بينات من الآيات [ 1] و النجم إذا هوى ]
قد يكون القرآن يقصد هنا نجما معينا أخبر المسلمين بسقوطه في المستقبل ، كما تشير الروايات إلى ذلك ، و لكننا بالنظر إلى الظاهر و إلى الهدف من وراء هذا القسم نستطيع اعتباره شاملا لكل نجم ، و إنما عرف الله المقسم به بـ ( ال ) لأنه أبلغ من التنكير في القسم كما قيل ، و لكن لماذا يقسم القرآن بالنجم حين يهوي ؟
أولا : ربما لأن الكثير من الناس كانوا يعتقدون بأن النجوم ثابتة لا تتغير ، و قد اتخذها بعضهم آلهة من دون الله ، و سقوطها أبطل هذا الإعتقاد الضال .
ثانيا : قد لا يكون المقصود من الهوي السقوط و الإنتشار ، كما في قوله تعالى : " وإّذا النجوم انكدرت " (1) ، " و إذا الكواكب انتثرت " (2) كعلامة ليوم القيامة ، و إنما الميل إلى طرف من الأفق ، الأمر الذي يجعله أفضل هداية و تعريفا للإنسان بالطريق .
[ 2] و كما أن النجم رمز للهداية فإن الرسول (ص) هو علم رفيع لهداية البشرية ، كما قال الإمام علي (ع) : " ألا إن مثل آل محمد ( صلى الله عليه و آله ) كمثل نجوم السماء ، إذا خوى نجم طلع نجم " (3) ، و لكن الرسول (ص) يختلف عن النجم في أن دلالتهو هدايته للناس تبقى قائمة في رسالته و سيرته حتى بعد موته ، أما النجم فإن دلالته تنتهي بهويه ، كما يقول الإمام علي (ع) : " أيها الناس حذوها من خاتم النبيين ( صلى الله عليه و آله و سلم ) : إنه يموت من مات منا و ليس بميت ، و يبلى من بلي منا و ليس ببال " (4) ، و أولى بالعقل أن يتبع هدى الرسول الذي يتبع الحق ، و لا يكذب أهله ، لا أن يتبع ظنون نفسه ، ولا تخرصات(1) التكوير / 2 .
(2) الانفطار / 2 .
(3) نهج البلاغة / خ 100 .
(4) نهج البلاغة / خ 87 .
الكهنة و المنجمين .
[ ما ضل صاحبكم وما غوى ]
الضلالة هي الإنحراف عن أصل الطريق ، بينما الغواية - حسبما يبدو - الإنحراف عن سواء الطريق ، فقد يضل الواحد طريقه إلى مدينة شرقية فيتجه غربا ، و قد يغوي عنها فلا يتجه إليها عبر خط مستقيم .. و لم يضل النبي طريقه نحو الله فيختار - حاشاه - طريقا آخر ، كما لم يتنكب عن الخط المستقيم ولا شيئا قليلا ، فلم يكن كأبينا آدم - عليه السلام - الذي قال عنه ربنا : " و عصى آدم ربه فغوى " (1) .
[ 3 - 4] بلى . لقد زعم البعض أن عصمة النبي (ص) محدودة في الشؤون المتصلة بالرسالة نفسها و حسب ، و لكن السؤال : إذا كيف نعرف أن ما يتحدثه الرسول هل هو جزء من الرسالة ، أو هو شأن من الشؤون التي يخطأ فيها ؟ كلا .. إن الله قد عصم الأنبياء جميعا ، و أيدهمبروح القدس ، حتى تتم حجته على خلقه ، ولا يبرروا مخالفتهم لهم بعدم الثقة بأن كلامهم من عند الله ، و قد قال سبحانه : " ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين " (2) ، وقال : " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداإلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم " (3) .
إن الانسان تنازعه من داخله قوتان : نور العقل الذي يهديه إلى الحق ، و شهوات الهوى التي تدفعه باتجاه الباطل ، و لقد أدب الله نبيه (ص) إلى أن اعتصم من آثار الهوى ، و جسد الحق لا يزيغ عنه لحظة ولا قيد شعرة .
(1) طه / 121 .
(2) الحاقة / 44 - 46 .
(3) الجن / 26 - 27 - 28 .
إن العقل المحض لا يخطىء أبدا ، و لذلك اعتبره الإسلام رسولا باطنا كما أن الأنبياء كانوا رسلا ظاهرين ، و حجة خفية كما الرسالات حجة ظاهرة .
[ وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى ]
و من عمق الأدب القرآني و بلاغته أنه لم يكتف بكلمة " وحي " بل أضاف إليهما كلمة " يوحى " الفعل المبني للمجهول ، و ذلك لأن الوحي قد يكون من فعل نفس الإنسان ، أما إذا بني للفاعل المجهول فإنه يكون من طرف آخر ، و الآية التالية تبينالموحي وهو الله شديد القوى ، نفيا لاحتمال أن يكون الرسول يتلقى رسالته من قوى يتصل بها كالجن أو بعض الكهنة ، كما ادعى عليه الجاهلون " وقالوا معلم مجنون " (1) ، كلا .. إنه يتلقى رسالته عبر الوحي من الله ، و هذا الإتصال هو الذي يمده بالعصمة ، وحديث عصمة الرسول حديث طويل بحثه الدارسون ، و قد اختلفوا فيه كثيرا ، و انا أترك الخوض في هذا الموضوع بالصورة التي بينها الكثير ، و أقتصر هنا على الحديث عنه من زاوية هامة جدا ، و هي دراسة حياة الرسول (ص) ، لأن ذلك كما اعتقد سوف يكشف لنا شخصيته الفذة ،و كيف انها لم تتأثر بأي عامل هوى ، إنما كانت دائما وابدا صنيعة العقل و الوحي .
لقد عاش (ص) في مكة المكرمة - قبل أن يظهره الله على المشركين فيها - تلاحقه عصابات الضلالة و البغي من قريش ، يحاولون أن يخدعوه عن دينه ، و يصرفوه عن رسالته ، و بالإرهاب تارة و بالترغيب أخرى ، حتى بلغ الأمر بهم ان عرضوا عليه السلطة المطلقة عليهم وعلىأموالهم ، و لكنه لم يخش إرهابهم ، و لم تحرفه عروضهم المغرية ، إنما تسامى على ذلك كله ، و أجابهم : " و الله لو وضعتم الشمس في يميني ، و القمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه " ،(1) الدخان / 14 .
و اضطر من شدة ضغوطهم وأذاهم إلى الهجرة عن مكة ، و كانت القبائل جميعها ترفض ايواءه عداوة له أو خوفا من قريش ، وسار نحو الطائف لعله يجد مفزعا فيها ، و لكنه اصطدم بحقدهم الدفين ضده و ضد رسالته ، حيث طردوه و أدموا ساقيه الشريفتين بالحجارة ، لكنه مع ذلككان يتحدى الواقع المر ، و يسمو بروحه الطاهرة إلى آفاق الإيمان بالله ، فقد جاء في الخبر أنه رفع يديه إلى السماء و قال : " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، إلهي إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي " .
و حينما هاجر إلى المدينة المنورة انطلق منها يقهر القوى العسكرية المضادة ، فحطم كبرياء قريش ، و دمر حصون اليهود من أعداء الرسالة و غيرهم ، و الى حين رفعه الله إليه كان قد جهز جيشا ليقاتل الروم القوة العظمى يومذاك ، و بين هذا و ذاك بنى أمة و حضارة لازالت البشرية ولن تزال كلما تقدم بها الزمن و التطور تجد نفسها دون عظمتها . وهو مع ذلك لم تتغير أخلاقه ولا سيرته في العيش ، إنما بقي وهو الحاكم العظيم يربط حجر المجاعة على بطنه ، و يتواضع للصغير و الكبير ، أترى من هذه حياته ، و من جعله اله أسوة مطلقةو صفها بالحسن إلا أن يكون معصوما ؟؟ ثم أليست العصمة أن لا يتأثر الإنسان بالعوامل السلبية ، ولا يخرج من خطه ولا قيد شعرة ؟ بلى . إذن فلندرس حياة الرسول الأعظم (ص) هل نجد فيها ولو كلمة أو تصرفا يخالف الحق ؟؟
إن من السهل على العاقل أن يميز الذي ينطق عن الهوى عمن ينطق عن العقل ، فالذي ينطق عن الهوى لا يصدق دائما ، ولا يكون حديثه موافقا للعقل ، إنما يكون تعبيرا عن شهوات صاحبه ، و متناقضا متقلبا حسب الظروف و المصالح .
ثم لننظر إلى الرسالة التي جاء بها النبي هل تخالف العقل و الحق ؟ و هل فيها شيء من التناقض ؟ كلا .. إذن فهي معصومة ، ومن عند الله ، " ولو كان من عندغير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " (1) .
ثم أنه كان ينقل ما ينزل عليه من الله بامانة تامة إلى المجتمع لا يغير شيئا ابدا ، و حتى الآيات التي تشتمل على لومه كان يثبتها في الرسالة ، و يبلغها للناس ، و لو كان يتبع أهواءه لكان يخفيها عليهم ، و من هذه الآيات قوله تعالى : " وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا عليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا * " (2) و قوله : " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين " (3) ، و الآية الكريمة : " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " (4) و أشد من ذلك كله قوله تعالى : " ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين * " (5) .
و أخيرا : لم يكن النبي يبلغ الرسالة اللآخرين فقط ، بل كان هو يطبقها أيضا ، و قبل غيره ، بما فيها من واجبات تقتضي أن يخالف الإنسان أقوى منعطفات الهوى ، فهو يتقدم المؤمنين في أمر حاسم و خطير كالقتال ، أترى لو كان يتبع أهواءه يصنع كل ذلك ؟!
[ 5 - 6] و كيف يتبع الرسول هواه ، فيخفي بعض الذي أنزل عليه ، أو يتقول على الله بدافع الشهوة و المصلحة ، وهو يعلم ما عنده من البطش و الشدة ؟
(1) النساء / 82 .
(2) الاسراء / 73 - 75 .
(3) التوبة / 43 .
(4) آل عمران / 128 .
(5) الحاقة / 40 - 47 .
[ علمه شديد القوى ]
ذو الإرادة المطلقة النافذة في الحياة ، و هذه ضمانة لتنفيذ الحق الذي جاء به القرآن و تطبيقه على الحياة .
[ ذو مرة ]
أي مطلق العلم و الحكمة ، مما يجعل الرسالة ( الوحي ) كاملة دقيقة لا يلحقها نقص ولا عيب ، ولأن الرسول كان يتلقى رسالته و علمه من صاحب هاتين الصفتين فقد تكامل بالتأكيد و العلم الإلهيين ..
[ فاستوى ]
وفي الآية أقوال شتى : فقال الكثير من المفسرين : أن من علم رسول الله هو جبرئيل الذي هو شديد القوى ، و هو أيضا ذو مرة وقد استوى .
وفي كلمة " ذو مرة " قال البعض : أن معناها صاحب قوة ، و قال آخرون : ذا عقل ، و قيل : صاحب خلق حسن ، أما عن الإستواء فقال البعض : أن معناه أن جبرئيل استوى هو و الرسول ، و قال البعض : أن الرسول قد استوى ، وقال البعض : بل الله هو الذي استوى على عرش القدرة .
و لعل التفسير الذي اخترناه آنفا هو الأقرب ، لأن السياق لا يحدثنا شيئا عن جبرئيل ، ثم أن الإستواء الذي يهتم به سياق السورة متصل بالرسول ، لأنه يحدثنا عن الرسول و ليس عمن علمه .
[ 7] و بهذا الإتصال أيضا سمى النبي محمد (ص) بروحه طهرا و عرفانا و زلفى إلى أفق الحق الأعلى ، فصار سيدا لأفضل خلق الله وهم النبيون ( عليهم السلام ) ،ولقد كان عروجه إلى الله في تلك الرحلة المشهودة تجسيدا لذلك السمو .
لقد كان ( صلى الله عليه و آله ) يتلقى الوحي عبر جبرائيل حينا ، و بصورة مباشرة حينا ، و لعل أعظم ساعات التلقي كانت حينما رفعه الله إلى مقام قال عنه رفيقه جبرئيل : " مكانك يا محمد فلقد وقفت موقفا ما وقفه ملك قط ولا نبي " حتى لم يبق بينه و بين ربه واسطة ، و دنى من الله قربا فكان كما قال الإمام الصادق (ع) : " بينهما حجاب يتلألأ بخفق ، فنظر في مثل سم الإبرة إلى ما شاء الله من نور العظمة ، فقال الله تبارك و تعالى : " يا محممد ! قال : لبيك " (1) و كلمه تكليما ، كما كلم موسى بنعمران ( عليه السلام ) .
[ وهو بالأفق الأعلى ]
يطوف معه جبرئيل وهو على البراق ، يصعد من سماء إلى أخرى ينظر إلى آيات الله ، و يزداد برؤيتها يقينا وصعودا في آفاق الإيمان حتى بلغ السماء السابعة .
[ ثم دنا فتدلى ]
حتى بلغ حجب النور ، يقول النبي (ص) : " فقال لي جبرئيل : تقدم يا محمد ، و تخلف عني ، فقلت : يا جبرئيل ! في مثل هذا الموضع تفارقني ؟! فقال : يا محمد إن انتهاء حدي الذي وضعني الله عز وجل فيه إلى هذا المكان ، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي ، بتعدي حدودربي جل جلاله ، فزخ بي في النور زخة حتى انتهيت إلى حيث ( ما ) شاء الله من علو ملكه " (2) .
و يخالف الفكر الإسلامي الأصيل النظرة الفلسفية ، أو ما يسميها البعض(1) بحار الأنوار / ج 18 / ص 306 .
(2) المصدر / ص 346 .
بالعرفانية في علاقة الخالق بالمخلوق ، فبينما ترى هذه وحدة الوجود و إمكانية الحلول ، تعالى الله عما يصفون ، تفصل النظرية الإسلامية بين الإثنين ، و ترى أن الخالق غير المخلوق ، و أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يصل الإنسان إلى مقام الربوبية ، مهما بلغمن الفضل و العلم و الإيمان ، بل المجال مفتوح أمام البشر للتكامل في معارج القرب من ربه ، افقا افقا ، و درجة درجة ، دون أن ينتهي ذلك أبدا ، لأن " الله خلو من خلقه ، و خلقه خلو منه " (1) .
إن القرآن يقر رحلة المعراج ودنو النبي (ص) من ربه ، و لكنه يعتبره دنوا معنويا لا ماديا ، و يقول بأنه ( صلى الله عليه وآله ) تدلى في علوه ، كما الدلو حينما يتأرجح في البئر فلا هو إلى قعره حيث الماء ، ولا هو إلى أعلاه حيث الأرض ، إنما بين الأثنين ، وهكذا سمى الرسول الأكرم (ص) حتى ارتفع عن سائر الخلق بقربه من الله ، و لكنه لم يصل إلى مقام الربوبية ، فهو فوق الخلق و دون الخالق ، وفي الخبر عن ثابت بن دينار قال : سألت زين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام ) عن الله عز وجل جلاله هل يوصف بمكان ؟ فقال : " تعالى الله عن ذلك " ، قلت : فلم أسرى بنبيه محمد (ص) إلى السماء ؟ قال : " ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه و بدائع خلقه " ، قلت : فقول الله : " ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى " قال " ذاك رسول الله (ص) دنا من حجب النور ، فرأى ملكوت السماوات ، ثم تدلى فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض " (2) .
و في حديث آخر عن يونس بن عبد الرحمن قال : قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر (ع) : لأي علة عرج بنبيه إلى السماء ومنها إلى سدرة المنتهى ، و منها إلى حجب النور و خاطبه و ناجاه هناك ، و الله لا يوصف بمكان ؟ فقال (ع) : " إن الله لا(1) التوحيد - للصدوق / ص 143 .
(2) بحار الانوار / ج 8 / ص 347 .
يوصف بمكان ولا يجرى عليه زمان ، و لكنه عز وجل أراد أن يشرف به ملائكته و سكان سماواته ، و يكرمهم بمشاهدته ، و يريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه ، و ليس ذلك على ما يقوله المشبهون ، سبحان الله و تعالى عما يصفون " (1) .
و قد يكون التدلي الأخذ من المعرفة و العلم ، كقولنا تدلى فلان إذا أرسل دلوه في البئر ، و اغترف منه ماء ، فإن الرسول كان يتدلى معرفة من بحار العلم و النور التي مر بها في ملكوت السماوات السبع أثناء رحلة المعراج ، قال الإمام موسى بن جعفر عليهما السلامفي جواب له على سؤال رجل عن هذه الآية و معنى " فتدلى " : " إن هذه لغة في قريش ، إذا أراد الرجل منهم ان يقول : قد سمعت يقول : قد تدليت ، و إنما التدلي الفهم " (2) وكلما فهم الانسان الحقائق ، وازداد مرعفة بربه ، وكلما تقرب إليه و دنىمنه ، و لعل مرور الرسول في عروجه بملكوت السماوات ، و مشاهدته لما فيها من الآيات التي كانت تعرفه بربه أكثر فأكثر كلما صعد في الأفق نحو الحد الذي وصل إليه و تجلى له فيه نور ربه ، كان تهيئة له ليرى التجلي الأعظم لله في نوره الذي قرب منه الرسول (ص) .
[ فكان قاب قوسين أو أدنى ]
أبدا ليس الله بعيدا عن خلقه . أو لم تقرأ في الدعاء : " و أن الراحل إليك قريب المسافة ، و أنك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الأعمال دونك " (3) .
و لكن الإنسان هو البعيد عن ربه . أوليس قد تراكمت على نفسه حجب الغفلة و الجهل و المعاصي ، فكيف يتلقى نور ربه ؟!
(1) تفسير نور الثقلين / ج 5 / ص 185 .
(2) نور الثقلين / ج 5 / ص 151 .
(3) نور الثقلين / ج 5 / ص 152 .
و هب أنه طهر قلبه من كل ذلك فكيف تستقبل هذه النفس المحدودة العاجزة أنوار عظمة الخالق دون ان يتصدع قلبه ؟ أو ليست قدرة الإحتمال عند النفس البشرية محدودة ؟ وهل تصبر العين على التركيز في قرص الشمس طويلا ؟ كلا ..
لقد تجلى الرب لحظة للجبل فجعله دكا ، ولم يصبر قلب موسى ذلك النبي العظيم لرؤية الجبل الذي تدكدك بتجلي الرب فخر صعقا ، فيا ترى كيف صمد قلب محمد ( صلى الله عليه وآله ) لنور ربه ، و أي مقام سام تعالى إليه نبينا الأكرم حتى كان قاب قوسين من ربه أو أدنى ؟ !
ولم يحدد القرآن المسافة بالضبط ، لعله لبيان حالة التصاعد و التنازل التي يتعرض لهما الإنسان في القرب و البعد من ربه ، كما قال عن قوم يونس " وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون " ـ و لكنه قال " قاب قوسين أو أدنى " في مقام الرسول لأنه في حالة تصاعدية من الإيمان لا تنازلية .
و كلمة أخيرة :
قال تعالى " قاب قوسين أو أدنى " معبرا بهذه الوحدة القياسية العرفية عن قرب الرسول للدلالة على شدة القرب المعنوي من الله ، و لتأكيد الفاصلة بين الخالق و المخلوق ، و قد قالوا في قاب قوسين : أن القاب هو المسافة بين المقبض و السية .
[ 10] و هنالك حيث اقترب الرسول من ربه ، و تهيأ من الجانبين ، أوحى الله إليه أمرا أبهمه في النص بـ " ما " دلالة على العظمة .
[ فأوحى إلى عبده ما أوحى ]
قال علي ابن إبراهيم ( رض) : " و حي مشافهة " (1) ، و قال الصادق (ع)(1) مفاتيح الجنان / دعاء أبي حمزة الثمالي .
لأبي بصير : " يا أبا محمد ما جاءت ولاية علي من الأرض ، و لكن جاءت من السماء مشافهة " (1) .
[ 11 - 12] و إذا كان الرسول رأى نور ربه بعينه لما دنى منه ، فإنه رأى ربه ببصيرة الإيمان في وحيه المنزل عليه ، و رؤية القلب أجلى و أصدق من رؤية البصر ، بل إن هذه الرؤية القلبية كانت تأكيدا و تصديقا لما رآه بعينه من النور .
ولا يمكن أن يرى الانسان ربه بعينه مشافهة ، ولا بعقله لأنه هو الآخر نعمة محدودة من الله ، إنما يرى ربه بربه من خلال تجليه في آيات الخلق و الوحي ، وفي الدعاء نقرأ إشارة إلى هذه الحقيقة عند قول الإمام (ع) : " يا من دل على ذاته بذاته ، و تنزه عن مجانسة مخلوقاته ، و جل عن ملاءمة كيفياته ، يامن قرب من خطرات الظنون ، و بعد عن لحظات العيون " (2) .
و قلب الانسان حينما يرى شيئا فإنه لا يخطىء في رؤيته ، ذلك أن وجدان الإنسان يصدق الحق .
[ ما كذب الفؤاد ما رأى ]
من الحق النازل عليه من عند الله ، بل هو على يقين وقناعة راسخة ، لا يمكن أن تزلزله الشبهات و جدليات الجاهلين ، و أقوال الرسول (ص) و سلوكياته الشخصية و الإجتماعية كلها تدل على أنه لم يكن يتكلف في إيمانه ، و إنما كان ينطلق من قناعة صادقة .
[ أفتمرونه على ما يرى ]
(1) المصدر / ص 150 .
(2) مفاتيح الجنان / دعاء الصباح .
إنكم لا يمكن أن تحرفوا مسيرته ، أو تدخلوا إلى نفسه الشك في رسالته ، لأنه على اليقين .
قال محمد بن الفضيل سألت أبا الحسن (ع) هل رأى رسول الله (ص) ربه عز وجل ؟ فقال : " نعم ، رآه بقلبه . أما سمعت الله عز وجل يقول : " ما كذب الفؤاد ما رأى " لم يره بالبصر ، و لكن رآه بالفؤاد " (1) ، و سئل الرسول (ص) عن الآية نفسها فقال : " قد رأيت نورا " (2) .
[ 13 - 15] [ و لقد رءاه نزلة أخرى ]
و ذلك يحتمل معاني ، منها ، أن الرسول كان يرى الله متجليا في كتابه ( الوحي ) ، ثم رأى تجليا آخر لربه عندما عرج به جبرئيل (ع) إلى الأفق الأعلى ، و دنى من ربه فخاطبه مشافهة ، و قد يكون المعنى : أن جبرئيل عرج بالنبي الى حيث أوحى له الله ما اوحى ، و هناك رأى ببصره نور الله ، و بقلبه رأى ربه ، ثم عرج به الى مقام آخر رأى فيه تجل ثان لله عز وجل ، وهو قوله تعالى :
[ عند سدرة المنتهى ]
و هي شجرة في السماء السابعة ( عن علي بن ابراهيم ) (3) " و إن غلظ السدرة لمسيرة مئة عام من أيام الدنيا " (4) عن الباقر (ع) ، و ربما سميت بهذا الإسم لانها الموضع الذي ينتهي الملائكة إليه بأعمال العباد (5) ، و لأنها منتهى ما يمكن أن يبلغ
(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 153 .
(2) المصدر .
(3) المصدر / ص 155 .
(4) المصدر / ص 154 .
(5) المصدر .
إليه مخلوق قربا و دنوا من ربه . (1) .
و قيل : هي شجرة طوبى (2) ، و قال علي بن إبراهيم (رض) هي الشجرة : " التي يتحدث تحتها الشيعة في الجنان " (3) ، و لعلها البرزخ بين عالمي الدنيا و الآخرة .
و الآية الكريمة تشير إلى هذا التفسير ، قال تعالى :
[ عندها جنة المأوى ]
[ 16 - 17] و هناك تجلى نور الرب لنبيه الأعظم (ص) فغشي السدرة ، كما تجلى من قبل لموسى بن عمران (ع) ففاض نور الوحي على تلك الشجرة التي أوحى الله إليه عندها .
[ إذ يغشى السدرة ما يغشى ]
من نور ربها ، و عندها ثبت الله فؤاد نبيه ليرى ذلك النور ، و يبصر به آياته ، قال الإمام أبو جعفر (ع) : " فتجلى لمحمد نور الجبار عز وجل ، فلما غشي محمدا (ص) شخص بصره ، و ارتعدت فرائصه ، فشد الله عز وجل لمحمد قلبه ، و قوى له بصره ، حتى رأى من آيات ربه ما رأى " (4) فلأن الله ثبته استطاع أن يستوعب الحقائق .
[ ما زاغ البصر وما طغى ]
(1) المصدر / ص 155 / و ص 156 رقم 44 .
(2) بحار الأنوار : ج 18 / ص 289 .
(3) نور الثقلين / ج 5 / ص 156 .
(4) المصدر / ص 154
و الزيغ هو الإنحراف ، قال تعالى : " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " (1) يعني لما انحرفوا عن الحق ، و قال : " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا " (2) أي لا تحرفها عن الحق ، و قال : " فأما الذين في قلوبهم زيغ - أي انحراف- فيتبعون ما تشابه منه " (3) ، و لكن زيغ البصر هنا يعني انحرافه بعامل الخوف ، و يشبهه قول الله : " إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار و بلغت القلوب الحناجر و تظنون بالله الظنونا " (4) .
أما الطغيان فهو الزيادة السلبية في الشيء ، و منه طغيان الحاكم إذا بالغ في الظلم ، و طغيان النهر إذا فاض ماؤه ، و طغيان البصر أن يرى الإنسان الشيء أضخم من حجمه ، و الرسول لم يزغ بصره ، بل كان مطمئنا ركز نظره في الحقيقة لم ينحرف عنها بما ثبته الله تعالى ، ولم تطغ عينه فكان ما رآه صغيرا و لكنه صوره لنا أكبر من حجمه عندما رجع من عروجه .
[ 18] [ إن الآيات التي رآها كانت كبيرة بالفعل ]
[ لقد رأى من ءايات ربه الكبرى ]
كسدرة المنتهى التي تظل الورقةمنها الدنيا بأجمعها ، و يقف عليها ملك يسبح الله لا يفتر عن ذلك ، و كنور الله الذي تجلى للنبي (ص) عندها ، و هكذا الكثير من الآيات التي تعرضت إليها أحاديث الإسراء و المعراج ، إلا أن الكبر في الآيات لا ينصرف إلى حجمها و حسب ، إنما هي قبل ذلك كبيرة في دلالتها على الحق .
(1) الصف / 5 .
(2) آل عمران / 8 .
(3) آل عمران / 7 .
(4) الأحزاب / 10 .
و كلمة أخيرة :
إن الآيات التي رآها الرسول (ص) لا يلم بها الكلام مهما كان طويلا و واضحا ، و قد لا تستوعبها أذهاننا ، لأن الكثير منها حقائق غيبية مجردة ، لذلك يأتي ذكرها في القرآن كما في الأخبار ذكرا إجماليا .
|