقة ، و مواد الحياة في الأرض ، و هي جزء بسيط جدا من خزائن الله التي خلقها و وزعها في الكون .

و إذا نظرنا إلى جانب التدبير في الحياة فلن نجد سلطة فعلية تحكمها غير سلطان الله ، فالانسان لا سلطان له حتى على حياته الشخصية إلا قليلا ، فطالما تصور نفسه متمكنا و قادرا فوجد العكس ، و طالما قرر شيئا فاكتشف عجزه المضي فيه .

[ ام هم المصيطرون ]

بالطبع لا سيطرة لهم على الحياة فليحاولوا دفع الموت عن أنفسهم إن استطاعوا .

[ 38] و يسترسل الوحي في طرح السؤال تلو السؤال ، و هذا جزء من منهج القرآن في علاج الانحرافات النفسية و العقائدية لدى البشر ، أن يضعه أمام الحقيقة من خلال أسئلة تسوق الاجابة الموضوعية عليها الى ذات الحقيقة ، كما يحاول بها ضرب الفلسفات والاعتقادات المنحرفة عنده .

[ ام لهم سلم يستمعون فيه ]


إن الذي ينبغي الطاعة له و التسليم لقيادة ليس الذي يملك ظاهرا من الثروة و السيطرة قدرا ضئيلا لا يقاس إلى ما عند الله ، وهم معترفون بأنهم لا يملكون أداة لالتقاط الغيب ، فماذا في أعماق الأرض وأغوار الفضاء ، و ما الذي تخبؤه الأقدار ، و ماذا يحدث غدا ،و ما هي الأرواح و الملائكة و الجن و عالمهم ؟

و إنما القيادة و الفضل لمن يتصل بالله عبر الوحي وهو الرسول (ص) ، و لعل اختيار كلمة " فيه " في الآية و تجنب التعبير بكلمة " به " لأن الاستماع لا يكون بسبب السلم بل في السلم الذي يعرجون فيه .

و إذا كانوا يزعمون أنهم مطلعون على الغيب إذا دعهم يأتوا عليه بحجة داحضة .

[ فليات مستمعهم بسلطان مبين ]

كالقرآن بشموليته ، و كماله ، و روعة أسلوبه ، و هيمنته على عقل الانسان و نفسه ، و لن يستطيعوا إلى ذلك سبيلا .

[ 39] و كيف يأتي هؤلاء ببرهان قاطع وهم لا يتبعون إلا الظن ، ولا يعتقدون إلا بالباطل ، و إلا فكيف قالوا بأن البنات لله و لهم البنون ؟! ما هو دليلهم على ذلك ؟

[ ام له البنات و لكم البنون ]

و في سورة الزخرف نجد علاجا أشمل لهذه العقيدة المنحرفة لدى المشركين ، يقول تعالى : " أم اتخذ مما يخلق بنات و أصفاكم بالبنين * و إذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم * أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين * و جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم


ستكتب شهادتهم و يسألون * وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون " (1)و هنا يشير السياق مجرد إشارة إلى سفاهة هذا القول و يسوقه مثلا لضلالاتهم الدالة على بعدهم عن الغيب .

[ 40] و الرسل لا يطالبون الناس بالأجر بإزاء تعبهم و نصبهم من أجلهم حتى يمكن الكفار تفسير رفضهم الرسالة بأنهم لا يقدرون على إعطاء الأجر .

[ ام تسئلهم اجرا فهم من مغرم مثقلون ]

إن الرسول لا يتطلع إلى أهداف مادية مصلحية من وراء قيادته للناس . إنه ليس كالذين يتسلطون على المجتمع من أجل فرض الضرائب و امتصاص خيرات البلاد و العباد ، إنما يريد أن يعطيهم شيئا هو الغنى بعد الفقر ، و الأمن بعد الخوف ، و الوحدة بعد الفرقة ، و بعبارةأخرى يريد أن يتقدم بهم نحو الحضارة الربانية التي فيها خيرهم ، و هذا ما تتميز به رسالات الله عن الدعوات البشرية المادية حيث لايجد فيها المجتمع إلا الكلفة و الغرم الثقيل .

[ 41 - 42] ثم يشير القرآن إلى حاجة فطرية عند الانسان تدعوه إلى معرفة الغيب و الاتصال به ، و كل إنسان يخشى من الغيب ، و يعلم بانه لا سبيل له اليه ، لأن الاختيار في هذا الأمر ليس مرتبطا به ، إنما يختار الله من يشاء من عباده ، " و ما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن يصطفى من رسله من يشاء " (2) و البعض يدعي الاتصال بالغيب و لكن دون أن يدعي أنه قادر على معرفة أبعاد الغيب بحيث تمكنه من كتابته بوضوح كما كتب الرسول أبعاد الوحي ، أي أنهم(1) الزخرف / 16 - 20 .

(2) آل عمران / 179 .


ليست عندهم معرفة شاملة واعية بالغيب ، إنما يتبعون الظنون وجانبا من أخبار الشياطين .

[ ام عندهم الغيب فهم يكتبون ]

بلى . إنهم لا يعتمدون على الغيب ، إنما يعتمدون على الكيد ، و كلمة " أم " التي تأتي في الآية للتأكيد لا الاحتمال و التردد .

[ ام يريدون كيدا ]

و الكيد هو القوة المخططة و المقننة كالاستراتيجية ، و إنما نكر الله الكيد ليجعله دالا على أنه لا ينفع أي نوع أو أية درجة منه .

[ فالذين كفروا هم المكيدون ]

لأنهم مهما بلغوا من المكر و الحيلة فلن يستطيعوا الغلبة على الحق ( سنن الله في الخلق و مشيئته القاهرة ) و منهجه المتكامل إذا اتبعه المؤمنون ، و التاريخ شاهد على هذه الحقيقة .

[ 43] و يعود القرآن إلى بيان الانحرافات النفسية العميقة عند الانسان فيقول :

[ ام لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون ]

إن الله منزه عن الشركاء ، و الانسان يشرك به غيره للتهرب من المسؤولية ، و ليس اعتمادا على عقيدة راسخة بينه ، إنه إذا لم يدع شريكا مع الله فهو ملزم بالتسليم لرسالته عقلا و ضميرا ، لذلك نجده يسعى لتخليص نفسه من هذا الالتزام بالشرك .


[ 44] ولأن العقائد المنحرفة عند الكفار و المشركين ، و التي استعرضتها الآيات الماضية ، تنتهي كلها إلى غاية واحدة هي محاولة التملص من المسؤولية ، فإن القرآن لا يني يؤكد المسؤولية من خلال بيان سنة الجزاء الحاكمة في الحياة ، ففي الدنيا تجليات عديدة لهذه السنة مما يؤكد وجود حياة أخرى للجزاء أيضا ، و لكن الإنسان حينما يكفر أو يشرك لا تهديه العلاقات إلى الحقيقة ، بل يفسرها تفسيرا ماديا منحرفا ، بل حتى لو رأى آية ظاهرة فسرها تفسيرا بعيدا .

[ و ان يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم ]وفي سورة الأحقاف يضرب القرآن لنا مثلا على هذا النوع من التفسير عند الكفار فيقول : " فلما راوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القومالمجرمين " (1)

[ 45] و حينما يصل الانسان إلى هذه الحالة النفسية من الضلال و الجحود تصعب هدايته إلى الحق ، لأنه لن ينظر إلى الآيات نظرة عقلانية مجردة ، إنما سينظر إليها من خلال أفكاره ، و يسعى جاهدا لاستلابها دلالاتها الواقعية الحقة ، لذا لا ينبغي للداعية أن يصر ويبخع نفسه لهدايته ، و إنما يبين إليه الحق ثم يتركه يواجه مصيره بنفسه ، لان الاصرار الزائد عن حده قد يسبب حالات وصفات خاطئة كالديكتاتورية و الغصب ـ أو أن يغير هو من الدين ليدخلهم فيه .

[ فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون ]

إشارة إلى العذاب الذي ينتظر الكفار يوم القيامة ، فلأنهم كفروا بالآخرة(1) الأحقاف / 24 - 25 .


وغفلوا عنها في حياتهم فإنهم يفاجأون بذلك .

[ 46] و إذا كان مكرهم و كيدهم في الدنيا نفعهم بعض الشيء وخدم مصالحهم ، فربما انتصروا عسكريا على المؤمنين ، أو ظهروا على البلاد وأضلوا الناس عن الحق ، فإنهم في الآخرة لا ينفعهم المكر شيئا ، ولا يدفع عنهم خطرا .

[ يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئا ]

كما أن القوى الأخرى التي اعتمدوا عليها في كفرهم و كيدهم للحق و المؤمنين لاتعينهم ، و إن أعانتهم فهي لا تبلغ بهم سبيلا إلى الغلبة و النصر .

[ ولا هم ينصرون ]

[ 47] ولكن دعوة الله لرسوله ( و للمؤمنين من خلاله ) إلى ترك الظلمة و الكفار يلاقون عذاب الآخرة لا يعني أن الدنيا لهم ، يلعبون فيها كيفما شاءت أهواؤهم و مصالحهم ، كلا .. إنما يلقون فيها نصيبا من العذاب متمثلا في غضب الله المباشر أو على أيدي أوليائه، و لكنه مهما بلغ لا يكون كعذاب الآخرة .

[ و ان للذين ظلموا عذابا دون ذلك ]

أي غيره ، و أقل منه ألما ، وهو دليل على عذاب الآخرة ، قال تعالى : " كذلك العذاب و لعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون " (1) و قال : " ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون " (2) ، و لكنهم لا ينظرون إلى الآياتببصيرة الايمان و من ثم لا يصلون الى الحق .


(1) القلم / 33 .

(2) السجدة / 21 .


[ و لكن اكثرهم لا يعلمون ]

و بالتالي فإن جهلهم يوقعهم في العذاب الدنيوي والأخروي معا .

[ 48 - 49] و بعد أن عالج القرآن مشكلة التكذيب بالعذاب و الكفر بالله من الناحية النفسية و العقلية ، أكد ضرورة الاستمرار و الاستقامة على الحق في سبيل الله .

[ و اصبر لحكم ربك ]

و حيث حذف متعلق الصبر دل ذلك على كل معانيه ( الصبر عند البلاء ، و الصبر على الطاعة ، و الصبر عن المعصية ) ، فيجب إذن على المؤمن أن يتنازل عن جميع تطلعاته و مصالحه و آرائه في سبيل رسالته ، مهما كان الصبر على ذلك صعبا ، و أن يترك العجلة في الأمور ، بل يصبر حتى يأتي أمر الله متمسكا بمنهج الوحي ، و هذا يوحي بأن على المؤمن تطبيق أحكام الله أثناء الصبر ، و ليطمئن أن عين الله تحرسه و تسدد خطاه .

[ فانك باعيننا ]

و عيون الله تتجسد في سننه و ملائكته وإرادته المباشرة التي تؤيد المؤمنين ، و كما يقاوم المؤمن الضغوط ، و يستمر في الطريق ، و يلتزم بحدود الله و أوامره بعامل الصبر ، فإن يستمد إرادته من الاتصال بالله في الصلاة ، و لو تدبرنا في القرآن فإننا لا نكاد نجد دعوة إلى الصبر إلا وقد اقترنت بها دعوة إلى الصلاة أيضا ، إذ بهما نستعين على الأمور بلى . قد تختلف التعابير من موضع إلى آخر ، فتأتي تارة صريحة كما في قوله تعالى : " و استعينوا بالصبر و الصلاة " (1) ، و أخرى دون ذلك بالدعوة(1) البقرة / 45


الى التسبيح أو الركوع و السجود كمظهر أو جوهر للصلاة ، أو بإضافة أمر آخر مثل ضرورة الاحساس بالرعاية الالهية كما في هذه السورة ، و لكن الحقيقة واحدة و هي اقتران الصبر بالتبتل ، و في هذه الآية نجد شاهدا على ذلك فبعد ان دعى الله رسوله للصبر و الاطمئنان لرعايته أمره بالتسبيح .

[ و سبح بحمد ربك حين تقوم ]

قال علي بن إبراهيم : " لصلاة الليل " (1)[ ومن الليل فسبحه ]

قال الباقر و الصادق ( عليهما السلام ) : " إن رسول الله (ص) كان يقوم من الليل ثلاث مرات ، فينظر في آفاق السماء ، و يقرأ الخمس من آل عمران التي آخرها " إنك لا تخلف الميعاد " ثم يفتتح صلاة الليل " (2)و التسبيح هو تعظيم الله عز وجل و تنزيهه ، و ما أحوج الانسان وهو يقاوم مختلف الضغوط في مسيرته حتى لا ينهزم أمامها إلى ذلك . و لماذا يستسلم الانسان إلى الضغوط ؟ أليس لأنه يجدها أكبر من إرادته ؟ إذن فهو بحاجة إلى تذكر الله ليقاوم الهزيمة و الانبهار فيداخله .

[ و ادبار النجوم ]

يعني نافلة الصبح ، عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال : قلت له " وأدبار النجوم " قال : " ركعتان قبل الصبح " (3)(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 143 .

(2) المصدر

(3) المصدر / ص 144 .


و قد يكون القيام عموم الصلاة ، و لكن ا لقرآن يخص بالذكر صلاة الليل و نافلة الصبح لغرض ما .


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس