فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس


بينات من الآيات
[ 31 - 32] لقد دعى الله المؤمنين الى الاعراض عمن تولى ، ولان البعض لا يعرض عن الكيان الجاهلي خشية الضعف والفقر ، اكد القرآن بان الله هو الغني(1) بح / ج 7 / ص 11 .


الذي يملك خزائن الكون ، و القوي الذي يهيمن على الحياة . فلماذا الخشية اذا من مقاومة الانحراف ؟ و رفض هيمنة المنحرفين ؟

[ و لله ما في السماوات و ما في الأرض ]

فهو وحده الذي وضع سنن الكائنات و يهيمن عليها و يجريها بقدرته و عدالته .

[ ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ]

عدلا السيئة بمثلها .

[ و نجزي الذين أحسنوا بالحسنى ]

فضلا ، فالحسنة بعشر امثالها ، و تتضاعف " ولدينا مزيد " (!) و بالتدبر في شطري الآية الكريمة الشرط الاول الذي ينطوي على فكرة التوحيد ( و لله ما في السماوت و الأرض ) ، و الشطر الثاني الذي ينطوي على فكرة المسؤولية المنبثقة من حقيقة الجزاء ( ليجزي .. ) فاننا نعرف العلاقة الوثيقة بينهما ، و ذلك ان الذين ينحرفون يحاولون التملص من مسؤولياتهم بالشرك . و الحق ان التوحيد يعني نفي الشريك ، و هذا بدوره ينفي التبرير ، اذن فالموحد الحق هو الذي يتهيأ لحمل المسؤولية . ان هذه الآية تنسف ثقافة التبريرالمتجسدة في عبادة الانداد كالملائكة و الاصنام و حتى العباد الصالحين تمنيا للشفاعة ، و ذلك ببيان ان الله يجري عدالته في الحياة ، و لا احد يستطيع فرض ارادته عليه ، لان الحياة تكونينيا و تشريعيا له وحده لا يشاركه فيها احد ، واذا كانت ثمة هيمنة ظاهرية للملائكة فهي تنفيذية و باذن الله ، و تبقى الهيمنة الحقيقية المطلقة لله وحده ، فلا مهرب منه إلا اليه ولا شفاعة الا من بعد اذنه ، ولا انداد قادرين على تغيير سنن الله في الخليقة حسب اهوائهم(1) ق / 35 .


و بالذات سنة الجزاء العادل .

ثم ان تأكيد القرآن على بيان العدالة الالهية في الجزاء في اكثر سور القرآن انما هو ليزرع الاطمئنان العميق في قلب البشر الى وقوع الجزاء . الامر الذي يبعثه نحو عمل الخير و يزجره عن الشر الا ان العدالة و بالتالي المسؤولية فكرة قاسية لا يتحملها القلب البشري الذي من طبيعته الانحراف. لذلك تأتي الآية اللاحقة لتخفف وطأتها ببيان مدى رحمة الله و غفرانه .

[ الذين يجتنبون كبائر الأثم و الفواحش ]

و الاثم هو عموم الذنب ( بين العبد و ربه او بينه و بين نفسه او بينه و بين الناس ) بينما الفواحش هي الذنوب الاجتماعية . قال الامام الصادق ( ع) : " الفواحش الزنا و السرقة " (1) وهما ذنبان اجتماعيان .

و ذكر الفواحش من دون اضافة كلمة الكبائر بخلاف الاثم اضيف اليه لفظ الكبائر ، لان الفواحش بذاتها من الكبائر فلا يقال للذنب الاجتماعي فاحشة ، بينما الاثم فيه الصغائر ( اللمم ) و فيه الكبار . و فيما يلي نذكر حديثا في كتاب الاثم مرويا عن الامام الرضا (ع) قال : " سمعت ابي موسى بن جعفر (ع) يقول : دخل عمرو بن عبيد البصري على ابي عبد الله (ع) ، فلما سلم وجلس تلا هذه الآية ( الذين يجتنبون كبائر الاثم ) ثم امسك فقال له أبو عبد الله (ع) : ما أمسك ؟ فقال : احب ان اعرف الكبائر من كتاب الله عز وجل فقال :
يا عمرو ! اكبر الكبائر الشرك بالله . يقول الله تبارك و تعالى : ( ان الله لا يغفر ان يشرك به ) و يقول عز وجل : ( انه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من انصار ) ، و بعده اليأس من روح الله لان الله عز وجل يقول : ( ولا


(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 161 .


تيأسوا من روح الله ، انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون ) و ثم الامن من مكر الله . لان الله عز وجل يقول : ( ولا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون ) . و منها عقوق الوالدين . لان الله عز وجل جعل العاق جبارا شقيا في قوله تعالى : ( و برا بوالدتيولم يجعلني جبارا شقيا ) ، و قتل النفس التي حرم الله الا بالحق . لان الله عز وجل يقول : ( و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ... الى آخر الآية ) ، و قذف المحصنات . لان الله عز وجل يقول : ( ان الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة ولهم عذاب عظيم ) ، واكل مال اليتيم ظلما لقول الله عز وجل : ( ان الذين يأكلون اموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا ) ، و الفرار من الزحف لان الله عز وجل يقول : ( ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفا لقتال او متحيزا الى فئة فقد باء بغضب من الله و مأواه جهنم و بئس المصير ) ، واكل الربا لان الله عز وجل يقول : ( ان الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) و يقول الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتممؤمنين * فان لمن تفعلوا فاذنوا بحرب من الله و رسوله ) ، و السحر لان الله عز وجل يقول : ( ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الاخرة من خلاق ) ، و الزنا لان الله عز وجل يقول : ( ومن يفعل ذلك يلق اثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا الا من تاب )الآية ، و اليمين الغموس لان الله عز وجل يقول : ( ان الذين يشترون بعهد الله و ايمانهم ثمنا قليلا اولئك لا خلاق لهم في الاخرة ) الآية ، و الغلول قال الله عز وجل : ( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ) ، ومنع الزكاة المفروضة لان الله عز وجل يقول : ( يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم هذا ما كنزتم لانفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ) ، وشهادة الزور و كتمان الشهادة لان الله عز وجل يقول ( ومن يكتمها فانه آثم قلبه ) ، و شرب الخمر لان الله عز وجل عدل بها عبادة الاوثان و ترك الصلوة متعمدا او شيئا مما


فرض الله عز وجل لان رسول الله (ص) قال : ( من ترك الصلوة متعمدا فقد برىء من ذمة الله و ذمة رسوله (ص) ، و نقض العهد ، و قطيعة الرحم ، لان الله عز وجل يقول : ( اولئك لهم اللعنة و لهم سوء الدار ) " قال : فخرج عمرو بن عبيد و له صراخ من بكائه و هو يقول: هلك من قال برأيه و نازعكم في الفضل و العلم (1) .

وفي حديث آخر : " و اليأس من روح الله ، و الأمن من مكر الله تعالى ، و القنوط من رحمة الله تعالى ، و معونة الظالمين و الركون اليهم ، و اليمين الغموس ، و حبس الحقوق من غير عسر ، و الكذب ، و الكبر ، و الاسراف ، و التبذير و الخيانة ، و الاستخفافبالحج ، و المحاربة لاولياء الله ، و الاشتغال بالمناهي ، و الاصرار على الذنب " (2) .

والى جانب هذه الكبائر هناك الذنوب الصغيرة التي يقترفها الانسان - بطبيعته الضعيفة - عن قصور او من دون قصد مبارزة الله ، فان حسناته و تجنبه للكبائر ، الذي يدل على سلامة مجمل مسيرته يشفعانها له ، و هذا من رحمة الله و سعة غفرانه ، اما لو مارس الصغائر عن عناد و اصرار فانها تصير كبائر ايضا .

[ إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة ]

قال الامام الصادق (ع) " اللمام العبد الذي يلم بالذنب بعد الذنب ، ليس من سليقته اي من طبعه " (3) و كما ان الاصرار يصير الاثم الصغير من الكبائر ، فان التوبة والاستغفار يصيران الكبائر صغائرا ، او يمحوانها من كتاب السيئات . لذلك نجد تفسيرا لكلمة اللمم غير صغائر الاثم ، انما عموم الالمام بالذنب بصورة(1) المصدر / ص 160 .

(2) المصدر / ص 163 .

(3) المصدر / ص 162 .


طارئة و غير متعمدة . و يؤكد الامام (ع) ان غفران الله يسع كل ذنب بشرط الاستغفار ، قال الامام الصادق (ع) " و اللمم الرجل يلم بالذنب فيستغفر الله منه " قال الراوي : بين الضلالة و الكفر منزلة ؟ فقال : " ما اكثر عرى الايمان " (1) .


ان السبب الحقيقي للذنب بالاضافة الى هوى الانسان هو الشيطان الرجيم ، و هو قد يمر مرورا على قلبه فيجعله يلم بالمعصية ، و قد يسكن فيه و يفرخ فيجعله يقترف الخطيئة تلو الخطيئة ، و بالنسبة للمؤمنين فانه لا يطيق السكون في قلوبهم لانهم يستعيذون بالله منه ،و يلعنونه قبل كل شيء و بعده ، و لو افترض ان اصابهم بسهم منه فانهم سرعان ما يرجعون الى الصواب " ان الذين اتقوا اذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فاذا هم مبصرون " (2) .

و كلمة اخيرة ان في الاسلام نوعين من الذنوب ، الصغائر و الكبائر ، و لكن المعول الحقيقي في تحديد نوع الذنب هو مدى وعي الانسان به و موقفه من ممارسته له ، فقد يندفع الانسان نحو ذنب صغير ، و لكن تحديا لسلطان الله ، و عنادا و استكبارا عليه ، فيكون كبيرا. فقد جاء في الحديث الشريف : " قد يرى الله العبد على ذنب فيقول له افعل ما شئت فاني لا اغفر لك ابدا " .

و قد يأتي الانسان بذنب كبير استرسالا و استجابة لضغوط هائلة ، و لكن سرعان ما يندم و يتراجع فان الله سبحانه يغفر له .. قال تعالى : " والذين اذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله ، فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ، و لم يصروا علىما فعلوا وهو يعلمون * اولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم ، و جنات تجري(1) المصدر / ص 161

(2) الاعراف / 201 .


من تحتها الأنهار خالدين فيها ، و نعم أجر العاملين " (1) .

و لكن من الذي يحدد الذنب الذي يقترفه الانسان ، هل هو من الصغائر ام من الكبائر على ضوء هذه القاعدة ؟

انه الله الذي يحيط علما بدقائق حياة الانسان ، و في جميع مراحل نشأته . ولا يخدع الله عن جنته . نعم فهو الذي خلقنا وربانا من يوم كنا في بطون امهاتنا حتى نموت . فحتى العوامل الوراثية و التربوية التي تؤثر في شخصية الانسان التي تنقل اليه وهو جنين يعلمهاالله .

[ هو اعلم بكم إذ أنشاكم من الأرض وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ]و يبدو ان كلمة الارض هنا تشير الى القوى و العوامل السلبية المؤثرة في شخصية الانسان ، كالهوى و حب المال و الظهور و ... و تشير الآية الكريمة الى بصيرتين هما : سبق رحمة الله الى الانسان اذ و الى نعمة عليه قبل ان يصير الى رحم امه فأنشأه من دون شيء سبقمنه اليه تعالى ، ثم لما صار جنينا انشأه و اسبغ عليه من نعمه حتى استوى ، و هذه الآية تؤكد سعة رحمة الله و مغفرته .

و قد تجلت هذه البصيرة القرآنية أيضا في دعاء الامام الحسين في يوم عرفة ، حيث جاء فيه : " ابتدأتني بنعمتك قبل ان اكون شيئا مذكورا . خلقتني من التراب ثم اسكنتني الاصلاب آمنا لريب المنون ، و اختلاف الدهور و السنين . فلم ازل ظاعنا من صلب الى رحم فيتقادم في الايام الماضية ، و القرون الخالية ، لم تخرجني لرأفتك بي ، و لطفك لي ، واحسانك الي في دولة ائمة الكفر الذين(1) آل عمران / 135 - 136 .


نقضوا عهدك ، و كذبوا رسلك و لكنك اخرجتني للذي سبق لي من الهدى الذي له يسرتني ، و فيه انشأتني ، و من قبل ذلك رؤفت بي بجميل صنعك ، و سوابغ نعمك . فابتدعت خلقي من مني يمنى ، و اسكنتني في ظلمات ثلاث بين لحم و دم و جلد ، لم تشهدني خلقي ، و لم تجعل الي شيئامن امري ، ثم اخرجتني للذي سبق لي من الهدى الى الدنيا تاما سويا ، و حفظتني في المهد طفلا صبيا ، و رزقتني من الغذاء لبنا مريا ، و عطفت علي قلوب الحواضن ، و كفلتني الامهات الرواحم ، و كلاتني من طوارق الجان ، و سلمتني من الزيادة و النقصان . فتعاليت يا رحيم يا رحمان حتى اذا استهللت ناطقا بالكلام ، اتممت علي سوابغ الانعام ، و ربيتني زايدا في كل عام . حتى اذا اكتملت فطرتي ، و اعتدلت مرتي ، او جبت علي حجتك ، بأن الهمتني معرفتك ، و روعتني بعجايب حكمتك ، و ايقظتني لما ذرأت في سمائك و ارضك من بدائع خلقك ،و نبهتني لشكرك و ذكرك ، و اوجبت علي طاعتك و عبادتك ..." (1)البصيرة الثانية : نفوذ علم الله الى جميع جوانب حياة الانسان و دقائقها ، اذن لا يفوته شيء عنه .

و فائدة بيان هذه الحقيقة هي ان الانسان قد يبتلى بالغرور و التبرير فيزكي نفسه ، و يسمي كل ما يقترفه من الذنوب حتى الكبائر و الفواحش لمما ، او يصل الى حالة ذلك الانسان الذي يشرب الخمر و يقول انه يتحول خلا بمجرد بلوغ فاه ، و يبرر ذلك بانه وصل الى درجةمن الايمان حيث يتحول في جسمه الخمر خلا ، او الاخر الذي امر اتباعه بالصلاة و قعد عنها لانه عند نفسه بلغ مقاما فوق الصلاة .

[ فلا تزكوا انفسكم هو اعلم بمن اتقى ]


(1) مفاتيح الجنان / دعاء يوم عرفة .


لانه اذا وصل الانسان الى هذه المرحلة ، بدأ رحلة الانتكاس ثم لا يتوقف بل ينحدر الى اسفل سافلين .

[ 33 - 34] ان عبادة الاصنام ( الشرك بالله ) و تزكية النفس تبريرات يتشبث بها الانسان ، و هناك تبريرا آخر يتمثل في محاولة الاعتماد على البدائل فمثلا اصحاب المال يظنون انهم حينما يعطون مالا في سبيل الله ، فسوف يحررون انفسهم من تطبيق القيم و الالتزام بالمسوؤلية ، او يرفعون عنها مسؤولية ممارسة الكبائر و الفواحش . كلا .

[ أفرأيت الذي تولى ]

عن ذكر الله ، و عن تطبيق الحق و تحمل الامانة ، ثم اعطى بعض المال ليتهرب من المسؤولية ؟

[ و أعطى قليلا وأكدى ]

أي اعطى شيئا قليلا ثم توقف كليا عن العطاء .

قال صاحب المجمع نزلت الآيات السبع في عثمان ابن عفان كان يتصدق و ينفق ، فقال له اخوه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن ابي سرج : ما هذا الذي تصنع ؟ يوشك ان لا يبقى لك شيء فقال عثمان : ان لي ذنوبا واني اطلب ما اصنع رضى الله وارجو عفوه ، فقال له عبد اللهاعطني ناقتك برحلها وانا اتحمل عنك ذنوبك كلها ، فاعطاه واشهد عليه و امسك عن النفقة فنزلت : (افرأيت الذي تولى ) اي يوم احد حين ترك المركز و اعطى قليلا ثم قطع النفقة الى قوله ( وان سعيه سوف يرى ) فعاد عثمان الى ما كان عليه عن ابن عباس و السدي و الكلبي وجماعة


من المفسرين (1) و قيل نزلت في الوليد بن المغيرة (2) .

[ 35 - 38] بل ان اصحاب المال يظنون انهم على حق ومن اهل الجنة لمجرد كونهم من المترفين ، و هذا التمني عميق لديهم بدليل آيات سورة الكهف : " و كان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره انا اكثر منك مالا وأعز نفرا * و دخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما اظن انتبيد هذه ابدا * وما اظن الساعة قائمة ولئن رددت الى ربي لاجدن خيرا منها منقلبا " (3) .

و القرآن يستنكر على المترفين هذا الظن قائلا : متى عرف هؤلاء ما في الغيب حتى يحكمون بانهم افضل الناس عند ربهم ؟!

[ أعنده علم الغيب فهو يرى ]

كلا .. انه لا يعرف شيئا عن الغيب ، و هذه قضية وجدانية . فلا يملك احد ان يدعي علما بالغيب . اذن فكيف يطلع على الحقيقة و يتمنى خلاصه من النار بقياس حاله في الآخرة بحاله في الدنيا ، و الاعتقاد بان الله لم يسبغ عليه نعمه في الدنيا الا انه يحبه فينبغي ان يكون محبوبا عند الله في الآخرة ايضا .

بلى يمكنه ذلك لو اتبع هدى الانبياء ورسالاتهم التي تكشف عن جوانب منه .

[ أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى ]لا يعلم الغيب ولا يتبع الرسالات الالهية ولقد جاءت الرسالات كلها بالمسؤولية ، و لكن الانسان وهو اكثر شيئ جدلا ، و يحاول التهرب منها بطبعه(1) الفخر الرازي / ص 11 عند تفسير الآية .

(2) المجمع عند تفسير الآية .

(3) الكهف / 34 - 36 .


الضعيف ، و بحنينه الدائم نحو التراب . و يبرر ذلك بانه ينتمي الى انبياء الله ، كما زعم اليهود بان انتماءهم الى موسى (ع) يرفع عنهم المسؤولية . فقالوا : ( نحن ابناء الله وأحباؤه ) (1) .

و كما زعمت قريش بان انحدارها من صلب إبراهيم يعطيها الشرف و يمنع عنها العذاب الالهي .. كلا " ان اولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا معه " (2) ، ان ابراهيم كان وفيا لله ، ضحى بماله و نفسه و قدم ابنه لله قربانا ، واودعزوجته هاجر وابنه الرضيع اسماعيل في الصحراء . و الذي يريد ان يكون في شيعته لابد ان يتحمل من المسؤولية كما تحمل عليه السلام ، و لم يكن في صحف موسى و ابراهيم التي انزلت عليهما من عند الله اي كلمة تسمح للانسان بالتحلل من مسؤولياته بتبرير الانتماء اليها، و قد قرأوا تلك الصحف و عرفوا ما فيها .

ان ابرز ما جاءت به صحف موسى و ابراهيم هو المسؤولية ، فكل انسان مسؤول عن نفسه ، ولا يمكنه بحال من الاحوال ان يلقي بتبعة اعماله على الآخرين .

[ ألا تزر وازرة وزر أخرى ]

و الوزر هو الحمل الثقيل . و الوازرة هي النفس التي تحمله . ولا تزر أي لا تحمل فكل نفس مثقله بحملها ولا تحمل حمل غيرها ابدا ، ولو عرف الانسان ماذا تعني المسؤولية و كيف تقف كل نفس امام ربها في يوم القيامة ضعيفة متهاوية القوى لا تملك عذرا ولا قوة ، لعرف مدى بطلان فكرة القاء المسؤولية على الآخرين بزعم انهم يتحملونها عنه . كلا انه موقف رهيب ترى فيه كل نفس تجادل عن نفسها ، و لها من شانها ما يغنيها عن الاهتمام بغيرها .


(1) المائدة / 18 .

(2) آل عمران / 68 .


و هذا السياق من الآيات يضرب فكرة الفداء التي الصقها النصارى في عيسى (ع) حيث قالوا انه قتل ففداهم بنفسه بالرغم من انه جاء ليقاوم مثل هذا الانحراف عند اتباع موسى .

[ 39 - 41] و كما ان اوزار الانسان لا يتحملها احد سواه ، فان حسنات الآخرين لا تصير اليه ، انما " قيمة كل امرء ما يحسن " كما قال الامام علي (ع) .

[ وان ليس للانسان الا ما سعى ]

و السعي هو ما يقوم به الانسان بارادته و وعيه ، من قول وفعل وغيرهما . فالتحرك جزء من السعي و الوعي و الهدف و النية جزء منه ايضا . و الانسان هو الذي يصنع واقعه و مصيره الحقيقي بنفسه ، و مهما كان السعي صغيرا او كبيرا ، و في اي مكان قام به الانسان فانهلابد ان يعود عليه في الدنيا او في الآخرة . لان هناك سنة الهية تحكم الحياة ، و هي ان كل شيء يرجع الى اصله ضمن دورة حياتية قد تطول وقد تقصر . لابد ان تعود المياه التي تبخرت من البحار اليها بعد رحلة متطاولة من ساعة تحولها الى البخار حتى نزلها كامطار ثمجريانها فوق الارض ينتفع بها الانسان .

هكذا عملك الذي ينبعث من جوانح قلبك او جوارح بدنك لا يفنى . انه يتقلب في صور شتى قد يتحول مالا فيعود اليك ، او تصبح حالة اجتماعية تتأثر بها ، او يحفظ عند ربك يجازيك غدا به ، و هكذا مهما هرب المجرمون من جزاء جرائمهم فانه ملاقيهم .

ومن طريف ما قراته في هذا الحقل أن احد الخلفاء اقام مأدبة غذاء و حضر عليها احد كبار قادته العسكريين فرأى فيما راى من صنوف الطعام طير القطى مشويا ، فضحك مقهقها ، فسأله الخليفة عن السبب . فحاول ان يكتم . فاصرعليه . فاخذ يقص واقعة حدثت له قبل عشر سنوات مسترسلا قال : كنت في رحلة صيد في الصحراء ، فلقيت رجلا معه بعض المال فسلبته قهرا ، ثم أردت قتله فتوسل بي ان اتركه ولكن عزمت على سفك دمه . فلما رفعت عليه السيف نظر حوله فلم يجد احدا الا سربا من القطى صادف مرورها في ذات اللحظة . فقال اشهدي بانني اقتل غريبا مظلوما في هذه المفازة . فضحكت من قوله ثم قتلته . والآن لما رأيت القطا في السماط تذكرت ما قاله و سيفي يهوي عليه فلم اتمالك من الضحك على ذلك الرجل المسكين الذي اشهد القطا على قتله . فقال الخليفة بلى لقد ادت القطا شهادتها وامر بجمع السماط ، و قال للجلادين احضروا النطع و السيف فاحضروهما و ضرب عنقه .

[ و أن سعيه سوف يرى ]

و هناك فكرة نجدها في هذه الآية وهي ان كل سعي يقوم به الانسان يتحول الى كيان مادي ، و ان الكلمة الطيبة ، و الموقف الشجاع ، و النشاط السليم ، كل ذلك يتحول الى شيء ملموس يراه الانسان . كذلك الكلمة الخبيثة ، و الموقف الجبان ، و الفساد .

أرأيت هذه الحركات المباركة ، التي تشيع الفضيلة و تزرع السلام و تبني الحضارات ، انها كانت في الاصل دعوات صالحة و مساعي حميدة . أرأيت هذه الويلات التي تصيب البشرية هنا و هناك ، انها كانت في الاصل كلمات خبيثة او مساعي فاسدة .

و ما معنى المسؤولية في الدنيا الا ارتداد صدى سعي البشر اليه ، فمن قاوم الظالم ، عاش في ظل العدالة دهرا ، و من جبن عن مقامته ساعة شمله خسفه و ضيمه . وأمة تنشط في بناء حضارة تنعم في ظلها طويلا واختها التي تتكاسلتعيش ابدا في بؤر التخلف و الفساد .

و ان مرور الزمان على سعي الانسان لا ينقصه انما يزيده نماء اولا اقل يبقيه كاملا وافيا .

[ ثم يجزاه الجزاء الأوفى ]

[ 42 - 48] وان هناك تسلسلا في السنن و المسببات في الحياة ، و منها سنة الجزاء ، و لكنها لا تتحرك في الفراغ او ما يسميه الفلاسفة بالدور ، بل لها بداية و نهاية ، و هناك من يشرف عليها وهو الله ، فالعالم اذن ليس بعيدا عن العقلانية ، و لا مجرد قوانين ، وانما هناك تدبير الهي حكيم يهيمن عليه ، كما قال الله تعالى : " ان ربكم الله الذي خلق السماوات و الارض في ستة ايام ثم استوى على العرش يغشى الليل و النهار يطلبه حثيثا و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بامره الا له الخلق و الامر تبارك الله رب العالمين " (1) ومادام الامر بيد الله و ينتهي اليه فلتطمئن النفس الى الجزاء و تثق بنتائج سعيها ، و في القرآن تذكرة بهذه البصيرة في مواضع شتى و بصيغ مختلفة .

[ و أن إلى ربك المنتهى ]

بلى ان الظاهر من الحياة هي النظم الدقيق و السنن الحاكمة . و لكن الجانب الخفي منها ولبها هو هيمنة الله عليها . و المؤمنون مطمئنون الى هذه الحقيقة و موقنون بها ، بينما الآخرون لا يعلمون الا الظاهر من الحياة .

و القرآن هنا يؤكد هذه الهيمنة و يمثل لها بلطائف الامور .


(1) الاعراف / 54 .


[ وأنه هو أضحك و أبكى ]

ان الانسان يضحك للجزاء الحسن ، و يبكي من الجزاء السيء . سواء في الدنيا او الآخرة . و الله سبحانه يقدرهما للأنسان ، فيمنح له من السعادة النفسية و المادية ما يضحكه ( جزاء لما قدمه من عمل صالح ) . او ينتقم ( لسوء عمله ) فيسلب منه نعمه و يعصر قلبه بالهم حتى يبكيه . و القرآن لم يقل افرح و احزن لان الضحك و البكاء هما غايتا الفرح و الحزن ، و اجلى مصاديقهما . ولان بينهما مسافة شاسعة لابد من بيانها لنعرف عمق الهوة الفاصلة بين الخير و الشر ، و بين الجزاء الحسن و العقاب و لعلنا نفقه بعض ابعاد مسؤوليتنا تجاه افعالنا .

[ وأنه هو أمات و أحيا ]

ربما يكون معنى الحياة هنا استمرارها و المحافظة عليها كقوله تعالى : " ومن احياها فكأنما احيا الناس جميعا " (1) ، وامر الموت و الحياة بيده تعالى ، مهما كانت اسبابهما الظاهرة ، لان الله يجري الامور باسبابها ، فقد يحفظ الحياة لاحد على يد الطبيب ، او يقدر له الموت بيد جلاد .

[ و أنه خلق الزوجين الذكر و الانثى * من نطفة إذا تمنى ]وانما يؤكد ربنا على هذه الحقيقة ( ان اليه المنتهى ) ثم يضرب الامثلة من اهم ما يتحكم في كياننا لان الانسان قد يكتشف القوانين التي تسير الحياة وفقها ، فيفسر الظواهر و الحوادث تفسيرا ماديا مبنيا على اساس ان القانون هو كل شيء ، فيرى ان الولادة تبدأ منالجماع حيث يقذف الرجل بالحيامن في رحم المرأة ، ثم ان الرحم المهيأ لتكوين الجنين يبدأ بدوره ضمن قوانين و معادلات معينة فتصير(1) المائدة / 32 .


( البويضة + الحيمن ) جنينا ذكرا اذا غلب ماء الرجل ، وانثى اذا غلب ماء المرأة . ثم يقف عند هذا الحد دون البحث عن منتهى هذه الظواهر بينما اذا امعنا النظر لبصرنا بالحلقات الفارغة الموجودة في سلسلة العلل و التي تفصل بين مشيئة الانسان و تحقق العمل ، فانتتريد انجاب اولاد ، و لكن هل تملك في صلبك القدرة على ذلك ؟ وهل توفق لزوجة مناسبة ؟ و هل تضمن ألا تكون عقيمة ، أو تجهض حملها بسبب طارىء ؟ و عشرات الاسئلة التي ترتسم في ذهن أي واحد منا حين يريد ان يحقق انجازا . واذا فتشنا عن جذر هذه الاسئلة لعرفنا ان الاهداف التي شئنا بلوغها وخابت مساعينا اليها بما لم نحسب لها حسابا خلفت في عقولنا هذا الخوف الرهيب ألا نوفق - مرة اخرى - الى ما نبتغيه . و صدق الامام أمير المؤمنين عليه السلام اذ يقول : " عرفت الله بفسخ العزائم و نقض الهمم " . تعال و جرب للمرة الالف اعقد عزم قلبك على خطة بعيدا عن التوكل على الله ثم انظر كيف تقفز امامك العقبات غير المحسوبة .

من هنا اركزت في فطرة الناس هذه الحقيقة ، ان ازمة الامور ليست بايديهم وان هناك قدرا من الغيب في كل عمل يساهم في نجاحه او فشله . و قدرة الله على النشأة الاولى من حين النطفة حتى الموت تؤكد على بعثة اياه مرة اخرى للجزاء .

[ و أن عليه النشأة الأخرى ]

و كلمة عليه تشير الى ان البعث للحساب حق و عهد قطعه الله على نفسه .

[ و أنه هو أغنى و أقنى ]

قد يتصور الانسان بالنظر الى الاسباب الظاهرة للغنى انه الذي يغنى نفسه ، ولكنه حينما يتعمق يجد ان غناه من عند الله و بتوفيقه . أذن فلماذا يغتر بمالهو يتكبر على الحق اعتمادا عليه ؟!

و يتساءل البعض : اذا كانت الامور بيد الله وان اليه منتهاها فلماذا السعي إذا ؟ و كيف ان ربنا بين آنفا ان ليس للانسان إلا ما سعى ؟ و ربما اتخذ البعض من آيات كهذه تبريرا لتقاعسهم او دليلا على مذهب الجبر المرفوض عقلا و شرعا .

بيد ان النظر الشامل في الآيات يجيب على هذه التساؤلات ، كيف ؟

ان الامور بيد الله ، و لكن الله يأمر بالحق و يجربه ، فهو الذي يضمن العدالة الجارية في الخلق ، وهو الذي يعيد سعي الانسان اليه ، ويجازيه عليه الجزاء الاوفى . ولولا العقيدة بان الله يضمن تنفيذ العدالة لزعم البعض انه يستطيع ان يتهرب من مسؤولية سعيه . أو كان يخشى من ضياع سعيه .

اذن السعي هو محور الجزاء ، ولكن الجزاء بيد الله فليس سعيك يوصلك إلى ما تريد مباشرة ، بل عبر ارادة الله وجزاءه ، فتكون المعادلة كالتالية :

سعي البشر أو عمله + توفيق الله أو ارادته = الجزاء .

[ 49] ثم وفي سياق تأكيد انتهاء الامور الى الله ، ينسف القرآن الاعتقاد بألوهية غيره تعالى ، و يضرب مثلا من واقع الذين يعبدون النجوم اعتقادا بان حركتها تؤثر في حياة الناس ، فتجلب لهم الخير أو الشر ، و عبادة النجوم كانت منتشرة عند قدماء المصريين كما في بلاد الرافدين كما ان القرآن يلمح في حديثه عن ابراهيم (ع) الى ان قومه كانوا يعبدونها .

و لعل من اشهر النجوم التي بقيت عبادتها رائجة حتى زمن الرسول (ص) كانت نجمة الشعرى قال علي ابن ابراهيم " نجم في السماء كانت قريش وقوم من العرب يعبدونه ، وهو نجم يطلع في آخر الليل " (!) و القرآن هنا ينسف الاعتقاد بألوهية هذا النجم ، مبينا بانه ليس إلا خلقا من خلق الله ، لا حول له ولا قوة .

[ و أنه هو رب الشعرى ]

[ 50] بعد ذلك تعرج بنا الآيات الى الحديث عن تاريخ الامم السالفة ، بما يؤكد هيمنة الله على الخلق وانه يقدر الجزاء حسب اعمال العباد ، أترى ان هلاك الامم حينما خالفت الحق و عصت الرسل ، و عتت عن أمر ربها كان صدفة ؟ أذن لماذا تتكرر التجربة لاكثر من قومو لنفس السبب ؟

[ و أنه أهلك عادا الأولى ]

و هم القوم الذين ارسل الله اليهم هودا (ع) وقال الله ( الأولى ) ربما لواحد من الاسباب التالية :

آ - لانهم اول الاقوام بعد هلاك البشرية بسبب الطوفان الذي ابتلع الارض في عهد نوح (ع) .

ب - لانهم جيلان ولم يهلك إلا الجيل الاول .

ج - ان الله اراد ان يسفه فكرة التقديس للأولين ، الذي سار عليه الجاهلون و من بينهم قريش .

[ 51] و بعد عاد كانت ثمود ، قوم صالح (ع) الذين كذبوه و عقروا الناقة و قد كانت آية مبصرة فأهلكهم الله .


(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 174 .


[ و ثمود فما أبقى ]

هناك قال ( الاولى ) وهنا يقول ( فما ابقى ) و ذلك لان ثمود اهلكوا عن بكرة ابيهم بريح صرصر جعلتهم كاعجاز نخل منقعر ، فلم تبق ولم تذر ، على خلاف عاد الذين اهلك الله الاولين منهم فقط ، كما تكشف لنا هذه الكلمة مدى تشبث ثمود بالحياة ، حيث سعوا للبقاء بكلما اوتوا من القوة و لكنهم ما استطاعوا الى ذلك سبيلا حينما حل بهم غضب الرب .

[ 52] و قبل هؤلاء واولئك كان قوم نوح (ع) طعمة للهلاك .

[ وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى ]

لانهم اول الاقوام كفرا بالله و عصيانا للانبياء ، و لانهم اصروا على ضلالهم و استكبروا على الحق جيلا بعد جيل بالرغم من ( 950) عاما من التبليغ المبين و المستمر للرسالة من قبل نوح (ع) .

و قد سبقوا الاقوام ظلما لانهم تحرروا من كل القيم الدينية والانسانية ، و طغيانا لانهم ملكوا من الامكانات الشيء الكثير واستخدموا كل ذلك ضد الرسالة و الرسول . و بالرغم من ذلك اهلكهم الله ولم يحجز العذاب عنهم شيء أبدا .

[ 53 - 54] و هناك قوم لوط (ع) الذين اسرفوا في الشذوذ الجنسي ، فحل بهم غضب الله ، و ذلك بان حمل قراهم جبرئيل بطرف جناحه و رفعهم ثم اهوى بهم .

[ و المؤتفكة أهوى ]

قال العلامة الطبرسي في مجمع البيان : و المؤتفكة المنقلبة وهي التي صار اعلاها اسفلها واسفلها اعلاها ، و منه اهوى بيده ليأخذ كذا وهوى يهوي نزل في الهواء ،فاما اذا نزل في سلم أو درج فلا يقال اهوى ولا هوى ، و حيث حل اجلهم عمهم العذاب المهول من كل صوب .

[ فغشاها ما غشى ]

أصحيح ان الله يعذبنا بنار جهنم تلك النقمة الكبرى التي لا تحتملها السماوات و الأرض و الجبال . أوليس ربنا الرحمن الذي تجلت في كل شيء آيات رحمته الواسعة . يتساءل البعض و يقول لا .. انا لا أصدق ان الله يعذبني ولم أعهد منه في الدنيا إلا كل نعمة ؟ بلى وهذه شواهد تعذيبه في الدنيا للامم التي ناهضت الحق و تحدت رسله . ان الله واسع الرحمة ولكنه أيضا شديد العذاب .

ولعله لذلك يذكرنا الرب ، بين الفينة والاخرى - بعذابه العظيم الذي حل بالامم السابقة حتى ينقض الشك باليقين ان وعيد الله العاصين بالعذاب ليس ضربا من الوهم و التخويف المجرد بل هو واقع وقد حدث فعلا يشهد بذلك التاريخ البشري وما تقدم بعض شواهده .

[ 55] إن عبر التاريخ المرعبة هي من الآيات الالهية الجديرة بان ترفع حجب الشك و المراء عن قلب الانسان الذي يتفكر فيها و يتبع هداها .

[ فبأي ءالاء ربك تتمارى ]

الآلاء هي الآيات . يدل على ذلك قوله في سورة الرحمن " فبأي آلاء ربكما تكذبان " (1) . و التماري هو الشك المتوالي أو ترامي الشك من البعض الى الآخر ، ذلك لان الشاك في مثل هذه القضايا المصيرية والعامة لا يدع شكه في قلبه بل يلقيه على من هو مثلهو يتلقى منه الشك أيضا ، و ينبغي مواجهة كل ذلك بتلك الآيات(1) سورة الرحمن / 13 .


المتوالية .

[ 56] ان من أعمق مشاكل الانسان انه يستبعد عن نفسه العذاب الالهي وهو يمارس الضلال ، أما لشكه في قدرة الله كاليهود الذين قالوا يد الله مغلولة ، أو لرجائه غير المنطقي في رحمته ، و القرآن يذكر عواقب الامم الذين ضلوا وكذبوا بالحق ويضعها بين ايدينا نذرالعلها تردعنا عن الباطل .

[ هذا نذير من النذر الأولى ]

و قيل ان المعني بالنذير هنا هو الرسول الأعظم (ص) الذي يمثل امتدادا للانبياء ، فكما ان هودا و صالحا ونوحا ولوطا عليهم السلام انذروا اقوامهم ، فان محمدا (ص) هو الآخر نذير مثلهم ، قال الصادق (ع) وقد سئل عن معنى الآية : " يعني محمدا (ص) حيث دعاهمالى الاقرار بالله في الذر الأول " (1) .

و لقد اهلك الله الاقوام السابقة لانهم كذبوا انبياءهم و الحق الذي جاؤوا به ، و يكفي بذلك نذيرا لنا مادامت سنن الله في الاولين هي سننه فينا وفي اللاحقين الى يوم القيامة .

[ 57 - 58] و تبقى القيامة ابلغ النذر وآخرها وأعظمها ، و القرآن يؤكد حدوث القيامة في المستقبل القريب جدا فحتى اذا بقيت من القيامة الكبرى 500 مليون عام فانه يمثل واحدا من ثلاثين أو حوالي 3% من دورة واحدة لهذا الكون التي تبلغ حسب بعض التقديرات العلمية 15 الف مليون عام ، كيف ولعله لم يبق حتى قيام الساعة ذلك اليوم الرهيب الذي اشفقت منه السماوات و الأرض إلا بضعة ألوف من ا لسنين و ربما أقل ومن يدري ؟ أوليس علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ؟


(1) نور الثقلين / ج 5 / ص 173 .


فيقول :

[ أزفت الأزفة ]

أي اقتربت ، و التأكيد على اقتراب هذه الحقيقة الكبرى يجعلنا نعيش الساعة بوعينا فنستعد كما يقول أمير المؤمنين (ع) : " اتقوا الله عباد الله ، و بادروا آجالكم باعمالكم ، واستعدوا للموت فقد أظلكم ، و ترحلوا فقد جد بكم ، و كونوا قوما صيح بهم فانتبهوا ، و علموا ان الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا ، فما بين احدكم و بين الجنة والنار إلا الموت أن ينزل به " (1) واذا مات ابن آدم قامت قيامته ، ولا يستطيع أحد أن يدفع الموت عن نفسه .

[ ليس لها من دون الله كاشفة ]

بلى قد يظن الانسان أو يتمنى بان الأصنام التي يشرك بها تستطيع ان تصنع له شيئا ، كلا .. الله وحده القادر على جلب الخير و رفع الضر ، و اذا اقترب العذاب وبانت امارته فلا مفزع إلا اليه ، " ففروا الى الله اني لكم منه نذير مبين * ولا تجعلوا مع الله إلها آخر اني لكم منه نذير مبين " (2) .

[ 59 - 61] وهذا الحديث ليس ضربا من الوهم أو الظنون ، بل هو حق يقين يجب على الانسان أن يصدق به و يستعد له " أنه لقول فصل * وما هو بالهزل " (3) .

[ أفمن هذا الحديث تعجبون ]

انهم لم يصدقوا و يستعدوا للساعة : " بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال(1) نهج / خ 64 .

(2) الذاريات / 50 - 51 .

(3) الطارق / 13 - 14 .


الكافرون هذا شيء عجيب * أأذا متنا و كنا ترابا ذلك رجع بعيد " (1) هكذا يكون موقف الكفار من الحقائق الجادة ، و القرآن يستنكر عليهم هذا الموقف الهازل .

[ و تضحكون ولا تبكون * وأنتم سامدون ]

ان حديث القيامة بما يتضمنه من حقائق حاسمة ، و عظيمة ، ينبغي أن يبعث العاقل على البكاء و الخوف من غضب الله ، و يثير فيه طاقاته الكامنة ليفكر في النجاة ، و يستعد للقيامة ، و السامد هو الغافل ، و كما ان الغفلة نتيجة للضحك و التعجب ، فان الجد و السعي نتيجة طبيعية للتصديق و البكاء من أهوال الساعة .

[ 62] و في مقابل هذا الموقف الخاطيء من حديث الساعة يهدينا القرآن إلى الموقف السليم الذي يجب علينا اتخاذه تفاعلا مع النذر الالهية وهو الفرار الى الله عز وجل ، و التقرب الى مقام عظمته بالسجود .

[ فاسجدوا لله واعبدوا ]

و السجود وهو مظهر الاتصال بالله ، بينما العبادة جوهره و محتواه ، فلا قيمة للسجود الذي لا يقربنا الى الله ، و الى العمل بمناهجه في الحياة ، ان ممارسة الطقوس و الشعائر الاسلامية ممارسة بعيدة عن أهدافها لا تنفع صاحبها شيئا ، فما هو نفع الصلاة التي لاتنهى عن الفحشاء و المنكر ؟ و ما هي فائدة الصوم الذي لا يزكي النفس ؟

و كلمة أخيرة :

اننا نجد السياق القرآني يختتم هذه السورة المباركة ، بدعوة إلى السجود حيث(1) ق / 2 - 3 .


يجب شرعا على من يقرأ هذه الآية أو يستمع لها أن يسجد فورا مهما كانت الظروف ، و ذلك لانها تعرضت الى ذكر الاصنام التي اشرك بها الناس كاللات و العزى و مناة و الشعرى فهدف الآية اذن تنزيه الناس عن عبادتها و توجيههم الى عبادة الله وحده و السجود له .







بسم الله الرحمن الرحيم


فصل: الاول | قبل | بعد | الاخير | الفهرس